الجمعة، 14 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- مميزات العصر الهلينيستي

  • مميزات العصر الهلينيستي
طباعة أرسل لصديق
وبموت الإسكندر يبدأ في العالم الإغريقي العصر الذي اتفق المؤرخون على تسميته بالعصر الهلينيسي. ولما كان تاريخ مصر منذ الفتح المقدوني قد أصبح يتصل اتصالاً وثيقًا بالعالم الإغريقي، فإن عهد البطالمة ينتمي إلى العصر الهلينيسي . وينتهي هذا العصر بموقعة أكتيوم في عام 31 ق.م. وهي التي بسط الرومان بعدها سلطانهم على مصر، وكانت آخر مملكة هلينيسية لا تزال مستقلة، ولو اسمًا . ولما كانت معالم هذا العصر قد بدأت قبل وفاة الإسكندر واستمرت في البقاء إلى ما بعد أغسطس، فإنه يتبين لنا أن هذين التاريخين ليسا سوى اصطلاح اتفق عليه المؤرخون، لكن هذين التاريخين ينمان عن حقيقتين: وإحداهما هي أن أعمال الإسكندر تكشفت عن نتائج غيرت وجه العالم فلم يعد شيء على حالته السابقة. والحقيقة الأخرى هي أنه بعد خضوع العالم الهلينيسي لروما وتدهوره مع تدهور الإمبراطورية الرومانية أبان حروب روما الأهلية، أعيد بناؤه ثانية مع الإمبراطورية الرومانية على قواعد جديدة، ومن ثم بدأت الحضارة الإغريقية ـ الرومانية.ويختلف العلماء في تعريف العصر الهلينيسي، فيرى بعضهم أنه عصر حضارة جديدة تتكون من عناصر إغريقية وشرقية، ويرى بعضهم أنه عصر انتشار الحضارة الإغريقية بين الشرقيين، ويرى بعضهم أنه لا يتعدى استمرار الحضارة الهلينية القديمة على أسسها السالفة. وفي رأينا أنه مزيج من ذلك كله، لأن كلاً من هذه الآراء يحتوي على قدر من الحقيقة، ففي هذا العصر استمرت الحضارة الهلينية القديمة على أسسها السالفة في جوهرها، لكنه داخلتها بعض العناصر الشرقية، ولم تنتشر هذه الحضارة في ربوع الشرق فحسب بل أن مراكزها الرئيسية لم تعد في بلاد الإغريق القديمة، وإنما في عواصم الممالك الجديدة التي أنشأها خلفاء الإسكندر الأكبر على أنقاض الإمبراطورية المقدونية. فلا عجب أن وصفت الحضارة الهلينيسية بأنها حضارة ملكية، والحضارة الهلينية الكلاسيكية بأنها حضارة المدن الحرة.

مميزات العصر الحضارية:

ويمثل هذا العصر من بعض النواحي مرحلتين من مراحل الحضارة، أثمرت في أولاهما العلوم والفلسفة والآداب وغيرها من مظاهر النشاط الفكري، في ظل عالم إغريقي ـ مدقوني مستقل. وأما في المرحلة الثانية فقد نضب معين الإنتاج العقلي وقام الشرق في وجه الغرب، وحين كانت هذه الثورة تهدد العالم الإغريقي ـ المقدوني انقضت روما على هذا العالم واستولت عليه وآلت إليها زعامة الحضارة الإغريقية. و يمكن أن نعزو ضعف النشاط العقلي في المرحلة الثانية إلى عاملين: وأحدهما هو نقص عدد الإغريق الصميمين بانتظام بعد حوالي عام 200ق.م. والآخر هو مجهودات روما في تحطيم الروح المعنوي بين الإغريق.

ويمثل العصر الهلينيسي من نواح كثيرة وحدة واحدة، ذلك أنه بالرغم من أن الدول الإغريقية تمسكت من الوجهة العملية بمبدأ الانفصالية والاستقلال، فإنه من الوجهة النظرية خلفت فكرة العالمية هذا المبدأ، ومن ثم نشأت فكرة وجود عالم واحد (oikoumene) يعتبر ملكًا مشتركًا للبشر المتحضرين، ومن أجله وجدت لغة مشتركة (Koine) ساعدت التقرب بين عناصر هذا العالم، فقد أخذ المتعلمون في كل مكان يستمعلون لهجة أنيقًا، التي نشأت منها تدريجيًا اللغة الإريقية الهلينيسية، فقال اللغة التي كتبت بها التوراة الجديدة. وإذا كانت اللهجات المحلية بقيت مدة طويلة في بعض الأفحاء، فإنه لم يأت القرن الأول حتى كانت اللغة المشتركة" مستعملة في كل مكان.

انتشار التعليم

ويمتاز العصر الهلينيسي بانتشار التعليم وتقدمه، ولا أدل على من أن المواطن (Gymnasiarch) الذي كان يناط به الإشراف على التعليم في الدولة الإغريقية أصبح أهم حكامها. وانتشرت المدارس الأولية للبنين والبنات في أكثر الدول الإغريقية تحضرا، بل كان الأولاد والبنات يتعلمون معًا في بعض المدن مثل تيوس (Teos) وخيوس (Chios)، كان ذلك من قبل في أسبرطة. ويبدو أن تعليم البنات كان يقف عند انتهائهن من هذه المدارس. أما الأولاد فإنهم كانوا ينتظمون بعد ذلك في سلك الجومنازيوم (gymnasium) ويتلقون فيه عادة في التاسعة عشر والعشرين من عمرهم تعليم الشبان، (Ephebeia) ، وكان الهدف لهذا التعليم تدريبهم عسكريًا، لكنه كان يشمل أيضًا تثقيفهم، لأن التدريب العسكري في بعض المدن إجباريًا، لكنه لم يلبث أن أصبح عام اختياريًا. وقد أوجدت اللغة المشتركة والتعليم حضارة مشتركة في العالم الإغريقي، انتشرت في كنفها الآداب والفلسفة، وعمت في ظلمها حرية الفكرة والقول، وزالت الكراهية العنصرية، اللهم إلا إذا استثنينا المصريين واليهود.

روح الأخاء:

وقد ساعدت فكرة العالمية وانتشار التعليم واستخدام لغة مشتركة على تقدم روح الأخاء الإنسانية في الوقت الذي استعرت فيه نار الحروب والمنازعات بين الإغريق، إذ أن الدول الإغريقية أخذت تلجأ منذ القرن الثالث أكثر من أي وقت مضى إلى فض ما قد ينشب بينها من الخلافات على الحدود بالتحكيم بدلاً من الحرب. بل استطاع الإغريق في خلال الجزء الأكبر من القرن الثالث أن يخففوا من ويلات الحرب، إذ أن العرف كان فيما مضى يبيح للمنتصر أن يقتل رجال المدن التي يستولى عليها، وأن يبيع نساءها وأطفالها، لكن الإسكندر الأكبر استبدل بذلك بيع جميع السكان، ثم قضى خلفاء الإسكندر على هذه العادة الشائنة، وقبل عودة الحرب ثانية إلى فظاعتها الأولى منذ أواخر القرن الثالث، نستشف دليلاً على استيقاظ العواطف الإنسانية في الحركة التي بدأت في النصف الثاني من ذلك القرن، وتكشفت عن اعتراف الدول الإغريقية بأن بعض المدن أو الأماكن "مقدسة" كالمعابد، أي لا يجوز أن يعتدي عليها الأفراد أو الدول.

مركز المرأة:

ولقد تأثر مركز المرأة في العصر الهلينسي بالدور الذي لعبته الأميرات المقدونيات العظيمات في الفترة التالية لوفاة الإسكندر، إذ أن شأن تلك الأميرات لم يكن أق لمن شأن الرجال العظام من حيث الاضطلاع بأدوار هامة في الحياة العامة، فقد كن يستقبلن البعثات السياسية، ويبنين المعابد ويؤسسن المدن، ويستأجرن الجنود المرتزقة، ويقدن الجيوش، ويدافعن عن القلاع، ويضطلعن بالوصاية على الملك أو يشتركن فيه. فلا عجب إذن أنه كان لسيدة جميلة قادرة مثقفة، مثل أرسينوي فيلادلفوس، أثر أي أثر حتى على رجال عصرها، ومن القصور المقدونية امتدت الحرية النسبية إلى النساء العاديات، فاستطاعت من شاءت منهن أن تتحرر إلى حد كبير من ربقة التقاليد القديمة، فكان في الإمكان إذ ذاك أن تحصل النساء على كل ما يردن من التعليم، فظهرت بينهن في القرن الثالث الفيلسوفة والشاعرة والفنانة. ووجدت أندية خاصة للنساء في أثينا والإسكندرية، لكنه لا شك في أن هذه الحرية لم تكن إلا من نصيب الأقلية من نساء هذا العصر.

الأندية:

وربما كان ظهور أندية السيدات صدى للاتجاه الذي نشط في العالم الإغريقي منذ حوالي عام 300 نحو تكوين جمعيات صغيرة كانت قبل كل شيء اجتماعية ودينية تقوم حول عبادة إله معين. وأخذت تظهر أيضًا في أثينا وقوس جمعيات عرفت بحرف أصحابها، لكن نقابات أصحاب الحرف لم تعرف في العصر الهلينيسي إلا في مصر. وقد كانت هذه الأندية أو الجمعيات تتخذ من نظم الدول أساسًا لنظمها، فكان لها من الحكام مثل ما كان للمدن، وكانت تصدر قرارات مثل المدن، لكنه لم تكن للأندية عادة أغراض سياسية.

سخاء الأغنية وقلة الأجور:

ولعله من أبرز مظاهر هذا العصر الزاخر بالمقتضيات ذلك البون الشاسع بين سخاء الأغنياء وقلة الأجور، فقد كان الأغنياء على أتم الأهمية للتبرع بأموالهم في خدمة الدولة بقدر ما كانوا غير مستعدين لدفع أجور مناسبة، فكثيرًا ما لبى الأغنياء نداء دولهم فأعاروها مبالغ كبيرة دون أرباح، أو تبرعوا لها بهذه المبالغ، أو أخذوا على عاتقهم إنشاء معبد أو جسر أو سفينة حربية أو إقامة حفل عام أو تمثال. وعلى الرغم من هذا الروح النبيل، فإن الناس في هذا العصر لم يعرفوا الأخاء كما تعرفه اليوم، أو بعبارة أخرى مساعدة الأغنياء للفقراء بطريقة منتظمة مثل إنشاء جمعيات خيرية أو مستشفيات أو ما أشبه ذلك.

اضطرابات اجتماعية

وقد كان هذا العصر حتى أوائل القرن الأول عصر رخاء بوجه عام للطبقات العليا، ونستدل على ذلك من رواج التجارة، وانتشار الأندية وإقامة الحفلات، والترف في المأكل والملبس، والعناية بتخطيط المدن وبناء المنازل وأثاثها. وقد أدى تدهور قيمة النقد حوالي عام 300 إلى ارتفاع الأسعار، لكنه لم يقابل ذلك ارتفاع مماثل في أجور العمال بل أحيانًا هبوطها، فاتسع الفارق بين الأغنياء والفقراء مما أدى إلى اضطرابات اجتماعية، ساعد على اشتعال لهيبها مذاهب الرواقيين التي كانت تنادي بالمساواة والأخاء.

وجوه الشبه والخلاف بين العصرين الهلينيسي والحديث

ويبدو لأول وهلة أن وجه الشبه بين العصر الهلينيسي والعصر الحديث قريب جدًا، فقد كانت توجد الكثرة نفسها من الدول الكبيرة والصغيرة التي تسودها حضارة رفيعة مشتركة، ونشأت فيها أفكار الإنسانية والأخاء وتحرير المرأة، وانتشر فيها التعليم انتشاراً أخرج أفواجًا من أنصاف المتعلمين، ونشأت فيها متاعب قاسية من جراء الأسعار والأجور نشطت روح الحزبية وأدت إلى الأفكار الاشتراكية والشيوعية. ومع أنه كانت توجد ظواهر كثيرة تشبه ظواهر حديثة فإن التشابه ليس تامًا بين العصرين. ولعل مرد ذلك أن اختلاف جوهري أساسه أن العالم القديم لم يعرف الآلات وكان يعج بالعبيد هم الذين اعتد عليهم النشاط الاقتصادي إلى حد كبير.

عصر البطالمة شطران:

ويمكننا دون تردد أن تقسم عصر البطالمة إلى شطرين: الأول منذ البداية حتى معركة رفح عام 217 ق.م. والثاني من هذا التاريخ حتى سقوط دولة البطالمة. وسنشهد في الشطر الأول تشييد دولة البطالمة وإمبراطوريتهم البحرية، وقدوم الإغريق إلى مصر وتغلغلهم في أنحائها واغتصابهم مواردها واحتلالهم أرفع المناصب فيها، حين كان المصريون يرزحون تحت أعباء أثقلت كاهلهم، لكن شعورهم بضعفهم تركهم يئنون من جراحهم صابرين على ما رمتهم به الأقدار حتى يحين يوم الخلاص. وأما في الشطر الثاني فسنشهد كيف انبعث الروح القومي نتيجة لموقعة رفح، تلك المعركة التي تعتب ردرة في تاريخ الجيوش المصرية، فقد كانت الفرق المصرية دعامة النصر على جيوش ملك سوريا الإغريقية. وقد أزكى ذلك الفوز روح الوطنية الكامن في الصدور وأعاد إلى المصريين الثقة بأنفسهم، وأرغم البطالمة على النزول عن صلفهم وجبروتهم والنظر بعين جديدة إلى هذا الشعب الذي انتزع أبناؤه نصرًا عز على القوات الإغريقية، ومن ثم أخذ البطالمة يتبعون سياسة جديدة في حكم المصريين كما سنرى بالتفصيل.

العصر البطلمي-الغزو المقدوني2

  • الغزو المقدوني
طباعة أرسل لصديق
  • فيليب الثاني يوحد الإغريق ويقرر محاربة الفرس:

لم تكن بلاد الإغريق دولة تنتظمها رابطة الوحدة السياسية، وإنما كانت تنقسم إلى عدد كبير من الدويلات تحرص كل منها أشد الحرص على استقلالها وحريتها وتفرق بينها المنازعات والأحقاد .

وإذا كانت هذه الدويلات قد بلغت شأوا بعيدًا في القرن الخامس قبل الميلاد، فإنها أخذت تضعف وتشيع الفوضى بين أرجائها في خلال القرن الرابع، في حين أن مقدونيا على حدودها الشمالية كانت جادة في توحيد كلمتها وأعلاء شأنها. وعندما ارتقى فيليب الثاني عرش مقدونيا، رأى أن ينتهز حالة بلاد الإغريق فيوحدها بزعامة مقدونيا سياسيًا وحربيًا ويقوم الإغريق في حرب قومية ضد أعدائهم القدماء الفرس، وكانوا يسيطرون على إغريق آسيا الصغرى ويهددون سلامة بلاد الإغريق، فيصيب فيليب بذلك هدفين: وأحدهما هو ضخوع بلاد الإغريق له وتأييدها إياه لأنه سيصبح قائد حرب الانتقام من الفرس، والآخر هو القضاء على الخطر الفارسي، وقد أدرك الإغريق أغراض فيليب وانقسموا أزاءها قسمين غير متعادلين، يؤيدها أقلهم ويعارضها أغلبهم وكانوا يرون أن المسألة هي حرية الإغريق، وهذه كانوا لا يفرقونها عن استقلال المدن، وأنه يتهدد حريتهم العزيزة عليهم خطران كانت مقدونيا أقربهما وبلاد الفرس أبعدهما فكان يجب القضاء على الخطر المباشر بأي ثمن. ولذلك تآلفت أثينا وبويوتيا لفدع هذا الخطر الداهم، ولكن فيليب أنزل بالإغريق في عام 338 هزيمة ساحقة في موقعة خايرونيا (Chaeronea) وألف من أغلب الدول الإغريقية عصبة ؟؟؟


الإسكندر الأكبر ينقذ مشروع أبيه :


وقد لقى فيليب حتفه في عام 336 قبل تحقيق أمنيته، ؟؟ الإسكندر الثالث الملقب بالأكبر ـ وقد ورث عنه جيشه وتك؟؟؟ الإغريق في حرب شاملة ضد الفرس انتقاماً لما ؟؟؟ في بلاد؟؟ منذ قرن ونصف قرن ـ لم يكد الأمر ؟؟ حتى ؟؟ محاربة الفرس، برغم ما كان يكتنف ذلك من ؟؟ أهمها أن ؟؟ يعتمدون على موارد إمبراطورية لا تنضب، ؟؟ بسيادة وذلك في حين أن موارد الإسكندر كانت ضد ؟؟؟، ولا يستطيع الاعتماد على قوى الإغريق البرية؟؟، فقد ضياع حريتهم وخضوعهم لمقدونيا، ومن ثم فإن ؟؟؟ طبيعيًا ألا تأييد مشروعاتها، بيد أن مقدونيا استعاضت عن ؟؟ أنها أمة فتية قوية تتألف من جنود أشداء ، أحدث والمعدات. ويقودها ملك شاب يجمع بين عدد من القواد المجربين.


الإسكندر الأكبر يستولى على قواعد الاسطول الفارسي :


وبعد انتصار الإسكندر في موقعة جرافي؟؟؟؟؟؟؟؟ التي تصدت له بمجرد بلوغه أسيا الصغرى ؟؟ للقضاء على سيادة الفرس البحرية هي الاستيلاء على قواعد الفارسي الواحدة بعد الأخرى. ولذلك يبين ؟؟ شواطئ أسيا الصغرى وسوريا وفينيقيا ؟؟ أيضًا وكذلك على فورينابئة ((برقة) فيضمن على ؟؟ ويترك الأسطول الفارسي بلا مأوى يلجأ إليه لا؟؟ المراكب ؟؟ مصر ضرورة للإسكندر لأنه كان من ناحية ؟؟؟ ومن ناحية أخرى بمثابة ضمان لوضع بلاد الإغريق تحت رحمة الإسكندر، لأن استيلاءه على مصر بعد الدردنيل كان يضع في قبضته أكبر مصدرين تعتمد عليهما بلاد الإغريق في استيراد ما تحتاج إليه من القمح. وفضلاً عن ذلك فإن هذا الفتح كان يضع في قبضته موارد الغنية، فيسهل عليه أن يتابع محاربة الفرس. ولعل عدم اطمئنان الإسكندر إلى مصر لم يكن مبعثه خضوعها للفرس بقدر ما كان الخوف من أن تتخذها العناصر المعادية للإسكندر مأوى لها، أو الخوف من قيام ثورة وطنية فيها تقودها الأرستقراطية المصرية ـ وكان لا يزال لها شأن كبير في الدلتا ـ ويتحالف معها الإغريق، فقد كان في وسع مثل هذا الحلف إخضاع قبرص وفينيقيا، أو على الأقل تهديد سلامتها.


حقًا أن استيلاء الإسكندر على فينيقيا قد أزال من طريقه الخطر الرئيسي الذي كان يتهدده، لأن سفن فينيقيا وقبرص ـ وكانت أفضل جزء في الأسطول الفارسي ـ انضمت عندئذ إلى الإسكندر، غير أن أجيس ملك اسبرطة كان لا يزال يعمل مجدًا في إثارة الحرب ضد الإسكندر، وإلى جانب ذلك كله كان يوجد اعتبار سياسي له خطره. فقد كان الإسكندر على وشك تكوين إمبراطورية إغريقية أسيوية. وكان لا يمكن تصور قيام ههذ الإمبراطورية دون أن يكون بحر أيجة بمثابة قطب الرحي فيها، وكان يتعذر السيطرة على هذا البحر بل على شرق البحر الأبيض المتوسط دون السيطرة أولاً على مصر.


الإسكندر الأكبر يفتح مصر:


وإزاء ذلك كله فإن الإسكندر عندما دحر داراً الثالث ملك الفرس في موقعة أسوس (Issos) في خريفه عام 333 لم يتابع انتصاراته باقتفاء أثر الملك الأكبر الذي فر هاربًا إلى بابل، وإنما أثر أن يفتح أولاً فينيقيا ومصر وقورينايئة (برقة). وما كاد يستولى على صور وغزة حتى ؟؟ وجهه شطر مصر فبلغ بلوزيون (Pelousion) في نوفمبر وقد طوقته هالة من جلال انتصاراته الحديثة.


ومما يستحق الذكر أنه عندما كان الإسكندر في صور كتاب يعرض عليه فيه محالفته وكل إمبراطوريته غربي الفر؟؟ بارمنيو قائده العجوز "لو كنت أنا الإسكندر لقبلت هذا " فرد عليه الإسكندر بعبارته المشهورة "وأنا لو كنت بارمنيو أيضاً" . وفي هذا دلالة على مدى اتساع الأهداف الإسكندر يتوخاها من وراء حملته ضد الفرس.


ولم يجد مازاقس (Mazakes) ـ الوالي الفارسي الذي ؟؟؟ مصر إذ ذاك ـ مفرًا من التسليم، لأنه أدرك أن المقاومة مجدية ولا سيما أن المصريين لم يخفوا عواطفهم نحو الإسكندر المصائب التي جلبها عليهم الفرس والمساعادت التي لقيها الإغريق كلما حاولوا التخلص من ربقة الملك الأكبر، على آنفًا. فقد كانت تدور في مخيلة المصريين ذكرى آثام قمبيز أوخوس وكفاحهم المستمر بمساعدة الإغريق ليستخلصوا من براثن الفرس. وقد ظن المصريون أن الإسكندر قدم ؟؟ من بلائهم، كما قدم الإغريق مراراً من قبل، إذ كان المصريون حلفاء طبيعيين على عدوهم المشترك: الفرس. ولم يفطر حينذاك إلى الإغريق لم يأتوا هذه المرة حلفاء، وإنما ليفرط عليهم ويقيموا مكان الحكم الفارسي حكمًا أشد بأسًا وأطول أن الإسكندر والبطالمة من بعده حرصوا على إظهار أجلالهم للديانة المصرية واتخذوا منها وسيلة لدعم مركزهم والسيطرة على ؟؟ وموارد البلاد.


وقد استطاعت مصر دائمًا عقب الغزوات الخارجية السابقة ثانية في كل مرة أسرة ملكية جديدة من أهل البلاد، تحتفظ القومية القديمة في نظم الحكم والحضارة واللغة، ولكنه منذ هذه اللحظة لم يرتق عرش مصر ثانية فرعون مصري، إذ أنه منذ قدوم الإسكندر خضعت مصر ما يقرب من عشرة قرون لحكام أجانب من المقدونيين ثم من الورمان. وبعد ذلك أصبحت مصر جزءًا من العالم الإسلامي، ففقدت طابعها القديم واكتسبت طابعًا آخر تميزه لغة جديدة ونظام اجتماعي جديد وديانة جديدة.


الإسكندر الأكبر في منف:


ولم يتوقع المصريون شيئًا من هذا كله عندما رحبوا بالإسكندر بوصفه حليفًا طبيعيًا جاء لانقاذهم من العدو المشترك. وقد وصل الإسكندر إلى بلوزيون على رأس جيش يتألف من نحو 40.000 مقاتل، يحرس جناحهم الأيمن أسطول الإسكندر الذي سار بحذاء الشاطئ حتى هذا الميناء، ثم دخل فرع النيل وتقدم حتى منف. وأما الإسكندر فإنه ترك حامية في لوزيون، وقتدم عبر الصحراء إلى هليوبوليس ومنها إلى منف. ولما كان من بين الأسباب التي أحفظت قلوب المصريين على الفرس أنهم انتهكوا حرمة الديانة المصرية، فقد كان أول هم الإسكندر عندما حط رحالة في منف هو أن يظهر احترامه للديانة المصرية، ولذلك قدم القرابين في معبد الإله فتاح للآلهة الوطنية والعجل المقدس أبيس بل يذكر مصدر قديم أن الإسكندر رسم نفسه فرعونًا في معبد فتاح طبقًا للطقوس الدينية المصرية. وإذا كان الإسكندر قد أظهر احترامه للآلهة المصرية فإنه لم ينس أنه كان القائد الأعلى لعصبة فورنثة وأنه يوم خرج من بلاد الإغريق قاصدًا فتح الشرق قد أعلن نفسه رافع لواء الحضارة الإغريقية وحامي حمى الإغريق، ولكي يثبت ذلك للإغريق المستوطنين في منف ونقراطيس، فإنه، كما قدم القرابين للآلهة أقام في منف حفلاً إغريقيًا رياضيًا وموسيقيًا اشترك فيه الموسيقيين والممثلين الذين ذاع صيتهم في العالم الإغريقي. ولا أن تتحقق كيف اتفق وجود هؤلاء الفنانين في مصر في هذه ويذهب بعض المؤخين إلى حد القول بأن هؤلاء الفنانين دعوا لإقامة هذا الحفل، يوتخذون من وجودهم دليلاً على أن الإسكندرية قد اتفق مع مازاقس على التسليم منذ مدة طويلة قبل الغزو، بعض آخر أن هؤلاء الفنانين الإغريق ذهبوا إلى مصر كي يحيوا تمثيليًا في نقراطيس بين أصدقائهم الإغريق ويكونوا قربيين إذا ؟؟ إليهم الإسكندر.


تأسيس الإسكندرية:


بعد أن فرغ الإسكندر من مهامه في منف. ركب فرع النيل تحف به شارات الملك، وهناك على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عن مصب هذا الفرع، ومن ثم في منأى عن الرواسب الطميية بها النيل على الدوام في البحر المتوسط، وفوق الشقة الضيقة بحيرة مريوط عن البحر. وعند القربة المصرية القديمة راوتيس أساس أول مدينة نعرف عن يقين أنه أنشأها في خلال ؟؟؟ وقد كان في ضمير الدهر أن هذه المدينة ستصبح أعظم المدن اسم الإسكندر بل أعظم عواصم العالم الإغريقي في هذا العصر.


وبعد أن وضع الإسكندر أساس مدينته الجديدة وقد عليه أيجه قائداه أمفوتروس (Amphoteros) وهجاوخوس بعد القضاء على آخر مقاومة للفرس في الجزر. وقرار فارنابازوس (pharnabazos) وتحرير لسبسوس وتندوس وخيوس وفوس القبض على الطغاة الذين كان فارنا باتزوس قد أقامهم، وكذلك على حكم الأقلية في خيوس وكانوا قد خانوا الأمانة وأعانوا ممنون على مدينتهم. وقد قضى الإسكندر بسجن هؤلاء الحكام في النتين، أما الطغاة فإنه قضى بإعادة كل منهم إلى بلده لتفصل في أمره. وعهد إلى أمفوتروس بحماية قريت ضد آجيس والضرب على أيدي القراصنة الذين كانوا قد مدوا يد المساعدة لفارنابانزوس لكن هذا لم يتحقق على الإطلاق لأن الحرب ضد اسبرطة حولت أسطول أمفروتورس نحو بلاد الإغريق.


الإسكندر الأكبر يزور معبد الوحي في سيوة:


وبعد ذلك أخذ الإسكندر جزءًا من جيشه ونفرا من صحبه واتجه غربًا محاذاة الشاطئ حتى وصل إلى بارايتونيون (Paraetonion مرسى مطروح)، ثم ضرب في بطن الصحراء، وحج إلى معبد آمون في واحة سيوة. وهنا يجب أن نتساءل لماذا حج الإسكندر المبادرة قدر الطاقة إلى ملاقاة دارا، الذي كان الفاتح المقدوني وافقاً دون شك على استعداداته الضخمة، فإننا نعتقد أن الإسكندر لم يخاطر بالقيام بتلك الزيارة التي أبعدته ستة أسابيع عن قاعدته المصرية إلا بلدوافع قوية. وفي الواقع يبين لنا أن الإسكندر أراد أن يحقق ثلاث غايات من وراء هذه الزيارة: أولاً اثبات صلة نسبة بالآلهة، فنحن نعتقد أن الإسكندر توج نفسه فرعونًا في منف وغدًا على هذا النحو الها في نظر المصريين، لكنه بقى عليه أن يثبت لهم بل للعالم أجمع أنه لم يكن الها فحسب بل ابن إله أيضا.


وقد كان في وسعه إثبات ذلك في معبد طيبة التالد دون تجشم صعاب الذهاب إلى معبد سيوة لو أن أغراضه كانت محلية، أي مقصورة على تقديس سلطانه في نظر المصريين وحدهم. لكن الأمر لم يكن كذلك فقد كان الإسكندر على وشك أن يبنى إمبراطورية واسعة مترامية تضم بين جوانبها عناصر من الشرق ومن الغرب، وكان يرى أن نفوذه في أرجائها يقتضي إظهار نفسه للملأ أجمع أنه ملك إله


ومع أن فيلكن وتارن يسلمان برسامة الإسكندر فرعونًا إلا أنهما ينكران أنه ذهب إلى سيوة لإثبات أصله الإلهي فكرة مولده الإلهي نبتت من أن كبير كهنة آمون عندما رحم بلقب "ابن آمون".


وهذا رأى عجيب لا نستطيع أن نقره، إذ كيف يتأتى أن ذلك الأثر نتيجة لهذه المناداة، ولا يكون نتيجة لرسامته فرصة وما صحب ذلك من أغداق الألقاب الفرعونية عليه "ابن آمون"؟


ولعل الأدنى إلى الصحة أن تكون هذه الفكرة قد نبتت نتيجة لمزاعم أولومبياس بأنها لم تنجب الإسكندر من فيليب، ثم عندما رسم فرعونًا في منف تأصلت هذه الفكرة في نفسه الملكة الإلهية، ولا سيما أن أستاذه أرسطو كان قد لقته ؟؟ ضرورة تألبه الرجل الذي يسوء على كل مواطنيه في الخلق ؟؟


ولما كانت تقوم صلات قديمة وثيقة بين معبد آمون في ؟؟ الذين يقيمون بالقرب منه أو على بعد عنه ـ في فوريانيئة ؟؟ آسيا وفي المدن الأوروبية الإغريقية ولا سيما أثينا و؟؟ هذا المعبد يتمتع منذ عدة قرون بشهرة عالمية تضارع ما ؟؟ في دودونا ومعبد أبولو في دلفي. فقد رأى الإسكندر ؟؟ برغم أنه كان لا يداني حتى من بعد معبد طيبة في الأهم المصريين كان خير مكان لإثبات صلة نسبة الألهة أمام الرأي ولا أدل على شهر هذا المعبد من أن فروبسوس ملك ؟؟ آلهة الإغريق، ومن أن يبندارس (Pindanos) أهدي معلقة لآمون سيوة، ومن أن الإغريق أمثال أهل أليس (Elis) واسبرطة وأثينا كانوا يوفدون الرسل لاستلهام آ/ون الوحين ومن أن يرويبيدس يتحدث عن "مقر آمون غير الممطر"، كما لو كان مكانًا مألوفًا للإغريق يهرعون إليه كلما كانوا في حاجة إلى نصيحة الهية، ومن أن الأثنيين أتموا في عام تشييد معبد للإله آمون في أثينا، وأطلقوا على مركبهم المقدس أسم سالامينيا أمونياس (Salaminta Ammonias)، ومن أن أوسطوفانيس قد شاد في راوية "الطيور" بمعبد آمون في واحدة سيوة، ومن أن أفلاطون قد ذكر في كتابه عن القوانين وحي آمون جنبًا إلى جنب وحي دلفي ودودونا.


وكانت الغاية الثانية التي تغياها الإسكندر من وراء، حجه إلى معبد آمون سيوة هي الحصول أمام الرأي العام الدولي على تأييد الإله آمون لمشوعاته التي كانت ترمي إلى بسط سيادته على العالم، وأما الغاية الثالثة فكانت إشباع ميوله للمخاطرة ورغبته في أن يقتفي أثر بطلي الأساطير الإغريقية برسيوس (Perseos) وهرقل اللذين شاع الاعتقاد قديمًا أن الإسكندر ينحدر من سلالتها، فقد و رد في الأساطير أن هذين البطليين تزودا بشورة آمون سيوة قبل أن يقدما على جلائل أعمالها ويجب ألا يعرب عن البطل أن ما تعتبره اليوم قصصاً وأساطير كان في نظر إغريق القرن الرابع قبل الميلاد تاريخًا صحيحًا.


ولماذا ذهب الإسكندر إلى سيوة عن طريق بارايتونيون مع أن الطريق الطبيعية من وادي النيل إلى سيوة كانت عبر وادي النطرون؟
ولا يمكن تفسير ذلك بأن الإسكندر قبل ذهابه مباشرة إلى لم يكن في الوادي نفسه وإنما كان عند الأطارف الشمالية الغربية من أجل تأسيس مدينته الجديدة، ومن ثم كان أيسر عليه عندما يأخذ طريق بارايتونيون، إذ أن القرائن توحي بأن تأسيس الإسكندرية جاء عفو الخاطر ودون تدبير سابق. وإنما يمكن تفسير ذلك من أن طريق باريتونيون كانت الطريق الطبيعية التي يسلكها ذهابهم إلى سيوة، لكننا نعرف كذلك أنها كانت أيضاً الطريق قورينايئة وأن الإسكندر كان يرغب في الاستيلاء على كل شرق الأبيض المتوسط كي يترك أسطول أعدائه معلقًا في الهواء، ولا قورنايئة كانت اقليمًا هامًا يهدد سلامة حدود مصر الغربية إذا قبضة يد قوية. ولا داعي لأن نذهب بعيدًا في التدليل على أهمية لمصر، متى إدركنا ما وقع على حدود مصر الغربية من أحداث العالمية الثانية، فهل كان الإسكندر يعتزم إخضاع قورينايئة أم أنه بتركها مفتوحة أمام أعدائه؟ أي هل يمكن أن يكون قد غفل عم البطالمية نصب أعينهم؟ أزاء هذه الاعتبارات، وإزاء ما تذكره بعض القديمة من أنه عندما وفد الإسكندر يعتزم إخضاع قورينايئة أم أنه بتركها مفتوحة أمام أعدائه؟ أي هل يمكن أن يكون قد غفل البطالمة نصب أعينهم؟ إزاء هذه الإعتبارات، وإزاء ما تذكره بعض القديمة من أنه عندما وقد الإسكندر على بارايتوفيون وجد في سفراء قورينايئة الذين أهدوا إليه بضع مئات من الخيول الممتاز على خضوع بلادهم له. نرجح أن الإسكندر كان ينشد السيطرة قورينايئة وأنه قد تعمد الذهاب إلى سيوة عن طريق بارايتونيون الطريق التي ألف الإغريق أن يسلكوها عند حجم إلى معبد وليقوم بمظاهرة عسكرية تلقي أنباؤها الرعب في قورينايئة إعلان خضوعها له إذ أنه لم يكن في وسعها مقاوميته، وبالفعل قابلة في بارايتونيون وقدموا له فروض الطاعة.


ومن بارايتونيون توغل الإسكندر في قلب الصحراء، وقطع حتى واحدة سيوة في اثنى عشر يومًا، تحدثنا كل المصادر القديمة كانت حافلة بالأخطار والغرائب، فتروي كيف أنه حين فقدت وكاد الإسكندر وصحبه يهلكون عطشاً تلبد الجو فجأة بالسحب وأمطرت السماء على غير عادتها في هذا الإقليم، مما اعتبر دليلاً على عطف الآلهة.


وقد ازداد الاعتقاد في هذا العطف عندما ضل الأدلاء طريقهم وهداهم إلى قصدهُم، وفقًا لإحدى الروايات، ثعبانان كانا يزحفان أمامهم، أو وفقًا لرواية أخرى، غرابان كانا يطيران مسافات قصيرة في مقدمتهم. وإذا كان القدماء قد اعتبروا هذه الظواهر من المعجزات، فإن المحدثين لا يجدون مشقة في تفسيرها، إذ أن هطول الأمطار هناك نادر إلا أنه غير خارق للعادة، أما عن الثابين أو الغربان، فإن وجودها في الصحراء أمر غير بعيد الاحتمال، وطبيعي أن اقتراب الإسكندر وصحبه منها وسط الصحراء ازعجها فأخذت تفر أمامهم. ويحدثنا سائح زار سيوة في عام 1847، وكان قد ضل الطريق حينًا، بأنه "بينما كنا في هذه الحالة القلقة أبصرنا غرابين يحلقان في الهواء برهة من الزمن ثم أتجها صوب الجنوب الغربي، ولو أننا كنا في عصر الخرافات لاعتبرنا ذلك إشارة كافية وتبعنا هذين الدليلين الطيبين، اللذين يحتمل أنهما من سلالة الطيور التي تحدثنا القصص بأنها في مناسبة مشابهة. وعلى قرب شديد جدًا من المكان الذي وصلنا إليه، أنقذت الإسكندر من الضلال في الصحراء. ولو أننا تبعنا الغرابين لما أخطأنا الطريق لكننا لم نخضع لإيحاء مخيلاتنا وانتظرنا عودة الدليل" .


ويحدثنا ديودوروس. نقلاً عن قلايتارخوس، بأن سكان واحة آمون كانوا يعيشون في قرى وبأنه في وسط الواحة كان يقوم مكان مرتفع تحصنه ثلاثة أسوار، وكان داخل السور الأول يقوم قصر الحكام القدماء وداخل الثاني بيوت النساء والأطفال وغيرهم من أقارب الحراس وكذلك هيكل الإله والنبع المقدس الذي كانت تظهر فيه قربن الإله. وداخل السور الثالث فكانت توجد ثكنات الجنود ومنازل الحرس الخاص للملك. وعلى مسافة يسيرة من هذه القلعة كان يوجد في ظلال أكمة، الأشجار معبد للإله آمون. وبالقرب من هذا المعبد يوجد نبع يسمى "نبع الشمس". واليوم يعرف المعبد الأول بمعبد أغورمي، وهي إحدى القريتين الرئيسيتين في واحة سيوة، والثاني بمعبد أم عبيدة وقد كان الرأي السائد حتى منتصف القرن التاسع عشر هو أن معبد عبيدة كان معبد الوحي المشهور، لكنه منذ زار هاميلتون معبد "أغورمي" في عام 1853 اتجه الرأي إلى اعتبار هذا الهيكل معبد الوحي.


وتدل بقايا هذا المعبد على أن بناءه قد أعيد في عهد الحكم الفارسي وأنه كان يتألف من فناءين وصالة تقوم وراءها، على المحور نفسه، قام قدس الأقداس وإلى جانبها الأيس قاعة مربعة الشكل تقريبًا وإلى جانب الأيمن وخلفها دهليز ضيق. ولما كان قد وجد في الواجهة الخلفية المجد الشرقي لقدس الأقداس المطلة على الدهليز ثلاث فتحات على ارتفاع 66سم من الأرضية وكذلك تجويفان قرب السقف، وكانت هناك وثيقة بين هذا الجزء من المعبد وبين الوحي. فقد استخلص من ذلك الكلمات التي كانت تسمع في البهو ويتصور الناس أنها صادرة عن آمون كان مصدرها في الواقع كاهنًا يختفي في الدهليز.


وقدس الأقداس حجرة متوسطة الحجم كان يقوم في وسطها مركب آمون المقدس فوق مكعب من الخشب أو الحجر. ويقال أن المركز نفسه كان مصوغًا من الذهب، معنى هذا أنه كان مصنوعًا من خشب مغطى بطلاء من الذهب. ونستطيع أن نكون نكرة عن هذا المركز المقدس من زخرفة جدران معابد الأقصر والكرنك التي تصور مراكب آمون طيبة، ونستخلص منها أن مركب أمون المقدس كان ذا جدران رقيقة مرتفعة، يزينه رءوس كباش ويقوم بملاحته جماعة من الآلهة ويحمل بين جوانبه القرابين وقاعة مقدسة يستقر فيها تمثال الإله. ويحدثنا قورتيوس بأن تمثال آمون سيوة كان كتلة مخروطية الشكل (Omphalos) تتكون من الزمرد وغيره من الأحجار الكريمة.


