الأربعاء، 12 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- الآداب والعلوم6

  • العلوم الرياضية
طباعة أرسل لصديق
لم تكن الإسكندرية عاصمة الأدب فحسب في العالم الهلينيسي بل كانت كذلك عاصمته العلمية بفضل رعاية البطالمة الأوائل ، فإن بطلميوس الأول بذل جهده في اجتذاب الفلاسفة والكتاب والعلماء إلى عاصمته ، وإذا كان لم يفلح في استمالة ثوفر أسطوس واستيلبون (Stilpi) فإنه رحب بديمرتيوس الفليري واخترا استراتون وفيلتاس لتعليم ابنه بطلميوس الثاني .

وفي عهده كان إقليديس (Euclides) يدرس الرياضة ويعلمها في الإسكندرية ، كما كان هزوفيلوس يقوم بأبحاثه الجليلة في التشريح والفسيلولوجيا والطب. ويبدو أن بطلميوس الثاني كان أكثر ميلاً إلى العلوم الطبيعية والتاريخ الطبيعي، وأن بطلميوس الثالث كان شغوفًا بالرياضيات.

وقد كانت أعظم أبحاث استراتون، أستاذ بطلميوس الثاني وريستاخورس من ساموس، في الفلسفة الطبيعية مما أكسبه لقب "الطبيعي". ويبدو أنه بفضل نظريته عن الفضاء قد أثر إلى مدى بعيد في فرعين من فروع العلم، وهما الطب عن طريق أراسيستراتوس وعلم الهوائيات المضغوطة (Pneumatiies) عن طريق اكتسيبيوس (Ctesibios). ووفقًا لآراء استراتون لا يوجد في الطبيعة فضاء شامل مستمر، لأن سائر المواد بما فيها الهواء والغاز تتألف من جزيئات دقيقة والفضاء لا يوجد إلا في المسافات الصغيرة التي تفصل هذه الجزيئات، ولهذا فإنه يمكن ضغط الهواء، ولهذا أيضاً فإن الضوء لا ينعكس فقط من صفحة الماء الموجودة في وعاء بل كذلك يتخلل هذا الماء إلى قاع الوعاء. ووفقًا لرأي هذا العالم، إذ لم توجد مسافات خالية بين جزيئات الماء وكان لابد للضوء من أن يقتحم سبيله وسط الماء الذي يملأ أي وعاء ليصل إلى قاعة، فإنه كان يترتب على ذلك أن يطفو الماء في الوعاء، لكن ذلك لا يحدث لأن جزيئات الماء تعكس جانبًا من الضوء على حين أن المسافات الصغيرة الموجودة بين هذه الجزيئات تسمح بمرور جانب آخر من الضوء. وتكوين المواد الصلبة على هذا النمط يفسر تمددها بالحرارة.

واكتسيبيوس الأكبر ـ الذي يحتمل أنه كان يعيش في عهد بطلميوس الاثني أو الثالث ـ كان أبرز من استغلوا بالدراسة الميكانيكية. وقد وضع كتابًا وصف فيه تجاربه واختراعاته لكنه لم يصل إلينا، ولذلك فإننا نستمد معلوماتنا عنه مما كتبه القدماء، فهم يحدثوننا بأنه اخترع مضخة دفق جبري (Force Pump) وارغن مائي وساعات مائية. وقد أتى بعد هذا العالم بحوالي ربع قرن فيلون البيزنطي الذي عاش مدة طويلة في الإسكندرية، وكان مهندسًا عسكريًا، فلا عجب أنه وجه عناية كبيرة إلى معدات القتال ووسائل التحصينات ووضع عن ذلك كتابًا كبيرًا يتألف من ثمانية أن تسعة أجزاء لم يصل إلينا إلا ثلثها، مترجمًا إلى العربية. وقام فيلون أيضًا بدراسات هامة في علم الهوئايات المضغوطة ووضع عنها كتابًا يتألف من خمسة وستين فصلاً ترجمت إلى العربية. وقد كانت لهذا الكتبا آثار بعيدة المدى، لكنه لما كان اكتسيبيوس قد سبقه في هذا المجال وكان كتابه قد ضاع فإنه يتعذر معرفة مقدار ما أسهم به كل منهما.

وتحتل الهندسة مكانة سامية بين رياضيات العصر الهلينيسي، وهي التي فاقت في تقدمها سائر فروع العلم الأخرى، فإن الهندسة كانت أساس الرياضيات جميعًا لأن الأرقام لم تكن قد ابتكرت بعد ولعل ما بلغته الهندسة من الدقة كان سببًا في عدم تفكير الإغريق في اختراع الأرقام، ولاسيما أن الهندسة كانت تشمل الكثير مما يعتبر اليوم علم الجبر لكنه يظن أن المعادلات الرباعية كانت تستخدم في عصر إقليديس لإيجاد القيم العددية. وإذا كان للعصر الهليليسي فضل كبير في تقدم الهندسة، فلا ننسى أن الفيثاغورثيين وأفلاطون وإتباعه قد رفعوها من قبل إلى مستوى عال. وقبل أن نتناول الكلام عن إقليدس الذي لا يمكن أن يبالغ في تقدير خدماته لهذا العلم يجدر بنا أن نشير إلى عالمين، كانا يعاصر أنه تقريبًا، بسبب ما لهما من الأثر في أبحاثه، وهما أوتوليكوس (Autolycos) وأريستايوس (Aristaeus). وتتناول رسالة أوقوليكوس "عن الكون المتحرك" هندسة الكون، مع إشارة خاصة إلى الكون السماوي وما فيه من الدوائر التي تستخدم في علم الفلك. ولذلك فهي من النوع نفسه مثل رسالة إقليدس عن الظواهر الطبيعية (Phaenomena)، إلا أنها ليست دراسة فلكية بحتًا كالرسالة الأخيرة غير أنها أسبق منها، لأن إقليدس استفاد بما فهيا من النظريات بيد أنه بينما يصف أوتوليكوس الأفق بأنه الدائرة التي تحدد الأجزاء المنظورة وغير المنظورة في الكون، استخدم أقليدس لأول مرة كلمة "ألأفق" ويدل التشابه في الشكل بين نظريات أوتوليكوس والنظريات التي خدلتها بحوث إقليدس على أن هذه النظريات لم تكن من ابتكار هذا العالم الأخير. أما أريستايوس فإنه وضع كتابًا من خمسة أجزاء عن القطاعات المخروطية يبين أن إقليدس استخدمه في وضع رسالته عن المخروطات، لكننا لا نستطيع أن نتبين إلى أي مدى اعتمدت رسالة إقليدس على كتاب أريستايوس لأن هذين البحثين لم يصلا إلينا. وقد وضع عالم يدعى أريستايوس، لعله هو هذا العالم نفسه. رسالة تدعى "مقارنة الأحجام الخمسة"، أثبت فيما أثبته فيها أن الكرة الواحدة تغلف المجسم الخماسي الأوجه ذا الإثنى عشر سطحًا والمثلث المتساوي الأضلاع الموضوعين في هذه الكرة. وبما أنه لا أثر لهذه النظرية فيما كتبه إقليدس، فإنه يظن أن أريستايوس لم يكتب هذه الرسالة إلا بعد ما وضع إقليدس كتابه الثالث عشر.

ولا نعرف شيئًا عن حياة إقيلدس وشخصيته. وإن كنا نستطيع أن نستخلص شيئًا عن شجاعته الأدبية ونظرته إلى الأبحاث العلمية من النادرتين التاليتين اللتين ترويان عنه. إذ يقال أنه أخبر بطلميوس الأول بأنه لا توجد طريق ملكية معبدة إلى علم الهندسة. ويقال أيضًا أنه عندما سأله تلميذ بعد الدرس الأول عما يستفيده من وراء حفظ هذه الأشياء نادى خادمه وأمره بإعطاء هذا التلميذ قطعة من النقود لأن التلميذ يرى أنه لابد أن يكتسب شيئًا مما يتعلمه.