وعندما عثر رايزنر (Reisner) في نباتا داخل المعبد الكبير لآمون على كتلة من الحجر الجيري مخروطية الشكل، بادر جريفبث (Griffith) إلى بيان وجه الشبه بين هذا الأثر وتمثال آمون سيوة على نحو ما يصفه قورتيوس وكذلك تمثال (Omphalos) معبد الوحي في دلفي، واستخلص من ذلك أنه لابد من أن أثر نباتا يتصل بوحي نوبي هناك، وأن فكرة صنع تماثيل للآلهة على هذا النحو مأخوذة من دلفي. وقد اعتنق هذا الرأي وينرايت (wainwright) الذي وجد شبهًا بين هذا الأثر وبين تمثال آمون سيوة وتماثيل مصرية مماثلة. وأول الأمر أيد شتايدروف (Steindorf) فكرة جريفيث واستخلص من قرب الشبه بين أثري سيوة ونباتا وجود صلة قوية بين وحي آمون سيوة ووحي آمون الذي قيل بوجوده في نباتا.


غير أن شتايندورف لم يلبث أن ناهض هذا الرأي عندما رأى بنفسه أثر نباتا وتبين له أنه في شكل خلية نحل في واجهتها نافذة (0.24×0.20مترًا) وفي قاعدتها الداخلية تجويف (حوالي 0.085×0.13متر) يسمح بوضع تمثال صغير. وقد خرج من ذلك بنتيجة تتلخص في أن أثر نباتا ليس تمثالاً للإله آمون وإنما هيكل صغير صنع على شكل كوخ إفريقي كان يوضع داخله تمثال الإله،وفي أن ذلك كان أيضًا شأن تمثال آمون سيوة.


ويعتقد ماسبرو أن تمثال آمون سيوة، كغيره من التماثيل التي يصدر عنها لوحي، كان مصنوعًا بحيث يمكن تحريك رأسه أو ذراعه أو يديه عندما يجذب الكاهن المختص حبلاً معينًا.


وقد اقتفى راديه (Radet) أثر ماسبرو في الرأي، لكنه لم يلبث أن عدل عنه ونادى بالرأي الآخر.


فأي الرأيين إذن أصح، أو بعبارة أخرى هل كان الشكل الذي صور فيه آمون سيوة تمثالاً كتماثيل غيره من الآلهة أم أنه كان كتلة مخروطية الشكل؟ إزاء وصف قورتيوس الذي لم ينقضه ما ورد في غيره من المصادر القديمة، وإزاء ذلك الأثر الذي عثر عليه في نباتا وأشباهه التي وجدت في الكرنك، ومدامود ومدينة هابو ومنف وأسيوط نشارك غالبية الباحثين المحدثين في ترجيح الرأي الثاني.


ومهما يختلف المؤرخون حول شكل صورة الإله، فإنها وفقًا لرواية ديودوروس وقورتيوس كانت توضع في مركب آمون المقدس. وعند إجابة الوحي عما يوجه إليه من الأسئلة كان يحمل المركب وداخله صورة الإله ثمانون كاهنًا يدورون في أرجاء المعبد ومن ورائهم الكاهنات يرتلن الأناشيد.
وعلى ضوء رواية هذين المرخين يفسر فريق من المحدثين ما أورده استرابون، نقلاً عن قاليسثنيس بأن حركات المركب المقدس في هذا المهرجان كانت تعبر عن رد الوحي على ما وجه إليه من أسئلة، وبأن الكاهن الأكبر كان يقوم بتفسير هذه الحركات بإشارات وإيماءات تقليدية يفهم الناس المراد منها. لكن رواية قاليسثنيس تحتمل تفسيرًا آخر مؤداه أن الوحي كان يصدر مباشرة عن الكاهن الأكبر مبا يأتيه من إشارات وإيماءات. ومعنى ذلك أن الكاهن الأكبر كان يقوم بدور الإله، وأن إجابة الوحي لم تقتض إقامة مهرجان يحمل فيه المركب المقدس وصورة الإله.
ولما كنا نجد في بعض وثائق طيبة التي ترجع إلى العصر الفرعوني أن الوحي كان يصدر عن تمثال الإله، وكان التجويف الموجود قرب السقف بالجدار الخلفي للهيكل في معبد خنسو ينم عن أنه كان يصدر عن الكاهن مباشرة، وكنا نعرف أنه كانت توجد في الواجهة الخلفية للجدار الشرقي لقدس الأقداس في معبد سيوة ثلاث فتحات قرب الأرضية وتجويفان قرب السقف فهل من المحتمل أنه في بعض الأحيان أو ربما على الأصح في بعض المناسبات الخاصة كان يقام المهرجان ويصدر الوحي وفقًا للتفسير الأول، وفي البعض الآخر كان الوحي يصدر وفقًا للتفسير الثاني؟ هذا جائز.


ولما كان الإسكندر قد رسم فرعونًا في منف وكان قد أصبح تبعًا لذلك "ابن آمون رع" مثل من سبقه من الفراعنه، فإن كبير الكهنة الذي رحب بمقدمه عند وصول إلى المعبد خاطبه بلقب "ابن آمون"، وهو اللقب الذي كان يحمله سائر الفراعنة منذ عهد بعيد ـ ودعاء وجده لدخول قدس الأقداس، حيث سأل الوحي عما يريد الوقوف عليه وتلقي الإجابة عن أسئلته. أما رفاقه فإنه لم يسمح لهم إلا بدخول فناء المعبد فقط وذلك بعد تغيير ملابسهم، وهناك ألقوا بأسئلتهم وأجيبوا عنها. وإزاء ذلك يبدو أنه لم يقم مهرجان للإجابة عن أسئلة الإسكندر، غير أنه لا يستبعد أن يكون قد أقيم مهرجان للإجابة عن أسئلة رفاقه.


وقد كان فرعون قبل زيارة أي معبد يُعتل ويتطهر ويتطيب ويرتدي ثيابه الرسمية وخاصة تاج الوجهين. وإذا كان من المرجح أن الإسكندر قد فعل ذلك في منف، فإنه عندما زار معبد آمون في سيوة احتفظ بملابسه العادية، مما ينهض دليلاً على أنه قد قام بهذه الزيارة بوصفه قبل كل شيء ملك مقدونيا والقائد الأعلى للإغريق، وكذلك على أن الأهداف المحلية كانت تأتي عنده في المرتبة الثانية بعد أهدافه الدولية.


وعندما خرج الإسكندر من قدس الأقداس وعاد إلى صحبه في الفناء وسأله أصدقائه عما حدث لم يجب إلا بقوله أنه سمع ما تمنى. ولعله قد فعل ذلك لأمر في نفسه أو لأن الكاهن الأكبر أفهمه أن التقاليد المصرية تقضي بذلك لأن الإله قد خاطب ابنه. وعلى كل حال فإن الإسكندر كتم السر، إذ أنه كتب بعد ذلك بقليل إلى أمه أولومبياس بأنه قد أبلغ توجيهات سرية سيقضي بها إليها وحدها عند عودته إلى مقدونيا، غير أنه توفي قبل ذلك وحمل سره معه إلى القبر. وإذا كنا لن نعرف عن يقين الأسئلة التي وجهها الإسكندر إلى الوحي والإجابات التي فاز بها فإنه لا يصعب استنتاجها، ولا سيما في ضوء إجابة الإسكندر على تساؤل أصدقائه فهي توحي بأن كل تصرفات الإسكندر التالية كانت بموافقة الإله الأكبر.


وبالرغم من أن الإسكندر قد كتم ما دار بينه وبين الوحي، فإن قلايتارخوس (Cleitarchus) لم يلبث بعد انقضاء بعض الوقت أن كتب يقول أن الإسكندر سأل الوحي عما إذا كان قتلة أبيه قد عوقبوا وأن الوحي نهاه عن هذا التساؤل الفاحش لأن أباه إله ولا يمكن أن يمسه سوء، وعندئذ سأله الإسكندر عما إذا كان كل قتله قيليب قد عوقبوا فرد الوحي بالإيجاب. وبعد ذلك تساءل الإسكندر عما إذا كان سيصبح سيد العالم وكان الرد بالإيجاب.


وإذا كان الشك يرقى إلى تصوير ما حدث بين الإسكندر والوحي على هذا النحو الدقيق لأن الإسكندر احتفظ بذلك سرًا لم يبح به لأحد فأننا لا نرى سبيلاً إلى الشك في أن الوحي اعتبر الإسكندر ابن الإله الأكبر آمون، لأن الإسكندر كان فرعونًا ولأن كل فرعون منذ حوالي عام 2000 ق.م. كان يعتبر رسميًا ابن الإله آمون رع. ولا سبيل إلى الشك أيضاً في أن الوحي منح الإسكندر السيطرة على العالم بأسره، لأنه كان جزءًا من طقوس الإله آمون أن يسأل الكاهن الإله ـ باسم فرعون ـ السيطرة على العالم فيمنحه الإله هذه السيطرة. ومن ثم يبين أن زيارة الإسكندر لمعبد الوحي في سيوة قد تمخضت على الأقل عن الاعتراف بأصله الإلهي ويحقه في السيطرة على العالم أجمع. ويقال أنه في عام 331 جاء منف رسل من ميلتوس لينشروا في الناس ما أعلنه وحي برانخيداي من أن الإسكندر قد ولد من أب سماوي، ومن أنه سيسيطر على العالم أجمع، وهو ما أكده أيضًا وحي أرتريا في أيونيا. وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أنه كانت تتملك الإسكندر عندئذ رغبة قوية في الاعتبارف بأصله الإلهي وبحقه في السيطرة على العالم، وعلى أن أمر هذه الرغبة لم يكن خافيًا على المطلعين على بواطن الأمور مثل مصادر الوحي، وكان يهمها عادة مسايرة رغبات ذوي النفوذ. وهذا يؤيد ما نراه من أن الإسكندر ذهب إلى معبد الوحي في سيوة لتحقيق هذه الرغبة أمام الرأي العام الدولي.


ومنذ ذلك الوقت حرص الإسكندر على لقب ابن آمون وقضى بأن تزين صورته على النقود التي سكها بقرني كبش آمون المقدس. وقد أصبحت ذكرى الإسكندر مرتبطة بهذه الصورة إلى حد أنه ورد في روايات العرب باسم "الإسكندر ذي القرنين". ولم يصبح الإسكندر إلهاً مصريًا فحسب، بل أن المدن الإغريقية ـ التي كانت تتألف منها عصبة قورنثة ـ رفعته إلى مصاف الآلهة في عام 324. ونحن نميل إلى الرأي القائل بأن هذا تأليه كان بإيعاز من الإسكندر نفسه لكي يتمكن من التمتع بنفوذ واسع في هذه المدن، إذ أنه لا يعقل أن تكون هذه المدن قد أققدمت من تلقاء نفسها على تأليه الإسكندر مع أنها كانت ناقمة عليه لحرمانها حريتها. وجدير بالملاحظة أنه إذا كان الإسكندر قد عبد في مصر على اعتبار أنه ابن آمون، وفي بلاد الإغريق على اعتبار أنه ابن زيوس، فإن الفرس لم يعبدوه، كما أن الإسكندر لم يدع أنه الإله الوحيد أو الإله الأكبر، بل ليس هناك أي دليل على أنه كانت توجد للإسكندر عبادة رسمية عامة في أنحاء الإمبراطورية. وعندما يرح الإسكندر واحة سيوة لم يسلك الطريق التي جاء منها وإنما فيما يبدو طريق القارة (Gara) والمغرة (Moghara) عبر صحراء النطرون عائدًا إلى منف، حيث أقام حفلاً إغريقيًا ثانيًا إجلالاً لزيوس، واستقبل البعثات من الدول الإغريقية والإمدادات من مقدونيا. ويقال أن أرسطو كان قد أوصى الإسكندر بدراسة أسباب فيضان النيل. ومن ثم فإنه في أثناء أقامته في مصر أوفد بعثة عليه إلى أعالي النيل لهذا الغرض. لكنه يبدو أنه لا أساس من الصحة لهذه القصة لأن أرسطو كان قد عرف هذه الأسباب قبل ذلك.


نظم الإسكندر:


وقبل أن يبرح الإسكندر مصر، قام بتنظيم البلاد تنظيمًا دقيقًا. ولما كان المصريون قدرحبوا به باعتباره محرر بلادهم، وكان الكهنة المصريون قد أولوه تأييدهم فمنحوه لقب ابن آمون والسيطرة على العالم، فإن الإسكندر لم ير داعيًا لاتخذا تدابير خاصة لتأمين سلطانه ضد المصريين في نظام الإدارة الذي وضعه لهم، بل كان كل همه منحصرًا في منع كل أولئك الذين عهد إليهم بمقاليد بمقاليد الحكم من الشطط في حكمهم، أو من الفتنة ضده.


وتبعًا لذلك فإن الإسكندر منح مصر استقلالاً داخليًا، ووضع وادي النيل تحت أمرة حاكمين يدعى أحدهما بتيسيس (Petisis) وكان مصريًا ويدعى الآخر دولو آسبيس (Doloaspis) وهو اسم يبدو أنه أناضولي، أو فارسي، لكن الأول لم يلبث أن اعتزل منصبه فانفرد الأخير بالحكم. ووضعت الأقاليم المتاخمة للدلتا تحت إشراف رجلين من الإغريق، فقد نصب أبولونيوس (Apolonios) بن خارينوس (Charinos) حاكمًا على منطقة ليبيا، وقليومنيس (Cleomenes) النقراطيسي حاكمًا على المنطقة العربية المجاورة لهروؤنوبوليس (Heroonpolis). وكلف قليومنيس بأن يفرض على بتيسيس ودولو آسبيس أن يرعيا في حكمهما التقاليد المصرية القديمة، وبأن يحصل منهما الضرائب، بعد قيامهما بجمعها، فقد كانت الإدارة المالية بأجمعها في قبضة قليومنيس. وترك الإسكندر مصر في حماية جيش وأسطول سنعود إلى الكلام عنهما فيما بعد. ويبين أن الإسكندر كان قد عهد إلى قليومنيس أيضًا في السهر على إنشاء الإسكندرية.


وتمتاز هذه النظم التي وضعها الإسكندر لمصر بظاهرتين واحدهما هي تقسيم السلطة بين عدد من الأفراد لتفادي خطر استبداد فرد واحد بها مما كان يتعارض مع صوالح الإمبراطورية ولا سيما في بلد مثل مصر، إذ أن مركزها الطبيعي كان يجعلها من المناعة والقوة إلى حد يسهل معه على شخص قوي أن يحميها من الغارات الخارجية. وإذا كانت كل السلطة قد آلت حتى في حياة الإسكندر نفسه إلى شخص واحد هو قليومنس، فإن ذلك لم يكن في الحسبان، ولم يكن المسئول عنه النظم التي وضعها الإسكندر بل ضعف الحكام الأخرين ومهارة قليومنيس نفسه. والظاهرة الأخرى هي روح العطف التي أبداها الإسكندر نحو المصريين، فإنه فعل ما لم يفعله البطالمة فيما بعد حتى أواخر أيام دولتهم، إذ أن الإسكندر اختار من بين المصريين حاكمي الوجه البحري والوجه البلي، أو على الأقل أحد هذين الحاكمين إذ يظن أن الحاكم الآخر، أو على الأقل اسمه، أناضولي أو فارسي. وإذ يظن أن الحاكم الآخر، أو على الأقل اسمه، أناضولي أو فارسي. وإذا كان هذا النظام يتمشى مع الطريقة التي اتبعها الإسكندر اختار من بين المصريين حاكمي الوجه البحري والوجه القبلي، أو على الأقل أحد هذين الحاكمين إذ يظن أن الحاكم الآخر، أو على الأقل اسمه، أناضولي أو فارسي. وإذا كان هذا النظام يتمشى مع الطريقة التي اتبعها الإسكندر في حكم الولايات الأخرى، فهل عندما استدل في نهاية حياته، في أغلب الحالات، مقدونيين أو أغريق بالشرقيين لأن هؤلاء خانوه أو غدروا به، فعل ذلك أيضاً في مصر؟ هذا جائز فكتاب الاقتصاد المنحول على أرسطو يقرن اسم قليومنيس بلقب ساتراب أي وال، والخطبة المنحولة على دموسثنيس تصف قليومنس بأنه حاكم مصر، وباوسانياس يقول صرحاة أن الإسكندر عين قليومنيس واليًا على مصر. غير أن مصدرنا الرئيسي، وهو أربانوس، وكذلك كوينتوس قورتيوس لا يذكران شيئًا من ذلك. هذا إلى أنه لو صح أن الإسكندر كان قد عين قليومنيس واليًا على مصر، لاحترم خلفاؤه إرادته ولما عينوا بطلميوس مكان قليومنيس على نحو ما سنرى. أم يجب أن تعزو التغيير الذي طرأ على نظام الحكم في مصر إلى مهارة قليومنس، الذي قبض على مصدر كل السلطان فيها بفضل إشرافه على إراداتها المالية؟ أن الشيء الثابت هو أنه عندما فاض روح الإسكندر لم تكن مصر سوى ولاية يهيمن عليها قليومنيس، وهو الذي أصبح يدعى فيما بعد قليومنيس الأسكندي وذلك فيما يبدو بسبب مشاركته في إنشاء الإسكندرية.


قليومنيس النقراطيسي:


ويبدو أنه قد صاحب ازدياد سلطة قليومنيس ازدياد كراهية الناس له، فقد اتهم باتخاذ تدابير أدت إلى رفع أسعار القمح في العالم الإغريقي، وبالالتجاء إلى شتى الوسائل لابتزاز الأموال. ويستدل على ذلك مما ورد في كتاب الاقتصاد المتحول على أرسطو وجاء فيه أنه "عندما نزل بالأقاليم المجاورة قحط شديد لم تتأثر به مصر إلى حد كبير، منع قليومنيس الإسكندري وإلى مصر تصدير القمح. وعندما شكا الحكام من أنهم لا يستطيعون دفع جزيتهم (الضرائب) بسبب هذا الحظر، أباح التصدير، لكنه فرض سعرًا عاليًا على القمح حتى أن كمية صغيرة صدرت إلى الخارج بيعت بمبلغ كبير وبذلك تخلص من معاذير الحكام. هذا إلى أنه عندما ركب النيل ومر بالمديرية التي يعبد فيها التمساح وافترس تمساح أحد عبيدة، جمع الكهنة وأخبرهم بأنه يجب أن يثأر من هذا الاعتداء الأثيم وأمر بسيد التماسيح. وقد جمع الكهنة كل ما يستطيعون من الذهب وأعطوه للوالي ابتغاء رضاه حتى لا يدنس الههم. وفضلاً عن ذلك فإنه عندما أمره الإسكندر بإنشاء مدينة بالقرب من فاروس (مدينة الإسكندرية) وبنقل سوق تجارة قانوب إليها، ذهب إلى قانوب وأخبر كل قساوستها وأثريائها بأنه أتى ليخرجهم منها، فجمعوا مبلغًأ كبيرًا من المال وأعطوه إياه لكي يحتفظوا بسوقهم. فرحل عنهم، لكنه بعد قليل، عندما أعد كل شيء لبدء بناء المدينة الجديدة، أتى إليها ثانية وطلب منهم مبلغًا من المال أكبر من الأول، معلنًا أن هذا المبلغ يعادل الفرق بين وجود السوق هناك وبين وجوده في الإسكندرية. وعندما قالوا أنهم لا يستطيعون دفعه نقلهم جميعًا إلى المدينة الجديدة .. وحدث أنه عندما كان سعر القمح (أي سعر المديمنوس (Madimnos) ما يزيد قليلاً على كيلتين عشر دراخمات، دعار الزراع وسألهم عن السعر الذي يريدون أن يبيعوا به القمح له، فأجابوه بأنهم يبيعونه له بسعر أقل مما يبيعون به للتجار. وعندئذ طلب إليهم أن يبيعوه له بالسعر نفسه الذي يبيعون به للآخرين، لكنه حدد سعر القمح (للتصدير) بمبلغ قدره 32 دراخمة وباع بهذا السعر. وحدث مرة أخرى أن جمع القساوسة وأخبرهم بأن نفقات الديانة في البلاد باهظة، ولذلك يجب إغلاق بعض المعابد وطرد عدد من القساوسة، فأعطاه القساوسة مالاً من جيوبهم الخاصة ومن دخل المعابد لأنهم ظنوا أنه كان ينوي حقًا إنقاص عدده، ولأن كلاً منهم كان يريد الاحتفاظ بمعبده وبمنصبه الكهنوتي.


وإزاء إجماع المصادر القديمة على إدانة قليومنيس يبدو أنه كان جديرًا بسمعته السيئة. وإذا كان قيامه باحتكار تصدير القمح لم يضر بالمزارعين المصريين، فإنه دون شك قد ألحق بالتجار المصريين ضرراً بليغًا، لأنه هو الذي كان يشتري القمح من المزارعين مباشرة. ومن المسلم به في كل حالات الاحتكار، قديمًا وحديثًا في كل بلاد العالم، أن المحتكر لا يدخر وسعًا في الحصول على كل ما يمكن أن تصل إليه يده من السلعة المحتكرة. فما بالنا وقليومنيس كان صاحب الأمر والنهي في مصر حين احتكر تجارة القمح، وكانت قد استبدت به رغبة جامحة في جمع المال إلى حد أنها زينت له بالابتزاز، وكان كلما زادت كمية مشترواته من القمح زادت كمية صادراته ومن ثم زاد مقدار ربحه. وإزاء ذلك لا نستبعد أن قليومنيس لم يدخر وسعًا في شراء معظم المحصول، ولا أن أنتيجة المنطقية كانت نقص المعروض في الأسواق المحلية وتبعًا لذلك ارتفاع ثمنه، أي الأضرار بمجموع الشعب المصري. ولا ريب في أن السعر المرتفع الذي كان قليومنيس يبيع به القمح للدول الإغريقية يعتبر نوعًا من الابتزاز السافر وقرينة على سلوكه لا نستبعد معها الوسائل الأخرى التي لجأ إليها لابتزاز الأموال من المعابد وغير ذلك. ولا أدل على طغيانه في ابتزاز الأموال مما يقال من أنه جمع 8000 تالنت في وقت كانت لا تزيد فيه ثروة أغنى رجل في بلاد الإغريق على 160 تالنت، بل أن هاربالوس (Harpalos) الذي كانت كنوز الإسكندر في متناول يده لم يفلح في سرقة أكثر من 5000تالنت. ويبدو معقولاً أن الإسكندر وهو في أواسط آسيا وفي غمرة مشاغله لم يصل إلى عفا عن قليومنيس وسمح له بأن يعمل ما يروق له، فهي غير مقبولة وذلك لسببين وأحدهما هو أن هذه القصة مستمدة من وثيقة مزيفة، والآخر هو أنه قبل ذلك مباشرة كان الإسكندر قد قضى بإعدام رجل من الأرستقراطية المقدونية يدعى قلياندروس لنفس ما أتهم به قليومنيس.


وعندما فرغ الإسكندر من مهامه في مصر برحها في ربيع عام 331 قاصدًا بابل ليلقي الجيش الفارسي ثانية، بعد أن أعاد تنظيمه وتولى قيادته الملك الأكبر. وفي موقعة جاوجميلا (Gaugamela) أوتى الإسكندر في العالم نفسه نصرًا حاسمًا، تابع بعده الاستيلاء على ولاية بعد أخرى من ولايات الإمبراطورية الفارسية. وعند مشارف الهند، أبى الجيش التقدم إلى ما وراء ذلك فاضطر إلى العودة إلى بابل. وفي ليلة 10/11 من يونية عام 323 قضى الإسكندر نحبه في بابل، قبل أن يتم الثالثة والثلاثين من عمره. ويرى بعض المؤرخين أنه كان سعيدًا في وفاته إذ ذاك، لأنه توفي في أوج مجده قبل أن يواجه العبء الحقيقي، فقد أوتي من الانتصارات ما لم يسعد به سوى القليل، لكنه بقى عليه وضع النظم التي تصلح لحكم ذلك العالم الذي فتحه.

العصر البطلمي-الغزو المقدوني

حالة مصر منذ الاسرة السادسة و العشرين حتى الغزو المقدوني طباعة أرسل لصديق
  • لما كان أول عهد مصر باستقرار الإغريق فيها يرجع إلى ما قبل الفتح المقدوني بعدة قرون، وكان الإغريق قد لعبوا دوراً هامًا في تاريخ مصر منذ العصر الصاوي، فإنه لكي تفهم بجلاء تاريخ مصر في عصر البطالمة، يجدر بنا أن نستعرض في إيجاز حالة مصر منذ العصر الصاوي.


ملوك نباتا يردون على الوادي وحدته:

عندما سيطرت أسرة ليبية على مصر في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، انقسمت البلاد إلى إمارات محلية، ورفض كهنة آمون، سادة طيبة، الخضوع لسلطان الليبيين يبدو أن الكثيرين منهم آثروا الهجة جنوبًا إلى بلاد كوش، وكانت تعتبر ملكًا لآمون، وهناك عند الشلال الرابع في المدينة التجارية الكبيرة "نباتا" أقام كبير الكهنة القادمين من طيبة ملكًا جديدًا وجعل من نفسه وارثًا شرعيًا لعرش فرعون، ولم يكد الملك الشاب بعنخي يستوى على عرش نباتا حتى صح عزمه على أن ينقذ شمال وادي النيل من أيدي الغاصبين وعلى أن يرد على الوادي وحدته، وفي عام 740 كللت مجهوداته بالنجاح.


أشور تفتح مصر:


وعندما استولت آشور على مصر في عام 671 ولم يستطع طهراقا. خامس ملوك نباتا، ضد الغزو الأجنبي عن شمال مملكته انسحب جنوبًا تاركًا الدلتا تحت رحمة الآشوريين، وما كاد أشيور حادون (Esarhaddon) يعود إلى نبنوي، حتى استعاد طهراقا سطرته على الدلتا. وعندما ارتقى أشور بانيبال العرش أعاد فتح مصر في عام 667 ثم أقام نخاو، أمير سايس. حاكمًا على الدلتا وأحاطه برجال أشوريين وبذلك حال دون نجاح طهراقا في استعادة الدلتا. وعندما أفلح تنوت أموت (Tanutamon) خليفة طهراقا. في غزو الدلتا ونصب نفسه في منف فرعونًا على مصر بأجمعها، استنباط أشور بأنيبال غضبًا وغزا مصر ثانية في عام 663وطارد تنوت أمون في الوجه القبلي، ثم ترك مصر تحت أمرة ابستيك. ومع ذلك يبدو أن تنوت أمون احتفظ بنفوذه في طيبة حتى عام 661، وهو العام الذي حمل فيه ايستيك ألقاب الفراعنة بعد أن بسط سلطانه على مصر كلها، وأصبح ملكها دون منازع من البحر إلى أسوان.


تأسيس الأسرة السادسة والعشرين:


وهكذا أسس أبستيك (663ـ 609) الأسرة السادسة والعشرين وجعل سايس (صا الحجرة بالقرب من كفر الزيات) حاضرتها، ولم يبث أن حرر مملككته من كل تبعية لأشور. وبيان ذلك أنه إزاء انهماك أشور حينذاك في حربها مع علام (Elam) لم يعبأ أشور بانيبال بما كان جارياً في مصر مادام أبستيك يدفع له الجزية، ويحتمل أنه استمر يفعل ذلك بانتظام حتى حوالي عام 651 عندما سحبت الحامية الأشورية من الدلتا بسبب مقتضيات حرب علام ونشوب ثورة في بابل. ومن ثم توقف أبستيك عن دفع الجزية لأشور، وبعد حروب علام المضنية. كان ابستيك يفضل جنوده المرتزقة في مركز أقوى من أن تتهدده أشور.


استقرار الإغريق في مصر:


وقد كان في مصر إذا ذاك عدد كبير من الإغريق، فإنه منذ حوالي 725 ق "م" أخذ تجار ميلتوس (Miletos = ملطة) يترددون كثيراً على مصاب نهر النيل وبخاصة المصب العربي. عند قانوب (أبر قير) لها لسيولة الوصول إليه من بحر أبجة وأما بعد عن حركة تشاو الفينيقيين. وقد ترتب على ازدياد تدفق التجارة الإغريقية أن فرع النيل القانوني أخذ يزداد في الأهمية على فرعه بلوزي، وكانت تجارة مصر مع فينيقيا قد أكسبته أهمية كبيرة في عهد الأسرتين العشرين والثانية والعشرين، أي في عهد الرعامة (حوالي 1198 ـ 1090) وملوك بوباسطس (حوالي 945ـ 725).


تأسيس نقراطيس:


وعلى مقربة من سايس، أسس تجار ميلتوس محلة لهم، أطلق عليها اسم "قلعة أهل ميلتوس"، ويحدثنا استرابون بأن تجار ميلتوس أقاموا محلتهم في عصر أبستيك، أي حوالي عام 650ق.م. ولكنه من المحتمل أنها أقيمت حوالي عام 700 أو قبل ذلك، ولعل أن ما حدث في عصر أبستيك هو أن القلعة ازداد اتساعها، وأصبحت تعرف باسم نقراطيس (Naucratis= نوم جعيف بمحافظة البحيرة) ويفضل الثروة التي عادت على مصر من تجارة الإغريق تسكن أبستيك من استخدام عدد كبير من الجنود الإغريق والأناضوليين ساعدوه على توطيد مركزه في مصر، وبذلك تخلص من منافسيه ومن تهديد ملوك نباتا ومن سيطرة الأشوريين.


عطف ملوك العصر الصاوي على الإغريق:


وعندما استتب الأمر لأبستيك كافأ جنوده المرتزقة بأن اتخذ منهم وحدهم حرسه الخاص ما أساء إلى الجنود المصريين. فلم يكن من الحامية التي وشعها الملك عند أسوان للدفاع عن الحدود الجنوبية إلا أنها هاجرت إلى بلاد النوبة، فقد عز عليها أن يختص الملك جنوده الإغريق بتكوين حرسه الخاص.


وقد أقام أبستيك لهؤلاء الجنود معسكرين، أحدهما في ماريا (Marea) بالقرب من فانوب، والآخر في دفنة (Dephna= تل دفنة عند برزخ السويس) ليكونا بمثابة حصنين يصدان هجمات كل من تحدثه نفسه بالاعتداء على مصر، وأباح أبستيك للإغريق أن يشئوا مؤسسات في سايس ونقراطيس وقانوب. وقد هدأت الحال في مصر بفضل الحزم الذي أبداه أبستيك، وسرعان ما أصبحت علاقته مع أشور علاقة الند للند، لكنه لما كان هذا الملك مديناً بمركزه في مصر لأشور، فإنه لم ينس ذلك وبقى حليفًا أمينًا لأشور حتى توفي في عام 609، وخلفه ابنه نخاو الثاني الذي حاول دون جدوى مساعدة أشور على بابل. ومن ثم وقف جهوده على الأعمال السليمة في مصر، فاهتم بشق قناة تربط النيل بالبحر الأحمر، وأوفد بعثة لترتاد سواحل إفريقيا، ووجه عناية خاصة إلى تجارة مصر، فأثرت البلاد، وازدهرت فيها فنون السلم، وظهر في كل فروع الفن طراز جديد يمتاز بأحياء طراز الدولة القديمة.


وعندما توفي نخاو الثاني في عام 593، خلفه ابنه أبستيك الثاني الذي حكم حتى عام 588. ولعل أهم ما يعنينا في هذا المقام من أمر أبستيك الثاني هو أنه اقتفى أثر أبيه وجده في إتباع سياسة مشربة بروح العطف نحو الإغريق. ولا جدال في أن عطف ملوك مصر في العصر الصاوي على الإغريق يرجع إلى ما كانوا مدينين به من ثروتهم لتجارة الإغريق، وكذلك إلى ما كانوا يستشعرونه من الحاجة الملحة إلى معونة الإغريق العسكرية، وذلك من ناحية للذود عن حياض مصر ضد المالك الفنية القوية في أسيا، ومن ناحية أخرى لدفع ما يتهدد العرش من الأخطار الداخلية.


ازدياد العطف على الإغريق يلهب شعور المصريين:


بيد أن ازدياد ذلك العطف أثار شعور المصريين بالتدريج، حتى دفعهم إلى الثورة على إبريس (Apries) (588-566) وكان شاباً متهوراً، خاضعًا لجنوده الإغريق إلى حد بعيد. وقد أزكى حقد المصريين عليه فشل الحملة التي أرسلها لمساعدة الليبيين ضد إغريق قوريني، فاندلع لهيب ثورة قومية سعادية للأجانب، حمل لواءها قائد مصري يدعي أماسيس (Amasis) ولم تنته هذه الثورة في عام 569 إلا بإعلانه شريكًا لأبريس في المك، لكن ابريس قبل بعد ذلك بثلاث سنوات وخلفه أماسيس وحده على العرش.


ارتقى أماسيس العرش بوصفه عدو الإغريق، لكنه كان أفطن من أن يحتفظ بهذه الصفة وكذلك من أن يصبح صديقًا حميمًا للإغريق وبخاصة أول الأمر، فنهج في سياسته طريقًا وسطًا. و لكي يرضى شعور الشعب ألغى معسكر دفنه ونقل جند هذا المعسكر إلى منف، حيث اتخذ منهم حرسًا خاصًا بحجة وضعهم تحت رابته، وأمر بأن ينزل في نقراطيس جميع الإغريق المدنيين المقيمين في مصر. وبالتدريج ازداد عطفه على الإغريق وضوحًا. ونستدل على ذلك من صداقته لبولوقرانس (Polycrates) طاغية ساموس وقرويسوس (Croesos) ملك لوديا، ومن هداياه الثمينة للمعابد الإغريقية، ومن اتخاذه زوجة له سيدة إغريقية قورينية لعلها كانت أميرة من أسرة باتوس ملوك قوريني.


وفي عهد أماسيس ساد الأمن والسلام في البلاد، فازدادت ثروة مصر نتيجة لرواج تجارتها شمالاً وشرقًا وجنوبًا كما ازداد عدد سكانها، وأنشئت عدة معابد كبيرة، وازدهرت العلوم والفنون حتى بلغت شأوا بعيدًا. وفي هذه الأثناء كان قورش يشيد صرح دولة فتية هي دولة الفرس التي أصبحت قوة يخشى بأسها بعد استيلاء قورش على ميديا في عام 550، مما أفزع قرويسوس ملك لوديا وحدًا به إلى محاولة درء هذا الخطر بتكوين حلف من ثلاث دول كبرى وهي لوديا وبابل ومصر. فما كان من قورش إلا أنه بادر إلى غزو لوديا ولم يواف عام 546 حتى كان قد استولى عليها، وشفع ذلك بالاستيلاء على كل الشواطئ الجنوبية لآسيا الصغرى، وفي عام 539 استولى على بابل، وبعد ذلك بقليل دخلت سوريا وفلسطين حظيرة الإمبراطورية الفارسية. وأما مصر فإنها كانت لا تزال مستمتعة باستقلالها عند وفاة أماسيس في عام 526.

الفرس يفتحون مصر:


وفي عصر أبستيك الثالث غزا قمبيز مصر، وتوج نفسه ملكًا عليها في مايو عام 525، واتخذ لقب فرعون ليكسب نفسه مركزًا شرعيًا في نظر المصريين، لكنه لم يلبث أن أثار عواطفهم بانتهاكه حرمة الديانة المصرية. وفي عام 522 خلفه دار على العرش، فأظهر بعد نظر وكياسة جدير بن بملك عظيم وزار مصر حوالي عام 518 حيث توج عليها فرعونًا. ولعل أهم بقايا عصره في مصر معبد هبيس في الواحة الخارجية. ويضاف إلى ذلك أنه أتم قناة نخاو وكانت تصل النيل بالبحر الأحمر، مخترقة وادي الطميلات. واتبع دارا سياسة التسامح ليمحو أثر الآثام التي أساء بها سلفه إلى المصريين.


الثورة المصرية الأولى على الفرس:


ومع ذلك فإنه ما كاد المصريون يعرفون أن دارا قد توفي حتى هبوا ثائرين ونصبوا خباش ملكًا عليهم في عام 485. وقد ساعد الأثينيون المصريين في ثورتهم لأن الفرس كانوا عدوًا مشتركًا للفريقين، ولا يزالون يشكلون خطرًا داهما على الإغريق كافة برغم فشلهم في غزو أثينا قبل هذه الثورة بخمس سنوات. وفي عام 484 أتى أجزركسيس (Xerxes) ابن دارا إلى مصر وأخذ الثورة وقضى على خباش، وفرض غرامة كبيرة على معبد بوتو (Buto) في الدلتا لأنه كان قد نادى بالثورة، وجعل حالة مصر أسوأ مما كانت عليه قبل، وضيق الخناق على المصريين فوضع فرسًا حتى في الوظائف غير الكبيرة. وإذا كان يرجح أنه قد كان بين جباة الضرائب الذين عجت بهم البلاد عندئذ كثيرون من المصريين، فلا شك في أنه كان بينهم أيضًا كثيرون من السوريين والبابليين والفرس، وكان كل همهم ملء خزانة الملك الأكبر. غير أن مصر، وقد أثرت ثراء كبيرًا في العهد الصاوي، بقيت غنية كذلك على الأقل في بداية العهد الفارسي برغم كل ما عانته من الغزو والمذابح والاضطهاد. وتشير الوثائق الكثيرة التي وجدت في مصر من عصر دارا إلى رفاهية البلاد ورخائها، لكننا لا نجد لهذه الوثائق نظائر بعد ثورة خباش والنير الذي وضعه أجزر كسير على رقاب المصريين. وكثيرًا ما نجد في الوثائق الأرامية التي ترجع إلى النصف الثاني من القرن الخامس أسماء يهودية أو سورية أو بابلية، مما يشير إلى أن عدد كبيرًا ما نجد في الوثائق الأرامية التي ترجع إلى النصف الثاني من القرن الخامس أسماء يهودية أو سورية أو بابلية، مما يشير إلى أن عددًا كبيرًا من صغار التجار الشرقيين قد تبعوا الفرس وجباتهم إلى مصر. ولاشك في أنه قد ترتب على الحروب الطويلة التي خاضتها الفرس في بداية القرن الخامس مع أثينا وحلفائها أن انقطعت تقريبًا تجارة مصر مع بلاد الإغريق مما عاد بضرر بليغ على نقراطيس، لكنه لا سبيل إلى الشك في أنه كانت لمصر تجارة واسعة برًا وبحرًا مع بلاد العرب وسوريا وفينيقيا وأيونيا، إلى جانب تجارتها المنكمشة مع بلاد الإغريق. وكان يقوم بنقل كل هذه التجار بحارة أو رجال قوافل من الأجانب. وفي هذا الوقت استقرت القبائل العربية النبطية في مدينة البتراء، حيث سيطروا على طريقين تجاريين أحدهما من خليج العقبة إلى فلسطين والآخر من مصر إلى بابل عبر جرها (Gerrha).


الثورة المصرية الثانية:


وفي عام 465 توفي أجزركسيس، فكان ذلك إيذانا بيدء ثورة جديدة في مصر للتخلص من النير الفارسي. وقد حمل لواء هذه الثورة أحد أمراء أسرة أبستيك وكان يدعى أيناروس (Inaros)، فطرد جباة الضرائب الفرس وأخيمنس (Achaemenes) نائب الملك، ولكن الحامية الفارسية انسحبت إلى منف فحالت دون انضمام وادي النيل إلى الدلتا. وعندما تحرج مركز ابناروس، لعجزه عن الحصول على مساعدة الوجه القبلي وعودة أخيمس على رأس جيش جديد، وفدت على مصر نجدة إغريقية. وبيان ذلك أن أسطولاً أثينيا مكونًا من مائتي مركب كان يقوم بأعمال حربية بالقرب من شواطئ قبرص وعندما علم القواد الأثينيون بثورة أيناروس بادروا بمد المعونة له، فقد كان هذا الأسطول على أتم استعداد لمساعدة أي عدو للفرس. وبفضل هذه المساعدة انتصر المصريون على العدو المشترك.


ولم يغادر الأثينيون مصر بعد ذلك بل بقوا سادة البلاد فحاول أرتجازركريكس (Artaxerxes) دون جدوى اغراء اسبرطة بغزو أنيقا لكي يضطر الأثينيون إلى الخروج من مصر. وأخيرًا أرسل الملك الأكبر جيشًا قويًا إلى مصر هزم المصريين وحلفاءهم وطرد الإغريق من منف وحاصرهم في جزيرة بروسويس (Prosopis) عامًا ونصف عام، حتى أاخضعهم (456) وقضى على أيناروس. وهكذا أخضع الفرس مصر ثانية. فيما عدا أميرتايوس (Amyrtaeos) "ملك الأدغال" الذي عجز الفرس عن القضاء عليه بسبب اتساع الأدغال، ولأن أهل الأدغال كانوا أكثر المصريين مقدرة على الحرب. وحدث أن أرسل الأثينيون خمسين مركبًا لنجدة قواتهم في مصر، فدخلت هذه المراكب فرع النيل المنديسي (نسبة إلى مندس Mendes = تل الربع قرب السنبلاوين بمحافظة الدقهلية) دون علم بما كان قد حدث، فهوجمت برًا وبحرًا ولم ينج منها سوى عدد قليل.


هرودوتوس يزور مصر:


وفي عصر أرتاجزركسيس الأول زار هرودوتوس مصر. ويرجح أن هذه الزيارة تمت بين عام 448، عندما عقدت أثينا الصلح مع الفرس، وعام 445، عندما كان في أثينا قبل ذهابه إلى ثوربى (Thurii) التي أشترك في تأسيسها عام 443، وكانت مصر تنعم إذ ذاك بالهدوء، لكنه كان هدوء منوك القوى المستسلم، ذلك أنه بوفاة الزعيم الأثيني قيمون (Cimon) وعقد صلح قالياس (Callias) في عام 448 انتهت المحاولات الأثينية لتحطيم قوة الفرس وشد أزر مصر، فنعم الفرس بفترة من الراحة أطالت أمدها الحروب البلوبونيزية بين أثينا واسبرطة (431-404).


ويحدثنا هرودوتوس بأن البلاد كانت في رخاء، لأن التجارة والصناعة كانتا رائجتين. برغم الضرائب الثقيلة المفروضة عليها وكان معدلها يزداد غالبًا دون وجه حق. ولا جدال في أن المصريين أثبتوا مراراً مقدرة غير عادية على النهوض بعد أي خطب نزل بهم، بيد أنه ازاء الثورتين العارمتين اللذين قاموا بهما ضد الفرس في خلال ربع قرن، وما واكب هاتين الثورتين من قتال وتخريب وما أعقبهما من مذابح واضطهاد وإزاء ما سنراه من الجهود التي اضطر البطالمة الأوائل إلى بذلها ـ بسبب ما ترتب على ذلك كله ـ للنهوض برافق مصر الاقتصادية. وإزاء ما يرويه هرودوتوس نفسه عن الضرائب الثقيلة يساورنا الشك فيما يحدثنا به هذا المؤرخ عن رخاء مصر حين زارها في أعقاب الثورة الثانية. ويبدو مما يرويه هرودوتوس أن أبواب البلاد كانت مفتوحة أمام السائحين الأجانب، وأنه كان في وسعهم زبارة المعابد وكل معالم البلاد دون صعوبة أو التعرض لأي خطر من الأهالي ولا يحدثنا هرودوتوس عن مشاهدته أي آثار للتخريب في الوجه القبلي، مما يبعث على الظن بأن الكفاح بين الفرس والمصريين كان مقصورًا على الدلتا وما يجاور منف.


ويبدو من رواية هرودوتوس أن مظاهر الحياة لم تختلف عما كانت عليه قبل ذلك بألفي عام وتشبه عن قرب في بعض النواحي ما هي عليه إلى اليوم، فإن وصف هرودوتوس لحفل ديني في بوباسطس يكاد أن يكون وصفًا لإحدى الحفلات الدينية التي تقام اليوم عن الاحتفال بمولد أحد "الأولياء". وكان يوجد إذ ذاك كما يوجد اليوم السائحون والأدلاء ، فقد كان هرودوتوس سائحًا وكثيرًا ما كان ضحية لأحد الأدلاء الادعياء ومع ذلك فإن هردوتوس حصل على معلومات تاريخية قيمة، يبين أن مصدرها كان أحيانًا من حادثهم من الكهنة، لكنه يبدو أنه لم يلق الكثيرين من هؤلاء الكهنة. ولم يعتمد هرودوتوس على ما سمعه وحده بل اعتمد أيضًا على ما رآه بنفسه، ثم فسر ما توافر لديه من المعلومات حسبما تراءى له. ويعتقد بعض المؤرخين أن معلومات هرودوتوس عن مصر، على ما بها من أخطاء، ليست عديمة القيمة إلى الحد الذي يعتقده بعض آخر. وفي الواقع بالرغم من كل ما بهذه المعلومات من أخطاء تاريخية، فإنها تعطينا صورة حية لتاريخ مصر في القرن الخامس قبل الميلاد.


إغريق نابهون يزورون مصر:


ولم يكن هرودوتوس الإغريقي النابه الوحيد الذي زار مصر قبل الفتح المقدوني، فإن العلاقات القوية التي نشأت منذ العصر الصاوي بين مصر وبلاد الإغريق شجعت وفود الكثيرين من الإغريق على مصر، أما لمجرد الزيارة والاستطلاع وأما لتلقي العلوم، فيقال أن الفيلسوف الإغريقي طالس Thales زار مصر، ويرجح أنه أخذ عنها فكرته القائلة بأن الماء أحد العناصر الطبيعية الثلاثة، كما أنه تعلم في مصر أصول الهندسة والحساب. وإذا كان هناك شك في أن فيثاغورس وفرقودس (Pherecydes، وهراقليتوس Heraclitos وأنا كساجوراس Anaxagoras) زاروا مصر، فلا شك في أن أفلاطون زارها وتزود منها بالمعلومات كما تزود دموقريتوس (Democritos). ويرجح أن الفكرة الإغريقية عن الروح البشرية القائلة بأنها عبارة عن إنسان له رأس طائر قد أخذت عن مصر، لكنه يظن أن الإغريق لم يأخذوا شيئًا آخر عن مصر إذ ذاك إلى أن جاء عصر البطالمة.


ولم يدم صلح "الثلاثين عامًا" الذي عقد بين أثينا واسبرطة في عام 445 نصف تلك المدة، فقد اندلع لهيب الحرب البلوبونيزية في عام 431، لكن السلام كان سائدًا بين الفرس وبين أثينا واسبرطة، فلم يبال المصريون أكانت أثينا واسبرطة في حرب أم في صلح ما دامت هاتان الدولتان صديقتين للفرس. ووسط الحرب البلوبونيزية توفي أرتاجزركسيس في عام 424، لكن مصر ظلت هادئة حتى نهاية القرن الخامس.
وجدير بالذكر هنا وثيقة أرامية من أواخر هذا القرن عشر عليها في جزيرة الفئتين بأسوان، وهي عبارة عن شكوى كهنة الجالية اليهودية في الفئتين من القائد الفارسي في أسوان لأنه سمح لكنة الإله خنوم المصريين بتدمير المعبد اليهودي هناك ونهبه. وقد يرجع وجود هذه الجالية اليهودية إلى أواخر القرن السابع أو أوائل القرن السادس، عندما وقد كثيرون من اليهود على مصر، على نحو ما رأينا وسنرى فيما بعد.


الثورة المصرية الثالثة


وعندما انتهت الحرب البلوبونيزية في عام 404 بهزيمة أثينا، آلت زعامة بلاد الإغريق إلى اسبرطة، وهي التي وجدت نفسها بعد بضع سنين مشتبكة في صراع مع الفرس، فكان ذلك مواتيًا لمصر، وكانت قد ثارت على الفرس في عام 404، عقب وفاة دارا الثاني. وقد قاد هذه الثورة الجديدة أميرتايوس الثاني الذي حكم مصر ست سنوات لكن حكمه كان مزعزعًا، إلى أن اشتبكت اسبرطة مع الفرس، ولم يساعده على الاحتفاظ بملكه في خلال الشطر الأول من حكمه إلا اشتغال ارتاجزركسيس الثاني بخيانة أخيه قورش (Cyrus). وعقب انتصار الملك الأكبر على أخيه في عام 401، اشتبكت اسبرطة مع الفرس، إلا أن مالك مصر لم يلبث أن حاول اكتساب عطف الملك الأكبر المنتصر، فأثار بذلك عواطف المصريين وكانت معادية للفرس، مما دفعهم إلى خلع أميرتايوس في عام 398 والمناداة بنقريتس (Ne[herites) مكانه ملكًا على مصر وفي عام 396 جمع الملك الأكبر أسطولاً كبيرًا في فينيقيا، يرجح أنه كان يراد به إعادة فتح مصر. لكن اسبرطة وقد خشيت أن يستخدم هذا الأسطول للقضاء على سيادتها البحرية، عرضت في ذلك العام عقد معاهدة مع مصر، التي أصبحت مستقلة تمام الاستقلال، فرحبت مصر بذلك لتضمن معونة الإغريق إذ هاجمها الفرس.


وقد خلف نفريتس ثلاثة ملوك يعنينا منهم أمر ثالثهم وكان يدعى هاقوري (Hakori)، ففي عصره تحالفت مصر مع أفاجوراس (Evagoras) ملك قبرص عام 389، لكن هذه المحالفة حلت الفرس على الإصغاء إلى عروض اسبرطة لقعد الصلح، فقد أعيا اسبرطة نضالها في آسيا وتافت إلى السلم. وفي عام 388 انضمت أثنينا إلى محالفة مصر وقبرص. إلا أنه في عام 386 عقد صلح انتالقيداس (Antaleidas) بين الفرس واسبرطة ثم أثنينا وحلفائها. ولم تعن اسبرطة وأثينا بأن يشمل هذا الصلح مصر، وهي التي سعينا من قبل إلى التحالف معها.


وكان في استطاعة أرتاجزركسيس إذ ذاك أن يهاجم أناجوراس أو هاقوري أو كليهما إذا شاء، لكنه فضل أن يوجه هجومه الأول إلى مصر بين عامي 385 و383، غير أنه باء بالاخفاق. وقد أفلح أفاجوراس بمعاونة هاقوري وأثينا في مناوءة الفرس حتى هزم في البحر وحوصر في جزيرته فعقد صلحا مع الفرس في عام 380. وبعد ذلك بفترة قصيرة وراح ضحية مؤامرة وخلفه ابنه نيقوقلس (Nicocles).


وفي عام 378 توفي هافوري وخلفه نفريتس الثاني مدة أربعة شهور ثم ارتقى العرش نقتانبو الأول (Nectanebo). وقد حالت ظروف أرتاجزركسيس دون مهاجمة مصر قبل عام 364، عندما وجه إليها حملة قوية يشد أررها عدد كبير من المرتزقة الإغريق، إلا أن التوفيق لم يحالف هذه الحملة.
وعندما توفي نقتانبو الأول في عام 361 خلفه على عرش مصر ابنه تزدهور (Zednor = تاخوس Taehos) الذي انتهز فرصة انقسام الإمبراطورية الفارسية بعضها على بعض فأعد حملة لغزو سوريا. وقد استعان تزدهور بملك اسبرطة العجوز اجسيلاوس (Agesilaos) لتدريب جيشه، وبأمير البحر الأثيني خابرياس (Chabrias) لأعداد أسطوله، وانتزع جانبًا كبيرًا من دخل المعابد ليدفع أجر جنوده، مما أغضب المصريين. وعندما وصل الجيش إلى فينيقيا دب الخلاف بين الملك الاسبرطي وتزدهور، وكان المصريون قد ثاروا عليه في مصر، فلم يتردد أجسلاوس في عزل تزدهور إلى الفرس، وقرر الملك الجديد العدول عن الحملة والعودة إلى مصر لدعم مركزه هناك. وعندما استتب الأمر للملك الجديد بعد حرب حامية، غادر مصر أجسيلاوس وخابرياس، فقرر نقتانبو استئجار غيرهما لقيادة قواته، ففي ذلك الوقت كان لا يستطيع أي ملك عاقل الاشتراك في حرب دون استئجار الإغريق لمعاونته. ذلك أن مرتزقة الإغريق هم الذين كانوا يضطلعون بأكبر ابعبء في جيوش كافة القوى المصطرعة.


وفي عام 358 ارتقى العرش الفارسي ارتاجزركسيس الثالث (أوخوس Ochos)، وما كاد يوطد مركزه في إمبراطوريته حتى قرر بالهدوء بتسع سنين. وجدير بالذكر أن نقتانبو الأول والثاني انتهز سنين السلم لرعاية الفنون، فإن النهضة التي سمتاز بها النصف الثاني من فترة الاستقلال، وتثير اهتمامنا باعتبارها المقدمة والحافز للمنتجات الفنية الرائعة في عصر البطالمة الأوائل، لابد من أنها ترجع إلى رعاية هذين الملكين وإلى الإيحاء الذي بثه في الفنون استعادة الاستقلال وبلورة البلاد درجة كبيرة من القوة.


للفرس يستردون مصر:


ولما لم يكن في وسع أوخوس أن يحتمل رؤية مصر مستقلة، ذلك البلد الغني الذي يدر الخير العميم على صاحبه، وكانت في ن ظره ملك أجداده وتبعًا لذلك ملكه أيضاً، فإنه أخذ يعد جيشه أعدادًا حسنًا ويترقس الفرصة المناسبة لغزو مصر. وقد واتته فرصته عندما ثارت فينيقيا وقبره على الفرس بزعامة ملك صيدا، الذي وعده نقتانبو بالمساعدة وأرست إليه في عام 343 قوة من الجنود الإغريق يقودها إغريقي من رود يدعى متور (Mentor) لكن هذا القائد عندما علم باقتراب أوخوس وجيشه دخل مع الفرس في مفاوضات بعلم ملك صيدا. ومع ذلك حاصر الملك الفارسي صيدا، وعندما فتحت له أبوابها قتل ملكها وقبل منتو ورجاله في خدمته. وفي عام 343 زحف أوخوس على مصر يشد أن عدد كبير من الجنود الإغريق، وأفلح في اقتحام تحصينات الدلتا واستولى على منف، ففر نقتانبو إلى بلاد النوبة. وتحدثنا المصادر القديمة أوخوس بانتصاره بإهانة المصريين إهانة فاقت أعمال قمبيز، أسكن حساراً في معبد فتاح وذبح العجل أبيس وقدمه في مأدبة الاحتفال وقد استر حكم الفرس في مصر إلى أن فتحها الإسكندر في عام 332.


طبقات السكان وصفاتهم:


وإذا استعرضنا تاريخ مصر في خلال الثمانية القرون التي أعقبت عصر الملوك الكهنة فإننا نجد أن معظم سكان البلاد كانوا يتألفون من قوة مزارعين محافظين أشد المحافظة، لم تتغير عاداتهم وطباعهم منذ آلاف ؟؟؟ وملوك نباتا والأشوريين والفرس، وأعطى الليبيون والنوبييون أهل مصر ارستقراطية وأسر مالكة، لكن هؤلاء الغرباء اندمجوا في أهالي البلاد في الجوهر، ولم يحتفظوا إلا بمظاهر أصلهم الأجنبي مثل الاسم وما أشبه ذلك. ومن بين كل حكام مصر الأجانب كانت الأسر الليبية أطولها بقاء فإنها بدأت تسيطر على مصر في عهد الأسرة الحادية والعشرين، وبعد ذلك بسبعة قرون كان أمراء سايس لا يزالون يحملون اسم أبسمتيك، وهو الذي يبدو أنه كان ليبيًا. وكان أغلب طبقة المحاربين المصريين في خلال هذه الفترة من أصل ليبي، ولم يقض على العنصر الليبي إلا ظهور الجنود المرتزقة الإغريق والفتح الفارسي. ويبدو المزيج الليبي في الطبقة العليا قيل كل شيء بالإضافة إلى الأسرة المالكة، أما المزيج السامي والأناضولي والنوبي فيبدو غالبا في المدن. أما عنصر أهل الريف، وكان يتألف من غالبية أهل البلاد، فقد بقى بوجه عام مصريًا خالصًا وكذلك بعيدًا عن لاشوائب، لأن الانحلال لم يحل إلا بأهل المدن والطبقات الحاكمة في العواصم.


وقد مر بنا أن الأمة المصرية، برغم ما بلغته إذ ذاك من الثروة والأناقة والرقي الفني، كانت ضعيفة منحلة. إلا أن الأنصاف يقتضينا أن نذكر أن عنصر أهل الريف في الأمة لم يكن ضعيفً، وأنما كان عنصرًا وديعًا يحب السلام فيما عدا المنازعات المحلية بين القرى، حيث كان استعمال "النبوت" شائعًا. وعندما كانت تلك العصى الغليظة في قبضة فرعون حازم أو حاكم أجنبي قوي. فإن أهل الريف كانوا يخضعون له. ولم يقدر على قيادة العلاج خارج مصر. وأبعاده عن أرضه التي يعشقها سوى فرعون شديد. أو حافز قوي. وأما إذا كانت في البلاد حكومة ضعيفة أو إذا حلت بها الفاقة. فإنه كانت كالغاب المكسور لا تستطيع دفع فاتح شديد المراس إلا بالوسائل السياسية. ولا نسمع في هذه الفترة شيئًا جديدًا عن طبقة المزارعين، وفي الواقع يبدو أن أحوال هذه الطبقة لم يطرأ عليها أي تغير يذكر على مر العصور. وأما طبقة المحاربين من المصريين الخالصين، فإنها كانت طبقة ممتازة داخلها الغرور وأما كفايتها إلى حد أن الجنود المرتزقة الإغريق أصبحوا عماد الجيوش المثرية منذ بداية العصر الصاوي، وهوما تأباه كل دولة تحترم وتعتز بكرامتها. وأما طبقة الكهنة فإنها كانت أيضًا طبقة ممتازة، ؟؟ بأحقاد متبادلة بين المعابد المختلفة تمخضت عن تقطيع أوصالها.


وبالغرم مما أصاب الأمة المصرية من الانحلال السياسي، فإنها قوة الحيوية الكامنة فيها بمقدرتها العجيبة على النهوض سريعًا من الحروب المتكررة. وقد أظهر المصريون استمساكًا قويًا بتقاليدهم ليمكن القول بأن نظام الإدارة التقليدي احتفظ به دائمًا مع التعامل الضرورية، بأن النظام المعقد الذي نعرفه من أيام البطالمة والرومان معروفًا قبل ذلك وإنما بشكل أقل تعقيدًا.


وحتى الأسرة الثانية والعشرين كانت كل الوثائق تكتب بالهيوانية أما منذ عهعد ملوك نباتا فقد بدأ استعمال الديموتيقية. ولم يأت الأسرة السادسة والعشرين حتى كانت الديموتيقية تستعمل في كلٍ كافة الوثائق فيما عدا الدينية منها، فقد كانت تكتب الهيراتيقية ذلك فإنه قبل عهد البطالمة لم يوجد إلا قدر طفيف من بالديموتيقية.


وقد كان المصريون شديدي التمسك بدياناتهم، وهي تمتاز في الفترة بازدياد أهمية السحر وبنهضة دينية اصطبغت، كبقية نهضة العصر، يميل إلى القديم، مما أدى إلى أحياء "كتاب الموتى" و"نص الأهرام"، وقد أصبحت الديانة تصطبغ بصبغة جنازية تبعًا ؟؟ التي اكتسبوا أوزيريس على حساب آمون، فقد أخذ هذا الإله تدريجًا من مكانته السامية، وإن كان لا يزال يعتبر في العصر الصاوي "ملك الآلهة" ويحتمل أن تخريب طيبة في عام 663 وضع نهاية هذا الإله الدينية فقد خلفه أوزيريس منذ ذلك الوقت في مخيلة بمثابة الإله الذي يقدسه الجميع، ولم يعد العامة يرون في آمون.

الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي-كليوباترا السابعة

  • كليوباترا السابعة
طباعة أرسل لصديق

فشلها في بناء إمبراطورية جديدة وتصبح دولتها ولاية رومانية.

النزاع على السلطة في الإسكندرية:

ترك بطلميوس الزمار خلفه ابنتين، هما كليوباترا وأرسينوي، وولدين، هما بطلميوس الثالث عشر وبطلميوس الرابع عشر. وكانت كليوباترا تبلغ عندئذ الثامنة عشرة تقريبًا، وتصغر عنها أرسينوي بفترة تتراوح بين سنة وأربع سنين، وكان أحد الابنين يبلغ العاشرة تقريبًا والآخر الثامنة.

وقد أوصى بطلميوس الزمار بأن يخلفه على العرش أكبر ولديه (بطلميوس الثالث عشر)، على أن يتزوج كبرى أختيه (كليوباترا السابعة) ويشتركا في الحكم سويًا .

ولما كان الزمار يعرف مقدار كراهية الاسكندريين له ويخشى عدم احترامهم وصيته فإنه عهد إلى الشعب الروماني في الإشراف على تنفيذ الوصية التي أنقذ بعثة إلى روما لتودع صورة منها في السجلات العامة لكن الاضطرابات في روما حالت دون ذلك فأودعت لدى بومبي، كما أودعت صورة أخرى في الإسكندرية لكيلا يتصرف الرومان في تنفيذ الوصية كما يشاءون. وكان أوسع رجال الدولة نفوذًا عندئذ الخصى بوثاينوس (Potheinos) وكان وزير المالية ومربى الملك، ونظرًا لحداثة سن الملك كان أيضًا الوصى عليه. وكان يتمتع بنفوذ كبير كذلك نيودوتوس (Theodotos)، أستاذ الخطابة ومعلم الملك الصغير، وأخيلاس (Achillas) قائد الجيش، ويصفه بلوتارخ بأنه مصري لكن الأرجح أنه كان من نسل مختلط. وقد كان الأول والثالث ينتميان إلى طبقة الخدم، غير أنه لم تكن هذه حالة شاذة، إذ أنه منذ عهد بطلميوس السادس تلاشت عادة إناطة شئون الدولة إلى موظفين محنكين من عركتهم التجربة في ممارسة هذه الأمور طويلاً، مثل ما كان شأن سوسيبيوس، وأصبح الأوصياء والوزراء يختارون من بين خدم القصر. أي من أنسب الأوساط للدسائس. ولم يكن البلاط عامرًا بالدسائس فحسب بل كذلك بالشخصيات التي تتطلع إلى المعبد والسيطرة، إذ أن بوثاينوس وأخيلاس وثيودوتوس كانوا يريدون الاستئثار بالسلطة، في حين أن كليوباترا كان تتوق إلى التمتع بالحكم، وتبعًأ لذلك فإنه كان من المحتم وقوع النزاع بين الفريقين.

الحروب الأهلية في روما:

وقد حدث ذلك النزاع العنيف في الإسكندرية في خلال الوقت الذي كانت روما تجتاز فيه أزمة حروبها الأهلية، إذ أنه منذ أن أعاد جابينيوس "الزمار" إلى عرشه لم تنقطع الفوضى عن الازدياد باطراد في روما. عرى التحالف الثلاثي وفاة يوليا زوج بومبي وابنة يوليوس قيصر في عام قلوديوس والمكانة المتزايدة التي اكتسبها قيصر نتيجة لانتصاراته في بلاد الغال أبعدًا بومبي تدريجا عن حزب الشعب. وقد ساعد على فصم عري المحالفة الثلاثية وفاة يوليا زوج بومبي وابنة يوليوس قيصر في عام 54، ومصرع قراسوس في خلال محاربة البارثيين في عام 53، فكان يتعين على بومبي أن يعد نفسه على أن يواجه وحيدًا منافسة قيصر في القريب العاجل، عقب انتهاء مدة حكمه في الخارج (أول مارس عام 49). ولم يكن في وسع قيصر الاحتفاظ بنفوذه إلا إذا استبقى جيشه وحصل على منصب القنصلية، ولكنه كان لابد من أن تنقضي بين انتهاء مدة حكمه في الخارج وبين الانتخابات لمنصب القنصلية بضعة أشهر، كان من الممكن أن تقع فيها لقيصر أحداث خطيرة. وإزاء ذلك طلب قيصر السماح له بترشيح نفسه لقنصلية العام التالي عام 48، وكذلك بالبقاء في ولايته حتى تتم الانتخابات، لكن السناتو رفض إجابة ما طلبه قيصر، وعهد إلى بومبي بالدفاع عن سلامة البلاد. فكان أمام قيصر أن يختار بين أحد أمرين، إما الانتحار السياسي وإما محاربة بومبي والسناتو، ولم يتردد دون شك في اختيار الأمر الثاني. وفي 11 من يناير عام 49 (= 24 من نوفمبر عام د وفقًا للتقويم الروماني بعد أن صححه قيصر) وقعت الواقعة بزحف قيصر على روما.

وهكذا بدأت الحروب الأهلية التي دامت أكثر من عشرين عامًا وجرت إلى الحرب مصر وعالم البحر المتوسط بأجمعه، وخرجت منها روما سيدة إمبراطورية أوسع من إمبراطوريتها الأولى، ولديها أخيرًا نظم أكثر تناسبًا مع سيادتها العالمية. لكنه قبل ذلك هددت المخاطر قوة روما في أثناء هذه الأزمة، عندما أصبحت الإسكندرية مقر إمبراطورية تنافس إمبراطورية روما، وذلك بعد أن كادت مصر منذ برهة وجيزة أن تصبح ولاية رومانية، ووصلت مكانة أسرة البطالمة إلى الحضيض، حتى بدا محققًا أنها ستزول في ظرف سنين قلائل، كما زالت من قبل أسرة السلوقيين. غير أن القدر شاء أن تشرق شمس البطالمة إشراقًا يخطف الأبصار قبل أن تغيب إلى الأبد، فكان إشراقًا يشبه صحوة الموت. إذ أنه عندما كانت دولة البطالمة تعالج سكرات الموت وجدت كليوباترا السابعة سلطانها لا يمتد على ممتلكات البطالمة القديمة فحسب، بل كذلك على أقاليم لم يحلم بها أحد من البطالمة الثلاثة الأوائل. ولما كان أولئك البطالمة الأوائل رجالاً، فإنهم أقاموا دعائم إمبراطوريتهم على قوة سواعدهم. ولكن الآن عندما لم تعد لقوة مصر الحربية قيمة تذكر إلى جانب قوة روما، وعندما لم يعد في وسع أي ملك متربع على عرش مصر إنقاذ دولته المتداعية بأية قوة يسلكها، كان القابض على صولجان مصر امرأة، وضعتها ظروف قاسية في قبضة ذئبين من عمالقة ذئاب روما. ولكنها بفضل ذكائها وسحر فتنتها تمكنت من أن تتخذ من قوة روما أداة لتنفيذ أغراضها. فلا عجب أن استرعى تاريخ كليوباترا السابعة أكثر من تاريخ أي فرد آخر من أسرة البطالمة أفكار أجيال من الأدباء والشعراء.

صفات كليوباترا:

وكانت كليوباترا تشبه باقي الملكات والأميرات المقدونيات، من حيث قوة الإرادة والتعطش إلى الحكم وحب المجد والسيطرة والكبرياء التي لا تغلب ولا تترفع عن الدنايا وارتكاب الجرائم، وإن كانت قد بعثت في كليوباترا أحيانًا شهامة لم تخل من العظمة. لكنه يبدو أن كليوباترا أضافت إلى ذلك صفات افتقرت إليها الأخريات، فقد جمعت إلى نشاط الرجال وقوتهم جمال الجسم وصفاء الذهن وزلاقة اللسان. وعند ارتقائها العرش كانت في زهرة جمالها، وكان تعني به ويبدو أنها احتفظت به مدة طويلة، لكنه يبين أن سر فتنتها التي كانت لا تقاوم لم يكن جمالها وحده، إذ أن بلوتارخ يؤكد أنه لم يوجد في جمال كليوباترا نفسه شيء لا يبارى، وتؤيد صورها على نقودها هذا الرأي.

وإذا كان من الممكن أن تتخيل في هذه الصور شيئًا من الحيوية الكامنة في نظرات هذه الملكة، فإن هذه الصور ترينا أن ملامح "إيزيس الجديدة"، كما كانت تدعى كليوباترا، كانت ملامح حادة لا يمكن أن تكتسب شيئًا من الجاذبية إذا لم تنعشها الابتسامة وبريق العينين. وفي الواقع يبدو أن سر فتنتها الفتاكة التي أسرت قيصر فأنطونيوس كان رقة أخاذة وعذوبة مغرية في حديثها، يزيدهما أثرًا في النفس رخامة الصوت والدلال في النغم. ويبدو أن كليوباترا كانت تتقن تمامًا فن استهواء من تريد اكتسابهم، فقد كانت لديها قدرة فائقة على مجاراة سلوكهم والاندماج في طباعهم. ولا أدل على ذلك من أنها شاركت مارقوس أنطونيوس عبثه ومجونه ونافسته في فكاهاته البذيئة. ويزعم بلوتارخ أنها على نقيض أجدادها، وهم الذين يبدو أنهم لم يتعلموا لغة رعاياهم، لم تتعلم كليوباترا اللغة المصرية فحسب بل كذلك الأرامية والعبرية والعربية والفارسية والبارثية و"الأثيوبية" والصومالية. ويحدثنا أحد المصادر القديمة بأنها تعلمت تعليمًا عاليًا وكان مولعة بالدراسات الأدبية. وعلى الرغم من أنها لم تكن مصرية على الإطلاق بل كانت مقدونية متأغرقة، فإنها تأثرت بالبيئة المصرية، إذ أنها كانت ترتدي غالبًا ثياب إيزيس وتحمل شاراتها، وتضم حاشيتها عرافين وسحرة مصريين. وإذا كانت كليوباترا تدين لمصر بالشيء الكثير، فإنه يبدو أن مصر لم تدن لها إلا بالقليل، فقد كان الدافع إلى سياستها كالدافع إلى سياسة أجدادها العظام المجد الشخصي أكثر منه سعادة الشعب، لكننا سنرى أن المصريين على الأقل لم يكرهوها.

على الرغم مما يراه كثيرون من المؤرخين الحديثين. أما الرومان فإنهم كرهوها وتظاهره باحتقار "المصرية" "الملكة الغانية"، ومع ذلك فقد تسرب إعجابهم بها إلى قدحهم فيها! ومنذ عهد بعيد طغت شهرتها بدون استحقاق على شهرة ملوك وملكات الأسرة 4 إلى حد أنه منذ القرن الرابع كان يعزي إليها الكثير من منشآت الإسكندرية.
وفي بداية هذا العهد، كانت كليوباترا وأصحاب النفوذ في البلاط من القوة بحيث استطاعوا حفظ السلام في الإسكندرية، وهي التي أضيف إلى عوامل الاضطراب فيها جنود جابينيوس المرتزقة، وكان أغلبهم من الجرمان أو الغال. وقد صادفت إقامتهم في الإسكندرية هوى في نفوسهم، ولم يعودوا يعتبرون أنفسهم جنودا في الجيش الروماني، فاتخذوا زوجات لأنفسهم ووطدوا النفس على الاستقرار في البلاد.

ولم تكن علاقة هؤلاء النزلاء الجدد مع الأهالي طيبة على الدوام، فقد كانوا يؤيدون في عهد بطلميوس الزمار ذلك الرجل الكريه رابيريوس، ويبدو أنهم حاربوا الاسكندريين عندما ثاروا عليه. وقد اختلطوا في الإسكندرية مع كل الجنود الذين كون منهم أخيلاس بعد قليل جيشه، وكان يضم بين أفراده لصوصًا وعبيدًا قدموا هاربين من إيطاليا وأحسنت الإسكندرية وفادتهم. ويقول قيصر إن جيش الإسكندرية بقى على عادته القديمة، إذ أن العناصر الخليطة التي تكون منها كانت دائمًا متأهبة للثورة الوزراء والمطالبة بزيادة المرتبات، مما كان يسبب للحكومة أعظم المضايقات. وفي ذلك الوقت، كان يحكم سوريا نبيل روماني يدعى بيبولوس (M. Calpurnius Bibulus)، كان زميل قيصر في قنصلية عام 59 ولكنه كان عدوه وعدو جابينيوس، ومن المعارضين في إعادة بطليموس الزمار.

وعندما زحف البارثيون في عام 59 حتى أسوار أنطاكية، كان بيبولوس في حاجة ملحة إلى الجنود فطلب جنود جابينيوس من مصر وأرسل ابنيه لقيادتهم إلى سوريا، لكن أولئك الجنود تمردوا وقتلوا هذين الشابين، فألقت كليوباترا القبض على المجرمين وأرسلتهم إلى بيبولوس، لكن هذه ردهم إليها قائلاً أن توقيع العقوبة عليهم ليس من حقه وإنما من حق السناتو. ومن المحتمل أن تكون كليوباترا قد فقدت بهذا التصرف محبة الإسكندريين، فقد كان يؤذيهم كل ما يمكن أن يستشف منه الخضوع النفوذ الروماني.

كليوباترا تساعد بومبي فتثور الإسكندرية عليها:

وإزاء تقدم قيصر السريع في إيطاليا وافتقار بومبي إلى قوات كافية ومدربة لمواجهة جيش قيصر، استقر الرأي آخر الأمر على أن ينسحب بومبي بقواته والقنصلان والسناتو إلى بلاد الإغريق. وقد تم ذلك في 17 من مارس (= 26 من يناير) عام 49. وهكذا أصبح قيصر سيد إيطاليا في خلال حوالي شهرين منذ بداية حملته الخاطفة. وقبل أن يغادر بومبي إيطاليا أنقذ الرسل ليجمع حوله قوى تراقيا وقابادوقيا وجالاتيا التابعة لروما، بل ألتمس دون جدوى مساعدة بارثيا. وكان طبيعيًا أن يفكر بومبي، حامي جابينيوس والمدبر الحقيقي لإعادة بطلميوس الزمار، في طلب العون من مصر، ولذلك فإنه ابنه جنايوس (Gnaius) بومبي جاء يطلب مساعدة مصر (عام 49). ويقول بلوتارخ أن كليوباترا – وكانت لا بتسليطها على جنايوس. وسواء أصح ذلك أم لا، فإنه من المؤكد أن كليوباترا أعطت جنايوس خمسين أو ستين سفينة ومددًا من القمح وقوة قوامها 500 رجل من حامية جابينيوس.

وإزاء ما كانت تدين به أسرة بطلميوس الزمار لبومبي، لا نرى كيف كانت كليوباترا تستطيع أن تتصرف نحوه تصرفًا شريفًا أقل مما تصرفته. وإذا كان هذا التصرف هو الذي جلب عليها كراهية الإسكندريين وعداء بوثاينوس وأخيلاس وثيودوتوس، فإن ذلك في رأي المنصفين ظلم بين. ومن المحتمل أنه عندما ازدادت كليوباترا خبرة ونشاطًا ولم تسلس القياد لأولئك الرجال مثل أختها وزوجها الملك الصغير، انتهزوا هذه الفرصة لا يغار صدور الإسكندريين ضدها باتهامها بأنها تحاول اغتصاب الملك من أخيها، فثاروا عليها واضطرت إلى الفرار من مملكتها. وعلى كل حال لا جدال في أنه قبل معركة فارسالوس كانت كليوباترا قد طردت من الإسكندرية، ولكنها لم تكن بالمرأة المستسلمة التي تنزل عن ملكها بمثل هذه السهولة.

كليوباترا تعمل على استرداد عرشها:

وقد كان طبيعيًا إذن أن كليوباترا، عندما اضطرت إلى الفرار من مملكتها، لم تركن إلى الهدوء بل عملت على تجنيد فرق من الأعراب المتاخمين للحدود الشرقية، وكانت تتكلم لغتهم، وأسرعت إلى دخول مصر ثانية على رأس جيشها، فجمع أوصياء الملك قوة وخفوا شرقًا ومعهم الملك الصغير لصد كليوباترا. وفي صيف عام 48 حين كان الجيش الملكي بقيادة أخيلاس معسكرًا عند رأس قاسيون شرقي بلوزيون، ومعسكر كليوباترا على مسافة يسيرة من معسكر أخيها، شوهد وصول السفينة التي تحمل بومبي، إذ أنه عقب هزيمته في موقعة فارسالوس (Pharsalus) في العام نفسه فقد ثقته بنفسه وفر هاربًا، تاركًا قيصر يتم انتصاره على ما تبقى من فرقه.

مصرع بومبي:

وقد استبقى بومبي سفينته والسفن التي ترافقه بعيدًا عن الشاطئ، وبعث رسلاً يلتمسون ضيافة الملك، لكنهم ارتكبوا خطأ فاحشًا بالتحدث إلى بعض جنود جابينيوس وحثهم على "أداء واجبهم نحو بومبي وعدم ازدراء سوء حظه"، فأقلق ذلك بال بوثاينوس وعقد مجلسًا للتشاور في هذه المسألة. وقد برم بلوتارخ بأن مصير بومبي العظيم أصبح متوقفًا على القرارات التي يتخذها مجلس يضم خدمًا وحشمًا والخصي بوثاينوس ومعلم الخطابة المأجور ثيودوتوس و"المصري" أخيلاس.

وقد انقسمت الآراء في المجلس بين تحقيق رغبة بومبي ورفضها إلى أن تكلم ثيودوتوس وأقنع المجتمعين برأيه. ومؤداه أن تحقيق رغبة بومبي يؤدي إلى اتخاذ قيصر عدوًا وبومبي سيدًا لهم، وأن رفض هذه الرغبة يجلب عليهم غضبه وغضب قيصر الذي سيضطر إلى مطاردته، وأن الخطة المثلى هي أن يأتوا به ويجهزوا عليه. وقد أردف ذلك بقوله مبتسمًا "أن الميت لا يعض".

ويصف لنا بلوتارخ خاتمة بومبي وصفًا مؤثراً، نخشى أنه لا يخلو من بعض الاصطناع الذي قصد به دون شك أن تترك هذه المأساة أثرًا عميقًا في النفس، ومع ذلك فإنه يبدو لنا أن الوقائع الرئيسية صحيحة في جوهرها. وعلى كل حال فإنه عندما عهد إلى أخيلاس بقتل بومبي، استقل زورقًا ومعه ثلاثة أو أربعة من خدمه، وسالفيوس (Salvius) قاد إحدى الكتائب، وسبتيميوس (Septimius) وكان من رجال جابينيوس وخدم تحت قيادة بومبي، واتجه الزورق صوب سفينة بومبي. وعند وصولهم حيًا سبتيميوس بومبي باللاتينية. وحياة أخيلاس بالإغريقية ودعاه لركوب الزورق معتذرًا بأن الشواطئ رملية ولا تسمح للسفن الثقيلة بالاقتراب منها.