ويبدو أن إقليدس عاصر بطلميوس الأول وأتى قبل أراتوسثينس وأرخميدس وأسس في الإسكندرية مدرسة تعلم فيها فيما بعد أبولونيسو من برجا على يدي خلفاء إقليدس، الذي قرن اسمه بأشهر مؤلفاته وهو كتاب في الهندسة يعرف باسم "العناصر"، إلى حد أن الكتاب الإغريقي بعد أرخميدس كانوا يدعونه عادة "مؤلف العناصر" دون استخدام اسمه، وأن العرب زعموا أن معنى اسمه هو "مفتاح الهندسة" ولم يتداول الناس أي كتاب آخر جيلاً بعد جيل ـ إذا استثنينا الكتب السماوية ـ مثل ما تداولوا هذا الكتاب، الذي ظل تلاميذ الهندسة في أنحاء العالم يستخدمونه، مع تعديلات طفيفة، حتى عهد قريب جدًا في العصر الحديث، وترجم إلى اللاتينية في القرن الخامس وإلى العربية في القرن الثامن ثم نقل عن العربية إلى اللغات الأوربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وطبع لأول مرة في عام 1482.

ولم يكن هذا الكتاب ابتكارًا أصيلاً بل مجموعة معلومات معروفة، إلا أنه يمتاز بما اختاره فيه إقليدس من المعلومات المسلم بها كالتعاريف والفروض والبديهات، ولاسيما النظريات التي تستحق أن تسمى "عناصر" لأنها أساسية وتفوق غيرها في الأهمية وفي التطبيق. وإذا كان إقليدس قد جمع مادة كتابه من كافة المصادر التي كان في مقدوره الوصول إليها، فإنه صاحب الفضل في مختاراته وفي ترتيبها ترتيبًا منطقيًا وفي صياغة النظريات وفي تنظيم وسائل البرهان تنظيمًا منطقيًا يتسم بطابع عقلي بحت ويبدو بوجه عام أن الأجزاء الأول والثاني والرابع والسادس، ويحتمل كذلك الجزء الثالث، تشمل هندسية فيثاغورث وبعض المقتبسات من أوينوبيدس (Oenopides) وهيبوكراتس من خيوس، لكننا نستخلص من تعليقات إقليدس على البراهين الشائعة لبعض نظريات أرسطو وغيره من العلماء أنه أتى بتجديدات قاطعة في وسائل البرهان. ويعزى إلى فيثاغورث كذلك الجانب الأكبر من الأجزاء السابع والثامن والتاسع، التي تتضمن نظرية التناسب التي تطبق على ما يمكن وما يتعذر قياسه من الأبعاد. ويعزى إلى ثياتيتوس (Theatetos) الجزء العاشر. وهو عن ظواهر الأوضاع المختلفة للخطوط المستقيمة (Irrational straight lines). وكذلك الجزء الثالث عشر وهو عن المجسمات الخمسة المنتظمة. ويضم الجزء الثاني عشر النظريات الخاصة بحجم الأهرامات والمخروطات، وهي التي نعرف أن يودوكسوس كان أول من أثبتها.

وقد وضع إقليدس كتبًا أخرى لم تكن مقصورة على الهندسة، بل شملت فروع الرياضيات كما كانت معروفة عندئذ. وقد بقيت من هذه الكتب أربعة مؤلفات، كان أحدها يتضمن نظريات من النوع نفسه الذي كان يتضمنه كتاب العناصر. وكان الكتاب الثاني رسالة أولية عن "المنظور" (Perspective)، والكتاب الثالث يشمل نظريات عن الفلك والكتاب الرابع رسالة عن عناصر الموسيقى. ولم تصل إلينا مؤلفات إقليدس الأخرى، وكان أحدها عن مبادئ الهندسة وآخر عن المخروط وثالث عن المسطحات ورابع عن المنشورات.

وفي عهد بطلميوس الثالث تألق نجم أبولونيسو، الذي ولد في برجا بإقليم بامفيليا، ودرس مدة طويلة في الإسكندرية على خلفاء إقليدس ويشير في مقدمة أحد مؤلفاته إلى قيامه بزيارة برجام، حيث أهدى ملكها أتالوس الأول الأجزاء الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن من كتابه عن "المخروطات" الذي أكسبه لقب "عالم الهندسة الأكبر" لأنه ارتقى بالهندسة البحت إلى أرفع مستوى يمكن أن تصل إليه بمفردها. فقد بقيت حيث تركها أبولونيوس عدة قرون، ولم تتقدم عن ذلك إلا في العصور الحديثة، عندما استعان علماء الهندسة برموز الجبر وطرقه وعلم التفاضل. وليس موضع العجب أن الهندسة الإغريقية لم تصل إلى أرقى ما وصلت إليه بل أنها بلغت ذلك المستوى، فإن العلماء الإغريق وأبولونيسو بوجه خاص مهدوا السبيل إلى هندسة الإحداثيات (Co – Ordiate Geometry)، بل إن أرخميدس ابتسر فعلاً فكرة علم التفاضل. وقد وصلت إلينا الأجزاء الأربعة الأولى من كتاب أبولونيوس باللغة الإغريقية، على حين أن الأجزاء الثامن فقد ضاع. وكان أبولنيوس إلى جابن ذلك عالمًا فلكيًا ممتازًا، إذ كان أستاذًا في نظريات الدوائر المتحدة المركز (Epicycles) والدائرة المختلفة المركز (eccentric circles)، باعتبارها وسيلة لتفسير حركات الكواكب.