وقد دهش بومبي لهذه الاستعدادات المتواضعة، لكنه قنع بها وقبل زوجه وابنه ونزل إلى الزورق. مع اثنين من قادة الكتائب ومعتوقه فيليب وتابعه، وهو يردد همسًا هذا البيت من شعر سوفوقليس (sophocles) "إذا دخلت بيت طاغية أصبحت عبده وأن جثته خرا". وفي أثناء اقترابهم من الشاطئ، حاول بومبي أن يقطع حبل صمت كان شديد الوطأة، فاتجه إلى سبتيميوس وسأله "ألم نحارب سوريا؟" ولما لم يجبه إلا باحناء رأسه، فإنه عكف على قراءة الخطاب الذي أعده لإلقاه على مسامع الملك. وفي لحظة مغادرة الزورق أمسك بيد فيليب ليقف، وعندئذ طعنه سبتيميوس وسالفيوس وأخيلاس من الخلف بخناجرهم، فجذب بومبي بكلتا يديه ذيل عباءته فوق وجهه، دون أن يقو أو يفعل شيئًا غير جدير به، سوى الأنين الذي صدر عنه في اللحظة التي طعن فيها. وقد قطعت رأسه وألقيت الجثة عارية على الشاطئ، حيث حرقها فيليب، وجندي روماني عجوز كان قد خدم في شبابه تحت قيادة بومبي. وفي اليوم التالي مر قرب الشاطئ لوقيوس لنتولوس (Lentulus) وكان أحد أتباع بومبي وجاء هاربًا من قبرص، ورأى الدخان يتصاعد وعلى مقربة منه فيليب، فقال: "من يا ترى ذلك الذي ختم حياته هنا واستراح؟" ثم قال بعد ذلك وهو يتأوه: "أيمكن أن تكون أنت بومبي الأكبر؟!". وبعد قليل نزل إلى الشاطئ وألقى القبض عليه وأعدم.

وصول قيصر إلى الإسكندرية:

وفي 2 من أكتوبر عام 48 (28 من يوليه بحسب تقويم قيصر) وصل قيصر إلى مياه الإسكندرية، قبل أن يبلغه خبر المأساة التي وقعت منذ ثلاثة أيام عند قاسيون، ولذلك فإنه حرص على أن يستطلع الحالة قبل المخاطرة بالنزول إلى البر. فقد كانت مصر رسميًا حليفة بومبي وتبعًا لذلك عدوة قيصر، وكان من المنتظر أن يقوم بومبي بإعداد خطة للدفاع عن الإسكندرية بعد التجائه إلى مليكها، في حين أنه لم تكن مع قيصر إلا قوة صغيرة تتألف من 34 سفينة و800 فارس و3200 من المشاة. وقد اعتقد رجال البلاط دون شك أنهم بقطع رأس بومبي قد أثبتوا لقيصر أنهم قطعوا علاقاتهم بأعدائه، فلا يوجد داع لغزو مصر باعتبارها نصيرتهم. وما أن علم رجال البلاط بمقدم قيصر حتى خف ثيودوتوس إلى سفينته حاملاً رأس عدوه وخاتمه. ويقال أن عيني قيصر تندت بالدموع عندما نأكد أن الرأس رأس بومبي، لكنه لم يبرح المياه المصرية كما كان رجال البلاط يرجون ويتوقعون. وليس هناك ما يبرر اتهام قيصر بالرياء والنفاق لبكائه على رأس بومبي، وهو ما يذهب إليه لوقانوس وديون قاسيوس. فأكثر المؤرخين يعتقدون أن هذا البكاء كان صادرًا عن شعور صادق، لأن قلب قيصر كان رحيمًا إلى حد أنه أغضب أعوانه بعفوه عن خصومه ورفعهم إلى درجات كبيرة. ويقال أن قيصر سكب عطورًا ثمينة على رأس بومبي ثم أحرقها وأودعها هيكلاً أقامه لإلهة الانتقام نمسيس (Nemesis).

ويشبه بكاء قيصر على رأس بومبي بكاء أنتيجونوس جوناتاس على رأس بوروس وبكاء أوكتافيانوس عندما أتاه نبأ وفاة أنطونيوس. وقد لمس قيصر في قتل بومبي الأثر العميق الذي تركه في النفوس انتصاره عند فارسالوس، فبدلاً من أن يحقق آمال رجال البلاط وينصرف عن الإسكندرية، دخلها بعد قليل وسار في طرقاتها تحفه شارات الحكم الرومانية بوصفه قنصلاً، واتخذ قصر البطالمة مسكنًا له. ولم يكن هذا التصرف من جانب قيصر تصرفًا حكيمًا، إذ أنه كان بمثابة اعتبار مصر ولاية رومانية والإسكندرية مدينة مقهورة، ولاسيما أن أهالي تلك المدينة الفخورة لم ينسوا أن قيصر كثيرًا ما طالب بضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية، وأنه في انتظار الفرصة المواتية لتحقيق ذلك استنزف موارد البلاد في عهد الحكم السابق. ولابد من أنه زاد في حنق الأهالي اعتقادهم أن قيصر جاء مصر دائنًا، ليرغم ملكهم على دفع ما تبقى له في ذمة أبيه، ومعنى ذلك أن يتحمل الأهالي ضرائب جديدة إلى جانب ما أثقل به كاهلهم، فنشأت اصطدامات عنيفة بين الاسكندريين وجنود قيصر.

قيصر يستدعي كليوباترا وأخاها للفصل في نزاعهما:

وإذ غلى مرجل الفتنة في المدينة، رأى قيصر أنه من الحكمة أن يعتكف في القصور الملكية. ولما كان بطلميوس الزمار قد التمس من روما تنفيذ أحكام وصيته، فإنه أمر الملك والملكة بتسريح جيوشهما والحضور إلى الإسكندرية للفصل في نزاعهما. ولم يطع بوثاينوس الأمر كاملاً، إذ أنه حوالي منتصف أكتوبر (أوائل أغسطس – بحسب تقويم قيصر) أعاد الملك الصغير إلى الإسكندرية، لكنه ترك الجيش عند بلوزيون بقيادة أخيلاس.
وأما كليوباترا فإنها أعربت عن رغبتها في إطاعة أوامر قيصر لأن التحكيم كان أيسر السبل لاسترداد الحقوق لمن كان في مثل حالتها، ولاسيما أن الوسطاء الذين كانت تتفاهم عن طريقهم مع قيصر أكدوا لها، إن لم تكن تعرف من قبل، أنه في قلب الدكتاتور مكانًا رحيبًا للجنس اللطيف، وأنها لن تجد مدافعًا عن حقوقها لدى سليل فينوس خيرًا من شخصيتها الفاتنة.

ولما كان يتعذر عليها أن تتخطى الحدود جهرًا وعلانية وتصل إلى الإسكندرية سالمة آمنة دون أن يدبر رجال البلاط قتلها، فإنها ركبت البحر خفية ومعها كاتم أسرارها أبولودوروس (Apollodoros) الصقلى. وذات مساء حملها زورق صغير إلى القرب من القصر الملكي وكان يطل على البحر، وهربها أبولودوروس داخل القصر ملفوفة في سجادة، وما أن ظهرت كليوباترا فجأة من سجادتها أمام قيصر، حتى استولت عليه منذ تلك اللحظة.

كليوباترا تكسب قيصر:

ويقول ديون قاسيوس أن كليوباترا كسبت قضيتها لأنه لم توجد في العالم حجة أقوى من جمالها الفاتن وصوتها العذب. بيد أن الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن قضية كليوباترا كانت عادلة، فهي لم تنشد أكثر من إعادة الوضع الذي اقتضاه تنفيذ وصية أبيها وقضت عليه الاضطرابات التي أفضت إلى طردها. وإذا كان ديون قاسيوس، وهو من أكثر المؤرخين القدماء إنصافًا واتزانًا، قد عالج على هذا النحو هذه المسألة الواضحة، فإن هذا يعدنا لتوقع الأهوال منه ومن غيره من المؤرخين القدماء عندما يتناولون مشاكل أجل شأنا وأكثر خطرًا ويكتنفها ظلام طامس.

وفي اليوم التالي، أرسل قيصر في طلب بطلميوس الصغير للتوفيق بينه وبين أخته، لكن الصبي ما كاد يرى أخته حتى استولت عليه عاصفة من الغضب، وقذف بتاجه إلى الأرض وجرى في الشوارع يصرخ من الخيانة. وقد أعاد جنود قيصر الملك الصغير إلى القصر، لكن صرخاته أثارت اضطرابًا كبيرًا بين الجماهير فحاصروا أسوار القصر، وكان لا يوجد إلا قليل من الجنود للدفاع عنها، فاضطر قيصر إلى الظهور أمام الجماهير والتحدث إليهم، واعدًا إياهم بأن يعقد اجتماعًا عامًا للشعب، ويقرأ لهم بحضور بطلميوس وكليوباترا وصية أبيهما. وبعد بضعة أيام دعى الشعب للاجتماع في الجومنازيوم، وقرأ قيصر وصية بطلميوس الزمار، وكانت تقضي بأن تحكم مصر كليوباترا وأكبر أخويها، وبأن ترعى روما تنفيذ هذه الوصية، وعلى هذا النحو أوضح قيصر حقه في التدخل في هذا النزاع وانطباق قراره على رغبات الملك الراحل. ولكي يخلد الإسكندريون إلى السكينة، وعدهم قيصر بإعادة قبرص إلى مصر، ليتولى حكمها أرسينوي وأصغر أبناء بطلميوس الزمار. وهكذا هدأت الإسكندرية وتم الوفاق بين كليوباترا وأخيها وفقًا لرغبة قيصر وتنفيذًا لوصية أبيهما، وأقيم حفل كبير بهذه المناسبة.

حرب الإسكندرية:

وقد كان من الممكن أن تدوم هذه الحال، لو أن بوثاينوس وعصابته أذعنوا للفشل الذي أصابهم بالتوفيق بين الأخوين، لكنهم لم يذعنوا وأخذوا يلهبون مشاعر الإسكندريين، وكانوا برمين بتدخل قيصر في مشاكلهم التي اعتادوا منذ مدة طويلة على حلها بطريقتهم الخاصة، وبمجيئه إليهم دائمًا يريد اقتضاء ديونه.

وفي الوقت نفسه عمل بوثانيوس على مضايقة الجنود الرومان بعدم إعطائهم سوى القمح القديم الفاسد، وعلى إثارة الملك والرأي العام باستخدام صحاف من الخشب والفخار في المآدب العامةبحجة أن قيصر استولى على كل الصحاف المصنوعة من الذهب والفضة وفاء لدينه.

وذهب يوثاينوس في متابعة سياسته إلى حد نهب المعابد زاعمًا أنه لم تضطره إلى ذلك إلا الاستجابة إلى مطالب قيصر الملحة بعد أن أصبحت الخزانة العامة خاوية على عروشها، وكان قد بوثاينوس من ذلك إثارة عواطف المصريين الدينية لعدم اهتمامهم بالمشكلة السياسية.
وعندما استوثق بوثاينوس من مشاعر المدينة، طلب إلى أخيلاس الزحف على الإسكندرية بجيشه، فترك أخيلاس في بلوزيون حامية كافية لمنع جنود قيصر في آسيا من دخول مصر، وزحف على العاصمة بقوة تتألف من 20.000 من المشاة و2000 من الفرسان. وسرعان ما وجد قيصر وجنوده القليلون أنفسهم محاصرين في عاصمة كبيرة معادية لهم، فطلب قيصر إلى بطلميوس الثالث عشر أن يأمر بوقف تقدم الجيش، وكان يزيد كثيرًا على قواته القليلة. وقد استجاب الملك إلى هذا الطلب وكل رسولين بإبلاغ هذا الأمر إلى أخيلاس، لكن هذا القائد أمر بالإجهاز على الرسولين، فقتل أحدهما وجرح الآخر جرحًا خطيرًا. وهكذا بدأت – فيما نعتقد في أواخر أغسطس أو في أوائل أكتوبر عام 48 – الحرب التي عرفت فيما بعد باسم "حرب الإسكندرية" وكاد قيصر أن يكفر فيها بحياته عن إطالة إقامته في الإسكندرية لينعم بصحبة كليوباترا، إذ أنه يصعب تصديق ما يزعمه قيصر من أن الرياح الشمالية هي التي أسبقته في الإسكندرية لتعذر مبارحة الميناء في أثناء هبوبها.

حريق المكتبة الكبرى:

وإزاء الأخطار التي أحدقت بقيصر، حصن نفسه في القصور الملكية الفسيحة والشوارع المجاورة لها، القريبة من الزاوية الجنوبية الشرقية للميناء الكبير (ويعرف اليوم بالميناء الشرقي). وعندما وصل جيش أخيلاس واستولى على باقي المدينة التهاب حماس الأهالي وأصبح هدف الجميع الهجوم على القصر لإنقاذ الملك وإبادة المعتدين الأجانب، لكنهم وجدوا قيصر محصنًا تحصينًا قويًا وعجزوا عن الاستيلاء على مواقعه فحاصروها.

ولما كان يهم قيصر في هذه الأزمة الخطيرة المحافظة على مواصلاته البحرية، وكان للإسكندريين في الميناء الكبير 72 سفينة، وفي الأحواض 38 سفينة أخرى على الأقل، فإنه أحرق هذه السفن جميعًا، إذ أنه لم يكن في استطاعته، بسبب قلة رجاله، استخدامها ولا حمايتها من الوقوع في قبضة العدو.

وقد ارتفع اللهب بشدة، حتى امتد إلى رصيف الميناء وأحرق المكتبة الكبرى، على نحو ما سنرى عند الكلام عن مكتبة الإسكندرية. ولكي يضمن قيصر السيطرة على الميناء الكبير، بادرت إحدى كتائبه إلى احتلال الصخرة الصغيرة، التي كان يقوم عليها فنار الإسكندرية الشهير شرقي جزيرة فاروس، وقابل ضغط العدو بتحسين وسائل دفاعه من كل ناحية. ولما كان يدرك جيدًا أنه لا يستطيع الصمود طويلاً في مواقعه الضيقة أمام عدو متفوق عليه في العدد، فإنه أنفذ الرسل إلى كريت ورودوس وقيليقيا وسوريا بل إلى بلاد العرب يطلب النجدة والمؤنة. وفي خلال ذلك كان كل أبناء بطلميوس الزمار في قبضة قيصر، وكانت عواطف بطلميوس الثالث عشر وأخته أرسينوي مع الفريق الآخر ويريدان الانضمام إليه، لكن الرقابة لم تكن دقيقة بحيث تحول دون فرار أرسينوي. ويحتمل أن يكون قيصر قد أغمض عينيه عن هربها، لتوقعه أن وجود هذه الأميرة في معسكر أعدائه سيؤدي إلى وقوع الاضطراب فيه. وقد تحقق ما توقعه قيصر، إذ أنه ما كادت أرسينوي ترحل حتى دبت الغيرة بين مربيها الخصى جانومديس (Ganymedes) وبين أخيلاس. وحين أعطت قيصر المراسلات السرية بين بوثاينوس وجيش العدو الفرصة للتخلص من أخطر أعدائه الداخليين بإعدامه، علم بأن الخلاف نشب في معسكر أخيلاس، وبأن أرسينوي أمرت بإعدام هذا القاد بتهمة تسليم الأسطول، فآلت قيادة الجيش إلى جانومديس.

الإسكندريون يقطعون المياه عن قيصر:

ومع ذلك فإن مركز قيصر الحرج سرعان ما ازداد حرجًا، عندما عمد الإسكندريون إلى قطع مياه النيل عن القنوات التي كانت تغذي الحي الذي احتله الرومان، وإلى إيصال مياه البحر إلى تلك القنوات بقصد هلاك المحاصرين عطشًا، إذ أنه لم يكن لديهم مصدر آخر للمياه العذبة غير تلك القنوات. وعندما لوحظ أن الماء أصبح غير صالح للشرب، استولى القنوط على جنود قيصر وأخذوا يتساءلون عما يبقيهم في الإسكندرية وعما يمنع قادهم من ركوب البحر ثانية. لكن قيصر عرف كيف يواجه هذه الأزمة، فقد أبان لجنوده خطر الانسحاب بحرًا في الوقت الذي يهاجهم فيه عدو قوى، وقال لهم أن المراكب تستطيع إمدادهم بالماء من بارايتونيون (Paraetonion) (مرسى مطروح الحالية) أو من أية جزيرة قريبة، وذلك إذا تعذر الحصول على الماء في الإسكندرية نفسها بحفر آبار فيها. وفي الحال نشط رجاله ليلاً ونهارًا في حفر آبار أمدتهم بحاجتهم من الماء. وبعد هذا الفزع بقليل، لاحت من بعيد الفرقة السابعة والثلاثون التي أرسلها قالفينوس (Cn. Domitius Calvinus) بحرًا من آسيا، استجابة إلى نداء قيصر، ومعها مدد من المؤنة والأسلحة ومعدات القتال.

الإسكندريون يتحدون قيصر في البحر:

ولما كانت الريح قد دفعت السفن التي تحمل الإمدادات بعيدًا عن الإسكندرية وتعذر عليها دخول الميناء بسبب هياج البحر، فإنه تعين على قيصر أن يعمل على قيادتها إلى بر السلامة، وتبعًا لذلك فإنه ترك جنوده وراء التحصينات لحماية مواقعه واجترأ على الخروج من الميناء بسفنه دون أن يكون عليها سوى بحارتها. وعندما علم الإسكندريون بأن قيصر خرج بأسطوله دون أن يصحب معه جنوده، جمعوا كل ما تبقى لهم من سفن في ميناء يونوستوس (الميناء الغربي) وذهبوا يتحدونه حين كان في طريق العودة مع الإمدادات، فنشبت بين الفريقين معركة هزم فيها الأسكندريون، ولكن حلول الظلام أنقذهم من كارثة شاملة، ووصل قيصر ورفاقه الميناء الشرقي سالمين.

قيصر يستولى على فاروس والهبتاستاديون:

وعندما استشعر جانومديس حاجته الملحة إلى أسطول، أحضر من مصاب النيل المختلفة مراكب الجمارك، وأصلح ما كان لدى الأسكندريين من سفن قديمة، وبذلك توافر لديه عدد من السفن استطاعت على الأقل مناوءة مواصلات قيصر البحرية. وقد زاد مركز قيصر حرجًا سيطرة جانومديس على جزيرة فاروس وجسر الهبتاستاديون – وكان يربط الجزيرة بالمدينة وبه عند طرفيه معبران يصلان بين الميناءين الشرقي والغربي – مما أتاح للأسكندريين إزعاج سفن قيصر الراسية في الميناء الشرقي بإلقاء قذائف ملتهبة عليها.

وإزاء ذلك قرر قيصر مهاجمة أسطول الأسكندريين والاستيلاء على فاروس وجسر الهبتاستاديون ليرد الأسكندريين على أعقابهم إلى داخل المدينة. وتبعًا لذلك فإنه خرج بأسطوله ونخبة من جنوده ودار حول جزيرة فاروس، وهاجم الأسطول الاسكندري في الميناء الغربي، وأحرز عليه نصرًا حال دون جعله حاسمًا انسحاب الاسكندريين إلى البر حيث احتشد الأهالي على الجسر وعلى قمم المنازل المطلة على الميناء وحالت قذائفهم دون مطاردة المنسحبين. وفي اليوم التالي نجح قيصر في الاستيلاء على جزيرة فاروس. وقد ترتب على ذلك النصر أن أقرب معبري الجسر إلى الجزيرة سقط في قبضة قيصر، إذ أن الأهالي، وقد أفزعتهم الهزيمة التي حلت بهم، تركوا هذا المعبر دون دفاع، فاستولى عليه قيصر وحصنه ووضع عنده حامية.

وقد دافع الإسكندريون عن المعبر الثاني، وكان أحسن تحصينًا من الأول وأقرب منه إلى المدينة، لكنه في اليوم التالي هاجم قيصر هذا المعبر واستوى عليه وسده بحيث قطع كل اتصال بين الميناءين. وعندما شرع في تحصين مدخل الجسر ذاته من ناحية المدينة انقض الاسكندريون على هذه التحصينات واقتربت سفنهم من الجسر وأصلت القوات الرومانية بوابل من قذائفها، فخف جانب من الأسطول الروماني إلى نجدة قيصر. وعندما نجح فريق من الاسكندريين في تسلق الجسر نشب قتال عنيف بين الفريقين انجلى عن انسحاب الرومان من الجسر وفقدهم بين قتيل وغريق 400 جندي وعددًا من البحارة يفوق ذلك. ولم ينج قيصر نفسه إلا بالسباحة إلى زورق صغير.

قيصر يطلق سراح الملك:

وكان فقد هذا العدد من قوات قيصر القليلة خسارة فادحة، ومع ذلك فإن الإسكندريين أنفذوا الرسل إلى قيصر يبلغونه ضيقهم بسوء حكم أرسينوي وطغيان جانومديس واستعدادهم للتسليم إذا رد إليهم ملكهم وأمرهم الملك بذلك. وقد تظاهر قيصر بتصديقهم ووافق على إطلاق سراح الملك مقدرا أنهم إذا كانوا صادقين فلن يضيره تحقيق رغبتهم، وإذا كانوا كاذبين فإنه من ناحية كان أكرم له أن يحارب ملكًا من أن يحارب طغمة من الغرباء والعبيد، ومن ناحية أخرى فإنه لن يكون من شأن وجود الملك مع أرسينوي وجانومديس بين الاسكندريين أن يؤدي إلى تقويتهم وإنما إلى نشوب خلاف يضعفهم ويقسم صفوفهم. وعندما استدعى قيصر الملك وأبلغه بأنه حر طليق، بكى وادعى أنه لا يريد أن يتركه، لكنه لم يكن بكاء الفراق وإنما بكاء الفرح، لأنه ما كاد ينضم إلى الإسكندريين حتى جعل همه الأول متابعة القتال ضد الرومان بحماس شديد. غير أننا لا نسمع بعد ذلك شيئًا عن جانومديس مما يدل على حدوث ما توقعه قيصر نتيجة لإطلاق سراح الملك. وعندما حاول الإسكندريون اعتراض طريق الامدادات المرسلة بحرًا إلى الرومان ونصبوا لها كمينًا عند المصب القانوبي، تصدى لهم الأسطول الروماني وهزمهم.

انتصار قيصر:

وحوالي الوقت نفسه وصل إلى بلوزيون ميثريداتس البرجامي على رأس الإمدادات التي كان قيصر قد أرسله في بداية الحرب لجمعها من سوريا وقيليقيا. وقد انضم إلى جيش النجدة قوات من اليهود بقيادة أنتيباتروس وقوات من الأعراب بقيادة يامبليخوس (Iamblichos). ويعزو المؤرخ يوسف إلى أنتيباتروس فضلاً كبيرًا في النصر الذي أحرزه ميثريدانس عند استيلاه على بلوزيون في يوم واحد بعد قتال مرير. وليتفادى ميثريداتس فروع النيل وقنواته التي تنتشر في الدلتا، سار بمحاذاة فرع النيل البلوزي حتى منف، حيث عبر ذلك الفرع وانحدر مع الفرع القانوبي صوب الإسكندرية.

وعندما علم الإسكندريون بما حدث أنفذوا جانبًا من جيشهم ليمنعوا جيش النجدة من اجتياز فرع النيل على مقربة من العاصمة، لكن ميثريداتس هزم مهاجميه بالرغم من تفوقهم عليه في العدد. وإزاء ذلك خف كل من بطلميوس وقيصر على رأس القوة التي كان يمكن الاستغناء عنها في الإسكندرية، فقد كان الأول يستهدف القضاء على ميثريداتس والثاني الاتصال به.

وقام قيصر بمناورة ماهرة مكنته من الاتصال بميتريداتس قبل أن يهاجمه بطلميوس. وبعد ذلك قاد كل القوات في مهاجمة الإسكندريين، وكانوا متحصنين في مكان منيع يحميه النيل من ناحية ومستنقع من ناحية أخرى، وقناة من الناحية الأمامية المواجهة للرومان، إلا أن قيصر هزم الإسكندريين في موقعة حامية لم تلبث أن تحولت إلى مذبحة مروعة قضى فيها على الجانب الأكبر من جيشهم، كما أن الكثيرين ممن سلموا من القتل هلكوا غرقًا في أثناء تقهقرهم، وكان بطلميوس في عداد هؤلاء الغرقى. وأمكن التعرف على جثته بفضل درعه الذهبي وقد أرسله قيصر إلى الإسكندرية لإقناع أهلها بأن مليكهم لقى حتفه وأن الوقت قد حان للتسليم.


وعندما عاد قيصر مظفرًا إلى العاصمة (27 مارس = 15 يناير بحسب تقويم قيصر) جنى ثمار انتصاره الحاسم السريع، فقد ألقى الإسكندريون أسلحتهم وهجروا معاقلهم وخفوا لاستقباله متشحين بملابس الحداد ومعهم تماثيل الآلهة، على نحو ما كانوا يفعلون عند التوسل إلى ملوكهم واستعطاف الأرواح التي أغضبوها بسلوكهم، فقبل قيصر استسلامهم وعفا عنهم. وبعد أن أصبح قيصر على هذا النحو سيد الإسكندرية ومصر، نفذ الوصية التي أتمن بطلميوس الزمار الشعب الروماني على تنفيذها دون إدخال أي تعديل عليها، إذ أنه أقام على العرش كليوباترا وأخاها الأصغر بطلميوس الرابع عشر، وأقصى عن مصر أختها الصغرى أرسينوي، تفاديًا لنشوب صراع جديد قبل دعم مركز كليوباترا وأخيها. ولما كان قيصر يدرك أنه يتعذر عليهما اكتساب محبة رعيتهما وأنهما لا يتمتعان بأية مكانة بسبب وفاهما له وحداثة عهدهما بالحكم، فإنه قبل أن يبرح مصر ترك ثلاث فرق لشد أزرهما.

وبرغم بقاء قيصر طوال هذه المدة في مصر، وبرغم أن الحالة في الإمبراطورية الرومانية كانت تحتم عليه الرحيل فورًا، فإنه عز عليه ألا يستمتع بقضاء الربيع مع كليوباترا بعد ما لاقاه من أهوال حرب الإسكندرية. ولذلك فإنه بقى إلى جانب كليوباترا ثلاثة أشهر أخرى تقريبًا قام معها في أثنائها برحلة نيلية إلى أقاصي الصعيد. وبعد أن استولى دون شك على كل ديونه غادر مصر بحرًا حوالي منتصف يونيه (= بين 15 من إبريل و5 من مايو بحسب تقويم قيصر) عام 47 إلى سوريا قاصدًا آسيا الصغرى.

كليوباترا تعتبر نفسها زوجة قيصر:

ولم تحاول كليوباترا على الإطلاق إخفاء ثمرة علاقاتها مع قيصر. ويعجب المحدثون من أنها بالرغم من الأزمات الطاحنة التي مر بها العرش وكادت أن تدكه بسبب سلوك أبيها وتصرفاته، وبالرغم من أنها حتى يناير عام 47 كانت شرعًا زوجة أخيها بطلميوس الثالث عشر، أطلقت على ابنها الذي أنجبته من الدكتاتور في عام 47 اسم قيصر، وهو الذي أطلق عليه الإسكندريون اسم التصغير قيصرون. ونحن نعتقد أن مرد ذلك إلى أن كليوباترا لم تعتبر نفسها خليلة قيصر وإنما زوجته، وآية ذلك أنها بمناسبة ميلاد ابنها أقامت أو أمرت بزخرفة معبد أرمنت وبأن يسجل على جدرانه أنها أنجبت قيصرون من آمون – رع الذي خالطها في صورة قيصر. ومعنى ذلك بجلاء أن كليوباترا أذاعت على الملأ أن قيصر زوجها الشرعي، وأنها جريا على معتقدات المصريين الدينية أنجبت طفلها من الإله آمون – رع الذي خالطها في صورة زوجها الشرعي قيصر.

ونحن نعتقد كذلك أن التفسير الحقيقي لنوع العلاقة التي قامت بين قيصر وكليوباترا يجب أن يستمد قبل كل شيء من الأهداف التي كانت كليوباترا تتوخاها من وراء هذه العلاقة. لقد مر بنا أن دولة البطالمة كانت قد بلغت درجة شديدة من الضعف حتى كادت أن تصبح ولاية رومانية قبل عهد كليوباترا، وأنه م يعد في وسع أي جالس على عرش مصر عندئذ إنقاذ دولته المتداعية بأية قوة يملكها، وأن كليوباترا كانت فتاة جميلة ذكية طموحًا تشبه من سبقنها من أميرات وملكات البطالمة من حيث الكبرياء وقوة الإرادة والتعطش إلى الحكم وحب المجد والسيطرة.

وذات فجأة، وسط الأزمة الطاحنة التي اكتنفت كليوباترا، تدخل لحل هذه الأزمة أقوى رجل في العالم يومئذ، رجل طبق في الآفاق صيته في ميدان القتال وكذلك في ميدان الفسق والفجور. وحسبنا ما يحدثنا به سويتونيوس من أن قوريو الكبير وصف قيصر في إحدى خطبه بأنه "امرأة كل رجل ورجل كل امرأة". ولا جدال في أنه إذ أمر قيصر كليوباترا وأخاها بتسريح قواتهما والحضور إلى الإسكندرية، لم يغب عن فطنة كليوباترا أن رفضها هذا الأمر كان يستتبع حتمًا ضياع كل آمالها في استرداد العرش بل ضياع حياتها، ولا في أن إطاعة هذا الأمر كان يجر وراءه عدم الإفلات من براثن ذئب كاسر مثل قيصر. ولا جدال كذلك في أنه إذا كان عسيرًا على ملكة من طراز كليوباترا، سليلة تلك الملكات اللائي استبد بهن حب المجد والسيطرة، أن تضحى بعرشها بل من المحتمل أيضًا بحياتها، فإنه كان طبيعيًا أن تحاول كليوباترا الإفادة من ظروفها إلى أقصى حد لإشباع أطماعها عبر مكمن الضعف في قيصر، وذلك باستغلال كل ما حباها به الله من فتنة وذكاء ليشعر قيصر بالا غنى له عنها، ويرى فيها خير من تشاركه حكم الإمبراطورية الرومانية، فيتخذها زوجة له. وهل يعقل أن تقنع أية امرأة طموح مغامرة على أي قدر من الذكاء بأن تكون مجرد خليلة حين تدرك مدى سلطانها على خليلها ومدى ما تجنيه من وراء تصحيح وضعها معه؟ أليس طبيعيًا أن ترغب هذه الخليلة، ولاسيما إذا كانت ملكة طموحًا ذكية مثل كليوباترا، في أن تغدو حليلة؟ ولقد رأينا فيما مر بنا من القرائن ما يدل على المكانة العزيزة التي احتلتها كليوباترا لدى قيصر، ولكن أبلغت هذه المكانة إلى حد أنه قرر الزواج منها؟ وإذا صح ذلك فلماذا إذن لم يعلن نبأ زواجه منها؟

اتفاق كليوباترا وقيصر على الزواج:

من البديهي أن كليوباترا لم تذع على الملأ في مصر نبأ زواجها من قيصر إلا بعد اتفاقها معه على الزواج وعلى إذاعة نبأه في مصر، وإلا لما اجترأت على الذهاب إلى روما في العام التالي (46) لرحيل قيصر من مصر وبدعوة منه. ولو أنه كان لدى كليوباترا أدنى شك في نوايا قيصر لما كان أيسر عليها من إخفاء ثمرة معاشرتها لها معاشرة الأزواج بأن تنسب طفلها إلى زوجها بطلميوس الثالث عشر وهو الذي توفي قبل ميلاد قيصرون بستة شهور. وفضلاً عن ذلك فإنه حتى إذا أغفلنا من اعتبارنا ما أعلنه أنطونيوس من أن قيصر اعترف بأبوته لقيصرون، فإن هناك قرينة أخرى على صدق نية قيصر في الزواج من كليوباترا، ذلك أن قيصر أقام في معبد فينوس جنتريكس (Genetrix) وكانت تعتبر أم الرومان جميعًا – تمثالاً من الذهب لكليوباترا، فقد كان ذلك ينطوي على جعل أم طفله آلهة شريكة لأم الرومان تمهيدًا لزواجه منها وإقامة ملكية هلينيسية، أو بعبارة أخرى ملكية تقو على حق الملوك الإلهي. ومن ثم يبين أن قيصر وكليوباترا اتفقا على الزواج، وعلى أن تعلن كليوباترا هذا الزواج بادئ ذي بدء في مصر بينما يرجئ قيصر إعلان زواجه من كليوباترا في روما. وما سر اختلاف التوقيت في إعلان كل منهما هذا الزواج؟ لقد كان هناك عامل حاسم يستوجب مبادرة كليوباترا بإعلان الزواج في مصر، وهو إنجاب طفلها من قيصر، في حين أنه كان هناك على الأقل سببان يضطران قيصر إلى إرجاء إعلانه الزواج في روما. وأحد هذين السببين هو ضرورة استصدار تشريع خاص قبل ذلك، لأنه بمقتضى الشرائع الرومانية كان لا يستطيع أي مواطن روماني أن يعقد زواجًا صحيحًا على سيدة أجنبية. والسبب الآخر مستمد مما توحي به القرائن من أن قيصر كان ينوي إقامة نفسه ملكًا ومن أن الرومان كانوا يكرهون النظام الملكي ويبغضون الزواج من أجنبيات. وإزاء ذلك فإن الحكمة كانت تملي على قيصر ألا يثير مشاعر الرومان باتخاذ أي إجراء رسمي لإشهار زواجه من ملكة أجنبية قبل أن يقيم الملكية، أي قبل أن يتخذ خطوة كان يعتبرها ضرورية لإصلاح نظام الحكم في الإمبراطورية الرومانية وكذلك فيما يبدو تمهيدية لزواجه من ملكة. فزواج قيصر الملك من ملكة كان لا يمكن أن يثير في الرومان من الغضاضة ما كان يثيره فيهم زواج قيصر الدكتاتور من ملكة. وفي ضوء هذا يمكننا أن نفسر زيارة كليوباترا لروما وبقاها هناك من سبتمبر عام 46 حتى مقتل قيصر في مارس عام 44، انتظارًا لليوم الموعود الذي ترتقي فيه عرش إمبراطورية عالمية لا تكون مصر إلا إحدى ولاياتها، ويصبح ابنها قيصرون، ابن قيصر الأوحد، وريث هذه الإمبراطورية.

وهذا يقتضينا أن نناقش هنا تلك الوصية التي أودعها قيصر لدى الكاهنات العذارى في منتصف سبتمبر عام 45، أي قبيل الحملة التي كان ينوي القيام بها ضد بارثيا. وكان من أهم ما تضمنته هذه الوصية أن قيصر تبنى أوقتافيوس، حفيد أخته الصغرى، ووزع تركته بين أوقتافيوس وبين بيناريوس (Pinarius) وبديوس (Pedius)، وكانا حفيدي أخت قيصر الكبرى. وتضمنت الوصية كذلك قائمتين من الأسماء تشمل إحداهما أولئك الذين تؤول إليه تركة قيصر إذا ما أصاب أحفاد أخته مكروه، وتشمل القائمة الأخرى أسماء الذين يقامون أوصياء على من قد ينجبه قيصر من أبناء.

ولما كان قيصر لم يقدم بعد على أن يطلق قالبورنيا ويعلن زواجه من كليوباترا، وذلك انتظارًا لتحويل الجمهورية الرومانية إلى ملكية على نحو ما نرجح، وكان قيصر يدرك تمامًا أنه إذا توفي في أثناء الحملة ضد بارثيا فإنه سيعقب ذلك صراع مرير على السلطة قد يذهب ضحيته أقرب أقاربه بدليل أن قيصر لم يكتف بأن يضمن وصيته أحفاد أختيه بوصفهم ورثته الشرعيين بل ذكر أيضًا فئة أخرى من الورثة في حالة موت أولئك الأحفاد، وكان أكثر الباحثين يرون أن تلك الوصية ليست إلا إجراء اقتضته الحيطة لمواجهة احتمال وفاة قيصر في أثناء حملته ضد بارثيا، وأن هذه الوصية لا تنهض دليلاً على ما كان قيصر يعتزم أن يفعله في حالة عودته سالمًا من بارثيا، وأنه من المستبعد أن قيصر كان يعتبر الشاب غير المجرب أوقتافيوس جديرًا بأن يخلفه في مركزه، فإنه لا يأخذنا العجب من أن قيصر لم يشر إطلاقًا في وصيته إلى قيصرون سواء بوصفه وريثه أم بوصفه الطفل الذي أورد ذكر الذين يقامون أوصياء عليه.

وفي ضوء هذه الاعتبارات جميعًا ليس هناك ما يبرر اتخاذ وصية قيصر دليلاً على أنه لم تكن في نيته اتخاذ كليوباترا زوجة له والاعتراف بأبوته لقيصرون.

واستكمالاً لبحث هذه المسألة لابد من الإشارة هنا إلى ما عزى إلى أحد أنصار قيصر – التريبون جايوس هلفيوس قينا – من أنه اعترف بعد مقتل الدكتاتور بأنه كان قد عهد إليه بأن يقترح في أثناء غيبة قيصر قانونًا أعد له نصه ليبيح لقيصر الزواج ممن يشاء واتخاذ أي عدد من الزوجات من أجل إنجاب الأولاد. وقد قيل أن هذا التشريع كان يستهدف تحقيق رغبة قيصر في الزواج من كليوباترا. ولا ريب في أن هذا الزواج كان بغيضًا إلى الرومان، ولكننا نعتقد أن إصدار مثل هذا التشريع كان يزيد هذا الزواج بغضًا إلى الرومان ويجعل الوزر وزرين بإباحة تعدد الزوجات لقيصر، فقد كان ذلك ينطوي على مجافاة شديدة للعرف والتقاليد والشراع الرومانية. غير أنه لما كان القانون الروماني لا يسمح لأي مواطن روماني بأن يعقد زواجًا صحيحًا على سيدة أجنبية، فإن قيصر لم يكن في حاجة إلى أكبر من الشق الأول من هذا التشريع ليتزوج من كليوباترا بعد أن يطلق قالبورينا وكذلك بعد أن يحول النظام الجمهوري الروماني إلى نظام ملكي. وتبعًا لذلك إذا كنا لا نستبعد أن تريبون العامة هلفيوس قينا كان قد كلف باستصدار تشريع يمهد لقيصر الزواج من كليوباترا في الوقت المناسب، وأن تكون رغبة قيصر في إنجاب الأولاد قد اتخذ مبررًا لاستصدار مثل هذا التشريع، فإننا نستبعد أن هذا التشريع كان يتضمن الشق الذي يبيح لقيصر تعدد الزوجات. ونعتقد أن خصوم قيصر هم الذين زيفوا هذا الشق إمعانًا في تصوير قيصر على أنه إزاء سيطرة كليوباترا عليه لم يعد رومانيًا وإنما أشبح شرقيًا يتطلع إلى إقامة نفسه ملكًا وإلى اتخاذ أي عدد من الزوجات. وإذا سلمنا جدلاً بأن كل ما عزى إلى هلفيوس قينا كان من ابتكار خصومه، فإنه يجب التسليم كذلك بأن هذا الابتكار كان وليد شعور الرومان بمدى وقوع قيصر تحت تأثير كليوباترا وبأنه كان في سبيله إلى الزواج منها.