والواقع أن علم الفلك يتصل بالهندسة اتصالاً وثيقًا، ويدين إغريق العصر الهلينسي بشيء من الفضل غير قليل في هذا المضمار لعلماء بابل. الذين جمعوا منذ عهد بعيد ملاحظات تجريبية عن الإجرام السماوية. والخريطة الإغريقية للسماء، بما فيها من الكواكب والإتباع، مثل الخريطة الحديثة بابلية الأصل. ذلك أن الفلك العلمي بمعنى استخدام الملاحظات المسجلة بدأ في بابل في العهد الفارسي الذي يؤرخ هناك بعام 523 ق.م. وقد كانت توجد في بابل ثلاث مدارس للفلك.

وقد كانت الفكرة السائدة عن الكون بين الإغريق منذ عهد يودوكسوس في القرن الرابع هي أن الشمس والقمر والكواكب تدور حول الأرض في أفلاك دائرية مركزها الأرض، لكن هيراكليدس من هيراكليا بونتيكا كشف أن الأرض تدور حول محورها، وأن عطارد والزهرة يدوران حول الشمس. ثم خطأ علم الفلك بعد ذلك خطوات واسعة على يدي أرستارخوس من ساموس الذي كان يعيش حوالي عام 310 ق.م. وكان يلقب بالرياضي، للتفرقة بينه وبين الكثيرين ممن يحملون الاسم نفسه، ويوصف بأنه كوبرنيق العصور القديمة. وقد كتب مثل أستاذه استراتون عن الرؤية والضوء الألوان، لكن شهرته قد ذاعت بوصفه عالمًا رياضيًا وفلكيًا، ووضع عدة كتب كان أشهرها عن حجم وأبعاد الشمس والقمر. وقد اقتفى أثر هيراكليدس في القول بأن الأرض تدول حول محورها، لكنه ذهب إلى مدى أبعد منه بقوله أن الأرض أيضًا لكواكب تدور حول الشمس. ويقال أن كليانش الرواقي نادى بضرورة محاكمة أريستارخوس على رجسه لقوله بأن الأرض مركز الكون متحركة وبما أن كليانش قد أصبح رئيس مدرسة الرواقيين في عام 261 ق.م. فإنه يرجح أن أريستارخوس لم يناد بفكرة دوران الأرض قبل هذا الوقت. ولم يقبل هذه الفكرة بعد ذلك إلا سلوقس من سلوقيا في القرن الثاني قبل الميلاد. وقد كشف أريستارخوس بعد ذلك بأبحاثه الهندسية أقصى وأدنى المقاييس: لقطر القمر وذلك بالنسبة لبعده عن مركز الأرض لبعد الشمس عن الأرض وذلك بالنسبة لقطر الأرض. فمثلاً توصل إلى أن المسافة بين الشمس والأرض تعادل ما بين ثماني عشرة وعشرين مرة المسافة بين القمر والأرض، وهي نتيجة تفضل كثيرًا ما توصل إليه يودوكسوس وفيدياس، اللذين جعلا على التوالي المسافة الأولى تسعة أمثال وأثنى عشرًا مثلاً المسافة الثانية. وقد توصل أريستارخوس أيضًا إلى أن الشمس أكبر من الأرض نحوًأ من 300 مرة وإلى أن القوس الذي يحدده قطر الشمس بالنسبة لعين الراصد هو عبارة عن 720/1 جزءًا من الدائرة الكاملة أي نصف درجة، أي أن زاوية الرؤية لقطر الشمس تساوي نصف درجة.

ويأتي بعد ذلك من علماء الفلك في الإسكندرية كونون من ساموس، الذي أطلق على مجموعة من النجوم اسم "جدائل شعر برينيكي" تخليدًا لذكرى جدائل شعر زوج بطلميوس الثالث التي وعدت هذه الملكة أن تضحي بها إذا ما عاد زوجها سالمًا من فتوحاته في الشرق. وفعلاً عندما عاد بطلميوس الثالث جزت الملكة جدائل شعرها وقدمتها قربانًا في معبد أرسينوي أفروديني، لكنها اختفت من المعبد فأذاع كونون في الناس أن الجدائل ارتفعت إلى السماء وتكونت منها مجموعة نجوم في المثالث الذي يتكون من الأسد والعذراء والدب الأكبر. ويبدو أن كونون توفي قبل أن يضع أرخميدس كتابه "عن الحلزونات" لأنه عندما أرسل هذا الكتاب إلى دورسيثيوس تلميذ كونون، قال أنه قد مضت عدة سنين منذ وفاة كونون الذي اعتاد أرخميدس أن يطلعه إلى ما وصل إليه من الكشوف قبل نشرها، إذا كان أرخميدس يجل كونون باعتباره عالمًا رياضيًا ويقدر صداقته. ويقال أن كونون وضع سبعة كتب عن علم الفلك أهداها جميعًا لبطلميوس الثالث، وأنه وضع كذلك قائمة بكل ما حدث في مصر من حالات كسوف الشمس. وقد حاول كونون أن يبرهن في الرياضة بعض نظريات عن عدد النقط التي يمكن أن يلتقى فيها قطاع مخروطي مع آخر.

أما أعظم علماء الفلك في الإسكندرية وفي العالم القديم قاطبة فقد كان يعيش في القرن الثاني قبل الميلاد ويدعى هيبارخوس من نيقيا. ومع أنه رفض فكرة أريستارخوس القائلة بأن الأرض والكواكب تدور حول الشمس، لأن الظواهر المرئية لا تؤيد ذلك وعاد إلى الفكرة القديمة المناهضة لذلك، إلا أنه أدى خدمات جليلة لعلم الفلك بفضل استخدام حساب المثلثات لأول مرة استخدامًا منظمًا دقيقًا. وقد كانت أعظم كشوفه تحديد الاعتدالين الربيعي والخريفي. وفي كتاب له "عن طول العام" قارن ملاحظات أريستارخوس في عام 281/280 بملاحظاته في عام 136/135 عن الانقلاب الصيفي، ووجد بعد مضي 145 عام أن الانقلاب الصيفي قد حدث نصف يوم وليلة قبل موعده على أساس أن العام 4/1 265 يوم، ومن ثم استخلص أن العام في المناطق الحارة ينقص عن هذا القدر بفترة قدرها 200/1 من النهار والليل. وقدر هيبارخوس طول الشهر القمري في المتوسط بفترة من الزمن طولها 29 يومًا و12 ساعة و44 دقيقة و2/1 2 ثانية، وهو تقدير مدهش لأنه لا يقل إلا بثانية واحدة عن التقدير المقبول اليوم. ويقال أنه أدخل تحسينًا على تقدير أريستارخوس لحجم وأبعاد الشمس والقمر. وقد وضع فهرسًا بالنجوم الثابتة أثبت فيها 850 نجم أو ما يزيد على ذلك، وفرق بين مقدار لمعانيها وأوضح مواقعها، وأنشأ كرة بين عليها مواقع النجوم كما حددها، وأدخل تحسينات كبيرة على آلات الملاحظة. وأخيرًا وضع كتابًا عن الجغرافيا كان أساسه نقد جغرافية أراتوسثينس ونادى فيه بضرورة تطبيق الفلك على الجغرافيا. ولم يصلنا من مؤلفات هذا العالم سوى كتاب واحد كان تعليقًا على كتابين وضعهما يودوكسوس وأراتوس، ولذلك فإننا ندين لما نعرفه عن أبحاث هذا العالم إلى ما ورد عنه في كتب المتأخرين، مثل بطلميوس وغيره من هؤلاء المؤلفين. وليس أدل على ما تدين به المدنية إلى هيبارخوس من أن كشوفه بقيت مقبولة ويستفيد منها العلماء حتى عهد كوبرنيق وجاليلي وكيلر. وعندما كشف نجمًا جديدًا ظهر لأول مرة في عهد كوبرنيق وجاليلي وكبلر. وعندما كشف نجما جديدًا ظهر لأول مرة في عهده، أخذ يفكر إذا كانت هذه الظاهرة لا يمكن أن تتكرر في أي وقت آخر،وهل النجوم التي تعتبر ثابتة لا تتحرك إطلاقًا ولعله قد قصد بفهرس النجوم الذي وضعه أن يترك للمستقبل تراثًا يساعده على أن يقدر إذا كانت ثمة نجوم تختفي ونجوم جديدة غيرها تظهر، وإذا كانت مواضع النجوم تتغير بالنسبة لبعضها بعضًا أو لا.