قيصر واليهود:

ويحدثنا المؤرخ يوسف – في مجال سرده مظاهر إكرام الرومان لليهود – بأن قيصر قضى بإقامة نصب من البرونز أثبت عليه أن يهود الإسكندرية مواطنون اسكندريون. وإذا كان من الجائز أن يكون يهود الإسكندرية قد ساعدوا قيصر في أثناء "حرب الإسكندرية"، إذ أن حيهم كان يجاور الحي الملكي الذي حوصر فيه قيصر، وأن يكون قيصر قد كافأهم لقاء ذلك بتوكيد تمتعهم بالامتيازات التي منحهم البطالمة إياها، فإننا نشك في أن يكون قيصر قد ذهب إلى حد منحهم حقوق المواطنة، لأنه كان من شأن ذلك أولاً إثارة عواطف الاسكندريين في وقت كان قيصر ينشد فيه تهدأتهم، وثانيًا أن تحترم كليوباترا ومن بعدها أغسطس إرادة قيصر. ولكننا نعرف أنه عندما كانت الإسكندرية تعاني قحطًا وأمرت كليوباترا بتوزيع منح من القمح على مواطني الإسكندرية لم يكن لليهود نصيب من هذه المنح لأنهم لم يكونوا في عداد هؤلاء المواطنين. ونعرف كذلك أنه إذا كان أغسطس وخلفاؤه قد أكدوا ليهود الإسكندرية امتيازاتهم القديمة، فإنهم لم يمنحوهم حقوق المواطنة مما حدا باليهود إلى الإلحاق في مطالبة الرومان بمنحهم هذه الحقوق وحدا كذلك بيوسف إلى القيام بدعاية واسعة لمناصرتهم من أجل الفوز بمطلبهم.

ويحدثنا يوسف أيضًا بأن قيصر كافأ يهود فلسطين على المساعدة التي قدموها لجيش انجدة بإنقاص جزيتهم وإعفائهم من الخدمة العسكرية والالتزامات الإضافية، كما كافأ هورقانوس بأن قرر إقامته كاهنًا أكبر وحاكمًا عامًا لليهود وبأن يخلفه أولاده من بعده وبأن يعتبروا جميعًا أصدقاء الرومان وحلفائهم، وكذلك كافأة أنتيباتروس بمنحه حقوق المواطنة الرومانية.

قيصر يجهز على فارناقس:

ولما كان فارناقس ملك القرم قد انتهز فرصة الحروب الأهلية وحرب الإسكندرية لنشر نفوذه في آسيا الصغرى، فإن قيصر شن عليه حملة خاطفة لم تستغرق أكثر من خمسة أيام للقضاء عليه، مما حدا بقيصر إلى وصفها بعبارته المشهورة: جئت ورأيت وانتصرت. ولم يلبث فارناقس أن لقى حتفه، فأسند قيصر مملكته (القرم) إلى ميثريداتس الرجامي مكافأة له على خدماته. وأخيرًا سارع قيصر إلى إيطاليا حيث قضى على القلاقل التي كانت روما تعانيها وعلى الفتنة التي وقعت بين فرق قمبانيا.

قيصر يقضي على أعدائه في شمال أفريقيا:

وعندما وضع قيصر الأمور في نصابها في إيطاليا، جرد حملة للقضاء على القوات المعادية له، التي أعيد تكوينها في شمال أفريقيا. وقد دامت هذه الحملة حتى صيف عام 46، واكسبت قيصر مجدًا جديدًا وسلطات جديدة، بفضل انتصاراته على أعداه وحليفهم يوبا (Juba) ملك نوميديا، إذ أن قيصر كان لا يزال في أفريقيا عندما منح الدكتاتورية لمدة عشر سنوات، ومنصب المشرف على الأخلاق، "ووضعت عجلته الحربية فوق الكابيتول في مواجهة يوبيتر، وأقيم تمثاله على شكل من البرونز يمثل العالم ويحمل نقشًا يدعوه نصف إله".

كليوباترا في روما:

وعندما أصبح قيصر على هذا النحو سيد العالم، خفت ملكة مصر إلى روما ومعها أخوها الصغير بطلميوس الرابع عشر، وأدمجهما قيصر في عداد حلفاء وأصدقاء الشعب الروماني. ومن المحتمل أن كليوباترا كانت في روما في شهر سبتمبر عام 46 (يونيه بحسب تقويم قيصر)، عندما احتفل قيصر بانتصاراته الأربعة على بلاد الغال والإسكندرية وفارناقس ويوبا، فكان في وسعها أن تسمع الأشعار اللاذعة التي سخر فيها الجنود من مغامرتها الشخصية مع قيصر، ومما اتهم به قيصر – المشرف على الأخلاق – من الهوى المحظور مع نيقومدس، وأن تشهد في موكب النصر الأول زعيم الغال التعس، وفي الموكب الثاني صورتين لبوثاينوس وأخيلاس وتمثالاً للنيل، ونموذجًا للفنار وهو مضاء، وأختها أرسينوي مكبلة بالقيود. ويحدثنا ديون قاسيوس بأنه طاب للشعب مشاهدة الأشياء الباقية، لكنه أغضبه رؤية عدد غير مألوف من الحشم، وكذلك الأسلاب التي أخذت من الرومان الذين هزموا في أفريقيا، كما أن الشفقة أخذته على أرسينوي، لأنها امرأة ومكبلة بالقيود بعد أن كانت فيما مضى أميرة ملكية، إذ أن الرومان لم يروا مثل هذا المشهد من قبل على الإطلاق.

وقد أسكن قيصر كليوباترا وأخاها وحاشيتها في قصره عبر نهر التيبر، لكن الظروف أرغمت قيصر على الابتعاد عن كليوباترا ثانية بضعة شهور. ذلك أنه إزاء اضطراب الأحوال في ولاية أسبانيا القاصية نتيجة لسوء تصرفات حاكمها ونشاط آخر أعوان بومبي الذين تجمعوا في أسبانيا، اضطر قيصر إلى ترك إيطاليا (أوائل نوفمبر 46) وخوض آخر معاركه عند موندا (مارس 45) وقضاء بضعة شهور هناك بعد ذلك لوضع الأمور في نصابها، فلم يعد إلى روما قبل أكتوبر عام 45. ويحق لنا أن نعجب من أن كليوباترا، وهي التي كانت تتقن فن استهواء من تريد اكتسابهم وتعرف كيف تندمج في يسر وسهولة مع طباعهم، أغضبت بصلفها وكبريائها النبلاء المتكبرين الذين أذل الحرص والخوف أعناقهم، فلم يكتفوا بالسعي إلى قيصر بل أخذوا أيضًا يترددون على مجالسها. ويصف شيشرون في أحد خطاباته الطريقة المشينة التي عاملتها بها كليوباترا وأتباعها، وحاول أن يبرر زيارته لها بدعوى رغبته في استعارة بعض الكتب النادرة من مكتبتها!!.

ويبين لنا أن مرد سلوك كليوباترا إلى أنها، وقد أسكرتها سيطرتها على سيد العالم وتزلف أولئك النبلاء إليها، أعمتها نشوة النصر عن كسب ودهم، ولاسيما أن الزلفى لا توحي بالاحترام، وكم أفسد الناس حكامهم بنفاقهم وزلفاهم. ويجب ألا ننسى أن كليوباترا، برغم ذكائها وأطماعها، كانت قليلة الخبرة بأساليب الحكم، ولا دراية لها بطباع الرومان، وكان خضوعهم لقيصر يؤذي نفوسهم وتكبره عليهم يدمى أفئدتهم، فكرهوها أشد الكراهية واعتبروها حظية وضيعة متكبرة، واعتقدوا أنه بتأثيرها أخذ قيصر يفكر في تحويل الجمهورية الرومانية إلى مملكة هلينيسية يحكمها ملك مؤله.

قيصر والملكية:

يسود الاعتقاد بين الباحثين بأن قيصر لقى مصرعه قبل الانتهاء من إصلاحاته وإقامة نظام الحكم الملائم بعد أن أثبتت الأحداث والتطورات السياسية عدم صلاحية النظام القائم، وبعد أن صدر عن قيصر ما ينم بجلاء عن أنه كان لا ينوي الإبقاء على النظام الراهن ولا اعتزال الحكم، فالكل يقبل ما عزى إلى قيصر من التصريح بأن الجمهورية الرومانية لم تعد إلا اسمًا لا جسد له ولا شكل، وبأن صلا باعتزاله الكم أثبت جهله بئرليات السياسة.

ويسلم بعض الباحثين بأن المبررات الفلسفية للملكية الهلينيسية بإصرارها على واجبات الملك نحو رعاياه من حيث رعاية صوالحهم والنهوض بمرافق بلادهم والزود عن حياضها كانت تروق لأفضل الجوانب في خلق قيصر. بيد أن هذا البعض من الباحثين يرى أنه بالرغم مما أدته الممالك الهلينسية من خدمات للحضارة وتطوير الحياة الاقتصادية قد أثبتت آخر الأمر فشلها فشلاً ذريعًا، على حين أن نظام الحكم الروماني برغم أنه لم يعد صالحًا لحكم عالم البحر المتوسط فإنه نجح نجاحًا كبيرًا بالقياس إلى نظم الحكم في الممالك الهلينسية، وأن أساس الحرب الأهلية قد أثبتت أنه من الناحية العسكرية كانت إيطاليا هي مركز الثقل في عالم البحر المتوسط،. ويرى هؤلاء الباحثون أيضًا أن الملكية الهلينسية غدت شبحًا، وأن رجلاً واقعيًا مثل قيصر كان لا يمكن أن يضحي بجوهر القوة من أجل الشبح.

ولا جدال في أن الممالك الهلينيسية ضعفت ضعفًا شديدًا في النصف الثاني من العصر الهلينيسي بيد أن مرد هذا الضعف في أعظم هذه الممالك، وهي مملكة البطالمة، لم يكن إلى النظام الملكي نفسه وإنما إلى ثلاثة عوامل رئيسية. وأحد هذه العوامل هو أن ملوك البطالمة لم يكونوا ملوكًا قوميين وإنما ملوك أجانب استهدفوا تحقيق مجدهم الشخصي وصوالحهم الشخصية وصوالح أعوانهم الأجانب على حساب أهالي البلاد، مما دفع هؤلاء الأهالي إلى القيام بثورات عارمة ضد مغتصبي بلادهم ومستعبديهم. وزاد في خطورة هذه الثورات القومية احتدام النزاع بين أمراء البطالمة أنفسهم منذ عهد بطلميوس السادس فيلومتور. والعامل الثاني هو أنه بعد بطلميوس الثالث آل العرش إلى ملوك ضعاف أو صبية صغار تحت وصاية أشخاص لم يرتفعوا إلى مستوى المسئولية، مما شجع المصريين وكذلك الإسكندريين على الثورة في وجه أولئك الحكام الفاسدين. والعامل الثالث هو أنه منذ عهد بطلميوس الخامس تعرضت إمبراطورية البطالمة بل مصر ذاتها لأطماع ثلاث دول فتية هي دولة السلوقيين في عهد أنطيوخوس الثالث والرابع، ودولة مقدونيا في عهد فيليب الخامس، والدولة الرومانية منذ خروجها مظفرة من صراعها مع قرطجنة بانتصارها في معركة زاما عام 202. وأما في عهد البطالمة الثلاثة الأوائل، أي على مدى أكثر من قرن، حين كان على عرش مصر ملوك أقوياء، فإن دولة البطالمة كانت أقوى الدول الهلينسية وأغناها وصاحبة إمبراطورية بحرية واسعة. ومعنى ذلك أن العلة لم تكمن في الملكية الهلينسية ذاتها، لأن حالها من قوة أو ضعف كان رهنًا بمن كانت مقاليد الأمور في قبضته.

ألم يكن من شأن ذلك أن يستهوى رجلاً قوي الشكيمة مثل قيصر، وهو الذي يسلم الجميع بأن كل الشواهد في السنة الأخيرة من حياته تشير إلى أنه كان مصممًا على أن يمارس سلطة أوتقراطية؟ ولا شك في أنه لو أتيحت لقيصر فرصة إقامة ملكية في روما لكانت هذه الملكية القومية التي تساندها أعظم قوة حربية عندئذ في منأى عن أخطر العوامل التي أدت إلى تدهور مملكة البطالمة. وبتأليه عاهل المملكة الرومانية كانت تتكمل لهذه الملكية أهم مقومات البقاء. ويدل على صدق هذا التقدير ما كان من أمر الملكية التي أقامها أغسطس وسترها بقناع شفاف من الرياء السياسي.

ويعزز ما نرجحه من اتجاه قيصر إلى إقامة نظام ملكي في روما على غرار النظام الملكي الهلينيسي أن الباحثين جميعًا، بما فيهم القلة المعارضة لاتجاه قيصر إلى الملكية، يرون أنه ليس هناك أدنى شك في أن علاج وجوه الضعف الكامن في نظام الحكم الروماني لعام البحر المتوسط كان نوعًا من الحكم الأوتقراطي، أي إسناد مهمة حل مشاكل الدولة إلى شخص واحد. ويرون كذلك أنه منذ جيل أخذ الفكر السياسي الروماني يتجه على الأقل نظريًا نحو هذا التغير الدستوري، وإن كانت ذكرى الزمن الذي كان فيه السناتو يضطلع بهذا الدور ظلت تداعب الأفكار باستمرار. وفي رأي بعض الباحثين أنه إذا كان أغسطس قد عمل على التوفيق بين هذين الاتجاهين – حكم الفرد المطلق وحكم السناتو – بالوصول إلى حل وسط، فإنه من المستبعد أن قيصر كان ينحو هذا النحو لأنه لم يكن من طراز أصحاب الحلول الوسط، لكنه من الجائز أنه في خلال الفترة الأخيرة من حياته كان بصدد الوصول إلى نوع دائم من الأوتقراطية يوفق بين تقاليد الشرق والغرب. وهنا يتملكنا العجب من المصارحة بهذا الرأي الذي لا يكاد أن يستبعد على قيصر أن ينحو نحو أغسطس في الوصول إلى حل وسط، حتى يعود فيعزو إلى قيصر احتمال الوصول إلى حل وسط، إذ أنه من الواضح أن ذلك النوع الدائم من الأوتقراطية الذي يوفق بين تقاليد الشرق والغرب لا يمكن إلا أن يكون حلاً وسطًا. ثم ما هو هذا النوع من الأوتقراطية الذي يوفق بين تقاليد الشرق والغرب؟ ألا يكون ذلك نظام حكم يتمتع قيصر في كنفه بسلطة مطلقة مع السماح للأجهزة الدستورية الرومانية بممارسة نشاط صوري أو مقيد في ظل هذه السلطة المطلقة؟ وهل يختلف هذا النظام عن النظام الملكي البطلمي مثلاً حيث كان الملك صاحب السلطة العليا المطلقة وكانت المجامع الدستورية في الإسكندرية ونقراطيس وبطولميس تمارس نشاطًا محليًا مقيدًا؟

وعلى كل حال فإنه لا خلاف إذن على أن علاج مشاكل روما عندئذ أصبح يتطلب إقامة حكم الفرد المطلق، وإنما وجه الخلاف هو التسمية التي تطلق على هذا النوع من نظم الحكم. وللوصول إلى هذه التسمية ليس أمامنا إلا أن نستهدي بأمرين: وأحدهما هو السلطات التي كان قيصر يمارسها، والآخر هو القرائن التي توحي بنظام الحكم الذي كان قيصر يستهدفه.

وأما عن الأمر الأول فإنه لا جدال في أن قيصر كان يتمتع بسلطات مطلقة لا تستقيم بأي حال مع نصوص الدستور الجمهوري ولا مع السوابق والتقاليد المألوفة. ذلك أنه لم يكن هناك حد لسلطانه ولا رقيب على تصرفاته ولا سبيل إلى الحد من مشيئته، وأنه لم يكن للنظم القائمة أي وزن أو قيمة في نظره. وإذا كان قيصر لم يلغ نصوص هذا الدستور أو يعطل أي جهاز من أجهزته، فإن هذه النصوص وهذه الأجهزة لم تعد إلا أدوات صورية لتنفيذ مشيئة الحاكم بأمره، السيد الأوحد للدولة الرومانية، الذي لم يكتف بالاعتماد على مجده العسكري وولاء محاربيه القدماء والفرق العامة تحت إمرته، بل عمد إلى حشد السناتو بالموالين له. ويعطينا فكرة عن كيفية صدور القرارات في مجلس السناتو ما يذكره شيشرون في خطاب أرسله في أكتوبر عام 46 إلى صديقه بايتوس (Paetus). فقد جاء في هذا الخطاب أن اسم شيشرون أدرج في عداد أعضاء السناتو الذين شاركوا في إصدار قرارات في موضوعات لا عم له بها في اجتماعات لم يحضرها. وإذا كان هذا قد حدث مرارًا في حالة رجل بارز مثل شيشرون، فإنه يمكننا أن نتصور أن هذه لم تكن الحالة الوحيدة من نوعها. وأهم من ذلك ما تنطوي عليه شكوى شيشرون من دلالة وهي أنه كان يعتبر أمرًا مفروغًا منه موافقة السناتو على ما أوصى به قيصر. فلا عجب أن بعض الباحثين يرون بحق أن قرارات السناتو لم تكن أكثر من تسجيل قرارات قيصر نفسه. وإلى أي اتجاه يشير ذلك كله؟ وهل كان هناك فارق بين موقف قيصر من السناتو وموقف أي ملك بطلمي من الأجهزة الدستورية في المدن الإغريقية في مصر؟

وأما عن الأمر الآخر فإن القرائن متعددة على الاتجاه الذي كان قيصر في سبيله إليه. وتأتي في المقدمة مظاهر التشريف التي أغدقت عليه ورفعته إلى مرتبة كبير الآلهة يوبيتر فأصبح الرومان يدعونه يوبيتر يوليوس (Jupiter Julius)، وعين أنطونيوس كاهنًا لقيصر بذات اللقب الذي كان يميز كهنة يوبيتر (Flamen Dialis). وتحدثنا المصادر القديمة عن إقامة معابد كثيرة لقيصر وعن إقامة تماثيله جنبًا إلى جنب التماثيل المقامة للآلهة في المعابد، وعن حمل تمثال قيصر وسط تماثيل للآلهة في كل مهرجانات الألعاب الكبرى. ومع تسليم الباحثين جميعًا بإقامة تماثيل لقيصر في المعابد وتعيين كاهن خاص له، إلا أن البعض يرفض أنه أقيمت لقيصر نفسه معابد في أثناء حياته، ويرى أن كل ما حظى به قيصر لم يكن أكثر من مظاهر المداهنة والتكريم التي لا ترقى إلى التدليل على تأليه قيصر في حياته. ونحن نسلم جدلاً بأنه من الجائز أنه لم تشيد معابد لقيصر في حياته، وبأن إقامة تماثيل البشر في المعابد لا تنهض دليلاً قاطعًا على تأليههم، ولكنه يجب أن نأخذ في الاعتبار هنا أمرين: وأحدهما هو أن قيصر، بسبب مكانته وسلطاته في الدولة الرومانية لم يكن كسائر البشر. والآمر الآخر هو أن الكهنة كانوا لا يعينون إلا لإقامة شعائر عبادة إله أو آخر، وأنه عين لقيصر كاهن خاص في أثناء حياته، وهو أمر لم يسبق له مثيل. فما كانت إذن مهمة كاهن قيصر؟ وما كان مبرر تعيين هذا الكاهن الخاص إلا إذا كان قيصر قد رفع فعلاً إلى مرتبة الألوهية في حياته؟

وثمة قرينة أخرى نعتقد أنها بليغة في دلالتها. ذلك أنه في الدول الهلينسية كانت لا تنقش على العملة الرسمية عادة إلا صور الآلهة والملوك، وأنه في روما كانت لا تنقش عليها عادة إلا صورة الآلهة. بيد أنه في عام 45 نقشت – بأمر السناتو – لأول مرة على العملة الرسمية الرومانية صورة بشر على قيد الحياة هو يوليوس قيصر. والباحثون المعارضون للفكرة القائلة بأن قيصر كان في سبيله إلى إقامة نظام ملكي يحاولون في حرج واضح التقليل من شأن هذه القرينة بضرب من العنت في الجدل لا يقل عن العنت في تفسير ما ينم عن تأليه قيصر في أثناء حياته.

وإذا سلمنا جدلاً بأن ما حظي به قيصر لم يكن أكثر من مظاهر تشريف ومداهنة جعلته على الأقل شبه إله وشبه ملك، أو بعبارة أخرى شبه ملك هلينيسي مؤله، فهل الأصح أن قيصر لم يفعل أكثر من أنه تقبل راضيًا مظاهر تعبر عن ولاء المتحمسين من أنصاره، أم أن ذلك كان وليد سياسة رسمها قيصر؟ فلنستعرض بعض الأحداث في إيجاز يسير لنتبين وجه الحقيقة.

من المعروف أن عصبة الرأس (Diadema) كانت تعتبر كالتاج رمزًا مميزًا للملوك الهلينسيين منذ أن أخذ الاسكندر الأكبر هذا التقاليد عن ملوك الفرس. وعندما حدث أن شخصًا مجهولاً وضع عصبة الرأس على تمثال قيصر المقام على منصة الخطابة في الفوروم وبادر تريبونا العامة فلافوس ومارولوس إلى نزع العصبة، غضب قيصر من تصرف التريبونين بحجة أنهما لم يعطياه الفرصة لينزع العصبة بنفسه. وذات وضع العصبة على تمثال قيصر أمر بليغ في دلالته سواء أكان الذي وضعها من أنصاره أم من خصومه، لأنه إذا كان من الأنصار فأغلب الظن أن عمله لم يكن تلقائيًا وإنما موعز به لجس النبض فيما إذا كان الوقت قد حان لإعلان الملكية. وأما إذا كان من الخصوم فإنه ينم عن إحساس المخلصين للنظام الجمهورية بأن قيصر كان في سبيل إقامة نفسه ملكًا وكذلك عن رغبتهم في إثارة المشاعر ضد نواياه لإحباطها قبل فوات الأوان.

ولعل أن ما حدث في يوم 26 من يناير عام 44 كان ضربًا آخر إما من الترويح لإقامة قيصر ملكًا وإما من المناهضة لهذا الاتجاه. ذلك أنه حين كان قيصر عائدًا يومئذ من الحفل اللاتيني وارتفعت أصوات منادية إياه "ملك" لم يثر قيصر أو يكفهر وجهه وإنما قابل النداء بابتسامة رقيقة وبقوله "لست ملكًا وإنما قيصر". بيد أن تريبوني العامة سالفي الذكر سارعا إلى إلقاء القبض على الرجل الذي قيل أنه كان أول من جرى النداء على ألسنتهم. ولا يقل عن هذا النداء أهمية في دلالاته غضب قيصر من تصرف التريبونين لأنه كان معناه اعتبار وصف قيصر بأنه ملك جرما يستحق العقاب. وبإيعاز من قيصر تقرر حرمانهما عضوية السناتو وعزلهما من منصبيهما قبل انتهاء المدة القانونية.

وفي النصف الثاني من شهر فبراير عام 44 أقيم في الفوروم حفل لوبرقاليا (Lupercalia). وفي خلال هذا الحفل قدم القنصل مارقوس أنطونيوس عصبة الرأس إلى قيصر باسم الشعب، ولكن قيصر تمنع عن قبول العصبة تمنعًا ظاهرًا مرة بعد أخرى، وأمر بأن يثبت في السجلات الرسمية أنه استجابة إلى رغبة الشعب عرض القنصل مارقوس أنطونيوس الملكية على يوليوس قيصر، الدكتاتور لمدى الحياة، ولكن قيصر رفضها. ويحدثنا بلوتارخ وأبيانوس في هذا الصدد بأنه كلما قدم أنطونيوس العصبة إلى قيصر كانت قلة من الحاضرين تصفق على حين أنه كلما رفض قيصر العصبة كان كل من في الفوروم يصفقون. ومن الجلي أن هذه المسرحية التي مثلت أمام حشد كبير من الرومان كانت – على حد قول المصادر القديمة – أمرًا متفقًا عليه. وأنها لم تكن إلا إحدى الخطوات التمهيدية لبلوغ الهدف المنشود الذي اعتبره قيصر العلاج الأوحد لمشاكل روما، ولكنه إزاء كراهية كثيرين من الرومان للنظام الملكي كان يتعين على قيصر أن يخطو نحو هدفه بخطى وئيدة القصد منها إظهار عزوف قيصر شخصيًا وتعففه عن الملكية.

وإذا أغفلنا أمر ما بدر من أشخاص مجهولين وليست لهم صفة رسمية، وأمعنا النظر فيما صدر عن رجال مسئولين في الدولة كانوا طوع بنان قيصر ولا يمكن أن يصدر عنهم شيء إلا استجابة إلى مشيئته، فإنه يتضح لنا أنه لو أن قيصر لم يكن حقًا يفكر جديًا في إقامة النظام الملكي، لما قرر السناتو نقش صورته على عملة الدولة، ولما اجترأ ربيب قيصر وزميله في القنصلية، مارقوس أنطونيوس، على أن يعرض عليه الملكية. وإذا أغرقنا في السذاجة إلى مدى التسليم بأنه لم تكن لقيصر يد في شيء من ذلك كله، وبأن فكرة الملكية لم تدر بخلده قبل أن يلوح بها أمامها ويعرضها عليه المتملقون من أنصاره، وبأنه كان جادًا في رفض الملكية عندما عرضت عليه، فإنه لابد من التسليم أيضًا بأنه لم يكن هناك ما هو أيسر من أن ينتهي الأمر عند ذلك. بيد أن هذا لم يحدث على نحو ما سنرى توًا.

ذلك أنه في شهر فبراير عام 44 أصبح شائعًا معروفًا أولاً أن قيصر رفض الملكية عندما عرضها عليه أنطونيوس باسم الشعب، وثانيًا أن قيصر يعتزم محاربة البارثيين وأعد العدة لذلك. ولا جدال في أن الانتقام من بارثيا لهزيمة قراسوس في عام 53 كان أمرًا طال أمد انتظاره بيد أن استكمال الإصلاحات، التي أدخلها قيصر على أوضاع الدولة الرومانية، بوضع نظام دائم للحكم يخلف النظام الدكتاتوري غير الدستوري فيكفل بذلك خدمة صوالح الدولة على المدى الطويل، كان أكثر إلحاحًا من القيام بحرب لم تكن هناك حاجة ملحة إلى خوض غمارها، بدليل أنه بعد ذلك بأربع عشرة سنة عندما قضى أغسطس على أنطونيوس وكليوباترا وضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية في عام 30، فضل العودة إلى إيطاليا لوضع أمور الدولة في نصابها على محاربة البارثيين، وأنه انقضى على مصرع قيصر حوالي ربع قرن قبل أن يولي أغسطس عنايته إلى البارثيين. ولما كنا نستبعد على رجل من طراز قيصر أن يكون قد سمح في هذا الوقت بالذات لرغبته في تتويج انتصاراته العسكرية بقهر البارثيين بأن تعميه عن حاجات الدولة وأشدها إلحاحًا وأكثرها أهمية، فلابد من أن تكون اعتبارات سياسية بالغة الأهمية هي التي أملت على قيصر ضرورة تقديم محاربة البارثيين على كل ما عداها. ولسنا في حاجة إلى الذهاب بعيدًا للتدليل على ذلك. إذ أنه ما أن انتشر خبر اعتزام قيصر محاربة البارثيين وما صاحب ذلك من دعاية لتبرير هذه الحملة بضرورة الثأر للشرف الروماني وتأمين الحدود الشرقية للإمبراطورية حتى قيل أنه وجدت في كتب الوحي السيبوليه نبوءة غامضة بادر لوقيوس قوتا (أحد أعضاء اللجنة المنوطة برعاية هذه الكتب المقدسة وتفسيرها) إلى تفسير هذه النبوءة بأن الرومان لن يهزموا البارثيين إلا إذا قادهم ملك، وإلى تدبير إذاعة سر هذه النبوءة.

ويجب ألا تغرب عن البال هنا ثلاثة أمور: وأحدها هو أن العرف جرى على أن تفسير النبوءات السيبولية كان يعتبر سرًا خطيرًا من أسرار الدولة إلى أن يبلغ هذا التفسير إلى السناتو ويأمر إما بتنفيذ هذا التفسير فيذاع، وإما بإغفال أمره على أساس أنه خرافة لا وزن لها فيبقى طي الكتمان تفاديًا لما يترتب على عدم العمل بالنبوءة من إثارة المشاعر الدينية لدى الجماهير. والأمر الثاني هو أن أغلب أعضاء السناتو كانوا من أنصار قيصر وعلى أتم استعداد لتنفيذ رغباته جميعًا، غير أنه كان يوجد كذلك في السناتو بل بين أقرب المقربين إلى قيصر أعضاء يؤمنون إيمانًا قويًا بالنظام الجمهوري. والأمر الثالث هو أن استخدام حيل النبوءات لتحقيق أهداف سياسية كان أمرًا معروفًا، وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال النبوءة التي زعم أنه عثر عليها في الكتب السيبولية في عام 56 لإنقاص قدر مهمة إعادة بطلميوس الزمار لكي يزهد بومبي في هذه المهمة.

ولابد لنا من أن نلغي عقولنا نتصور أنه لم تكن لقيصر يد في العثور على هذه النبوءة الغامضة وفي تفسيرها على نحو ما مر بنا وفي إذاعة السر قبل إبلاغه إلى السناتو. ولو صح حقًا أن قيصر كان بريئًا من ذلك كله، وأنه كان لا يتطلع إلى إقامة النظام الملكي، لما اجترأ قوتًا على إذاعة سر النبوءة، ولما كان هناك أيسر على قيصر من أن يصرح بعدوله عن القيام بحرب يقتضي النصر فيها هدم النظام الجمهوري وإقامة النظام الملكي الكريه على أنقاضه، وبأنه بدلاً من القيام بهذه الحرب سيولي عنايته إلى استكمال إعادة بناء الدولة.

ويبدو لنا أن قيصر قد هدف من وراء تدبير مسألة النبوءة المزعومة وإذاعة سرها إلى تحقيق هدفين ينيران له معالم الطريق نحو ضالته المنشودة. وأحد هذين الهدفين هو أن يدخل في روع الجماهير أنه بعد أن رفض الملكية عندما عرضها عليه البشر لم يعد في وسعه إلا الإضرار إلى الاستجابة إلى ما أوحت به الكتب السيبولية المقدسة من أجل أن يؤدي للدولة واجبًا يقتضيه تطهير الشرف الروماني من الدنس الذي لحقه بهزيمة قراسوس، وتستوجبه حماية الحدود الشرقية، وبذلك يسترد الرومان كرامتهم وتنعم الإمبراطورية بالسلم والرخاء. ألا يذكرنا ذلك ببعض المبررات الفلسفية التي كانت الملكية الهلينيسية تستند عليها؟ والهدف الآخر هو أن يتعرف على نوايا الجمهوريين بعد النبوءة.

ويبدو أن حيلة النبوءة لم تنطل على أولئك المستمسكين بالنظام الجمهوري، وأن ذلك م يثن قيصر عن المضي قدمًا نحو هدفه ولكن على مهل. ذلك أنه عجل استعداداته لمحاربة بارثيا، وفي الوقت نفسه أخذ عملاؤه يدعون إلى ضرورة المناداة به ملكًا على الشعوب الخاضعة لروما. ومعنى ذلك أنه تنفيذًا للنبوءة كان لابد من أن يحارب قيصر البارثيين بوصفه ملك الشعوب التابعة لروما ولكن دون أن يكون ملك الرومان مراعاة لمشاعر الجمهوريين.. بيد أن مجيء هذه الدعوة في أعقاب ما سبقها من النذر على اتجاه قيصر نحو الملكية أقنع الجمهوريين بأنه إذا كان قيصر قد رأى من الحكمة أن يتمهل في إقامة الملكية في روما يومئذ، فإنه سيفعل ذلك حتمًا، إن عاجلاً أو آجلاً، بعد الفراغ من قهر البارثيين، وذلك فإنهم دبروا المؤامرة التي أجهزت على قيصر في منتصف مارس عام 44 قبل خروجه لمحاربة البارثيين بأربعة أيام.

وأنه لاشتراك رجلين مثل تربونيوس ودقيموس بروتس في مؤامرة اغتيال قيصر دلالة بالغة تفسر لنا سبب الحذر الذي توخاه قيصر في تحقيق غايته المنشودة وكذلك ماهية هذه الغاية. ذلك أن هذين الرجلين كانا أكثر المقربين إلى قيصر ومن أكثر الذين أفادوا من صلتهم به وكذلك من أكثر المتحمسين للنظام الجمهوري. وعندما تكشف لهما بحكم صلتهما الوثيقة بقيصر تصميمه على تحويل النظام الجمهوري إلى نظام ملكي هان عليهما كل شيء في سبيل الحفاظ على النظام الجمهوري.

وفي ضوء ما عرضناه يبدو لنا أن قيصر سعى سعيًا حثيثًا في السنة الأخيرة من حياته إلى أن يقيم في روما ملكية من الطراز الهلينيسي، أي ملكية تقوم على ح الملوك الإلهي.

وعندما أجهز الجمهوريون على قيصر أجهزوا كذلك على الآمال التي كانت كليوباترا تعقدها عليه، ومن ثم فإن مركزها في روما أصبح محفوفًا بالمخاطر. فقد كان يكفي صدور قرار من السناتو بضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية لتعتبر كليوباترا في حكم الملوك المقهورين وعرضه لأن تودع في غياهب السجن. فلا عجب أن استبد بها الخوف وفرت فجأة إلى مصر في أوائل شهر إبريل. فقد كتب شيشرون إلى صديقه أتيقوس في منتصف ذلك الشهر وأعرب له عن ابتهاجه بفرار الملكة. وفي هذا أبلغ تفنيد لمزاعم سويتونيوس بأن قيصر أعاد كليوباترا إلى مملكتها وسط مظاهر الإعزاز وفيض من الهدايا.

كليوباترا تشكر معها ابنها:

ويقول ديون قاسيوس أنه بعد عودة كليوباترا من روما بقليل، أشركت ابنها معها في الملك وعملت على أن يعترف به الرومان أو على الأقل أنصار قيصر ملكًا شرعيًا، إذ أنها في أثناء مفاوضاتها مع دولاً بلا أصرت على ذلك لقاء حصوله على محالفتها والعون الذي كان أنصار قيصر في حاجة إليه لمحاربة الفريق الآخر، على نحو ما سنرى. ويرينا معبد دندرة كليوباترا في صورة الإلهة المصرية حتحور، ومعها ابنها قيصرون في شكل فرعون، ومع ذلك فإن كليوباترا لم تؤرخ الوثائق بسني حكم ابنها. ويقول المؤرخ يوسف أن بطلميوس الرابع عشر توفي في الإسكندرية مسمومًا في الخامسة عشرة من عمره، فقد كان لا يتورع أحد من أفراد أسرة البطالمة عن ارتكاب جريمة مفيدة. ويعزو بورفوريوس إلى تدابير كليوباترا وفاة هذا الصبي في العام الرابع من حكمه الموافق لعامها الثامن، ولذلك إذا كان يبدو من وثيقة بردية بتاريخ 26 من يوليو سنة 44 أنه كان لا يزال عندئذ على قيد الحياة، فلابد من أنه لم يعمر بعد هذا التاريخ طويلاً.

تكوين الحكومة الثلاثية الثانية:

وإزاء الهلع الذي دب في نفوس الناس عقب مقتل قيصر، وإزاء ما أظهره المتآمرون من التردد، تمكن القنصل أنطونيوس من السيطرة تدريجيًا على ناصية الحال في روما. ولما كانت وصية قيصر وأوراقه في قبضة أنطونيوس، فإنه كان في وسعه أن يتكلم باسم الدكتاتور، لكنه كان عليه أن يتفق مع أوقتافيانوس، وكان حفيد الأخت الصغرى لقيصر، وبمقتضى وصيته ابنه بالتبني ووريثه. ولما كان من العسير التوفيق بين أطماع أنطونيوس وآمال أوقتافيانوس، فإن العلاقات بينهما فسدت إلى حد الاصطدام بالسلاح، وكان النصر لأوقتافيانوس عند موتينا (Mutina) في إبريل عام 43. لكنه بعد هذا النجاح، ارتكب السناتو مع أوقتافيانوس الخطأ نفسه الذي ارتكبه فيما مضى مع بومبي وقيصر، إذ أنه لم يسمح للشاب المنتصر بترشيح نفسه لمنصب القنصلية، وكان من جراء ذلك أن أوقتافيانوس زحف على روما بجيشه وانتخب قنصلاً في 19 من أغسطس عام 43، وأنه لم يلبث أن تقرب إلى أنطونيوس وحليفه لبيدوس (Lepidus)، حاكم ولايتي الغال وأسبانيا القريبة، وأفضى هذا التقرب إلى تكوين الحكومة الثلاثية الثانية. ويمتاز تكوين هذه الحكومة بأنه كان تكوينًا رسميًا بقانون (27 من نوفمبر عام 43)، وبأنه تقرر دوام هذه الحكومة حتى شهر يناير عام 37. وقد تبع ذلك سيل جارف من إعدام المغضوب عليهم، وكان شيشرون بين أوائل ضحايا هذا السيل (7 من ديسمبر عام 43) جزاء دفاعه الحار عن الجمهورية وهجومه العنيف على أنطونيوس الذي اتهمه بمحاولة إقامة دكتاتورية عسكرية. ولما كان شيشرون قد نصب نفسه للدفاع عن الحرية الفردية والقيم الإنسانية النبيلة ضد بطش الدكتاتورية العسكرية على نحو ما فعل الزعيم الأثيني دموسثنيس من قبل إزاء فيليب المقدوني، فإنه أطلق على خطب شيشرون ضد أنطونيوس اسم "الفيليبيات" (Philippica)، وهو الاسم الذي عرفت به خطب دموسثنيس ضد فيليب.

وقد بادر أكثر أنصار الجمهورية إلى مغادرة روما، واستولى اثنان منهم وهما تربونيوس (C. Trebonius) وقاسيوس (C. Cassius) على ولايتي آسيا وسوريا. ولم يلبث أن جاء يمثل أنصار قيصر في الشرق ويطرد منه تربونيوس وقاسيوس رجل أحمق ضعيف يدعى دولابلا (Dolabella). وقد كان جليًا أن كلا الحزبين سيطلبان النجدة من الإسكندرية، وكان لديها أسطول كبير وكذلك الفرق الثلاث التي تركها قيصر هناك منذ عام 47.

وكان دولابلا أول من استنجد بالإسكندرية، إذ أنه أرسل يناشدها الاستعانة بأسطولها والفرق الرومانية ضد قاسيوس. ولم يكن في وسع كليوباترا إلا أن تنحاز إلى جانب أنصار قيصر، لكنها لم تكن متأكدة بعد من نتيجة الصراع بين الفريقين، ولذلك فإنها استجابت إلى هذا الطلب غير أنها لم ترسل إلا الفرق الرومانية، وهي التي ما كادت تصل إلى سوريا حتى انضمت إلى قاسيوس بدلاً من دولابلا. وقد حالف التوفيق دولابلا ضد تربونيوس ولكنه فشل في صراعه مع قاسيوس ودفع حياته ثمنًا لذلك. وإذا كانت كليوباترا ضد ضنت بأسطولها على دولابلا، فإنها لم تكن أكثر سخاء به مع قاسيوس حين طلب إليها الاستعانة به على خصومه.

إن كليوباترا، على عكس ما كان ينتظر منها، لم تمد أنصار فقيدها المحبوب بأية مساعدة من قوتها ومواردها – جنود أو سفن أو مؤنة. وما سبب إتباع كليوباترا هذه السياسة؟ السبب هو أنها لم تحب إلا مملكتها ولم ترع إلا مصلحتها، فهي لم تشأ الزج بنفسها وتبديد قواتها ومواردها والمقامرة بمصيرها ومصير مملكتها في حرب لم يكن في وسع أحد التنبؤ بنتيجتها النهائية. فما أشبه سياستها هذه بسياسة أجدادها الفاتحين العظام بطلميوس الأول والثاني والثالث.