وإظم عبقرية مبتكرة بين علماء الرياضة الإغريق أرخميدس السراقوسي الذي ولد حوالي عام 287 وعاش حتى خربت سراقوسة في عام 212 ق.م وذات يوم اقترب منه جندي روماني بينما كان مطرقًا يفكر في رسم خطه على الأرض فصاح فيه أرخميدس ليبتعد عن رسمه، لكن ذلك أثار الجندي وقتله. وتروي عنه نوادر كثيرة، ومنها كيف أنه كشف الكثافة النوعية (Specific Gravity) ذات يوم وهو في حمام عام، فهرع عاريًا إلى بيته وهو ينادي زوجه بأعلى صوته "لقد وجدتها" وكيف أنه كان كثير النسيان إلى حد أنه كان ينسى أن يأكل. وكيف أن الوسائل الميكانيكية التي اخترعها منعت الرومان مدة طويلة من الاستيلاء على سراقوسة. وكيف أنه عندما نشأت صعوبات كبيرة حول أ،زال مركب هيرو الضخمة إلى الماء بعد إنشائها، وتولى أمر ذلك باستخدام جموعة من البكر نظمها بطريقة معينة، مبرهنًا بذلك على طريقة تحريك جسم كبير بقوة صغيرة، ثم قال للملك: "أعطين مكانًا أقف عليه وأنا أحرك الأرض من مكانها". ولاشك في أنه اخترع لولبه لرفع الماء عندما كان مقيمًا في مصر، لكنه لم يعلق أهمية كبيرة على مثل هذه الأشياء التي كان يعتبرها مجرد تسلية إذ كان يتفق مع أفلاطون في الرأي القائل بأن الفيلسوف يجب ألا يستخدم علمه في الأشياء العملية، إلا أن تطبيق نظرياته عمليًا استحوذ على أفكار الناس. وقد كان ذهنه منصرفًا كلية إلى البحث الرياضي البحت، ومن ثم فإنه أمر بأن ينقش على قبره شكل يمثل اسطوانة تغلف كرة على أن تكون النسبة بينهما في الحجم والسطح الكلي كنسبة 3: 2 مما يدل على أنه كان يعتبر ذلك أعظم كشوفه. وعندما كان شيشرون كويسورا في صقلية وجد قبره متهدمًا فأصلحه، لكنه لم يبق منه شيء اليوم. وقد رأى شيشرون بنفسه كرة فلكية اخترعها أرخميدس لتقليد حركات الشمس والقمر والكواكب. ويروي عن شيشرون أن هذا الجهاز كان دقيقًا بحيث كان يستطيع إظهار كسوف الشمس وخسوف القمر.

ويذكر كتاب قدماء ممن كانوا يعيشون في القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد أسماء كتب لهذا العالم لم يصلنا شيء منها، ولكن يظن أن هذه الكتب كانت لا تزال موجودة في عصرهم. أما ما وصلنا من كتبه فهي كتاب "‘ن التوازن على السطوح المستوية" (On Plane Equilibriums) وآخر "عن الكرة والاسطوانة" وثالث "عن الحلزونات" ورابع "عن الأشكال المخروطية والكروية" وخامس "عن الأجسام الطافية" وسادس "عن مقياس الدائرة" لكنه بمضي الزمن تركز اهتمام العالم الإغريقي على كتابين فقط من هذه الكتب وهما الكتابان الثاني والسادس، ولذلك فإن هذين الكتابين نقلاً من اللهجة الدورية التي كتبا بها في الأصل إلى اللهجة الشائعة بين الإغريق، مع إدخال بعض التعديلات عليهما ليسهل على المبتدئين استيعابهما.