وإذا كانت هذه السياسة التي اتبعتها كليوباترا قد بدت حكيمة طوال الوقت الذي لم يكن في وسعها التنبؤ فيه بالنتيجة النهائية، فإنها – بعد انتصار أنطونيوس وأوقتافيانوس آخر الأمر على الجمهوريين في موقعة فيليبي (خريف عام 42) – قد عرضت كليوباترا لعقاب القائدين المنتصرين. وبعد موقعة فيليبي، عهد إلى أنطونيوس بتنظيم شئون الشرق، وذهب أوقتافيانوس إلى إيطاليا ليوزع الأراضي بين جنوده القدماء.

أنطونيوس:

وقد كان أنطونيوس ينتمي إلى أسرة شعبية قديمة أنجبت للجمهورية الرومانية بعض الرجال الممتازين، لكننا لا نعرف شيئًا عنه إلا من ناقديه، وخاصة من المثالب التي ضمنها شيشرون خطبه العنيفة المشهورة ضده. وقد نال التاريخ الرسمي في عهد أغسطس من قيمة كل ما يتصل بكليوباترا فيما عدا قيصر، ومن المؤكد أن آداب العصور التالية تأثرت إلى مدى بعيد بهذا التاريخ. ومع ذلك فإنه من المحقق أن حياة أنطونيوس الخاصة كانت معيبة، وأنه لم يكن له ميل حقيقي إلا إلى الفجور. وقد بلغ به الاستهتار إلى حد أنه وضع كتابًا عن مغامراته الفاسقة، لكنه كان شجاعًا وقديرًا على عقد أواصر الصداقة وكريمًا مع أصدقائه. وقد كانت حياته في الجيش خيرًا من حياته الخاصة، ومن الدور السياسي الذي لعبه في التاريخ الروماني، إذ أنه كان في شبابه ضابطًا نابهًا في فرق الفرسان، ميز نفسه في الأعمال الحربية التي انتهت بإعادة تنصيب هورقانوس الثاني كاهنًا أكبر في بلاد اليهود. ويحتمل أنه ميز نفسه إلى درجة أكبر في الحملة التي أعادت بطلميوس الزمار إلى عرشه. وبعد ذلك اشترك مع قيصر في عدة حملات، وكان قائد الجناح الأيسر لجيشه في موقعة فارسالوس. وفي دكتاتورية قيصر الثانية بين قائدًا للفرسان، لكنه استأنف في روما حياته العابثة، وأثارت علاقاته بإحدى الراقصات (Cytheris) فضيحة كبيرة، إلى حد أن قيصر العابث اعتبر سلوكه مشينًا ولم يختره زميلاً له في قنصلية عام 46، ولا قائدًا للفرسان في دكتاتوريته الثالثة، ولم يأخذه معه إلى أفريقيا ولا أسبانيا. فبقى في إيطاليا، حيث تزوج فولفيا (Fulvia)، أرملة الشرير قلوديوس، وكانت امرأة شرسة عنيفة حقودًا، لكنه يبدو أنها كانت تحمل لأنطونيوس حبًا حقيقيًا. وبعد ذلك اكتسب عطف قيصر ثانية، فانتخب قنصلاً معه في عام 44 ثم قام بالأدوار التي مر بنا ذكرها.

والآن عندما أصبح هذا الرجل المحب للملاذ سيد الشرق، وهو في الأربعين من عمره، سولت له نفسه أن يستغل مركزه وظروفه ليفترس كليوباترا ولكن فريسته هي التي افترسته على نحو ما سنرى. ومن الإنصاف لكليوباترا، يجب أن نقرر أنه للمرة الثانية وضعتها ظروف قاهرة تحت رحمة ذئب كاسر، وأن الدافع الأساسي إلى علاقاتها مع قيصر ثم أنطونيوس لم يكن إرضاء شهواتها الجنسية، بل إشباع أطماعها السياسية عبر مكمن الضعف فيهما، وأنها لم تكن خليلة لهما بل اعتبرت نفسها رسميًا زوجة للأول، وفقًا للأوضاع المصرية، وكادت أن تصبح زوجته وفقًا للأوضاع الرومانية، وسنرى كيف أن الثاني اتخذها فعلاً زوجة له.

أنطونيوس يصل أفسوس لتنظيم شئون الشرق:

وعندما وصل أنطونيوس إلى أفسوس بعد موقعة فيليبي ببضعة شهور، استقبل كأنه صورة حية للإله ديونوسوس. ويرى البعض أن الأهالي، وقد كانوا يعرفون ميله إلى المجون، آملوا أن يلهوه بذلك عن شئونه الجدية. ولعل أن أنطونيوس قد انغمس في هذا التنكر الديونوسي، الذي صاحبه عشر سنوات حتى نكبته في عام 31، مدفوعًا بميوله الشخصية، فضلاً عن إدراكه أن صفة الحكام السماوية في الشرق هي التي كانت تبرر سلطانهم، فلم يظهر لرعاياه الشرقيين على هيئة ممثل عظمة روما، بقدر ما ظهر لهم على هيئة صورة حية لديونوسوس. ولماذا اختار أنطونيوس ديونوسوس بدلاً من هرقل، وكان يكن له حتى هذه اللحظة إخلاصًا خاصًا يتناسب معه بوصفه جنديًا؟ حقًا أن ديونوسوس كان إله "الاستعمار الآسيوي" الذي اقتفى الاسكندر أثره بل تجسده برهة، لكنه كان أيضًا أقرب آلهة الإغريق إلى الإله أوزيريس المصري، وكانت أسرة البطالمة تزعم أنها من سلالة ديونوسوس، مما حدا ببعض الباحثين إلى التساؤل إذا لم يكن مشهد أفسوس قد دبر بأكمله في بلاط كليوباترا. وعلى كل حال فإن كليوباترا سرعان ما قامت بالدور الذي يلائمها في الدراما التي بدأت على هذا النحو في آسيا الصغرى.

أنطونيوس الصائد يقع في شباك الصيد (كليوباترا):

ومن أفسوس أرسل أنطونيوس يستدعي الحكام، الذين حامت حولهم الشبهات في خلال الصراع مع الجمهوريين ليبرروا تصرفاتهم، لكن كليوباترا لم تلب الدعوة أول الأمر. وبينما كان أنطونيوس ينظم شئون الشرق، انتظر في قلق ملكة مصر. وعندما طال به الانتظار، أرسل إليها على عجل رفيق مجونه دليوس (Q. Dellius) ليستحثها على لقاء أنطونيوس في قيليقيا. وهكذا وجدت كليوباترا نفسها مرة ثانية في موقف يضطرها إلى الاختيار بين أمرين: إما أن ترفض الذهاب إلى صاحب الأمر والنهي فتجلب على نفسها نقمته وما يستتبعه ذلك من ضياع عرشها وتبديد كل آمالها، وإما أن تقبل الذهاب وما يستتبعه ذلك حتمًا من استباحة عرضها. ولما كان عرشها عزيزًا عليها وآمالها واسعة، وكانت تعرف مدى فعالية أسلحتها الذرية الشخصية وكذلك مكمن الضعف في أنطونيوس، فإنها قررت أن تلبي أمره وأن تحاول معه ما حاولته مع قيصر من قبل. ولم تلبث "أفروديتي الجديدة" أن ذهبت تزور "ديونوسوس الجديد" وسط العطور العبقة والموسيقى الشجية وبين غوان تمثلن آلهات الحب وعرائس البحر، وتحت خوان فخم أقيم على متن سفينة مقدمها من الذهب، وقلاعها من القماش الأرجواني اللون، ومقاذيفها من الفضة، سارت بها حتى طارسوس. وقد سحر لب أنطونيوس كل هذا التبرج والجمال، وتلك المآدب الليلية الرقيقة التي أقامتها له كليوباتر، فوقع في الحال أسير هواها، وقبل وهو مغمض العينين ما قدمته له تفسيراً لتصرفاتها.

وقد ساعد على ذلك ضعف أنطونيوس الخلقي وما توافر لكليوباترا من أسباب الفتنة التي سلفت الإشارة إليها. ولا يبعد أنه قد جعل هذه الفتنة أشد فتكًا بأنطونيوس أن كليوباترا كانت ملكة، في حين أن كل حظياته وحتى زوجاته الثلاث كن نساء من عامة الشعب. وسارعت كليوباترا إلى استغلال وده لإشباع أحقادها، إذ أنها أقنعته بإعدام أختها أرسينوي، وكانت لاجئة في معبد أفسوس، مع أن أنطونيوس كان قد اعترف بحق هذا المعبد في حماية اللاجئين إليه وأكد ذلك الحق واحترمه حتى تلك اللحظة. وعندما ثأرت كليوباترا لنفسها، ووطدت مركزها على هذا النحو، كان في وسعها أن تعود إلى الإسكندرية لتنتظر في اطمئنان وصول مطيتها الجديدة.

أنطونيوس يخف إلى الإسكندرية:

وقد سارع أنطونيوس إلى إنجاز تنظيم شئون سوريا، وترك أحد مساعديه في هذه الولاية التي كان البارثيون يتهددونها، وخف إلى الإسكندرية ليستمتع بتلك الحياة البهيجة، التي شدت وثاق قلبه وعقله إلى كليوباترا والإسكندرية على الدوام. ومثل ما وجدت في عهد فيلوباتور رابطة "إخوان الأنس"، وجدت منذ ذلك الوقت (شتاء عام 41-40) حول أنطونيوس وكليوباترا جماعة "الحياة الفريدة"، وهي التي بقيت ذكراها في الآداب وفي النفوس. لكنه لا شك في أن الناس قد بالغوا في وصف حياة هذين العاشقين، إذ أنه لا يعقل مثلاً أن كليوباترا في عبثها ودلالها كانت تذيب اللؤلؤ في الخل وتشربه، وذلك لسبب بسيط جدًا وهو ان الخل لا يذيب اللؤلؤ. ومع ذلك فإنه من المؤكد أن كليوباترا لم تدخر وسعًا في جعل أنطونيوس لا يستطيع الاستغناء عنها، لتضمن بقاء حكمها في مصر وتمهد السبيل إلى ما هو أعظم من ذلك، فكانت رفيق أنطونيوس الأنيس في كل ما يفعله، سواء في الصيد أم القنص أم سهر الليالي، إلا أنها كانت لا تفتأ تذكره بأن هذا العبث لم يكن خليقًا بشخص مثله يجب ألا يعني إلا بالمجد والسلطان وبناء الإمبراطوريات. ولو أنه كانت لأنطونيوس أخلاق غير تلك التي عرفت عنه، لربما بدت لنا كليوباترا في صورة مختلفة تمام الاختلاف، وما عرفنا عن حياتها الخاصة إلا أنها كانت صديقة العلماء مثل العالم الرياضي فوتينوس والطبيب المشهور ديوسقوريديس والفلكي سوسيجنيس. بيد أنه لما كان أنطونيوس رجلاً عابثًا ماجنًا، وكانت سياسة كليوباترا قد فرضت عليها أن تلازمه كخياله، فإن حياته العابثة ألقت ظلاً قاتمًا على هذه الملكة، التي تعزو إليها القصص أنها ألفت كتابًا عن تصفيف الشعر وأصباغ الوجه. ومن المحتمل أن تكون كليوباترا قد أوحت إلى أنطونيوس بالزواج منها ليضع في قبضته ثروة مصر وكل مواردها، لكنها لم تفلح عندئذ لا في الزواج منه ولا في جعله عاجزًا عن الاستغناء عنها، إذ سرعان ما انتزعته من بين أحضانها الحوادث الخارجية التي وقعت في الشرق وفي الغرب. ومن المؤكد أن أنطونيوس لم يحصل إذ ذاك على شيء من أموال كليوباترا، وكانت تحتفظ بها لهدف معين لم تشر إليه بطبيعة الحال عندئذ، لأن أنطونيوس كان لا يزال وفيًا لاتفاقه مع أوقتافيانوس.

أنطونيوس يهجر كليوباترا أربع سنوات:

وعندما غادر أنطونيوس مصر في ربيع عام 40، تغيب عنها أربع سنوات، لم تعرف كليوباترا أخباره في خلالها إلا عن طريق فلكي مصري في حاشية أنطونيوس. وقد حرص هذا الفلكي – إما بإيحاء من كليوباترا وإما بوازع من نفسه – على أن يستحث أنطونيوس على الانفصال عن أوقتافيانوس لتفوز شخصيته الرفيعة بالمجال الخليق بها. ومن المحتمل أن كليوباترا كانت تعتقد أن الأحداث السياسية ستدفع أنطونيوس إلى العودة إليها ثانية، لكن الناس لم يروا عندئذ أي سبب يبرر لذلك، ولم يروا في كليوباترا إلا حظية أخرى ألقى بها أنطونيوس جانبًا. وقد برح أنطونيوس مصر عندما علم بأن البارثيين غزوا آسيا الصغرى وسوريا، فذهب إلى صور بحرًا حيث علم بأن قوات حاكم سوريا الروماني قد ثارت عليه، ولذلك فإنه سارع إلى آسيا الصغرى لاستقدام أسطوله. وهناك علم في صيف عام 40 بأن أخاه لوقيوس وزوجه فولفيا قد تشاحنا مع أوقتافيانوس إلى حد الاشتباك المسلح، وبأن أوقتافيانوس انتصر عليهما وأسر أخاه، لكن فولفيا تمكنت من الهرب، فقرر أن يعود إلى إيطاليا في الحال. وفي طريقه التقى بزوجه في أثينا، فصب عليها جام غضبه، ولاسيما أنه علم بأنها لم تلق بنفسها في تلك المخاطرة إلا لتنتزعه من كليوباترا. ولم يفلح في تهدئة غضب أنطونيوس دفاع فولفيا بأنها لم تفعل ما فعلته إلا لتكسبه سيادة العالم، ولم يقبل أيضًا نصيحتها بمحالفة سكستوس (Sextus) بومبي، عدو أوقتافيانوس، لأن أوقتافيانوس كان لا يزال يحترم اتفاقيته معه. وقد عامل أنطونيوس زوجه معاملة قاسية وتركها غاضبًا في سيقوون، حيث خرت مريضة وتوفيت، فزالت عقبة كبيرة من سبيل التفاهم مع أوقتافيانوس.

صلح برنديزي، تقسيم العالم الروماني، أنطونيوس يتزوج أوقتافيا:

وقد علم أنطونيوس بعد ذلك بأنه عندما توفي قائده في بلاد الغال، تسلم أوقتافيانوس فرق أنطونيوس هناك، فبدا عندئذ أن أوقتافيانوس قد اعتدى على الاتفاقية، ولذلك فإنه لم يكن هناك مفر من الحرب. غير أنه لما كان يسوء الجنود والضباط وقوع حرب بين رجلي الحكومة الثلاثية، وكان أنطونيوس أكثر ميلاً إلى إلقاء التبعة على أخيه وزوجته لخوض غمار الحرب دون استشارته منه على أوقتافيانوس، فإنه قبل تفسير زميله بأنه لم يتصرف على نحو ما فعل إلا دفاعًا عن نفسه، ونجحت مساعي التوفيق بين أنطونيوس وأوقتافيانوس، وفعلاً تم الصلح بينهما في برنديزي وتنفس العالم الروماني الصعداء (أوائل أكتوبر عام 40). وبمقتضى هذا الصلح أعطى الشرق لأنطونيوس – على أن تنتهي منطقته عند شاطئ ألبانيا – وكان الغرب من نصيب أوقتافيانوس واحتفظ لبيدوس بشمال أفريقيا. وقد تزوج أنطونيوس أوقتافيا أخت أوقتافيانوس لتوكيد أواصر هذا الاتفاق (نوفمبر عام 40).

كليوباترا تنجب توءمين من أنطونيوس، أنطونيوس منهمك في مشاغله:

وفي تلك الأثناء أنجبت كليوباترا من أنطونيوس توءمين، شبها فيما بعد بالتوءمين السماويين: الشمس والقمر، ولذلك سميا اسكندر هليوس (Helios = الشمس) وكليوباترا سليني (Selene = القمر) لكنه إزاء زواج أنطونيوس من أوقتافيا، بدا أن ستار النسيان قد أسدل على كليوباترا، ولاسيما أن أنطونيوس عندما برح إيطاليا حوالي أغسطس أو سبتمبر عام 39 – بعد أن وضعت له أوقتافيا ابنة دعتها أنطونيا (Antonia) – واتخذ أثينا مقرًا له مدة عامين، رافقته زوجته إلى هناك. وإزاء مشاغله المتعددة لم يتيسر له أن يخف إلى آسيا الصغرى وسوريا، اللتين هجرهما وقت الخطر، واكتفى بإيفاد أحد رجاله، فنتيديوس باسوس (Ventidius Passus)، وهو الذي رد البارثيين على أعقابهم بعد أن أنزل بهم هزيمتين، إحداهما في عام 39 والأخرى في عام 38. وفي شتاء عام 38 جاء أنطونيوس نداء حار من أوفتاقيانوس يناشده فيه بمدد بحري يشد أزره في صراعه مع سكتوس بومبي، فذهب إليه أنطونيوس في ربيع عام 37 ومعه أوقتافيا وكل أسطوله. لكنه وجد أن أوقتافيانوس، وقد بنى لنفسه أسطولاً جديدًا في الشتاء، لم يعد في حاجة إلى مساعدته. وقد كان أنطونيوس في حاجة ملحة إلى استكمال حملاته ضد بارثيا ولم يكن في وسعه الحصول على حاجته دون مساعدة أوفتاقيانوس، وكان يأمل أن يستبدل بسفنه ما يحتاج إليه من فرق رومانية. ولما كان أوقتافيانوس قد سمع أن أنطونيوس يتفاوض سرًا مع لبيدوس، فإنه غضب منه وخامره الشك في نواياه ورفض مقابلته.

معاهدة تارنتم، تجديد مدة الحكومة الثلاثية:

وعندما أخذت الأيام تمر بطيئة دون حدوث شيء، قابلت أوقتافيا أخاها وفندت كل شكواه وشكوكه من ناحية زوجها وأفلحت في إزالة ما بينهما من خلاف كان ينطوي على خطر اندلاع حرب أهلية، والتقى الرجلان بالقرب من تارنتم حيث عقدت معاهدة جديدة جددت بمقتضاها الحكومة الثلاثية لخمسة أعوام أخرى، دون استشارة الشعب الروماني هذه المرة (صيف عام 37). لكن هذه المعاهدة لم تكن إلا هدنة مؤقتة، ذلك أن أنطونيوس عندما ترك إيطاليا في خريف عام 37 إلى بلاد الإغريق، كان قد أعمل رأيه على أنه لم يعد هناك مفر من القطيعة بينه وبين أوقتافيانوس، إذ شعر بأنه برغم احترامه كل اتفاقياته مع أوقتافيانوس فإن أوقتافيانوس لم يحترم هذه الاتفاقيات. وكان آخر مثل لذلك اتفاقهما في تارنتم على أن يمد أنطونيوس زميله بحوالي 120 سفينة لقاء الحصول على أربع فرق عسكرية، وقام أنطونيوس بتنفيذ ما عود بعد ونكوص أوقتافيانوس عن الوفاء بوعده. ويضاف إلى ذلك أن أنطونيوس سئم عفاف أوقتافيا، وأخذ يتحرق شوقًا إلى كليوباترا، فقد كان في وسعها مجاراته والانحطاط إلى درك حياته. ولذلك فإنه، عندما وصل إلى جزيرة قورقورا، رد أوقتافيا إلى إيطاليا بحجة اقتراب موعد وضعها، وعدم رغبته في تعريضها لمخاطر الحملة، التي كان ينتوي القيام بها ضد البارثيين.

أنطونيوس يتزوج كليوباترا ويعترف بالتوءمين:

وما كاد أنطونيوس يصل إلى أنطاكية حتى استدعى كليوباترا إلى جانبه، وتزوجها في الحال (خريف عام 37)، واعترف بالتوءمين وأطلق عليهما: اسكندر هليوس، وكليوباترا سليني. وقد أصبحت كليوباترا في نظر الجميع، شرقي الأدرياتي، زوجة أنطونيوس الشرعية، لكن الرومان لم يعتبروها كذلك، لأن أنطونيوس لم يطلق بعد أوقتافيا، ولأن كليوباترا كانت أجنبية، وبمقتضى القانون الروماني كان لا يستطيع أي مواطن روماني أن تكون له زوجتان في وقتواحد، ولا أن يعقد زواجًا صحيحًا على أجنبية. ويعتبر زواج أنطونيوس من كليوباترا نقطة التحول في مجرى حياته، وبداية القطيعة مع الغرب، لكنه لم ينو عندئذ مهامة أوقتافيانوس، فقد كان هدفه الأول حينذاك محاربة البارثيين، إذ أن انتصاره عليهم كان يجعله وريث قيصر الحقيقي، ويكسبه مكانة تفوق كل ما كان يمكن أن يفوز به أوقتافيانوس. وإذا كان البعض يعتقد أن أنطونيوس لم يتزوج كليوباترا إلا لاستخدام ثروة مصر ومواردها في محاربة البارثيين، فإننا نميل إلى الرأي القائل بأنه لم يتزوجها إلا بدافع الحب، لأنه لم يستخدم موارد مصر في هذه الحرب، وهي التي كانت كليوباترا لا توافق عليها. وإذا قيل أنه لم يحل دون استخدامه موارد مصر إلا عدم موافقة كليوباترا على محاربة البارثيين، فهذا قولمردود، لأنه إذا كان الدافع إلى زواجه من كليوباترا هو استخدام ثروة مصر، وإذا كانت كليوباترا هي التي أبت عليه استخدام ثروة بلادها في هذه الحرب، فإنه لم يكن هناك أيسر على أنطونيوس من خلع كليوباترا والفوز لا بثروة مصر فحسب بل كذلك بتهليل العالم الروماني. ومن ثم فإنه يتضح بجلاء أنه لو كان ثروة مصر هي كل ما يرجوه أنطونيوس، لما كان في حاجة حتى إلى الزواج من كليوباترا. ولذلك نعتقد أن أنطونيوس لم يتزوج كليوباترا إلا بدافع الحب. وأما كليوباترا فإنها لم تنشد الزواج من أنطونيوس ولم تتفان في الإخلاص بدافع الحب وإنما بدافع استخدامه في تحقيق الحلم الذي مر بمخيلتها، في أثناء علاقتها مع قيصر. وفي رأي بعض الباحثين أن حب أنطونيوس لكليوباترا دفعه إلى أن يسلس لها القياد، ويتبعها إلى الهاوية مغمض العينين، فأضاع في سبيل الحب نصف العالم الروماني. وسوف يفضح سرد الأحداث التالية مدى ما في هذا الرأي من إسراف ومجافاة للحقيقة وهي التي بذل خصوم كليوباترا جهدهم لطمس معالمها.

كليوباترا تستعيد جانبًا كبيرًا من إمبراطورية فيلادلفوس:

وإذا كانت كليوباترا قد طلبت، بمجرد زواجها من أنطونيوس، أن تكون هدية الزواج إعادة بناء إمبراطورية البطالمة، فإن أنطونيوس لم يستطع أن يمنحها إلا ما كانت الظروف تسمح به. ذلك أنه منحها إمارة خالقيس (Chalcis) وكل الأقاليم الممتدة بين هذه الإمارة وبين مملكة هرود (يهوذا وجاليلي)، وكانت تلك الأقاليم تشمل كل سوريا الوسطى، وأعطاها أيضًا قيليقيا – تراخيا (Cillicia-Tracheia) وقبرص، والجانب الأكبر من شواطئ فلسطين وفينيقيا، فيما بين مصر ونهر اليوثروس.

وإذا كان أنطونيوس قد أبى على كليوباترا كل مملكة هرود، وكان تابعه وصديقه الوفي، فإنه أعطاها أفضل جزء من هذه المملكة، وهو غابات البلسم حول أريحة، وكانت ذات أهمية تجارية كبيرة، وكذلك فيما يبدو الأراضي الواقعة شرقي البحر الميت، مع حق احتكار قطران هذا البحر.

ونتيجة لذلك كله، استعادت كليوباترا جانبًا كبيرًا من إمبراطورية بطلميوس الثاني فيلادللفوس، فلا عجب أنها عندما أنجبت لأنطونيوس ولدا في عام 36 – في أثناء وجوده في ميديا – دعت هذا الطفل بطلميوس فيلادلفوس، تخليدًا لذكرى استعادة إمبراطورية هذا الملك. وقد أجرت كليوباترا إلى هرود حق استغلال غابات البلسم، وإلى مالخوس أمير النبط حق استغلال القطران.

ومنذ عام 36ق.م نجد الوثائق البردية والعملة في مصر وكذلك في سوريا مؤرخة بسني عهدين لا شك في أن أحدهما هو عهد كليوباترا منذ اعتلائها عرش مصر. وأما العهد الآخر فإن أكثر الباحثين اليوم يأخذون برأي بورفوريوس، ويرون أنه عهد كليوباترا باعتبارها ملكة خالقيس وغيرها من الأقاليم الآسيوية التي حصلت عليها في العام السادس عشر من حكمها (عام 36). ونحن نعتقد أن كليوباترا – وقد استعادت على هذا النحو جانبًا كبيرًا من إمبراطورية بطلميوس فيلادلفوس – خلدت هذه المناسبة الهامة بإطلاق اسم هذا الملك على ابنها الذي أنجبته في عام 36، وباعتبار هذا العام بداية عهد جديد في حكمها. وقد دام هذا التاريخ المزدوج حتى القضاء على أنطونيوس وكليوباترا في عام 30ق.م وهو السنة الثانية والعشرين من عهد حكمها مصر المقابلة للسنة السابعة من عهد حكمها ممتلكاتها الآسيوية.
أنطونيوس يقود حملة فاشلة ضد بارثيا:


وقد قضى أنطونيوس شتاء عام 37-36 في تنظيم آسيا الصغرى والاستعداد للحملة ضد باثيا. وعندما ترك سوريا في ربيع عام 36 لينضم إلى جيشه، صحبته كليوباترا حتى نهر الفرات، ثم عادت إلى الإسكندرية لتضع طفلها. وفي الطريق مرت بهرود، وكان يبادلها كراهية شديدة لكنه حرص على أن يدفع لها حقها كاملاً عن استغلال غابات البلسم ويغرقها بالهدايا الثمينة ويرافقها حتى الحدود المصرية.

وقد كانت الحرب البارثية نكبة على أنطونيوس، فهو وإن كان قد أعد جيشًا عرمًا كان أكبر جيش تولى قيادته قائد روماني، إلا أنه أهمل اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتأمين سلامة مثل هذه الحملة، مما أتاح له أن ينقض على قوات المؤخرة التي كانت تحمي المؤنة ومعدات الحصار، وأن يفني تلك القوات ويحرق تلك المعدات، مما اضطر أنطيوخوس آخر الأمر إلى القيام بانسحاب مشئوم كلفه خسائر فادحة. وفي أثناء ذلك الانسحاب أرسل إلى كليوباترا يناشدها أن توافيه في سوريا بملابس وأموال يستعين بها على الترفيه عن رجاله بعد كل ما عانوه. وبالرغم من صعوبة الملاحة في الشتاء، فإن كليوباترا خفت إلى لقاء أنطونيوس عند القرية البيضاء بالقرب من صيدا حاملة كميات وفيرة من الملابس والأموال. وبعد أن يروى بلوتارخ ذلك، يمضي فيقول:

"بيد أن بعض الناس يقولون أن أنطونيوس لم يأخذ من كليوباترا إلا الملابس، وأما الأموال فإنه أخذها من أمواله الخاصة لكنه وزعها على الجنود باعتبارها هبة من كليوباترا".

ويقول ديون قاسيوس أن الأموال التي قدمتها كليوباترا لم تكن كافية فسد أنطونيوس النقص من أمواله الخاصة وعزا الفضل كله إلى كليوباترا، وبعد ذلك عاد أنطونيوس مع كليوباترا إلى مصر في أوائل عام 35.

وقد أبلغ أنطونيوس روما أنه انتصر على البارثيين، فاحتفلت العاصمة الرومانية بهذا النصر، لكن أوقتافيانوس وأخته كانا يعرفان الحقيقة. وكانت أوقتافيا ترى أن زواج أنطونيوس من كليوباترا لم يغير مركزها بوصفها زوجته. وعندما علمت أنه في حاجة إلى المساعدة، برحت إيطاليا في مارس عام 35 ومعها مقادير كبيرة من المال والملابس، وغير ذلك من حاجات الجيش، و2000 جندي من الجنود المختارين. ويقول بلوتارخ أن أوقتافيانوس لم يسمح لأخته بالسفر إلى زوجها إرضاء لها، وإنما لكي يتخذ سببًا للحرب ما قد يلحق بها من الإهانة والازدراء. بيد أنه لعل أوقتافيانوس كان يقصد بذلك دعوة أنطونيوس ليترك كليوباترا ويعود إلى أوقتافيا. وعلى كل حال فإنه عندما وصلت أوقتافيا إلى أثينا، وجدت رسالة من أنطونيوس يأمرها فيها بعدم الشخوص إليه، فكان مسلك أنطونيوس مع أوقتافيا قاسيًا أشد قسوة، ومع ذلك فإنها أطاعت أوامر زوجها كأية زوجة فاضلة وأنفذت إليه مبعوثًا ليسأله عن الجهة التي يريد أن ترسل إليها ما أعدته له من إمدادات.

وبطبيعة الحال أثار مسلك أنطونيوس غضب أوقتافيانوس، فأمر أخته بترك بيت أنطونيوس لكنها رفضت وظلت في بيت زوجها ترعى أولاده، سواء أكانوا منها أم من فولفيا. فلا عجب أن كان تجردها عن الأنانية، وهو الذي لمسه الرومان عن كثب، قد آذى إلى حد بعيد مكانة أنطونيوس في نفوسهم، وإن كان إلحاق الأذى به آخر ما كانت أوقتافيا تفكر فيه أو تتمناه.

كليوباترا توحي إلى أنطونيوس بضرورة محاربة أوقتافيانوس:

وحين باء أنطونيوس بهذا الفشل المزري، ابتسم الحظ لأوقتافيانوس، ذلك أن أحد قواده، أجريبا، هزم سكستوس بومبي وأعاد الأمن ثانية إلى البحر اللاتيني (سبتمبر عام 36). وبعد ذلك مباشرة حاولة لبيدوس، العضو الأشل في الحكومة الثلاثية، أن يثبت وجوده فأخضعه أوقتافيانوس وأرغمه على الاستقالة من الحكومة الثلاثية. وتبعًا لذلك فإن لبيدوس حرم أفريقيا – وهي التي ضمها أوقتافيانوس إلى منطقة نفوذه – ونفى إلى قرقى حيث قضى بقية أيامه في هدوء.

ويبين أن هذا النجاح المزدوج، الذي أحرزه أوقتافيانوس، قد ملأ نفس أنطونيوس الكليمة حزنًا وأسى، فانتهزت كليوباترا هذه الفرصة لإقناع أنطونيوس بمشروعاتها. ويدل مجرى الحوادث على أنها أفلحت في ذلك، ولكن بعد فوات الأوان، حين كان مركز أوقتافيانوس لا يزال مزعزعًا، وحين كان أنطونيوس لم يرتكب بعد الحماقات التي سيأتي ذكرها واستغلها غريمه لصالحه. ولابد من أن حجة كليوباترا في إقناع أنطونيوس كانت تتلخص في أن القضاء على برثيا لم يكن واجبه الأول، لأن عدوه الحقيقي كان أوقتافيانوس، وبما أن الحرب بينهما كانت واقعة لا محالة، عن قريب أو بعيد، فإنه كان ينبغي إذن على أنطونيوس إعداد كل قواته للقيام بالحملة العظمى، بينما لا يزال هناك أمل في النجاح، حتى إذا ما قهر أوقتافيانوس، سهل عليه بعد ذلك كل شيء آخر. ولا شك في أنه كان يدفع كليوباترا إلى فتح روما عاملان رئيسيان: وأحدهما هو حب الثأر للمعاملة السيئة إلى كالتها روما لوطنها وآلها، إلى حد أن روما حطمت الروح المعنوية في أجداد كليوباترا، والآخر هو حب المجد والسيطرة. ولو أن أنطونيوس لم يتلكأ في الأخذ برأي كليوباترا وبادر إلى تنفيذ هذا الرأي حين كانت الظروف مواتية له، لربما تغير وجه التاريخ.

وهل كان كل ما يدور بخلد كليوباترا أطماع جامحة فقط، أم أنه كان وراء ذلك أيضًا هدف أسمى وأنبل أو بعبارة أخرى، هل كانت تشارك خيال أحد أنصارها، الذي تصور فيها الزعيم الذي قيض له أن يقود ثورة الشرق ضد روما، ثورة المظلوم على الظالم، لا للانتقام فحسب، بل لإنشاء عالم جديد أفضل من العالم القديم، بإنزال روما من عليائها إلى الحضيض، لتأخذ بيدها ثانية وقد طهرتها الهزيتها من أوضارها، فتشترك في عصر ذهبي يتخلص فيه العالم من الشرور والحروب، وتنتهي إلى الأبد العداوة بين الشرق والغرب، فيقفان على قدم المساواة في كنف العدالة، وفي ظلال المحبة والإخفاء؟ ليس هناك أمل في أن نقف على كل نوايا كليوباترا، لكنه إذا أصح أنها بلغت في مس تفكيرها إلى حد محاولة تحقيق آمال الاسكندر الأكبر، فإن هذا يكسبها دون شك كل تقدير وإجلال، إلا أنه لم يكن مقدرًا لها النجاح في هذه المحاولة على كل حال.

وقد كانت هناك وسيلتان لمحاربة روما وأحداهما هي استخدام الرومان أنفسهم، والأخرى هي إثارة حرب مقدسة إغريقية – آسيوية ضد روما، وهذا هو أشد ما كانت روما تخشاه. لكننا لا نعرف إذا كانت كليوباترا قد فكرت في هذه الوسيلة، وعلى كل حال فإنها لم تعن إلا بالوسيلة الأولى. ولو كان أنطونيوس يرغب حقًا منذ أول الأمر في التخلص من أوقتافيانوس، لما أتاح له الفرصة للتخلص من لبيدوس ولإنهاك قوى سكستوس بومبي. ويدل خمول أنطونيوس طوال عام 35 على أنه لم يكن يعتنق مشروع كليوباترا قلبًا وقالبًا لكنه كان يدفعه إلى ذلك شخصيتان أقوى من شخصيته، وهما من ناحية شخصية كليوباترا ومن ناحية أخرى شخصية أوقتافيانوس. ولا ريب في أن كليوباترا لم تدخر فتيلا من مواهبها العقلية والجسدية للفوز بموافقة أنطونيوس، لكنه رأى أنه يجب أولاً معاقبة ملك أرمينيا على خيانته في أثناء الحملة الماضية.

أنطونيوس يغزو أرمينيا:

ولم يغز أنطونيوس أرمينيا في خلال عام 35، لأنه إزاء نشاط سكستوس بومبي في آسيا الصغرى، اضطر أنطونيوس إلى إرسال قواته ضده، فضيقت الخناق عليه ثم أسرته وأعدمته. وفي بداية عام 34، غزا أنطونيوس أرمينيا وأخضعها واستولى على ملكها واثنين من أبنائه، فأصبحت ولاية رومانية لمدة عامين، وخطب ابنة ملك ميديا لابنه اسكندر هليوس وهو الذي اعتزم منحه أرمينيا، على نحو ما سنرى بعد قليل.

أنطونيوس يحتفل بانتصاره في الإسكندرية:

وبعد عودة أنطونيوس من فتح أرمينيا، شهدت الإسكندرية في خريف عام 34 مشهدين غير عاديين. ذلك أن أنطونيوس أقام مهرجان انتصاره في الإسكندرية، على خلاف ما جرى عليه العرف، بألا يحتفل القواد الرومان بانتصاراتهم إلا في روما، في كنف الإله العلي العظيم يوبيتر، الذي كان يقيم على تل القابيتول ويعتبر صورة مجسدة لروما. ويبدو أن كليوباترا لعبت دور يوبيتر، وأن السرابيوم قام بدور القابيتول. ويحدثنا ديون قاسيوس بأن كليوباترا جلست وسط جمع حاشد، فوق عرش طلي بالذهب وأقيم على منصة طليت بالفضة. وعندما دخل أنطونيوس الإسكندرية، راكبًا عربة النصر ويتبعه الأسرى الأرمينيون، اتجه إلى كليوباترا وقدم إليها الأسرى الملكيين، وكانوا مكلبين في سلاسل من الذهب، وعلى الرغم من الوعود والتهديدات، فإنه لم يتيسر إقناعهم بالتوسل إلى كليوباترا والركوع أمامها، إذ أنهم حيوها باسمها فقط. وقد كان ذلك موقفًا مشرفًا، أكسبهم قدرًا من الإجلال، لكنه عرضهم فيما بعد لسوء المعاملة.

ويرى البعض في إقامة أنطونيوس مهرجان انتصاره في الإسكندرية، دليلاً على أنه كان ينوي نقل عاصمة الإمبراطورية من روما إلى الإسكندرية، لكننا نرى أنه إذا كان عزم أنطونيوس قد صح على فتح روما، فإنه لم يكن هناك داع إلى نقل العاصمة منها إلى الإسكندرية. ولا نعتقد أن كليوباترا كانت تفضل هذا التغيير، إذ لا شك في أنه كان يروقها أنتتربع على عرش الإمبراطورية الرومانية في عاصمتها الأصلية، "روما الخالدة" ولا سيما أن يعزى إليها أنها كانت لا تفتأ تؤكد عباراتها بقولها أنها متأكدة منها قدر تأكدها من أنها "سوف تصدر الأحكام يومًا في القابيتول الروماني". وفي تقديري أن أقدام أنطونيوس على إقامة هذا المهرجان كان ضربًا من الحماقة أعطى خصومه أحد المعاول التي دكت شعبيته بين الرومان.

أنطونيوس يقسم الولايات الرومانية في الشرق بين كليوباترا وأبنائها:

وبعد ذلك ببضعة أيام شهدت الإسكندرية في الجمعية الشعبية، وفقًا لديون قاسيوس، أو في الجومنازيوم، وفقًا لبلوتارخ، حدثًا فريدًا كان أبلغ في دلالته من المشهد الأول. فقد أقيم على منصة عرشان مرتفعان، جلس عليهما أنطونيوس وكليوباترا. وعلى مستو أوطأ من مستوى هذين العرشين جلس على عروش أخرى قيصرون فاسكندر هليوس فبطلميوس فيلادلفوس فكليوباترا سليني. وتحدثنا المصادر القديمة بأن كليوباترا كانت في زي الإلهة إيزيس، واسكندر هليوس في زي الملوك الأخمينيين، وفيلادلفوس في الزي المقدوني. وقد بدأ أنطونيوس الحفل بمخاطبة الحاضرين، فأنهى إليهم أن كليوباترا كانت زوج قيصر، وأن قيصرون ابن قيصر الشرعي، وأن الدافع إلى ما سيفعله هو إظهار إجلاله لذكرى قيصر.

ولا شك في أن أنطونيوس رمى بالاعتراف بأن قيصرون ابن قيصر الشرعي إلى إظهار أوقتافيانوس في ثوب الشخص الذي اغتصب مكان غيره ولقبه، ولذلك فإنه كان لا يحق له التمتع بولاء الجنود له.

وبعد ذلك نادى أنطونيوس بكليوباترا ملكة الملوك، وبقيصرون ملك الملوك، على أن يحكما سويًا مصر وقبرص، وتمتد سيادتهما على ممالك أبناء كليوباترا الأخرى. ونادى باسكندر هليوس ملكًا على أرمينيا وكذلك على ميديا وبارثيا اللتين لم يفتحهما بعد، وببطلميوس فيلادلفوس ملكًا على ممتلكات مصر في سوريا وفينيقيا وقيليقيا (ويضيف ديون قاسيوس إلى ذلك كل الأقاليم الممتدة من غرب الفرات حتى الدردنيل) وبكليوباترا سليني ملكة على قورينايئة. وتخليدًا لذكرى هذا الحفل سك أنطونيوس عملة، نقشت على أحد وجهيها صورة رأسه وصورة تمثل أرمينيا المقهورة، وعلى الوجه الآخر صورة رأس كليوباترا مصحوبة بنقش نصه: "ملكة الملوك وملكة أولادها الذين هم أيضًا ملوك". وهكذا كانت كليوباترا صاحبة السيادة على كل أبنائها بما فيهم قيصرون. وأما مركز أنطونيوس في هذه الإمبراطورية، فإنه حرص على ألا يحدده، بل فضل أن يتركه مبهًما ليبقى في نظر أنصاره وجنوده الرومان مارقوس أنطونيوس الحاكم الروماني، وفي نظر الإغريق والشرقيين، الملك الهلينيسي المؤله أنطونيوس، الذي هو ديونوسوس المشبه بأوزيريس، زوج كليوباترا ملكة مصر المؤهلة، التي هي إيزيس. وإذا كان أنطونيوس لم يناد بنفسه ملك الملوك، لكي لا يغضب الرومان، فإنه كان يعتبر نفسه أكبر من ذلك، فهو الذي أقام كل هؤلاء الملوك، أي أنه كان سيدهم جميعًا ويعتبر نفسه في الواقع مليكهم الأكبر كافة. ذلك أنه في أول يناير عام 34، سك عمله نقشت على أحد وجهيها صورة رأسه، وعلى وجهها الآخر صورة رأس ابنه الأكبر الذي أنجبته له فولفيا. ومعنى ذلك أنه اعتبر نفسه صاحب عرش، وأوضح بجلاء وريثه من بعده.

وفي تقديرنا أن أنطونيوس بإقدامه على هذه التصرفات قد أغرق في ارتكاب حماقة سياسية بعد أخرى، فهو لم يكتف بإقامة مهرجان انتصاره على أرمينيا في الإسكندرية، ولا بتووزيع ولايات رومانية على كليوباترا وأبنائها، بل أوضح أنه لم يعد يقنع بالنصف الشرقي في العالم الروماني، أي أن أهدافه أصبحت لا تقف عند حد تكوين إمبراطورية شرقية تناهض إمبراطورية روما في الغرب، بل كان يعتزم أن يصبح سيد كل العالم الروماني بشقيه الشرقي والغربي، أي أن يصبح إمبراطورًا رومانيًا. وحيثما وجد أنطونيوس كان يجب أن توجد كليوباترا إلى جانبه، وتحكم هي أيضًا العالم الروماني كله، أي تصبح إمبراطورة هذا العالم. وهكذا بدا لكليوباترا بعد عشر سنين من تبديد أحلامها بمقتل قيصر، أنها أصبحت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح إمبراطورة العالم. ولكنه شتان ما بين الأماني العذبة والواقع الأجاج، فقد كان لدى أوقتافيانوس عندئذ جيش وأسطول أكبر مما لدى أنطونيوس وكليوباترا، وكان يدرك نياتهما تمامًا، غير أنهكانت تنقصه الأموال وتأييد الرأي العام، فأخذ يعمل جاهدًا لكسب الرأي العام في الغرب بحملة نكراء من الدعاية السياسية ضد أنطونيوس وكليوباترا.

أوقتافيانوس وأنطونيوس يتراشفان بالرسائل:

وقد بدأ الشجار بين أنطونيوس وأوقتافيانوس بالرسائل، إذ أنه في عام 33 – بعد أن بلغت روما أنباء مهرجان النصر الذي أقامه أنطونيوس في الإسكندرية – بعث إليه أوقتافيانوس برسالة آخذة فيها على سوء معاملته لأوقتافيا وعلاقته بملكة أجنبية وتأييده لابنها. وقد رد أنطونيوس بأنه إذا كان قد تزوج "مصرية"، فإن أوقتافيانوس كان مستعدًا لتزويج ابنته من أجنبي فضلاً عن طول باعه في العلاقات الغرامية ثم سرد له كيف أنه لم يحترم شروط اتفاقية برنديزي واعتدى مراراً على حقوقه. وعاد أوقتافيانوس فبرر تصرفاته في رسالة أخرى بعث بها إلى أنطونيوس ووصلته في خريف عام 33 حين كان في أرمينيا وكان قد خف إليها في أوائل ذلك العام، وتحالف مع ملك بونتوس ومنحه الجزء الغربي من أرمينيا، كما تحالف مع ملك ميديا على أساس أن يرد لأنطونيوس الأعلام الرومانية التي فقدت في أثناء الحملة البارثية المنكودة، وأن يقدم لأنطونيوس إمدادات من رماة السهام الفرسان، وذلك لقاء حصول ملك ميديا على جانب من أرمينيا وبعض فرق المشاة الرومانية وزواج ابنته من الإسكندر ابن كليوباترا وأنطونيوس. وقد كان ذلك كله استعدادًا للصراع المقبل ليس مع الباريثيين وإنما مع أوقتافيانوس.

ولم يخط أنطونيوس عندئذ أية خطوة نحو الاشتباك المسلح لأنه كان يريد قبل كل شيء الاتصال بالسناتو والفوز بتأييده في الصراع المقبل المحتوم. ولذلك فإنه بعث إلى أصدقائه برسالة موجهة إلى السناتو يلتمس فيها إبرام أعماله في الشرق، ويعرض استعداده للنزول عن سلطاته بوصفه أحد أعضاء الحكومة الثلاثية، إذا فعل أوقتافيانوس ذلك في الوقت نفسه. ومنذ ذلك الحين، بدأ كل من أوقتافيانوس وأنطونيوس حملات لاذعة ضد الآخر ساهم فيها أنصارهما. ولا يبعد أن جمعيات إيزيس، وكانت ذائعة الانتشار عندئذ في إيطاليا، كانت مراكز للدعاية المصرية. ووسط هذا النشاط، انتهى عام 33 وانتهت معه المدة الثانية للحكومة الثلاثية الثانية، ورأى أوقتافيانوس أنه من الحكمة أن ينسحب من روما. وفي أول يناير عام 32 تولى القنصلية اثنان من أنصار أنطونيوس وهما سوسيوس (C Sosius) وأهنوباربوس (Ca D. Ahenobarbus) وبدا أن أنطونيوس سيستطيع أخيرًا إبلاغ السناتو رسالته دون أي عقبة. لكن القنصليين لم يجرؤا على قراءة هذه الرسالة، خوفًا من إضعاف قضية أنطونيوس بتذكير السناتو والشعب الروماني بمنح أنطونيوس لكليوباترا ولأبنائها، ولذلك فإن سوسيوس اكتفى بإلقاء خطبة في مديح أنطونيوس ومهاجمة أوقتافيانوس، ولو لم يمنعه أحد ترابنة العامة لاستصدر في الحال قراراً ضده. ولم يتوان أوقتافيانوس طويلاً في مجابهة هذا الموقف. إذ أنه عاد إلى روما، ودعا السناتو إلى الاجتماع وأحاط نفسه بحرس من أصدقائه وجنوده، قبل أن يتخذ مقعده في السناتو ويدافع عن نفسه ويهاجم أنطونيوس وسوسيوس هجومًا عنيفًا، واعدًا بأن يقدم في يوم معين الوثائق التي تبرر قضيته، فلم يجر أحد جوابًا وانفض الاجتماع.

أنطونيوس وكليوباترا يحشدان قواتهما:

وقبل اليوم الذي حدده أوقتافيانوس لإبراز وثائقه، كان القنصلان وعدد غير قليل من أعضاء السناتو قد غادروا روما إلى أفسوس، حيث كان يتجمع جيش أنطونيوس منذ نوفمبر عام 33، وحيث أخذت تتجمع قواته البحرية، وحيث قضى أنطونيوس وكليوباترا شتاء عام 33/32. وقد أهدى أنطونيوس إلى كليوباترا مكتبة برجام (200.000 مجلد)، تعويضًا لها عن الكتب التي ذهبت طعمًا للنيران في أثناء حرب الإسكندرية، كما أهدى إليها كثيرًا من التحف التي كانت تزدان بها مدن آسيا الصغرى ومعابدها.

وفي أفسوس انقسم أنصار أنطونيوس بين مطالب بإبعاد كليوباترا عن أنطونيوس وبين معارض لذلك. وكاد الفريق الأول يتغلب على الثاني، إذ أن أنطونيوس طلب إلى كليوباترا الرحيل إلى مصر، لكنها رفضت لأنها كانت مصممة على الاشتراك في حربها، وسرعان ما استخدمت كل وسائلها في إقناع أنطونيوس بوجهة نظرها. وفي إبريل عام 32 نقل أنطونيوس مركز قيادته إلى ساموس، حيث نعم أنطونيوس وصحبه بسلسلة من الحفلات الموسيقية والتمثيلية والمآدب الفاخرة التي سيبقى ذكرها خالدًا أبد الدهر. وفي مايو انتقلت القيادة إلى أثينا حيث أغدقت على كليوباترا كل مظاهر التشريف، وأعلن أنطونيوس طلاق أوقتافيا. ويحدثنا ديون قاسيوس بأنه عندما علم أنطونيوس بما قرأه وقاله أوقتافيانوس في السناتو، دعا من كان معه من أعضاء السناتو إلى الاجتماع، وبعد التباحث في الأمر قرر إعلان الحرب وطلاق أوقتافيا.

وعندما ضاق بعض أنصار أنطونيوس باستسلامه لكليوباترا، وشعر البعض الآخر بأن قضيته خاسرة، أخذ الكثيرون ينفضون من حوله وينضمون إلى أوقتافيانوس.

أوقتافيانوس يستعد للحرب:

وفي تلك الأثناء، عمل أوقتافيانوس على تقوية مركزه في روما وجمع المال اللازم للحرب. وفي النصف الثاني من عام 32، علم من بعض الذين هجروا أنطونيوس أنه أودع وصيته عند الكاهنات العذارى، فاستولى عليها عنوة وقرأها للسناتو. وقد كان من بين ما قيل أن الوطنية تتضمنه: إقرار بأن كليوباترا قد أنجبت بطلميوس قيصر (قيصرون) من يوليوس قيصر، وإغداق منح عظيمة على أبناء كليوباترا من أنطونيوس، ورغبة أنطونيوس في أن يدفن في الإسكندرية حدى إذا توفي في روما. وقد أغضبت هذه الرغبة الشعب الروماني غضبًا شديدًا، لأنه رأى فيها دليلاً على أن أنطونيوس لم يعد رومانيًا وإنما أداة في قبضة امرأة أجنبية، وأنه كان ينوي نقل العاصمة إلى الإسكندرية، وإقامة كليوباترا ملكة عليهم. وقد استغل خصوم أنطونيوس وكليوباترا هذه الفرصة وكالوا لهما ولاسيما لكليوباترا التهم جزافًا، فقد رموها بكل موبقة يمكن أن يصورها الحقد والضغينة. ومنذ ذلك الحين لم ينقطع الناس عن ترديد هذه التهم التي لم يفطنوا إلى أنها ثمرة منكرة لحملة من أسوأ حملات الدعاية التي عرفها التاريخ.

ووسط سورة الغضب التي تأججت في صدور الرومان ضد أنطونيوس وكليوباترا، فاز أوقتافيانوس بتأييدهم فلم يأت شهر أكتوبر حتى كان التذمر، الذي ترتب على فرض ضرائب جديدة لمواجهة نفقات الحرب وأفضى في بعض الأقاليم إلى كثير من الاضطراب وأعمال الشغب والعنف، قد زال تقريبًا وأخذت الأموال تتدفق على الخزانة العامة. وما أن أشرف الخريف على نهايته حتى كانت إيطاليا وكذلك الولايات الغربية (صقلية وسردينية وأفريقيا وبلاد الغال وأسبانيا) قد أقسمت له يمين الولاء، فاستمد من هذا التأييد القوة ليذهب إلى آخر الشوط، فقرر حرمان أنطونيوس سلطته وحقه في تولي منصب القنصلية لعام 31، وأعلن الحرب على كليوباترا لا على أنطونيوس. وذلك من ناحية لأنه كان قد أعلن في عام 36 انتهاء الحروب الأهلية، ومن ناحية أخرى ليضمن وحدة الرأي العام ضد عدو أجنبي، ويثبت أن روما كانت تدافع عن نفسها ضد الشرق. ويبدو أنه لم يشك أحد من المعاصرين في أن ذلك كان المعنى الصحيح للصراع. ويصور لنا فرجيليوس أنه في موقعة أقتيوم كانت إيطاليا والسناتو والآلهة العظمى خلف أوقتافيانوس حين كانت الآلهة الوحشية – آلهة مصر – تحارب الآلهة الرومانية الجليلة نبتونوس ومينرفا ومارس.

أنطونيوس يتخذ موقف الدفاع:

وحين كان أنطونيوس يقضي شتاء عام 32/31 مع جيشه وأسطوله في بلاد الإغريق، كانت أساطيل أوقتافيانوس تتجمع عند برنديزي وتارنتم. وإذا كانت الاتصالات الدبلوماسية قد انقطعت بين الفريقين، فإن حملات الدعاية التي كان يشنها كل منهما استمرت على أشدها. فقد كان الموقف القانوني لكل من الخصمين ضعيفًا، ولذلك لم يدخر كل منهما وسعًا في اكتساب الأنصار له، فاستمر التراشق بالتهم ودخلت حملات الدعاية أشد مراحلها نكرًا. وبينما عيب على أنطونيوس قيامه بدور ديونوسوس واتهم بأنه معتوه ومخمور وقذف فيحق كليوباترا ومستشاريها، عيب على أوقتافيانوس قيامه بدور أبولو واتهم بالجبن وقذف في حق إله وذويه، ونسب كل من الفريقين إلى الآخر ارتكاب جرائم سياسية وجنسية. ولا يجوز إغفال هذه الحملات من تاريخ هذه الفترة فقد كان لها تأثير واضح في التواريخ التي كتبت عن هذا الصراع في خلال المائة والخمسين عامًا التالية، وكذلك فيما كتبه المحدثون لاعتمادهم على هذه التواريخ التقليدية المشوهة تشويهًا يبعدها عن الحقيقة. وليس من الإسراف في الرأي القول بأن هذه الحملات هي المسئولة عن تلك الصور التي يرينا بعضها أنطونيوس في شكل رجل ماجن مخمور لا يترك أحضان كليوباترا أحيانًا إلا للقيام بحملات فاشلة، ويرينا بعضها أوقتافيانوس في شكل رعديد فظ شيمته الغدر، ويرينا بعضها كليوباترا في شكل غانية مستهترة لا هم لها إلا إشباع رغباتها الجنسية.

وقد كانت القوات التي جمعها أنطونيوس، ليجابه بها أوقتافيانوس، تتألف من أسطول كبير يزيد عدد سفنه على 500، كان بينها 60 سفينة مصرية، ومن جيش قوامه حوالي 70.000 من المشاة و12.000 من الفرسان.وقد وصلت هذه القوات إلى ساحل البحر الأيوني، وهو حدود أنطونيوس الغربية، حوالي سبتمبر عام 32، وقضى جيشه الشتاء في معسكرات تمتد من قورقورا إلى مثوني (Methone) في مسينيا. وقد كان الجانب الأكبر من الأسطول في خليج ضيق، خليج آرتا (Arta) والجانب الأكبر من الجيش في شبه جزيرة أقتيوم، وهي الرأس الجنوبي من الرأسين اللذين يكونان مدخل خليج آرتا المؤدى من ناحية الشرق إلى خليج كبير داخلي هو خليج أمبرقيا ومن ناحية الغرب إلى البحر الأيوني. وكان مركز قيادة أنطونيوس في باتراى (Patrac)، عند مدخل خليج قورنثة، وكانت كل قواته تعتمد على المؤنة التي كانت تصل إليها من مصر وآسيا.

ومن الغريب أن يهب أنطونيوس ليتحدى أوقتافيانوس من أجل سيادة العالم، ثم يقف موقف الدفاع، إذ أنه من الطبيعي أن يلام أنطونيوس على عدم غزو إيطاليا في أوائل خريف عام 32، عندما كان مركز أوقتافيانوس لا يزال مزعزعًا هناك. ويرى بعض الباحثين أنه ربما يكون أنطونيوس قد أرغم على ذلك، لأنه كان لا يستطيع الذهاب إلى إيطاليا مع كليوباترا ولا بدونها، إذ أن اصطحابها كان يفضي إلى وقوف كل إيطاليا، بما في ذلك أصدقاؤه، جبهة واحدة ضد الملكة الأجنبية الغازية. ومن ناحية أخرى كانت كليوباترا لا تسمح له بالذهاب بمفرده، خشية أن تتمكن أوقتافيا من التوفيق بين زوجها وأخيها على حسابها هي. ولما كان أنطونيوس لا يستطيع الذهاب إلى أوقتافيانوس فإنه لم يكن هناك بد من أن يأتي إليه أوقتافيانوس، لأنه كان يفتقر إلى الأموال اللازمة لخوض غمار حرب طويلة، ومن ثم فإنه كان يود الوصول إلى نتيجة حاسمة سريعة.

وعندنا أن هذا الرأي ليس إلا اجتهادًا غير مقبول لتفسير موقف أنطونيوس الدفاعي. ذلك أنه من المسلم به أن أنطونيوس لم يحشد قواته إلا من أجل السيطرة على الغرب بما في ذلك إيطاليا بطبيعة الحال، وأن أمر ذلك لم يخف على أحد بما في ذلك أصدقاء أنطونيوس كما أنه لم يخف عليهم أن كليوباترا كانت زوجته وشريكته في حربه وستكون حتمًا شريكته كذلك في حكم الإمبراطورية الرومانية إذا انتصر على غريمه. وإذا سلمنا جدلاً بصحة الاعتبارات التي أبديت تفسيرًا لموقف أنطونيوس الدفاعي، فإن هذه الاعتبارات لا يمكن بأي حال أن تفسر إغفال أنطونيوس اتخاذ خطوات أساسية كان يستوجبها ذلك الموقف. ذلك أن أنطونيوس عندما حشد قواته على الشاطئ الغربي للبلقان واتخذ باتراي مركزًا لقيادته ووضع الجانب الأكبر من أسطوله في خليج آرتا، كان يجب عليه احتلال جزيرة قورقورا بوصفها مفتاح الطريق بين إيطاليا وشبه جزيرة البلقان، كما كان يجب عليه وضع قوات كبيرة في جزيرة ليوقاس وفي المواقع الاستراتيجية على الشاطئ الغربي للبلقان، وذلك لتأمين سلامة قواته والحفاظ على حرية الحركة لهذه القوات ولضمان وصول إمدادات المؤنة من مصر وآسيا إلى الأسطول الكبير الراسي في خليج آرتا. وأخيرًا وليس آخرًا كان يجب على أنطونيوس استخدام أسطوله العظيم لمهاجمة أوقتافيانوس. بيد أن أنطونيوس أغفل أمر ذلك كله مثلما أغفل غزو إيطاليا في أوائل خريف عام 32، فجنى أوقتافيانوس ثمار هذه الأخطاء العسكرية الفاحشة التي يجب أن يتحمل أنطونيوس وحده وزرها بوصفه القائد الأعلى للحملة والرجل العسكري المحنك. ونعتقد أن أنطونيوس ما كان ليقع في مثل هذه الأخطاء لو لم تكن حياته الجانة قد أفقدته جانبًا كبيرًا من قدرته على تقدير الأمور تقديرًا سليمًا، وهيأت له أنه في وسعه الانتصار على أوقتافيانوس في أية معركة برية.

قنصلية عام 31:

وفي أول يوم من عام 31 تولى أوقتافيانوس منصب القنصلية للمرة الثالثة واتخذ زميلاً له فالريوس مسالاً بدلاً من أنطونيوس وكان قد تقرر حرمانه تولى هذا المنصب، على نحو ما مر بنا. ولكنه يبدو أن أنطونيوس ضرب بهذا القرار عرض الحائط، ذلك أنه وصف وجه على النقود التي سلكها في ذلك العام بأنه "قنصل للمرة الثالثة وعضو الحكومة الثلاثية لوضع أمور الجمهورية في نصابها".

أوقتافيانوس ينقل قواته عبر الأدرياتي:

وكانت أولى الثمار التي جناها أوقتافيانوس من أخطاء أنطونيوس أنه تمكن من حشد قوات كبيرة تتألف من أسطول يزيد عدد سفنه على 400 سفينة، واستقر الرأي على أن يتولى بنفسه قيادة القوات البرية وعلى أن يتولى أجريبا قيادة الأسطول. وبما أنه كان لدى أوقتافيانوس من الرجال والسفن أكثر مما حشد لمنازلة أنطونيوس، فلا شك في أنه كان يعتقد في كفاية هذه الأعداد للفوز على غريمه.

ولسنا نعرف تفاصيل الصراع الذي دار بعد أن حشد الفريقان قواتهما، وإن كنا نعرف أنه في مستهل عام 31 عندما كانت قوات أنطونيوس لا تزال في معسكراتها الشتوية والطريق البحرية مفتوحة أمام غريمه ليفعل ما بدا له، هاجم أجريبا البلوبونيز بنصف الأسطول واستولى على مثوني، مما أتاح له أن يتهدد خطوط إمدادات أنطونيوس. وأن يغير على جهات متعددة في بلاد الإغريق. وتحت ستار هذه المناورات نقل أوقتافيانوس قواته ومعداته إلى أبيروس وأمرها بالزحف سريعًا إلى الجنوب أملاً في أن يسبق أنطونيوس إلى احتلال رأس أقتيوم ليتسنى له محاصرة الجانب الأكبر من أسطول غريمه الراسي في خليج آرتا، الواقع شرقي رأس أقتيوم. وفي تلك الأثناء استولى أوقتافيانوس على جزيرة قورقورا واتخذها قاعدة لمناوءة أسطول أنطونيوس القابع في خليج آرتا وتحديه لمنازلته، لكن ذلك الأسطول رفض الاشتباك مع أوقتافيانوس.

ولما كان أنطونيوس قد سبق أوقتافيانوس إلى احتلال رأس أقتيوم وأخذ يجمع كل جيشه هناك، فإن قوات غريمه احتلت مكانًا مرتفعًا على الرأس الشمالي المواجه لرأس أقتيوم، وحصنت مواقعها ومدت الأسوار منها إلى خليج قوماروس حيث رسا جانب من أسطول أوقتافيانوس. ولم يلبث أجريبا أن استولى على جزيرة ليوقاس والسفن الراسية عندها وكذلك على باتراي وفيما بعد على قورنثة. ومن قورماروس وليوقاس أخذ يعمل على قفل خليج آرتا في وجه السفن التي تحمل الإمدادات لأنطيونيوس فبقى أسطوله من الناحية العملية محصورًا في ذلك الخليج. وهكذا جنى أوقتافيانوس ثمرة بعد أخرى من ثمار أخطاء أنطونيوس، مما كان نذيرًا بالنتيجة النهائية لهذا الصراع.

فشل أنطونيوس في تضييق الخناق على أوقتافيانوس:

وقد انتقل أنطونيوس مع بعض قواته من أقتيوم وعسكر أمام أوقتافيانوس وحاول تضييق الخناق عليه، لكنه فشل في ذلك بسبب الهزيمتين اللتين نزلتا بفرسانه، ولذلك فإنه قرر وقف الأعمال البرية الحربية لعدم جدواها والانسحاب إلى أقتيوم.

وقد ترتب على التوفيق الذي صادفه أوقتافيانوس والهزائم التي مني بها أنطونيوس في البر والبحر أن هجر جانب أنطونيوس الكثيرون من رجال وأمراء الدول الخاضعة له، فتزعزت ثقته وأصبح يتشكك في ولاء كل الذين حوله وأنزل ببعضهم أشد صنوف العقاب. وقد زاد مركزه حرجًا عاملان، كان أحداهما هو تفشي المرض بين جنوده وبحارته لأنهم كانوا ينزلون منذ الشتاء في منطقة واطئة حول خليج آرتا، والآخر هو نقص المؤنة نتيجة لنجاح العدو في قطع خطوط إمداداته. وإزاء هذا الموقف الحرج دعا أنطونيوس مجلس الحرب إلى الاجتماع.

خطة أنطونيوس وكليوباترا:

ويحدثنا بلوتارخ بأن أنطونيوس كان واقعًا تحت تأثير كليوباترا إلى حد أنه برغم تفوقه تفوقًا ظاهرًا في البر قرر أن يكون الفيصل بينه وبين أوقتافيانوس معركة بحرية وذلك لإرضاء كليوباترا، برغم افتقار سفنه إلى البحارة افتقارًا شديدًا وبرغم تفوق أسطول أوقتافيانوس تفوقًا واضحًا. ويمضي بلوتارخ فيروى أن قانيديوس نصح بإعادة كليوباترا إلى مصر والانسحاب إلى تراقيا أو مقدونيا لخوض المعركة برا، لكن كليوباترا أصرت على خوض المعركة بحرًا مع أنها كانت تعد نفسها للهرب وتصف قواتها لا حيث تساعد على إحراز النصر وإنما حيث يمكن استخلاصها بسهولة إذا ما انتصر العدو.

ويذكر بلوتارخ في موضع آخر أنه لم يكن لدى أنطونيوس نفسه أمل في النصر، لأنه عندما أراد قباطنته ترك أشرعة السفن خلفهم أرغمهم على أخذها معهم قائلاً أنه يجب مطاردة العدو بحيث لا يفلت من رجاله أحد.

ويمكن تلخيص رواية بلوتارخ في ثلاث نقاط وهي:

1- أن أوقتافيانوس كان متفوقًا في البحر بينما كان أنطونيوس متفوقًا في البر، لكن انصياعه لكليوباترا جعله يقرر خوض المعركة الفاصلة بحرًا.
2- أن كليوباترا غدرت بأنطونيوس، إذ أنها حرضته على خوض معركة بحرية وبدلاً من أن تساعده على كسبها أعدت نفسها للهرب.
3- أن أنطونيوس لم يكن له أمل في النصر بدليل أنه أمر سفنه بحمل أشرعتها معها.

وتنهض الانتصارات التي أحرزها أوقتافيانوس منذ قدومه من إيطاليا دليلاً على تفوقه البحري. وأما الزعم بأن أنطونيوس كان متفوقًأ في البر فيدحضه فشله في تضييق الخناق على أوقتافيانوس برًا وسوء حال جيشه إلى حد أن الكثيرين من رجاله تسللوا إلى العدو. وإذا سلمنا جدلاً بتفوق أنطونيوس البري، فليس معنى ذلك أن قانيديوس كان مصيبًا في تقديره. فقد كان الأخذ بهذا الرأي ينطوي على التضحية بباقي الأسطول بعد إعادة كليوباترا وسفنها إلى مصر، أو على الأصح بعد التضحية بكليوباترا وسفنها، إذ كيف كان يتسنى لكليوباترا وسفنها القليلة أن تشق سبيلها وسط أسطول أوقتافيانوس وتصل سالمة إلى مصر، مع أن أسطول أنطونيوس بأجمعه، بما فيه سفن كليوباترا، لم يكن ندًا لأسطول أوقتافيانوس؟ ولما كانت حال الجيش المعنوية قبل صدور الأوامر بالانسحاب سيئة، فإنها كانت قطعًا تصبح أكثر سوءًا بعد صدور تلك الأوامر ويتعذر معها نجاح الانسحاب. وإذا فرضنا جدلاً أنه كان يمكن الانسحاب بنجاح وأن أنطونيوس كان متفوقًا في البر، فماذا كان يضطر أوقتافيانوس إلى خوض غمار معركة فاصلة مع قوات متفوقة عليه؟ ألم يكن الأفضل لأوقتافيانوس على كل حال، وقد أصبح سيد البحار دون منازع، محاصرة هذه القوات في شبه جزيرة البلقان؟

ولابد من أن هذه الاعتبارات لم تغب عن أنطونيوس وأنها هي التي أوحت إليه بالقرار الذي اتخذه وليس انصياعه لكليوباترا ورغبته في إرضائها.

ولماذا أمر أنطونيوس سفنه بحمل أشرعتها معها، أي باتخاذ إجراء لم يسبق له مثيل في المعارك البحرية؟ إن هذا الإجراء معناه اعتزام القيام برحلة طويلة. ولما كان بلوتارخ قد اعتبر ذلك الإجراء دليلاً على أنه لم يكن لدى أنطونيوس أمل في النصر، وكان بلوتارخ قد أكد تفوق أوكتافيانوس البحري، فإنه يتبين لنا أن قول أنطونيوس بأن الغرض من هذا الإجراء هو مطاردة العدو ليس إلا عذرًا منتحلاً يخفي وراءه الغرض الحقيقي منه.

وإذا كان أنطونيوس، وقد فقد الأمل في النصر، يعتزم القيام برحلة بحرية طويلة، ولم تكن هذه الرحلة لمطاردة عدو متفوق عليه، فلابد من أنها لم تكن إلا للفرار من وجه ذلك العدو. وقد كان بديهيًا أن يخفي أنطونيوس ذلك عن رجاله حتى لا يفقدون ثقتهم فيه وينضمون إلى خصمه فيفشل في تحقيق هدفه، وهو الخروج من المأزق الذي وقع فيه لينازل خصمه في ظروف أفضل من تلك الظروف. ويجب ألا ننسى أنه في مثل هذه الحروب الأهلية التي لم تكن من أجل مبدأ وإنما من أجل تحقيق مآرب شخصية كان الناس ينتقلون أفواجًا تلو أفواج من جانب إلى آخر في يسر وسهولة. وإذا كان أنطونيوس قد قرر الانسحاب بحرًا، فلابد من أن يكون قد اتفق على ذلك مع كليوباترا، وأن تكون كليوباترا بريئة من الغدر به.

ويؤيد النتائج التي وصلنا إليها وفي الوقت نفسه يفند رواية بلوتارخ المغرضة عن تصرفات كليوباترا ما يذكره مصدرنا الرئيسي الآخر، ديون قاسيوس، فهو يحدثنا بأنه بعد أن أدلى أعضاء المجلس بآراء مختلفة انتصر رأي كليوباترا، وكان يوصي بوضع حاميات في أفضل المواقع الاستراتيجية وانسحاب باقي القوات إلى مصر، أي ترك فرق انتحارية لتغطي انسحاب الجانب الأكبر من القوات. ويمضي ديون قاسيوس فيقول أن كليوباترا وصلت إلى هذا الرأي لتشاؤمها من بعض النذر التي اعتبرتها فألا سيئًا للمستقبل، ولاسيما أنها أضعفت معنويات الجيش الذي تفشى المرض بين صفوفه، فجزعت هي وأنطونيوس واستقر رأيهما على الانسحاب، على ألا يحدث ذلك خفية ولا جهارًا لكي لا يدب الهلع في نفوس حلفائهما، بل على أن يبدو كأنهما يعدان العدة لخوض غمار معركة ثم يشقان طريقهما عنوة إذا صادفا أية مقاومة. ولذلك فإنهما أولاً اختارا أفضل ما لديهما من سفن وأحرقا بقية السفن الأخرى لأن عدد الجنود تناقص نتيجة للموت والهرب، وثانيًا وضعا سرا أعز ما يمتلكان على ظهر السفن ليلاً.

ويتضح جليًا مما يرويه ديون قاسيوس أن أنطونيوس وكليوباترا قررا القيام بالانسحاب بحرًا في صفوف منتظمة كما لو كانت قد صفت لخوض معركة حقيقية، وذلك من ناحية تفاديًا لمظهر الهرب وما يستتبعه من أثر نفسي سيء في قواتهما تفشل بسببه حركة الانسحاب وتقضي إلى فقد جانب كبير من قواتهما، ومن ناحية أخرى ليتيسر لهما أن يشقا طريقهما عنوة إذا اعترضه أحد.

والواقع أن القرائن المتعددة التي سلفت الإشارة إليها تدل دلالة قاطعة على سوء حال قوات أنطونيوس وكليوباترا، وعلى أنه لم يبق أمامها سوى الانسحاب. وإذا كان قانيديوس قد اقترح الانسحاب برًا إلى تراقيا أو مقدونيا، فإننا رأينا الأسباب التي نعتقد أنه من أجلها رفض أنطونيوس هذا الرأي. وإزاء ذلك فإنه لم يبق سوى الانسحاب بحرًا انسحابًا منتظمًا كريم المظهر مع أكبر قدر ممكن من القوات البحرية وكذلك مع أفضل الفرق البرية التي يمكن أن يحملها الأسطول على أن يحاول قانيديوس الانسحاب مع باقي الجيش.

ومع ذلك فإن "تارن" يرى أن أنطونيوس اتفق مع كليوباترا على خطتين: كان إحداهما هي دحر أوقتافيانوس بحرًا، والأخرى هي الهرب إذا فشلت الخطة الأولى. ويبدو عجيبًا حقًا أن يحاول "تارن" استخلاص ذلك من رواية ديون قاسيوس التي سبق أن أوردناها، إذ أنه لا يعقل أن يتحدث ديون عن انتصار رأي كليوباترا الذي يدعو إلى الانسحاب، وعن الأسباب التي أوحت بذلك، وعن كيفية الانسحاب، ثم تتصور أن قرارهما بأن يكون الانسحاب في صفوف منتظمة كان القصد منه أولاً خوض غمار معركة لدحر أوقتافيانوس وثانيًا الانسحاب إذا لم يحالفهما التوفيق في المعركة.
ويؤيد ما نذهب إليه من أنه لم يكن لأنطونيوس وكليوباترا إلا خطة وحدة وهي الانسحاب:

أولاً، ما ذكره بلوتارخ من أنه لم يكن لأنطونيوس أمل في النصر ومن أن أوقتافيانوس كان متفوقًا في البحر.

ثانياً، ما ذكره ديون قاسيوس من أن أوقتافيانوس وقد علم من دليوس بما استقر عليه رأي أنطونيوس وكليوباترا من الفرار وما أفضى به إلى جنوده كان يعتزم السماح لهما بالمرور ثم الانقضاض عليهما من الخلف وهما يفران لأنه بفضل هذه الخطة كان يأمل أن يمسك بهما، وأن يصبح واضحًا أنهما يحاولان الفرار فيسهل عليه الفوز بباقي قواتهما دون قتال. لكن أجريبا أقنع أوقتافيانوس بالعدول عن هذه الخطة خوفًا من احتمال عدم اللحاق بهما. ولو صح أنه كانت هناك خطتان، وفرضنا جدلاً أنه لم يبلغ أوقتافيانوس الآخر إحدى هاتين الخطتين وكان لدى ديون قاسيوس علم بهما لأشار إلى ذلك في هذا المقام.

ثالثاً، ما ذكره ديون قاسيوس من أن أنطونيوس لم يشتبك في القتال مع أوقتافيانوس في معركة أقتيوم إلا قسرًا عنه، على نحو ما سنرى.
رابعًا، ما ذكره فلوروس وأوروسيوس من أن عدد سفن أنطونيوس في معركة أقتيوم كان أقل من مائتين، بينما كان عدد سفن أوقتافيانوس 400. ويفسر نقص عدد سفن أنطونيوس من 500 في بداية الحرب إلى هذا العدد عند المعركة بأن أسطول أنطونيوس لم يكن كله متجمعًا عند أقتيوم، وبأن أنطونيوس فقد كثيرًا من السفن في الاشتباكات السابقة على أقتيوم، وبأنه أحرق عددًا آخر من السفن قبل المعركة لقلة عدد البحارة. وأما ما يرويه بلوتارخ، نقلاً عن مذكرات أوقتافيانوس، من أنه استولى على 300 من سفن أنطونيوس، فقد فسر بأن هذا العدد يمثل ما استولى عليه أوقتافيانوس طوال النزاع وبأن بلوتارخ ظن خطأ أنه يمثل أسلاب معركة أقتيوم.

وبرغم أن ديون قاسيوس لم يعط أرقامًا، فإن عباراته توحي بأن أسطول أنطونيوس كان أكبر من أسطول أوقتافيانوس، لكنه يبدو أن ديون قاسيوس أخطأ التقدير، ومرد هذا الخطأ إما إلى أنه صدق ما قاله أنطونيوس حين وقف خطيبًا في جنوده قبل الانسحاب ليشجعهم ويبث الثقة في نفوسهم، وكان يتعين على ديون قاسيوس ألا يأخذ ذلك مأخذ الجد، وإما إلى أنه خلط بين عدد السفن في معركة أقتيوم وعدد تلك التي حشدت أصلاً.

ويؤيد قلة عدد سفن أنطونيوس ما يذكره بلوتارخ من أن أنطونيوس وضع على ظهر سفنه 20.000 من المشاة وألفين من الرماة، فهذا العدد من الجنود أكثر تناسبًا مع 200 سفينة منه مع 400، ولاسيما أن أوروسيوس يحدثنا بأن أوقتافيانوس وضع حوالي 37000 رجل على ظهر سفنه، وكانت أصغر حجمًا من سفن أنطونيوس إلا أنها كانت ضعفها في العدد. ولا جدال في أن حالة أنطونيوس المعنوية وقلة عدد سفنه في معركة أقتيوم يقطعان بأنه لم يقرر إلا الانسحاب، ولم يكن في نيته خوض غمار معركة لدحر أوقتافيانوس.

موقعة أقتيوم:

ولنر الآن كيف نفذ أنطونيوس وكليوباترا خطتهما: في 2 من سبتمبر عام 31، عندما هدأ البحر وصفا الجو بعد أربعة أيام من الأنواء والعواصف التي اضطرب معها البحر اضطرابًا شديدًا، وقف أوقتافيانوس على رأس أسطوله في عرض البحر تجاه أقتيوم في انتظار تحرك أنطونيوس وكليوباتر. وكان أسطول أوقتافيانوس يتألف من قلب وجناحين يتولى هو قيادة أيمنهما وأجريبا أيسرهما. وعندما تحرك أسطول أنطونيوس اتخذ موقفًا دفاعيًا قويًا، فقد احتشدت السفن بعضها إلى جانب بعض عند مدخل المضيق بحيث كان الجناحان يرتكزان إلى الشاطئ، إذ أن هذا الأسطول أيضًا كان يتألف من قلب وجناحين يتولى أنطونيوس قيادة أيمنهما وسوسيوس أيسرهما. وأما كليوباترا فإنها كانت تقود سفنها وتقف في المؤخرة. وحين لاحظ أوقتافيانوس أن سفن خصمه لم تبتعد عن الشاطئ تقدم هو، ليوهمها بأنه سيشتبك معها فتضطر إلى ترك أماكنها إما بالانسحاب وإما بالتقدم لملاقاته. ولما لم يحدث شيء من ذلك وبقيت سفن العدو حيث كانت توقف أوقتافيانوس. ولما لم يكن عامل الزمن في صالح أنطونيوس بسبب ما أسلفناه عن سوء حال قواته، فإنه عندما انتصف النهار والعدو لا يزال أشد ما يكون يقظة واستعدادًا، فكر في وسيلة تمكنه من الإفلات مع أكبر جانب من الأسطول، ولذلك أمر جناحه الأيسر بالتقدم للاشتباك مع جناح أوقتافيانوس الأيمن، وبذلك يخلو الطريق جنوبًا لباقي الأسطول. وقد اغتبط أوقتافيانوس بهذه الحركة وأمر جناحه الأيمن بالتقهقر ليسحب العدو مسافة أبعد عن الشاطئ والمضيق ثم يطوقه. وعلى حين فجأة أصدر أمره إلى جناحيه فقاما بحركة اتخذت خطوطه معها شكل الهلال، أملاً في أن يستطيع على هذا النحو تطويق العدو أو على الأقل إلقاء الاضطراب في صفوفه فيختل نظامها. وإزاء ذلك يبدو أن أنطونيوس مد خطوط جناحه الأيمن ليحبط حركة التطويق واضطر إلى الاشتباك مع خصمه رغم أنفه على نحو ما يحدثنا به ديون قاسيوس وهو الذي يمضي فيقول أنه بعد أن بدأت المعركة، استمر القتال سجالاً مدة طويلة ثم أتت النهاية على النحو التالي، إذ أن كليوباترا "إزاء عجزها عن احتمال انتظار طويل مضن حتى يتقرر مصير المعركة، وبسبب طبيعتها كامرأة ومصرية، أضناها الانتظار الطويل وتوقع أسوأ الاحتمالات ففرت هاربة فجأة وأعطت الإشارة ليتبعها رعاياها. وهكذا عندما نصبت السفن أشرعتها وانطلقت مع الرياح التي تصادف أنها هبت عندئذ مواتية لها ظن أنطونيوس أن السفن قد ولت هاربة لا بأمر كليوباترا وإنما بدافع الخوف لاعتقادها أنها هزمت ولذلك تبعها هو نفسه". وقد لحق أنطونيوس بكليوباترا وانتقل إلى سفينة قيادتها، وأرسل أوقتافيانوس بعض سفنه لمطاردتهما، ولكن دون جدوى.

ومعنى ذلك أن ديون قاسيوس بعد أن أنهى إلينا أن أنطونيوس وكليوباترا اتفقا على الانسحاب واستقر رأيهما عليه، يتهم كليوباترا بالجبن وخوار العزيمة ويقول أن أعصابها خانتها فأعطت الإشارة بالانسحاب قبل الأوان. وأن ما نعرفه عن كليوباترا من الشجاعة ليدفع عنها تهمة الجبن، وأن ما قاله ديون قاسيوس من أنه تصادف عندئذ هبوب رياح مواتية لسفنها ليوحي بأنها كانت متفاهم مع أنطونيوس على أنه إذا أرغمها العدو على الاشتباك معه، فإنه يجب انتهاز أول فرصة تهب فيها الرياح مواتية لسفنهما من أجل تنفيذ خطة الانسحاب، لأن كليوباترا وأنطونيوس لم يقررا الانسحاب إلا لاعتقادهما اعتقادًا جازمًا بأنه لم يكن لهما أمل في الانتصار. ولابد من أنهما حين تحداهما أوقتافيانوس وحاول تطويقهما كانا أقل أملاً في النصر، ولذلك فإنه كان من الحمق انتظار نتيجة المعركة فقد كانت معروفة مقدمًا، وكان من الحكمة انتهاز أول فرصة مواتية للهرب مع أكبر قدر ممكن من القوات، فشقت كليوباترا طريقها على رأس سفنها الستين من الثغرة أو الثغرات التي نتجت عن تقدم ميسرة أنطونيوس وتقهقر ميمنة أوقتافيانوس ثم مد خطوطه للقيام بحركة التطويق. ولم يلبث أنطونيوس أن تبعها ومعه بعض السفن التي يقدر عددها بحوالي الأربعين. ومما يجدر بالملاحظة أن مد خط جناح أوقتافيانوس الأيمن وحركة الالتفاف التي قام بها جعلا الانسحاب جنوبًا أمراً عسيرًا على السفن الأمامية التي كانت مشتبكة في القتال على عكس حال سفن كليوباترا التي كانت واقفة في المؤخرة وغير مشتبكة. ولذلك فإن تقهقر السفن الأمامية إلى خليج آرتا كان أيسر، وقد فعلت ذلك بعض السفن إما عندئذ وإما فيما بعد، على حين أن سفناً أخرى كانت مشتبكة اشتباكًا عنيفًا حال دون فرارها أو تقهقهرا فصمدت إلى أن أغرقت أو أحرقت أو غلب رجالها على أمرهم، فقد بقيت المعركة حامية الوطيس بعد فرار أنطونيوس وكليوباترا. ويحدثنا سويتونيوس بأن المعركة دامت إلى ساعة متأخرة مما اضطر أوقتافيانوس إلى قضاء الليل في البحر.

ويذهب أوروسيوس إلى حد القول بأن المعركة استمرت حتى صباح اليوم التالي. ويحدثنا بلوتارخ بأن أسطول أنطونيوس قاوم أوقتافيانوس مدة طويلة ولم يكف عن القتال إلا قبل الغروب بعد أن سبب له هياج البحر عطبًا شديدًا، لكنه لم يقتل من رجاله أكثر من 5000 نفس.

وقد كان جيشا الفريقين محتشدين على شاطئ البحر يشاهدان سير المعركة دون حراك. وما كاد القتال ينتهي حتى طلب أوقتافيانوس إلى جيش خصمه أن يلقي السلاح. وقد دامت المفاوضات على شروط التسليم سبعة أيام وساعد على نجاحها فرار قانيديوس إلى مصر. وقد أدمج أوقتافيانوس جنود أنطونيوس في فرقه، وبعد ذلك أعاد إلى إيطاليا قدماء المحاربين في الجيش دون إعطائهم شيئًا، ووزع البقية الباقية من الجيش في أماكن مختلفة تفاديًا لوقوع الفتنة بينهم، وأرسل أجريبا ليساعد ميقناس في وضع الأمور في نصابها في إيطاليا، وذهب أوقتافيانوس نفسه إلى أثينا ثم ساموس. لكن الجنود القدماء، الذين أرسلوا إلى إيطاليا، شعروا بأنهم حرموا أسلاب مصر، فتذمروا تذمرًا شديدًا إلى حد أن أجريبا أرسل في يناير عام 30 يستصرخ أوقتافيانوس أن يعود إلى إيطاليا. وقد لبى أوقتافيانوس النداء، واستطاع أن يسترضي الجنود، بتوزيع هبات من الأموال والأراضي بينهم وبوعدهم بنصيب من كنوز البطالمة، ثم عاد إلى آسيا مدركًا أنه على هذه الكنوز يتوقف مستقبله، بل حياته فيما يبدو.

أنطونيوس ينهار وكليوباترا تواجه الموقف بشجاعة:

وإذا كانت نكبة أقتيوم قد حطمت أنطونيوس، فإنها لم تحطم كليوباترا التي دخلت الإسكندرية مرفوعة الرأس، وقد زينت سفنها بالأكاليل لتوهم الناس بأنها انتصرت. وفي الحال تخلصت من كل الذين كانت تخشى أن يشعلوا لهيب الثورة، عندما تتسرب الأخبار الصحيحة. وأما أنطونيوس فإنه ذهب إلى قورينايئة، حيث كان قد ترك أربع فرق لتراقب قوات أوقتافيانوس في شمال أفريقيا، لكن هذه الفرق رفضت الإذعان له، وانضمت إلى جالوس (C. Connelius Gallus) قائد قوات خصمه فعاد أنطونيوس إلى الإسكندرية. وهناك كانت كليوباترا تفكر في طريقة للخلاص، فقد فكرت أولاً في الانسحاب إلى أسبانيا والاستيلاء على مناجم الفضة هناك وتكوين قوات لمحاربة أوقتافيانوس على نحو ما حاول سرتوريوس بناء قوة للقضاء على صلا، لكنه يبدو أن مصير سرتوريوس أقنعها بالعدول عن ذلك. وعندئذ فكرت في تكوين دولة جديدة على شواطئ البحار الهندية، ولذا قررت نقل أسطولها برًا من البحر المتوسط ولكنها اضطرت إلى العدول عن هذه الفكرة عندما انتهز أمير النبط هذه الفرصة للثأر من كليوباترا، وأحرق أول مجموعة من السفن تم نقلها. ولما كانت أية خطة تتوقف على مساهمة أنطونيوس فيها، لأن كليوباترا لم تفكر في أن تهجره، وكان أنطونيوس في حالة من اليأس والقنوط، جعلتها عاجزًا عن أي نشاط ودفعته إلى الانزواء في منزل قريب من البحر، فإنها قررت أن تنعشه بالطريقة الوحيدة التي يأنسها، وهي المآدب والمباهج.

وقد عاد أنطونيوس فعلاً إلى قصر كليوباترا، واستأنفا حياتهما البهيجة الأنيفة، ولكن هذه المرة تحت شبح الموت ولذلك استبدلا بجمعية "الحياة الفريدة" جمعية "رفاق الموت" ولكنه بما أنه أنطونيوس لم يحاول أن يجمع ما تبقى له من الفرق وأن يدافع عن خط النيل الحصين، وهو الذي طالما أنقذ مصر من الغزاة القادمين من الشرق، فلابد من أن يكون قد أخبر كليوباترا بأن أي دفاع مستحيل، وأن الفرق لن تقوم إلا بالانضمام إلى الجانب الآخر، كما فعلت في أقتيوم وفي قورينايئة وفي سوريا. وقد ظن الناس أن أنطونيوس قد ينتحر كما انتحر بقية أعداء أوقتافيانوس الذين هزمهم، لكن مجرى الحوادث يدل على أنه كان ينوي البقاء على قيد الحياة ما بقيت كليوباترا، لعله يستطيع أداء أي خدمة لها. وعندما بقى لكليوباترا أن تقرر هل تتولى الدفاع عن مصر، واجهت الموقف بشجاعتها المعتادة. وقد وجدت كليوباترا نفسها، بعد محاولتين للفوز بسيادة العالم، حيث كانت أول الأمر ملكة تابعة لروما، وأدركت عندئذ أنه لم يكن هناك طائل من الدفاع، وألا مفر من أن تفقد عرشها، وإن كان من المحتمل إنقاذ حياتها، وأنها إذا حاربت فإنه لابد من أن يهوى أولادها معها. وأما إذا فعلت ما يفعله الملوك التابعون لروما في مثل هذه الأحوال، ووضعت تاجها بين يدي أوقتافيانوس، فإنه كان هناك بصيص من الأمل في أن يتبع أوقتافيانوس العادة الرومانية، ويعطي هذا التاج لأحد أبنائها، وتبعًا لذلك فإنها قررت التضحية بنفسها في سبيل أبنائها. وعندما عرضت عليها مصر أن تهب لتأييدها، حظرت ذلك لكي لا يتحمل شعبها ويلات لا طائل وراءها، ولكن قبل كل شيء لكي لا يتعرض أبناؤها لمخاطر لم يكن منها مفر في هذه الحالة.

ويبدو أن كل القصص التي تدور حول غدر كليوباترا بأنطونيوس قصص ملفقة. ذلك أنها وفقًا للقرار الذي اتخذته أرسلت إلى أوقتافيانوس تاجها وصولجانها ملتمسة منه أن يتوج مكانها أحد أبنائها. فأمرها أوقتافيانوس علانية بأن تنزع سلاحها وتنزل عن عرشها، لكنه أكد لها سرًا بأنها إذا قتلت أنطونيوس أو طردته فإنه يعفو عنها ولا يمس مملكتها بسوء، فقد كان يريد قبل كل شيء الفوز بكنوزها سليمة لسد جشع جنود جيشه والبر بوعده للمحاربين القدماء وأرباب الأراضي في إيطاليا، الذين انتزعت منهم أراضيهم لتوزيعها على هؤلاء المحاربين. وقد عرض أنطونيوس على أوقتافيانوس أن يقضي على حياته إذا كان ذلك ينقذ كليوباترا، لكن أوقتافيانوس أهمل هذا العرض. وأما ما يقال من أن أنطونيوس التمس من أوقتافيانوس الإبقاء على حياته فإنه يصعب علينا تصوره أو قبوله.

وفي صيف عام 30 عندما احتل جالوس بارايتونيون زحف أنطونيوس ضده، أملاً في استعادة فرقه بالتفاهم أو بالقوة، لكنه عجز عن الاتصال بجنوده وفشل في هجومين ضد جالوس، وكان أحدهما بريًا والآخر بحريًا. وعندما علم بأن أوقتافيانوس استولى على بلوزيون، عاد إلى الإسكندرية.

وعند اقتراب أوقتافيانوس وضعت كليوباترا كل كنوزها في المقبرة، التي كانت قد أمرت بتشييدها ولم يتم بعد بناؤها بالقرب من معبد إيزيس، ووضعت حول الكنوز مادة سريعة الاشتعال، وهددت بأنه إذا رفض أوقتافيانوس إعطاء تاج مصر لأحد أبنائها، فإنها ستغلق المقبرة على نفسها وتشعل النار فيها، وبذلك تعرض أوقتافيانوس لخراب محقق.

انتحار أنطونيوس:

وفي 31 من يوليه، وصلت طلائع فرسان أوقتافيانوس إلى ضواحي الإسكندرية، بالقرب من مضمار سباق الخيل، فقرر أنطونيوس ألا يموت دون خوض معركة واحدة، ولذلك فإنه انقض على هؤلاء الفرسان وبدد شملهم. وفي اليوم التالي حشد قواته، لكن الفرسان والسفن انضموا إلى أوقتافيانوس، في حين أن المشاة بدد شملهم فعاد أنطونيوس إلى القصر. ويحدثنا بلوتارخ بأن أنطونيوس هاله ما حدث وعزاه إلى غدر كليوباترا التي خشيت غضبه والتجأت إلى مقبرتها ومعها مصففة شعرها إيراس (Iras) وخادمة مخدعها خارميون (Charmion) وأحكمت إغلاقها وأبلغت أنطونيوس أنها قضت على نفسها. ولما كان أنطونيوس لم يبق على حياته حتى ذلك الوقت إلا من أجل كليوباترا، فإنه لم يعد هناك معنى لبقائه حيًا، ولذلك أعطى سيفه إلى عبده الأمين أروس (Eros) وطلب إليه أن يطعنه به، لكن أروس بدلاً من ذلك طعن نفسه وخر صريعًا عند قدمي سيده، فأخذ أنطونيوس السيف وبقر بطنه، غير أنه لم يمت في الحال.وبينما كان في حشرجة الموت، جاءته رسالة من كليوباترا ليوافيها في المقبرة، فالتمس أن ينقل إليها. وقد نقل فعلاً إلى مقبرتها، حيث شقت ملابسها وندبته وبكته بكاء مرًا وتوفي بين أحضانها كما كان يشتهي. وقبل أن يلفظ النفس الأخير أوصاها بأن تلتمس النجاة لنفسها إذا أمكنها ذلك دون أن يلحقها أي عار، وبأن بروقوليوس خير من يمكنها أن تثق فيه من بين كل رفاق أوقتافيانوس.


إن رواية بلوتارخ هنا أيضًا مغرضة ومليئة بالتناقض، إذ كيف يعقل أن يلقى أنطونيوس على كليوباترا تبعة انضمام هذه القوات إلى أوقتافيانوس وهو الذي شهد من قبل انضمام فرقة في أقتيوم وقورينايئة وسوريا إلى غريمه؟ وكيف يثور أنطونيوس ويتهم كليوباترا بالغدر ثم يسعى إليها في القصر وبعد ذلك يطلب أن ينقل إليها وهو في حشرجة الموت؟ وكيف تبلغه كليوباترا أنها قضت على نفسها ثم تطلب إليه بعد ذلك أن يوافيها في المقبرة؟ وكيف تغدر كليوباترا بأنطونيوس ثم تبكيه ذلك البكاء المر وهو على فراش الموت؟ يبدو لنا أن بلوتارخ قد تأثر بالتاريخ الروماني الرسمي إلى حد أن فكرة غدر كليوباترا بأنطونيوس قد سيطرت عليه سيطرة تامة فلم يدع مناسبة تمر دون أن يتهمها بالغدر. ولعل أن يكون ما حدث في ذلك اليوم هو أنه ما أن علمت كليوباترا بهزيمة المشاة وانضمام السفن والفرسان إلى العدو حتى أدركت على الفور أنها إذا بقيت في القصر بعيدة عن كنوزها، فإنها بعد قليل ستقع حتمًا في الأسر دون أن يكون في قبضتها أي سلاح تهدد به أوقتافيانوس لقبول شروطها، وتبعًا لذلك فإنها سارعت إلى المقبرة. ولعلها لم تترك أية رسالة لأنطونيوس أما لأن هول الموقف بث فيها ساعتئذ من الفزع والاضطراب ما جعلها تسهو عن ترك رسالة لأنطونيوس، وأما – وهو الأرجح في تقديرنا – أنها لم تر جدوى من ذلك لتوقعها أسوأ الاحتمالات وأقربها إلى التصور في مثل هذه الظروف، أي انتحار أنطونيوس في ميدان القتال بعدما فقد كل شيء ولم يعد هناك ما يمكنه أن يساعدها به. بيد أنها عندما بلغت المقبرة بدا لها احتمال آخر وهو أنه من الجائز أن يكون أنطونيوس قد أرجأ انتحاره إلى أن يودعها الوداع الأخير، ولذلك فإنها أوفدت إلى القصر رسولاً لإبلاغه – إذا عاد – بأنها تنتظره في المقبرة. وقد صح حدسها الأخير لأن أنطونيوس لم ينتحر في ميدان القتال، إذ يبدو أنه عز عليه بالفعل أن يلقى الموت قبل أن يودعها فهرع إلى القصر، وعندما وجده قاعًا صفصفًا تصور بدوره أنه نتيجة لأحداث ذلك الصباح المشئوم بادرت كليوباترا إلى تنفيذ ما كانت قد هددت به – أي حرق نفسها وكنوزها – فانتحر قبيل وصول رسولها، ثم نقل إليها وتوفي بين أحضانها كما كان يشتهي. وهكذا يبدو لنا أنه إذا كانت القرائن توحي ببراءة كليوباترا من الغدر بأنطونيوس في موقعة أقتيوم فإنها ليست أقل إيحاء ببراءتها من الغدر به في يومه الأخير.

وبعد أن يتهم بلوتارخ كليوباترا بالغدر يمضي فيحدثنا كيف أن أوقتافيانوس عندما علم بوفاة أنطونيوس بكى من فرط تأثره.

أوقتافيانوس يدخل الإسكندرية:

وفي اليوم نفسه – وكان أول الشهر الذي سمى فيما بعد أغسطس تخليدًا لذكرى أوقتافيانوس عندما خلع عليه هذا اللقب – دخل أوقتافيانوس الإسكندرية دون أية مقاومة. وفي الحال أصدر أمره إلى بروقوليوس (Proculeus) بأن يأخذ كليوباترا على قيد الحياة، فقد كان يريد الحصول على كنوزها وكذلك على شخصها ليزدان به مهرجان انتصاره. وعندما ذهب بروقوليوس لمقابلتها، حرصت على ألا تخاطبه إلا من خلف باب المقبرة، وأصرت على ألا تسلم نفسها قبل إعطاء عرشها لأحد أبنائها. وإذا كان هذا اللقاء لم يسفر عن أي تفاهم، فإنه أسفر عن أمر هام وهو أن بروقوليوس لاحظ أنه توجد نافذة في إحدى غرف الطابق العلوي في المقبرة. ويبدو أن بروقوليوس أوهم كليوباترا بأنه سيذهب لعرض الأمر على أوقتافيانوس ويعود لموافاتها برأيه، ولكن بروقوليوس ذهب لتدبير وسيلة الاستيلاء عليها. ذلك أنه عاد إلا المقبرة ومعه آخرون كان أبرزهم جالوس، وحين شغلها الأخير بالحديث خلال الباب، تسلق بروقوليوس وآخرون سلمًا ودخلوا من النافذة، فحاولت كليوباترا أن تطعن نفسها، ولكنها منعت من ذلك ونزع سلاحها ونقلت هي وكنوزها إلى القصر، فتنفس أوقتافيانوس الصعداء أخيرًا.

وقد سمح أوقتافيانوس لكليوباترا بدفن أنطونيوس، وعفا بازدراء عن الإسكندرية، "احترامًا للإسكندر الأكبر، ومراعاة لجمال المدينة، وإرضاء لصديقه الفيلسوف أريوس (Areios)"، لكنه أعدم أنثولوس (Anthyllus) ابن أنطونيوس، وكذلك قيصرون، وكانت أمه قد حاولت إرساله إلى البحار الهندية ليكون في أمان، لكنه أصغى بسذاجة لنصائح مربيه الغادر، وعاد إلى الإسكندرية ليلقى حتفه.

انتحار كليوباترا:

وقد حاولت كليوباترا الانتحار مرة ثانية بالامتناع عن الأكل لكن أوقتافيانوس لجأ إلى أنجع وسيلة تحملها عن العدول عن محاولتها وهي تهديدها بقتل أولادها. وتنهض رغبة أوقتافيانوس في الاستيلاء على كليوباترا وهي على قيد الحياة وكذلك حرصه على حياتها بعد ذلك دليلاً على صدق ما تذكره المصادر القديمة من أنه كان يبتغي نقلها إلى روما ليعرضها في مهرجان انتصاره.

ويؤيد ذلك أن أوقتافيانوس – وقد حرمته كليوباترا فرصة تحقيق بغيته بانتحارها – عرض تمثالها وابنيها اسكندر هليوس وكليوباترا سليني في مهرجان انتصاره على مصر.

ومع ذلك فإن "تارن" يقول إن روما كانت تتوقع أن تلقى كليوباترا حتفها، لكن أوقتافيانوس كان فيما يبدو يبغض قتل امرأة بل يبغض أن يعتبر شريكًا في انتحارها، إلا أنها كانت يجب أن تموت، فكان يجب حثها على الانتحار بطريقة يتفادى معها كل لوم. إذا صح ذلك فكيف أنه عندما نجح في الوصول إلى كنوزها لم يتركها تقضي على نفسها؟ أكان يمكن أن يتهمه أحد عندئذ بالاشتراك في انتحارها؟ وهل يمكن أن تتصور أن الشخص الذي يقتل صبيين يبغض أن يعتبر شريكًا في انتحار امرأة لأنه لم يمنعها من الانتحار؟ وكيف يبغض ذلك ولا يبغض أن يحثها على الانتحار؟ ولماذا يمنعها من الانتحار ثم يحثها عليه؟ وأي لوم كان يخشاه ومن أي مصدر؟ ويمضي تارن فيقول إنه لو كان أوقتافيانوس يريد الاحتفاظ بكليوباترا لكي يعرضها في مهرجان انتصاره لوضعها تحت حراسة أمينة تحقق له غرضه، لكنه بدلاً من ذلك تركها في القصر مع بطانتها في حراسة معتوقة أبافروديتوس وكان يعرف رغباته. والرد على ذلك هين يسير، وهو أن أوقتافيانوس أراد أن يبث الطمأنينة في نفسها ويدخل في روعها أنه لم يكن هناك ما تخشاه من ناحيته فلا تفتك بنفسها ومن ثم يسهل عليه تحقيق بغيته. وآية ذلك أنها عندما طلبت مقابلة أوقتافيانوس خف إليها بنفسه.

وإذا كنا نتفق مع تارن في أن أكثر ما قيل حول هذه المقابلة من نسج الخيال، فإننا نعتقد أن أوقتافيانوس لم يدخر وسعًا في تشجيعها والتأكيد لها بأنه لن يلحقها أي سوء. لكنها عندما أيقنت أنه لن يقيم أحدًا من أبنائها على العرش خلفًا لها، وأنها سينقلها إلى روما ليعرضها في مهرجان انتصاره، صممت على حرمانه هذا الفخار وعلى النجاة من هذا الهوان. ولما لم يكن هناك سبيل إلى ذلك إلا بالانتحار، فإنها تظاهرت بالاستسلام لمصيرها حتى تخف الرقابة عليها فتضمن النجاح في محاولتها الثالثة. وقد لفق كثير من التفاصيل حول الوسيلة التي اتبعتها. لكنه لم يعد اليومشك في جوهرها بعد الجدل الذي احتدم طويلاً بين الباحثين حول هذه الوسيلة. وكانت الخطوة التالية التي اتخذها كليوباترا لتنفيذ خطتها هي الاستئذان في تقديم القرابين على مقبرة أنطونيوس، وهناك تضرعت إلى الآلهة أن يجتمعها في موتهما كما اجتمعا في حياتهما. وقد انتهز أحد أتباعها هذه الفرصة واتفق مع فلاح على إحضار صل إلى القصر، فقد عقدت كليوباترا كل آمالها في النجاة من الذل والهوان على ذلك الزاحف المقدس الذي كان المصريون يعتبرونه خادم إله الشمس ويضعونه رافع الرأس في تاج ملوك مصر ليحمي سلالة رع من كل سوء. وعندما أحضر الرجل إلى القصر سلة من أتنين بها الصل المطلوب، كتبت كليوباترا إلى أوقتافيانوس تلتمس منه أن يدفنها إلى جانب أنطونيوس. وما أن خلت بنفسها حتى ارتدت ثيابها الملكية ووضعت الصل على ذراعها فلدغها لدغة قاتلة (فيما بين اليومين العاشر والتاسع والعشرين من شهر أغسطس سنة 30). وهكذا أنقذ إله الشمس ابنته من أن يلحق أعداؤها العار بها. ولم تشأ خادمتاها الوفيتان أن تعيشا بعد سيدتهما فحذوتا حذوها.

ومهما تكن أخطاء كليوباترا وجرائمها، ومهما تختلف أسلحتها عن أسلحة الرجال فإنها كانت ملكة طموحة شجاعة أبية وأمًا رءومًا وفية، لم تثر في روما العظيمة شعور الكراهية ضدها فحسب، بل كذلك شعور الخوف منها.

وفي الواقع إن الرومان الذين كانوا، في مجدهم، يزدرون خوف أي شعب أو أمة، لم يتملكهم الخوف إلا من شخصين، كان أحدهما رجلاً وهو هانيبال، وكان الآخر امرأة، وهي كليوباترا، وبذلك خلد المنتصرون أنفسهم مجد هذين الشخصين اللذين قهروهما.

ولا أدل على ما أثارته كليوباترا من هلع وخوف في نفوس الرومان مما أثبته أغسطس في الوثائق الرسمية أنه يوم دخل الإسكندرية أنقذ روما من أشد المخاطر هولاً، ومن أن السناتور قرر اعتبار ذلك اليوم عيدًا وطنيًا وبداية للتقويم المحلي. وتتجاوب في أشعار فرجيليوس وهوراتيوس وبروبرتيوس وأوفيديوس – وكانوا فحول الشعراء في عصر أغسطس – أصداء المشاعر التي أثارتها هزيمة كليوباترا في صدور الرومان، مشاعر الفرح لخلاصهم من الفزع والقلق بفضل النصر الذي أحرزه أوقتافيانوس، ومشاعر الشماتة في أنطونيوس وكليوباترا اللذين هوجما هجومًا لاذعًا لم يترفع عن فحش القول، باستثناء فرجيليوس الذي هجا كليوباترا هجاء مرًا لكنه تسامى عن الإسفاف. وأهم ما يعنينا هنا أولاً بعض أبيات بروبريتوس، فهو وإن كان أقذع أولئك الشعراء هجاء وأشدهم إسفافًا وأكثرهم شماتة إلا أن أقواله تلقى ضوءًا على أهداف كليوباترا وتكشف عن أسباب سيخمة هذا الشاعر مما يدعو على الأقل إلى الحذر في قبول ما يرمي به كليوباترا فهو يقول:

" طالبت المرأة المبتذلة زوجها الفاسق بأسوار روما وإخضاع السناتو لسلطانها كثمن لزواجها منه. أيتها الإسكندرية الآثمة، يا أخصب الأرضين مرتعًا للخديعة.." ثم يمضي فيقول "اجترأت الملكة العاهرة، ملكة كانوب الداعرة على أن تواجه إلهنا يوبيتر بأنوبيس الذي ينبح كالكلب، وأن تتوعد بإصدار الأحكام وسط تماثيل ماريوس ودروعه. إن المدينة التي تحكم الدنيا بأسرها من علياء تلالها السبعة قد فزعت من القتال وأوجست خيفة من وعيد امرأة".

ثم بعد أن يصفها هوراتيوس بأنها ملكة مخمورة هوجاء تدبر الخراب للإمبراطورية الرومانية مع فئة من الرجال دنستهم الرذيلة يقول:
" غير أنها وقد سعت إلى أن تموت ميتة نبيلة لم تهلع من نصل السيف مثلما تهلع النساء، ولم تسع بأسطولها السريع إلى شطآن خفية، بل إنها اجترأت على أن ترمق قصرها المتهاوى بعين ملؤها الهدوء. وإنها لجريئة إذ أمسكت بالأفاعي الشرسة لكي يمتص جسمها السم الزعاف. وقد زادها الإصرار على الموت جرأة فاستنكفت أن تحمل – وهي متجردة من أبهة الملك – على سفن القساة، أو تساق في موكب النصر الفاخر: فهي امرأة ذات إباء".

وانظر إلى "شوقي" كيث صور مشاعر كليوباترا قبل انتحارها، فقد أجرى على لسانها هذه الآبيات في روايته "مصرع كليوباترا":

يا موت أنت أحب أسرا فاسبني

لا تعط روما والشيوخ عقالي

سطت روما على ملكي ولصت

جواهر أسرتي وحلي آلي

فرمت الموت لم أجبن ولكن

لعل جلاله يحمي جلالي

فلا تمشي على تاجي ولكن

على جسد ببطن الأرض بالي

وقد علم البرية أن تاجي

نمته الشمس والأسر العوالي

يطالبني به وطن عزيز

وآباء ودائعهم غوالي

أأدخل في ثياب الذل روما

وأعرض كالسبي على الرجال؟

وأحدج بالشماتة عن يميني

ويعرض لي التهكم عن شمالي؟

وألقى في الندى شيوخ روما

مكان التاج من فرقي خالي؟

وأغشى السجن تاركة ورائي

قصور العز والغرف الخوالي؟

وتحكم في روما وهي خصمى

وتسرف في العقوبة والنكال

يراني في الحبائل مترفوها

وقد كان القياصر في حبالى

إذن غير الملوك أبي وجدى

وغير طرازهم عمى وخالي

سأنزل غير هائبة إذا ما

تلمظت المنية للنزال

أموت كما حييت لعرش مصر

وأبذل دونه عرش الجمال

حياة الذل تدفع بالمنايا

تعالى حية الوادي تعالي


  • ويجب ألا يغرب عن البال أنه عندما استفحل الخصام بين أنطونيوس وأوقتافيانوس لم يأل أنصار أوقتافيانوس جهدًا في تلطيخ سمعة كليوباترا. وعندما انتصر أوقتافيانوس نال التاريخ الرسمي في عهده من كل مكان يتصل بكليوباترا ما عدا قيصر، والد أوقتافيانوس بالتبني. وعندما شاد فحول الشعراء في عصر أغسطس بالنصر الذي أحرزه هذا الإمبراطور وأنقذهم بفضله من عار الخضوع لكليوباترا أسهموا بنصيب موفور في حملة التشهير بكليوباترا. وحين ارتفعت الأصوات عالية مسبحة بحمد الإمبراطور وناهشة سيرة خصميه، لم يرتفع صوت واحد للدفاع عن هذين الخصمين المنهزمين، فلم تعرف الأجيال التالية سيرتها إلا مما كتبه عنه خصومها. وما أصدق قول شوقي في هذا الصدد:


خلق الناس للقوى المزايا

وتجنوا على الضعيف الذنوبا
واحتفوا في الحياة والموت بالغا

لب فانظر هل عظموا مغلوبا

شيعوا الشاة جيفة بمداهم

واتقوا وهو في الرمام الذيبا

وحتى عهد قريب لم يكلف الناس أنفسهم عناء تمحيص سيرة كليوباترا ودراستها دراسة موضوعية في إطارها الصحيح. وزاد الطين بلة أن هذه السيرة، كما كتبها خصوم كليوباترا، صادفت هوى من نفوس كتاب القصة والشعراء فكانت لهم يد غير مشكورة في تخليد تلك السيرة وتنميقها، على بعد الشقة بينها وبين الحقيقة. وأن الإنصاف ليقتضينا أن نقرر أن كليوباترا كانت أسمى وأجل مما صورها خصومها ومن الصورة التي ترتسم عادة في الأذهان كلما ذكر اسمها.

تبعة روما في انهيار العالم الهلينيسي:

وبدخول مصر – آخر مملكة هلينيسية – حظيرة الإمبراطورية الرومانية تم انهيار العالم الهلينيسي. ومن الذي يجب أن يتحمل تبعة الكارثة التي منيت بها الحضارة الإغريقية من جراء ذلك؟ أكانت الدول الهلينيسية ضحايا سياسة روما الاستعمارية، ومن ثم يجب أن يتحمل الرومان تبعة ما أصاب العالم الهلينيسي من انحلال سياسي وثقافي وخلقي؟ أم أن الدول الهلينيسية كانت مصابة بضعف ذاتي كامن فيها، لم يفعل الرومان أكثر من الإفادة منه لتحقيق مآربهم حين اتبعوا سياسة تكفل ذلك، وأنقذوا الحضارة الهلينيسية بإدماج الدول الهلينيسية في إمبراطوريتهم العالمية؟

وتشير القرائن إلى أنه لم توجد أسباب معقولة لتدخل الرومان في شئون العالم الهلينيسي، إذ أن التطور السياسي في ذلك العالم، مهما تكن صورته، كان لا يهدد سلامة إمبراطوريتهم في الغرب. فقد كان فيليب الخامس وأنطيوخوس الثالث أقوى شخصيتين في العالم الهلينيسي عندما تدخلت روما في شئونه، ولم يدر بخلد هذين الملكين غزو إيطاليا أو التدخل في شئون الغرب، إذ أن نطاق أفقهما السياسي كان لا يتجاوز بلاد الإغريق والشرق الأدنى. وفضلاً عن ذلك فإنه كان من المستبعد قيام تعاون دائم بين هذين الملكين، كما كان المتعذر إعادة توحيد العالم الهلينيسي في كنف دولة واحدة.

وإذا جاز أن يروما كانت تعتقد بإخلاص أن سلامتها كانت تفرض عليها محاربة فيليب وأنطيوخوس لأن أطماعهما وما صادفاه أول الأمر من النجاح أثارت مخاوف السناتو الروماني حين كان هذا المجلس قليل الإلمام بشئون الشرق، فإنها يعد انتصارها على فيليب في موقعة قونوسقفالاي وعلى أنطيوخوس في موقعة ماجنسيا أصبحت تحيط تمامًا بالأحوال السائدة في الممالك الهلينيسية، ومن ثم فإنه لا يمكن الادعاء بأن السناتو كان يعتقد عندئذ اعتقادًا جديًا أن قيام مملكة مستقلة في مقدونيا أو مملكة لا تغشاها الفوضى في سوريا يهدد سلامة الإمبراطورية الرومانية في الغرب. ولذلك فإن السياسة التي اتبعها الرومان وكانت تنطوي على تحطيم معنويات العالم الهلينيسي وإملاء رغباتهم عليه وتأديب أي مملكة ترفض إطاعة أوامرهم لم تكن سياسة أوحى بها الدفاع عن النفس وإنما حب السيطرة. ومهما تكن دوافع روما أول الأمر، فإنها منذ أن عقدت العزم على أن تصبح صاحبة الكلمة العليا في الغرب وفي الشرق اتبعت سياسة غاشمة تنافي كل قواعد الأخلاق القويمة، سداها الأثرة والأنانية ولحمتها اللؤم والخداع، فلا عجب أنها عصفت بمعنويات الممالك الهلينيسية وحطت من قدر الحكام الهلينيسيين في نظر رعاياهم. وقد دفع الرومان قدما كل العوامل التي كانت تفضي إلى الانحلال السياسي في العالم الهلينيسي، فقد كانوا يشجعون، أو على الأقل لم يحاولوا وضع حد للميول الانفصالية في داخل الممالك، ويزكون المنافسات الأسرية والحروب الأهلية والحروب بين مختلف الممالك. وفضلاً عن ذلك فإنهم أسهموا في الخراب الاقتصادي الذي حل بالممالك الهلينيسية، فقوضوا بذلك دعائم الحضارة الإغريقية في العالم الهلينيسي، وجعلوا الاتجاه نحو الاصطباغ بالصبغة الشرقية أيسر وأسرع.

ولكن أمن الإنصاف أن تتحمل روما وحدها تبعة الانحلال السياسي والخلقي والثقافي الذي أصاب العالم الهلينيسي؟ لا شك في أنه حتى إذا لم تتدخل روما في شئون الدول الهلينيسية فإن هذه الدول كانت ستظل نهبًا للمنافسات الأسرية والحروب الأهلية، وكانت ستمضي في محاربة بعضها بعضًا وفي إنهاك قواها في كل تلك الضروب من الصراع العقيم. وقد كان من المحتمل أن تتمكن إحدى هذه الدول من الفوز بسيادة مؤقتة من حين لآخر، لكنه لم يكن في وسع أي واحدة منها أن توحد العالم الهلينيسي تحت لواء واحد وبصفة دائمة. ولا تتحمل روما وحدها المسئولية عن أن النزاع الأسري أصبح داء مستوطنًا في معظم الممالك الهلينيسية، ولا عما أصاب الأسر الملكية الحاكمة من انحلال خلقي. ولا ريب في أن بلاد الإغريق كانت ستستمر في صراعها الدائم من أجل الفوز بحريتها ولا في أن المدن الإغريقية كانت ستظل دوامًا منابت صالحة لنشوب الثورات. ومن العسير أن تتصور أن عصبتي أيتوليا وآخايا كانتا ستتمكنان من وقف تيار التفكك في بلاد الإغريق ومن القضاء على الفوضى السياسية هناك، وذلك فضلاً عن حماية حريتها من مطامع الممالك الهلينيسية المجاورة بها.

ومع ذلك فإن الأساليب التي اتبعتها روما هي التي جعلت أثر هذه العوامل فتاكًا. ولا شك في أنه لو كانت الدول الهلينيسية قد تركت وشأنها، لعمرت فترة أطول ولكانت مقاومتها لتوسع بارثيا وأرمينيا وللاتجاه السريع نحو الاصطباغ بالصبغة الشرقية أكثر قوة وأبعد أثرًا. ولولا تلك العزلة عن العالم الغربي، التي فرضتها روما على سوريا ومصر، لكان من المحتمل أن تبقى هاتان الدولتان مصدرًا لثراء بلاد الإغريق ورخائها، فتنفذان على هذا النحو تلك البلاد مما حل بها في ظل الحكم الروماني الثقيل الوطأة من الفقر المدقع ونقص عدد السكان من جراء وأد الأطفال وتحديد النسل. وقد كان من الجائز أيضًا أنتعمر عصبتا ايتوليا وآخايا فترة طويلة، فتضمنان على الأقل لنفسيهما ولبعض بلاد الإغريق التمتع بكيان سياسي مستقل.

وهكذا يتضح لنا أن روما عملت على تغذية كل العوامل التي كان من شأنها أن تفضي إلى انحلال العالم الهلينيسي، وكذلك على إسراع أثر هذه العوامل. وكان من جراء ذلك أن روما حالت دون انتشار الحضارة الهلينية وتغلغلها في الشرق على نطاق أوسع مما وجدته عندما آل إليها آخر الأمر تراث الدول الهلينيسية. وبعد ذلك بذلت ما في وسعها طيلة قرنين لتؤمن السلام في الشرق وتعيد صبغه بالصبغة الإغريقية. وجملة القول أنه من المحتمل أنه لولا التدخل الروماني لكان نصيب العالم الهلينيسي في تقدم ركب الحضارة أوفر مما أسهم به فعلاً. ومن المحتمل كذلك أن طريق الحضارة الرومانية في الغرب كان يكون أقل وعورة مما كان فعلاً لو أن هذه الحضارة كانت قد أعفيت من نشاطها في الشرق تبعًا لمقتضيات سياسة السيطرة الرومانية هناك.