ولا يمكن الدخول هنا في تفاصيل رياضيات أرخميدس، بل يكفينا أن نتبين طبيعة عمله. ويلاحظ أن رسائله في الهندسة كانت تعتمد على أبحاث يودوكسوس وتعتبر مكملة لها، إذ أن طرقه في قياس أطوال منحنيات الأشكال المستوية والمجسمات تكمل طريقة يودوكسوس التفريقية وقد كشف أن مساحة قطعة من القطع المكافئ تساوي 3/4 من مساحة المثلث الذي يتفق معها في القاعدة والارتفاع، وبذلك وضع أساس علم التفاضل في المالانهاية. وقد أثبت أن مساحة الدائرة تعادل مساحة المثلث قائم الزاوية الذي يساوي أحد ضلعيه العموديين محيط الدائرة والضلع الآخر نصف قطرها. وبعد ذلك توصل إلى أقصى وأدنى حد لقيمة النسبة التقريبية (ط)، وهي النسبةبين محيط الدائرة وقطرها.

ويعتبر كتابه عن التوازن على السطوح المستوية (Plane Equilibriums) طول رسالة علمية عن المبادئ الأولية في الميكانيكا، وقد أثبت فيه قانون الرافعة ثم توصل إلى مراكز الثقل في الشكل المتوازي الأضلاع وفي المثلث وفي الشكل شبه المنحرف وفي قطعة من قطعة من القطع المكافئ أو أي قطعة تنحصر بين المحور الأصلي وأي خط مستقيم يوازيه. وفي كتابه "حاسب الرمل" (Sand - Reckoner). أثبت أنه بالرغم من قصور الرموز العددية العادية عند الإغريق عن التعبير عن أعداد كبيرة فإنه يستطيع بطريقة خاصة ـ وقد شرحها في كتاب آخر هو كتاب "القواعد" ـ التعبير عن أي عدد مهما كان كبيرًا، مثل عدد حبات الرمل التي يمكن أن تملأ العالم، على أساس أي افتراض معقول لمساحة العالم. وقد اخترع أرخميدس علم استاتيكا الموائع (Hydrostatics)، فإنه أثبت في رسالته "عن الأجسام الطافية" أن سطح كل سائل سكان كرة تتفق في المركز مع الأرض، كما أثبت أنه إذا طفا جسم في سائل فان وزن الجسم يعادل وزن السائل الذي حل الجسم مكانه، وأنه إذا وزن في سائل جسم أثقل وزنًا من السائل فإن وزن الجسم يكون أخف من وزنه الحقيقي بمقدار وزن السائل الذي حل الجسم مكانه. وبعد ذلك بحث مراكز طفو قطعة من درة تطفو في سائل بحيث تكون كل قاعدتها فوق أو تحت مستوى سطح السائل. ثم مضي بعد ذلك في بحث كل مراكز طفو قطعة قائمة من مجسم القطع المكافئ وهي تطفو في أوضاع مختلفة، وذلك تبعًا أولاً للنسبة بين طول محور المجسم ونصف قطر القطعة، وثانيًا للثقل النوعي في الجسم بالنسبة للسائل.

والآن نعود مرة أخرى إلى الكلام عن أراتوسثينس القوريني، فقد بقى أن نذكر عنه شيئًا باعتباره عالمًا رياضيًا، إذ أنه اخترع آلة ميكانيكية لإيجاد الوسط العددي بين طول مستقيمين أو جملة مستقيمات. وقد وضع نموذج برونزي لهذه الآلة على العامود الذي أقامه أراتوسثينس اعترافًا بما يدين به من الفضل إلى بطلميوس الثالث، ونقش على هذا العامود رسم وبرهان لتأييد ما توصل إليه أراتوسثينس. وقد وضع هذا العالم الفذ كتابًا في الرياضة التي يتعين على إتباع مدرسة أفلاطون أن يتعلموها. ويبدو أن "الأفلاطون" كان يتضمن أبحاثًا عن التناسب والتعاريف الأساسية للهندسة وقواعد الموسيقى

ليست هناك تعليقات: