الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- بطلميوس الثاني

بطلميوس الثاني طباعة أرسل لصديق

بطليموس الثاني
  • في خلال العام الممتد من 2 نوفمبر عام 283 على أول نوفمبر عام 282 توفي بطلميوس الأول، فانفرد بعرش مصر ملك في عنفوان الشباب يناهز الخامسة والعشرين من عمره .

وقد دأب المؤرخون منذ قديم الأزل على أن يدعوا هذا الملك فيلادلفوس برغم أنه لم يحمل هذا اللقب إطلاقًا في حياته، فقد كان اللقب الإلهي الذي خلع على زوجة وأخته أرسينوي (Arsinoe) بعد مماتها وإنشاء عبادة خاصة بها. وتشبه ملامحه ملامح أبيه لكنها لا تنم عن القدر نفسه من النشاط، ولا غدو فإنه لم ينعم بمواهب أبيه الحربية، ولم يشغف بالقتال حتى أنه لم ير إطلاقًا على رأس جيشه. ولعل مرد ذلك إلى أن صحته كانت رقيقة. وعلى الرغم من أنه حكم مدة طويلة فإنه لم يبلغ أقصى الشيخوخة. وقد كان لهذا العاهل الذهبي الشعر سمة ملكية، وإن كان عنده استعداد بغيض للبدانة مثل أخيه غير الشقيق ماجاس، نائب الملك في قورينايئة .

وقد أكسبه الشعراء الذين شادوا بذكره مجدًا خالدًا، لكن الناس يعرفون اسمه أكثر مما يعرفون سيرته. وكان فيلادلقوس تلميذ الفلسوف استراتون (Straton) والشاعر فيلتاس (Philetas) فكانت ثقافته واسعة، وله ولع بالجغرافيا والتاريخ الطبيعي، وشغف بالبحث عن أنوا الحيوان النادرة لحداثته بالإسكندرية. وإذا كان بطلميوس الأول قد وضع نواهة المكتبة الكبرى في الحي الملكي بما جمعه من الكتب، فإن بطلميوس الثاني هو الذي نظمها وأعطاها صورتها الحقيقية، وأنشأ كذلك فيما يبدو المكتبة الصغرى التي كانت تكون جزءًا من سرابيوم الإسكندرية. ولم يتعلق هذا الملك بأهداب المسرات الروحية فقط، فقد تسلطت عليه الشهوات إلى حد أنه كان دائب البحث وراء بواعث جديدة للنشوة والسرور. فلا عجب أنه كانت له حظايا كثيرات، من كافة الطبقات، كن يثرن دهشة الإسكندرية والعالم بأسرفهن في أهوائهن وبذخهن مثل بيليستيخي (Bilistiche) التي قدمت قرابين فاخرة لمعبد دلفي وفازت بسباق العجلات في أولومبيا في عام 268، ومثل قلينو (Cleino) الساقية التي انتشرت تماثيلها في العاصمة. ولابد من أن مثل هذا التظاهر لم يغضب الملك، فقد كان فخورًا بثرائه ومولعًا بمظاهر العظمة. ونستدل على ذلك من وصف المهرجانات التي كان يقيمها، على نحو ما سنرى فيما بعد. وكان فيلادلفوس إلى جانب ذلك مستبدًا عصبيًا، ويحتمل أنه كان أيضاً حاد المزاج، وهو ما يبدو من أسلوب بعض قراراته وخطاباته، وهي التي بات من المؤكد أنه هو الذي أملاها. ونكاد نسمع إصداء غضبه المخيف، الذي صحب فضيحة قليون (Cleon) المشرف على أعمال الري في الفيوم، تتجاوب في بقايا مراسلات هذا التعس. وبالرغم من أن هذا العاهل كان محور كثير من القصص والتواريخ، فإنه لم تبق لنا عنه أدلة ك افية تمكننا من التعرف على دخائل نفسه والحكم عليها بدقة.

أرسينوي الثانية:

وإذا كان من العسير أن تتحقق مما يقال عما كان لأخطاء فيلادلفوس رجالاً ونساء من الأثر الكبير فسي سياسته، فإنه لا يخامر أحدًا الشك في أن أخته أرسينوي كانت مصدر وحيه في أوائل حكمه، وقت أن كانت سياسته طموحة نشيطة، لكن الخمول لم يلبث أن استولى على هذه السياسة فيما بعد. ولذلك يجدر بنا أن نذكر شيئًا عن هذه الملكة، التي يدور الجدل حول خلقها والدور الذي لعبته. وأجمل نقودها الذهبية ـ تلك التي سكت في خلال حياتها ـ تكسبها جمالاً ملكياً، حتى ليبدو محالاً أن ملامح بها هذا النبل وهذا الصفاء كان يمكن أن تتفق مع فساد الروح وانخطاطه. ومع ذلك فإن أرسينوي، في رأي بعض المؤرخين، فتتح سلسلة أولئك الملكات السياسيات، اللائي ملكتهن الخيلاء وتسلطت عليهن شهوة الحكم واستخففن بوخز الضمير.

وقد تزوجت أرسينوي ثلاث مرات لأسباب سياسية في المرة الأولى من لوسيماخوس (حوالي عام 300) لتخدم أغراض أبيها السياسية، وفي المرة الثانية من بطلميوس "الصاعقة" (280) لتضمن لنفسها وأولادها من لوسيماخوس ملك مقدونيا، وفي المرة الثالثة من بطلميوس الثاني (276-275) لتحقق لنفسها آمالها في الحكم والسيطرة. ذلك أنه بعد ضياع آمالها في حكم تراقيا ومقدونيا، عادت إلى الإسكندرية، حيث اكتسبت على أخيها الملك سلطة لا تقهر. وقد كان فيلادلفوس متزوجًا عندئذ من أرسينوي الأولى، وكانت بمثابة ابنة أخته أرسينوي الثانية، لأنها كانت ابنة زوجها لوسيماخوس، بيد أن أرسينوي الثانية سرعان ما دبرت أبعاد أرسينوي الأولى إلى فقط (Coptos) بتهمة التآمر ضد الملك (276-275)، ثم تزوجت أرسينوي الثانية من أخيها ملك مصر. وقد كان زواج الأخ من أخته الشقيقة يعتبر فسقًا في نظر الإغريق وإن كان الإله زيوس والآلهة هيرا (Hera) لم يتقيدا بهذا القانون البشرى. ولم يفت ثيوقريتوس (Theocitos) شاعر البلاط أن يمجد هذا "الزواج المقدس" الجديد. وأما الشاعر الهجاء سوتادس (Sotades) فإنه جزاء اجترائه على التنديد بهذا الزواج لقى حتفه وفقًا لوراية أثينابوس أو ألقى في غياهب السجن بضع سنوات وفقًا لوراية بلوتارخ.

وإذا كان من المحتمل أن أرسينوي الثانية لم ترتبك كل الجرائم التي عزاها إليها المؤرخون، فإنه لا سبيل إلى الشك في أنها كانت لا تترفع عن استخدام أي وسيلة في سبيل الفوز بالسلطان، ولا أدل على ذلك مما رأيناها تفعله لترتقي عرش مصر. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي انزلقت فيها إلى الشر بسبب تعطشها إلى الحكم، فسنرى بعد قليل أنها حين كانت زوجة لوسيماخوس ارتكبت جريمة منكرة لتضمن السلطة لنفسها والعرش لأكبر أبنائها، لكن أخاها غير الشقيق "الصاعقة" الذي تزوجته بعد وفاة لوسيماخوس لم يلبث أن بدد هذا الحلم.

الظروف تخدم فيلادلفوس:

ولنتتبع الآن أحداث العالم الهلينيسي منذ انفراد بعرش مصر بطلميوس الثاني، الذي أدت إليه الظروف خدمة جليلة. ذلك أنه في مستهل حلكمة انهارت إمبراطورية لوسيماخوس، وأحدقت بإمبراطورية سلوقس أزمة كادت تقضي عليها. وفي الوقت نفسه أثارت غزوة العال اضطرابًا كبيرًا في أوروبا وفي آسيا، وكان من حسن طالع فيلادلفوس أن مصر لم تعرف الغال إلا بمثابة جنود مرتزقة.

إنهيار إمبراطورية لوسيماخوس ومصرعه:

وقد أفضت إحدى مآسي القصر في مقدونيا إلى القضاء على لوسيماخوس العجوز، وكانت المنافسات والدسائس تقطع أوصال بلاطه، حيث كانت زوجة الشابة أرسينوي شقيقة ملك مصر تتمتع بنفوذ يعادل أطماعها الواسعة. وقد مر بنا أنها كانت تريد السلطة لنفسها والعرش لابنها الأكبر، لكن أجاثوقلس ـ الابن الأكبر للوسيماخوس من نيقايا ابنة أنتيباتروس، وقاهر دمتريوس في آسيا الصغرى في عام 286، وزوج لوساندرا أرملة الإسكندر بن قاسا ندروس وأخت أرسينوي لأبيها ـ كان الوريث الشرعي الذي أكسبته هذه الصلات وشجاعته ومولده كافة الفرص والحقوق. وزاد لهيب المنازعات في بلاط لوسيماخوس وجود بطلميوس الصاعقة هناك، وكان يعمل دائبًأ لتحقيق ما كان يستهدفه وسبقت الإشارة إليه. وأفضت هذه المنازعات إلى أن أرسينوي لأبيها ـ كان الوريث الشرعي الذي أكسبته هذه الصلات وشجاعته ومولده كافة الفرص والحقوق. وزاد لهيب المنازعات في بلاط لوسيماخوس وجود بطلميوس الصاعقة هناك، وكان يعمل دائبًا لتحقيق ما كان يستهدفه وسبقت الإشارة إليه. وأفضت هذه المنازعات إلى أن أرسينوي أنهمت أجاثوقلس باطلاً بتدبير مؤامرة لاغتيال أبيه. ويحدثنا باوسانيساس بأن أرسينوبي نقمت على أجاثوقلس أما لأنه ضدها عندما إرادته عن نفسها، وأما، وهو الأصح عندنا، لأنها أرادت أن تتخلص من منافسته فيخلو الجو لها ولابنها. وعلى كل حال فإن لوسيماخوس قضى بإعدام ابنه (عام 284)، ففرت لوساندرا إلى سلوقس. ولم يلبث بطلميوس الصاعقة أيضاً أن التجأ إلى سلوقس فأحسن وفادته معاملاً إياه معاملة الوريث الشرعي لعرش مصر، تنويهاً عن استعداد سلوقس لمساعدة ضيفه على تحقيق أمانيه. ويفسر ارتحال الصاعقة من بلاط لوسيماخوري إلى بلاط سلوقس بأنه قبيل ذلك (عام 283) خطب بطلميوس الثاني أرسينوي ابنة لوسيماخوس، وإزاء هذا التقارب بين فيلادلقوس ولوبسيماكوس، فإن ممتلكاته في آسيا خرجت تباعاً عن طاعته. وفي عام 282 ساوقس الطوروس استجابة لدعوة هذه الممتلكات فيما يبدو، وعندئذ مسلم إليه فيلتايروس (Philetaeros) برجام وما فيها من الأموال. وقد تسلم ساوقس أيضاً ساردس وكنوزها. وفي عام 281 خرج لوسيماخوس على رأس جيشه لاسترداد إمبراطوريته الأسيوية، فالتقى مع ساوقس عند قوروبديون (Koroupedion) في لوديا، وكانت آخر المعارك العظمى بين خلفاء الإسكندرية، وفيهما هزم لوسيماخوس وقتل.

مصرع سلوقس، إرتقاء "الصاعقة" عرش مقدونيا!

وعندما خرج سلوقس مظفرًا من هذه المعركة، وجد إمبراطورية الإسكندر عدا دولة البطالمة عند موطئ قدميه. ذلك أنه منذ أكثر من عشر سنين عقد معاهدة مفيدة في مجموعها أنهت الحرب بينه وبين ساندراقوتاس (Sandracottas) ملك الكنج والسند، وبذلك أمن حدوده الشرقية. والآن دانت له كل آسيا الصغرى تقريبًا، وأصبح عرش مقدونيا شاغرًا. فدارت بخلده فكرة أحياء إمبراطورية الإسكندر ونسى ما بذله من الوعود لبطلميوس الصاعقة ولوساندرا، وعبر الدهفيل في بداية عام 280 ليستولى على مقدونيا قلب الإمبراطورية. لكن بطلميوس الصاعقة، وقد شعر بأن سلوقس لن يقيمه على عرش مصر وسيحرمه كل أمل في مقدونيا، انقض عليه وقتله، ونادى الجيش بقاتل آخر خلفاء الإسكندر الذين عاصروه ملكًا على مقدونيا.

تحالف فيلادلفوس وبطلميوس الصاعقة:

وقد كان يناصب ملك مقدونيا الجديد العداء أثنان، أحدهما هو أنطيوخوس الأول (Antiochos)، الذي خلف أباه سلوقس في آسيا، ولم يكن في وسعه أن يدع جانبًا أطماع أبيه في عرش مقدونيا، ولا ضرورة الثأر له من قاتله، والآخر هو أنتيجونوس جوناتاس بن دمتريوس محاصر المدن، وكان هو أيضًا يطالب بعرش مقدونيا، وكان مركزه قويًا في بلاد الإغريق إلى أن هزمه بطلميوس الصاعقة في موقعة بحرية في عام 280 وثار عليه الإغريق في ذلك العام. وكان عدوًا بطلميوس الصاعقة منافسين لأخيه ملك مصر، ومن ثم أصبح الأخوان حليفين طبيعيين ضد أنطيوخوس وأنتيجونوس، ولا سيما أن بطلميوس الصاعقة سارع إلى مناشدة صداقة أخيه ملك مصر معلنًا تناسيه حرمانه أرثه واكتفاءه بما أكتسبه على حساب عدو أيهما. وقد وطد بطلميوس الصاعقة مركزه بانتصاره على أنتيجونوس في عام 280، وبارتكابه جريمة جديدة خلصته من أشخاص كان من الممكن أن ينافسوه، وهم أبناء أرسينوي من لوسيماخوس وبيان ذلك أنه لكي يتقي هذا الخطر ويستولى على قاساندريا، وكان أرسيوي تسيطر عليها، تزوج من هذه السيدة بالرغم من أنها كانت أخته واعدا إياها بأن يتبنى أبناءها، لكنه ما كاد يدخل قاساندريا حتى قتل اثنين منهم. ففرت أرسينوي وثالثهم إلى ساموتراقيا ثم إلى أفوس (آخر عام 280). وعلى الرغم من أن أرسينوي كانت أخت ملك مصر، فإن ارتكاب هذه الجريمة لم يؤد إلى اتخاذ أي إجراء ضد "الصاعقة" لأن مصر كانت مشتبكة عندئذ في حرب مع أنطيوخوس، كما سنرى.

غزوة الفال، مقتل الصاعقة، جوناتاس ملك مقدونيا:

وعلى كل حال فإن حكم بطلميوس الصاعقة لم يعمر طويلاً، إذ أنه قتل في عام 279 في أثناء الدفاع عن مملكته ضد الغال، الذين غزوا مقدونيا وأشاعوا الفوضى في أرجائها وتقدموا في بلاد الإغريق الوسطى حتى دلفي، حيث هزمهم الأيتوليون في عام 279، فارتدوا إلى مقدونيا حيث انتصر على فريق منهم أنتيجونوس جوناتاس في عام 277، فاختاره الجيش المقدوني ملكًا على مقدونيا، ثم شغل حتى عام 272 بمحاربة الإغريق وبوروس ملك أبيروس بعد عودته من حملته المشهورة في إيطاليا.

الغال في آسيا الصغرى، العصبة الشمالية:

وقد كان لغزوة الغال أثرها في الجزء الشرقي من العالم الهلينيسي، حيث كان أنطيوخوس يطمح إلى أن يكون خليفة أبيه بحق ويحكم ولاياته الشرقية وكل آسيا الصغرى، بما في ذلك جزؤها الشمالي الذي كان يجتازه قرب شاطئ البحر الأسود الجنوبي طريق حربي هام يربط الجزء الشرقي من إمبراطورية السلوقيين بمقدونيا، وكان أنطيوخوس يرنو ببصره إليها. وكان يقف في وجه أطماع أنطيوخوس دول شمال آسيا الغرى، وكانت تتألف منها عصبة تسمى "المصبة الشمالية" ، وتضم المدن الحرة القوية هيراقليا وبيزنطة وتيوس (Teos) وقيوس (Ceos) وكذلك مملكة بونتوس (Pontos) وكان على عرشها إذا ذاك ميثريداتس الثاني (Mithridates)، ومملكة بيثونيا، وكان يحكمها عندئذ نيقومدس الأول (Nicomedes). وقد انضم إلى هذه العصبة أنتيجونوس جوناتاس عقب هزيمته في عام 280 وثورة بلاد الإغريق عليه، وكان دون شك يأمل في أن ينشئ لنفسه مملكة في آسيا الصغرى.

وإذا كان أنطيوخوس قد أفلح في أبعاد أنتيجونوس عن هذه العصبة بأن عقد معه محالفة، يبدو أنه بمقتضاها تنازل الأول عن أطماعه في مقدونيا والثاني عن أطماعه في آسيا فإن العصبة الشمالية بقيت مع ذلك قوية، لكنه لم تكن لديها القوة الكافية لمكافحة أنطيوخوس بمقردها. ولذلك قرر نيقومدس وميثريداتس الاستعانة بالغال وساعداهم على عبور الدردنيل، فأوسعوا ممتلكات أنطيوخوس في آسيا الصغرى نهباً وتخريبًا. ولم يستطع أنيطوخوس مواجهة هذا الخطر في الحال وطرد الغال من آسيا الصغرى، لأنه كان مشغولاً عندئذ بثورة داخلية في سوريا وبحرب مع فيلادلقوس (280 ـ 279). وقد ساعد نيقومدس وميثريداتس الغال على الاستقرار في فروجيا، ليكون وجودهم هناك درعًا واقيًا للعصبة الشمالية. وقد عاث الغال فسادًا في آسيا الصغرى، ولم يفلح أنطيوخوس إطلاقًا في التخلص منهم، على الرغم من الهزيمة الفادحة التي أنزلها بهم في موقعة الفيلة في عام 275، عندما كان النضال قد بدأ ثانية، فيما يبدو، بينه وبين فيلادلفوس.

أهداف الدول الهلينيسية، مصر وسوريا ومقدونيا:

تمخض الصراع بين خلفاء الإسكندر آخر الأمر عن قيام ثلاث دول على أنقاض إمبراطورية الإسكندر الأكبر. وكانت دولة البطالمة عندئذ أقوى هذه الدول، أي أقوى دولة في العالم الهلينيسي، تليها دولة السلوقيين، وكانت تشمل ولايات إمبراطورية الإسكندر في بلاد ما بين النهرين وكذلك أغلب الولايات الشرقية البعيد’ن وجانبًا كبيراً من آسيا الصغرى وسوريا (فيما عدا جوف سوريا). وكانت الدولة الثالثة هي مقدونيا، وكانت تعتبر نفسها سيدة المدن الإغريقية في شبه جزيرة البلقان وتسيطر فعلاً على بعضها مثل خالقيس وقورنثة.

وقد كانت لكل من هذه الدول حاجاتها ومراميها وكذلك خطتها ووسائلها لتحقيق ذلك. وعلى الرغم من أن مصر خرجت من الصراع العنيف بين خلفاء الإسكندر أقوى وأغنى دولة هلينيسية، فإنه لا بطلميوس الأول ولا الثاني فكر في إعادة تكوين إمبراطورية الإسكندر. فقد كان هدفهما الأساسي على نحو ما مر بنا، هو الدفاع عن استقلال مصر الكامل ولعب الدور الأول في حلبة السياسة وفي مضمار الاقتصاد في العالم الهلينيسي، وكانت أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي إحراز السيطرة على بحر أيجة. ويجب أن يكون مفهومًا أن السيطرة على عصبة جزر القوقلاد، وهي التي فاز بها أولاسوتر ثم وطد دعائمها فيلادلفوس، كانت لا تكسب مصر إلا السيطرة حاول فيلادلفوس الاستيلاء على شواطئ آسيا الصغرى الجنوبية والغربية، وبسط نفوذه على المراكز التجارية الهامة على ضفاف الدردنيل وبحر مرمرة وشاطئ البحر الأسود الجنوبي. ومن ناحية أخرى، كانت سلامة هذه الإمبراطورية الإيجية تتطلب الاستيلاء على الموانئ الكبيرة على شواطئ فينيقيا وفلسطين، وخاصة صور وصيدا، إذا كان ذلك يضع تحت أمرة صاحب السيطرة هناك أمهر الملاحين في الجو المتوسط وقدرًا وفيرًا من الأخشاب لبناء السفن وأهم منافذ طريقين تجاريين كبيرين يأتي أحدهما شمالاً من بلاد العرب والبتراء والآخر غربًأ من بابل ودمشق. ولذلك عنى الطبالمة، وخاصة الأوائل منهم، بالاستيلاء على فلسطين وفينقيا وجانب من سوريا (جوف سوريا).

وقد حدت الرغبة في السيطرة على بحر أيجة بالطالمية الأوائل إلى أن يحالولوا تقوية نفوذهم في أهم الموانئ الإغريقية، ليمنعوا حكام مقدونيا من أن يصبحوا أقوياء في البحر. ولم يمل هذه السياسة على البطالمة اعتبارات اقتصادية فحسب، إذا كانوا يعتبرون سيطرتهم على بحر أيجة أساس كيانهم السياسي ومصدر قوتهم. ذلك أن عزلتهم في مصر كانت تضعهم أمام دولة السلوقيين، وكانت في قبضتها المدن الإغريقية في الأناضول، وأمام مقدونيا وكانت تسيطر على إغريق البلقان. في حين أن سيطرة البطالمة على الطرق التجارية في بحر أيجة وعلى "جوف سوريا" كانت توفر لهم موارد جمة من الرجال والأموال. ولم تكن سيطرتهم على الطرق التجارية هدفًا في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية. ومن الجلى أن هذه السياسة كانت تضر بصوالح الدولة السلوقية ومقدونيا، وتنطوي على ضياع استقلال المدن الإغريقية في الجزر وفي آسيا الصغرى، ولذلك كان البطالمة لا يستطيعون تحقيق أهداف سياستهم الخارجية دون القيام بمجهود حربي عنيف مستمر.

وكان طبيعيًا إذن ألا يسلم السلوقيون باستيلاء البطالمة على "جوف سوريا" وعلى شواطئ آسيا الصغرى، لأن حدوث ذلك كان يحرمهم موارد ضخمة وإنشاء أسطول كبير والاحتفاظ به في موانئ تلك الأصقاع، بل كان يُتيح للبطالمة أن يسدوا في وجوههم سبل الاتصال بالبحر المتوسط، فتصبح دولتهم مملكة شرقية بحتًا منعزلة تمامًا عن العالم الإغريقي. وإذا كانت الظروف القاهرة قد أرغمت السلوقيين على النزول عن شمال آسيا الصغرى، فإنهم كانوا لاي سلمون طواعية لدولة أخرى بالسيطرة على "جوف سوريا" وشواطئ آسيا الصغرى الجنوبية والغربية. وإزاء ذلك كله لم يكن هناك مفر من أن يصطدم السلوقيون بالبطالمة اصطدامًا عنيفًا.

ولم يكن في وسع ملوك مقدونيا، أنتيجونوس جوناتاس ودمتريوس الثاني وأنتيجونوس دوسون (Doson)، أن يسلموا بسيطرة البطالمة على بحر أيجة، لأنه كان يترتب على ذلك انتقال السيطرة على مؤنة بلاد الإغريق من قبضة مقدونيا إلى قبضة دولة معاديلة لها، فقد كانت السيطرة على بحر أيجة تقضي إلى السيطرة على المضايق، وكان عن طريقها يأتي جانب كبير من مؤنة بلاد الإغريق. وكان البطالمة يحرصون على ألا تصبح مقدونيا دولة قوية لأن ذلك كان يؤدي إلى إحياء إمبراطورية دمتريوس الأول البحرية، مما يترتب عليه القضاء على سيادتهم الأيجية، ولذلك سنرى كيف أن البطالمة كانوا يعملون على تأييد منافسي ملوك مقدونيا وأعدائهم، وبخاصة أثينا والعصبة الآخية واسبرطة. ومن ناحية أخرى عندما تخلصت مقدونيا من متاعبها في بلاد الإغريق، عملت على طرد البطالمة من بحر أيجة، وبطبيعة الحال أيدها لاسلوقيون في ذلك. وعلى لارغم من الأخطار التي أحدقت بالبطالمة باستمرار في بحر أيجة، فإنهم نجحوا في إقامة سيطرتهم هناك والاحتفاظ بها مدة طويلة.

حرب قاريا، أو حرب دمشق:

وقد بدأ النضال العنيف بين أنطبوخوس الأول وفيلادلنوس في عام 280، عندما نشبت بينهما حرب غامضة (280 ـ 279) يمكن تسميتها "حرب قاريا"، لأن مصر أحرزت من ورائها فتوحات في قاريا، فقد وقعت ميلتوس بوجه خاص في قبضتها، أو "حرب دمشق"، لأن فيلادلفوس استولى على دمشق وشاطئ فينيقيا الشمالي حتى أرادوا وعلى كل حال فإنه، إزاء خطر الغال على أنطيوخوس من ناحية وانشغال فيلادلفوس بحملة ضد النبط من ناحية أخرى، عقد الصلح بين الطرفين في عام 279.

خملة فيلادلفوس ضد النبط وجيرانهم:
وقد شغل بطلميوس في العامين التاليين (278-277) بإخضاع قبائل أدومايا والبحر الميت وشرق الأردن. ومرد نشاط بطلميوس الثاني ضد النبط وجيرانهم إلى الأهمية التي كان هذا العاهل يعلقها على التجارة الشرقية، مما حدا به أيضاً إلى اقتفاء أثر أبيه في القيام ببحوث كشفية لمعرفة شواطئ البحر الأحمر وشعوبه وموارد الثروة هناك، والي الاهتمام بالطرق التي تربط وادي النيل بالبحر الأحمر وبإنشاء الموانئ على هذا البحر، على نحو ما سنرى في سياق الحديث عن التجارة.

الحرب السورية الأولى:

ولما كان أنطيوخوس قد انتقل في عام 276 إلى ساردس لملاقاة الغال، فإن ذلك أغرى فيلادلفوس على خوض غمار حرب تعرف بالحرب السورية الأولى. وتتضارب الآراء تضاربًا شديدًا حول تواريخ أحداث هذه الحرب، لكننا نرجع أنه في ربيع 275 جردفيلادلفوس حملة غزت سوريا السلوقية. وما كاد أنطيوخوس يهزم الغال في "موقعة الفيلة" في ذلك العام حتى خف إلى سوريا حيث هزم القوات المصرية واسترد دمشق، وحاصرت قواته البرية ولابحرية مدينة ميلتوس (عام 275)، لكن قاليقراتيس (Callicrates) أمير البحر البطلمي لم يلبث أن تمكن من رفع هذا الحصار، وفي هذه الأثناء أخذ أنطيوخوس يعد العدة لغزو جوف سوريا.

ويرى البعض أن زواج فيلادلفوس من أخته أرسينوي كان نتيجة للهزيمة التي حلت به في سوريا وأشعرته بعدم كفايته الحربية وبحاجته إلى شخصية تسد هذا النقص. بيد أنه لعل الأرجح أن يكون هذا الزواج قد تم قبل نشوب الحرب السورية الأولى، وأن الأقدام على غزو سوريا السلوقية كان وليد الطموح الذي بثته أرسينوي في سياسة مصر الخارجية.

ثورة ماجاس:

مر بنا أن قورينايئة ثارت على بطلميوس في عام 313، وأنه أخضعها وأسند حكمها ثانية إلى أوفلاس وأن هذا الحاكم خرج على بطلميوس في عام 311، وأنه عقب مصرع أوفلاس في عام 309 استعاد بطلميوس في عام 311، وأنه عقب مصرع أوفلاس في عام 309 استعاد بطلميوس قورنايئة وأقام عليها ماجاس ابن زوجته برنيقي فأصبح نائب الملك في حكم هذا الإقليم منذ عام 308. بيد أنه استنداً إلى فقرة غامضة مقتضية عند باوسانياس، وإلى بعض النقود التي نقشت عليها عبارة تنم عن سكها باسم الشعب القوريني (Kyranion damo) وذلك تمييزاً لها عن النقود التي نقشت عليها عبارة تنم عن سكها في عهد بطلميوس حاكم القورينيين (Kyranion Ptolemaio)، يرى فريق من الباحثين أنه نشبت في قورينايئة ثورة أخرى كانت على الأرجح في أعقاب هزيمة بطلميوس في موقعة سلاميس في عام 306، وأن ماجاس استرد قورينايئة في عام 301 حين استرد بطلميوس جوف سوريا وقبرص، وأن ما جاس انتهز فرصة وفاة بطلميوس في عام 283 وأعلن استقلاله بقورينايئة وأقام نفسه ملكًا عليها. واستنادًا إلى فقرة باوسانياس سالفة الذكر، وإلى أنه في عام 308 كانت سن ماجاس لا يمكن أن تزيد على خمسة وعشرين عامًا مما يصعب معه تصور اسناد حكم قورينايئة إليه عندئذ، يرى فريق آخر من الباحثين أن ماجاس لم يتول حكم قورينايئة إلا حوالي عام 300، وأنه حكمها منذ هذا التاريخ حتى عام 250 أولاً باسم بطلميوس الأول حتى وفاة هذا العاهل في عام 283 ثم منذ ذلك التاريخ حتى وفاته في عام 250 بوصفه ملكًا مستقلاً.

ويدحض الرأي الأول: أولاً، أنه لا يجوز الاعتماد على فقرة باوسانياس المقتضية في تأريخ ثورة قورينايئة واستردادها لأنها تذكر استرداد قورينايئة بعد استعادة بوروس عرشه هو ما لم يحدث قبل عام 297. وثانيًا، وأما عن النقود التي يوحى نقشها بتحرر قورينايئة من ربقة ب طلميوس فإنه ليس هناك ما يقطع بنسبتها إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ويحول دون نسبتها إلى الفترة المضطربة التي أعقبت وفاة ماجاس على نحو ما سيجئ ذكره. وثالثًا، أنه لا يوجد في المصادر القديمة ما يشير إلى وقوع ثورة في قورينايئة في عام 306 ولو أن شيئًا مثل ذلك قد حدث لورد ذكره عند ديودوروس وهو الذي يتناول بإفاضة أحداث ذلك العام. وإزاء انفاق الرأيين الأول والثاني على أن ما جاس أعلن استقلاله في عام 283، وإزاء اتصال هذه المسألة بالأحداث التالية، فإننا سنتناول مناقشة هذه المسألة فيما بعد.

وينقض الرأي الثاني: أولاً ـ ما ذكرناه في بداية تفنيد الرأي الأول خاصًا بفقرة باوسانياس. وثانيًا ـ أن ماجاس لم يكن فردًا عاديًا من عامة الناس وإنما أحد أفراد أسرة البطالمة ولابد من أن يكون قد أظهر من المواهب ما أقنع بطلميوس بأهليته لتولي حكم قورينايئة وهو ما حدث بالفعل سواء في عام 308 وفقًا لما نراه ويراه كثيرون غيرنا أم في حوالي عام 300 وفقًا لأصحاب الرأي الثاني. وثالثًا ـ أن أحد مصادرنا القديمة يحدثنا بأن بطلميوس استعاد تورينايئة عقب مصرع أوفلاس في عام 309، وأن مصدراً قديمًا آخر يذكر أن ماجاس حكم خمسين عامًا، أي من حوالي عام 300 إلى عام 250 وفقًا لأصحاب هذا الرأي، ومن حوالي عام 308 إلى حوالي عام 258 وفقًا لرأينا ورأى الكثيرين من الباحثين. وإذا جاز أن الخمسين عامًا التي ذكرها المصدر القديم ليست إلا رقمًا تقريبيًا فإنه يمكن أن نقبل أن ماجاس لم يتوف في عام 358 بالضبط ولكنه يصعب قبول أنه توفي في عام 250 وإلا لكان الرقم التقريبي ستين عامًا. ورابعًا ـ لو صح أن ماجاس توفي فعلاً في عام 250، لكان معنى ذلك أن تدخل أنيجونوس جوناتاس في شئون قورينايئة بعد وفاة ماجاس ـ على نحو ما سيجئ ذكره فيما بعد ـ قد حدث بعد اضمحلال قوته نتيجة لثورة الإسكندر ابن أخيه عليه في حوالي عام 252، وهو ما يبدو غير معقول ولا مقبول.

وأما عن مسألة إعلان ماجاس استقلاله بقورينايئة وإقامة نفسه ملكًا عليها، فإنها في حد ذاتها ليست موضعًا للجدل، ذلك أنه قد وصلت إلينا حتى الآن ثلاث نقوش ذكر فيها اسمه مقرونًا بلقب ملك. وأما موضع الجدل فهو تاريخ هذا الإعلان. ولتقرير ذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن بطلميوس الثاني أشرك في الملك مع أبيه منذ عام 285، أي أنه عند وفاة أبيه بعد ذلك بعامين لم يكن مفتقرًا إلى التدريب ولا إلى معرفة احتياجات الدولة، ولا كان حدثاً صغيراً بل شاباً ناضجًا في الخامسة والعشرين من عمره. هذا إلى أنه عندما انفرد بالملك في عام 283 كانت مملكته أقوى وأغنى مملكة في العالم الهلينيسي. ولا شك في أن فيلاذلفوس كان يدرك مثل أبيه أهمية قورينايئة لتأمين سلامة مصر، كما كان يدرك أنه بوصفه ملكًا جديدًا كان يجب أن يثبت للعالم أجمع أنه لا يقل عن أبيه بأساً ولا حرصًا على الحفاظ على مسمتلكات دولته. والواقع أن تاريخ فيلادلفوس يدل على أنه لم يعمل على الحفاظ على هذه الممتلكات فحسب بل أيضاً على الإضافة إليها، ومن ثم فإنه لا يعقل أنه كان يسلم طواعية بانشقاق ماجاس وانفصال قورينايئة عن الإمبراطورية ا لبطمية.

وتبعًأ لذلك لو أنه حدث فعلاً أن ماجاس أقدم على إعلان استقلاله عقب وفاة بطميوس الأول في عام 283 لبادر فيلادلفوس إلى تأدبية بدلاً من الاشتباك مع أنطيوخوس الأول في حرب قاريا أو حرب دمشق ثم في الحرب السورية الأولى على نحو ما مر بنا، ولكن المصادر القديمة لا تشير إطلاقًا إلى وقوع أي نزاع بين فيلادلفوس وماجاس قبل عام 274، ولم يتمثل هذا النزاع في حملة بطلمية موجهة ضد ماجاس لرده إلى حظيرة الإمبراطورية بالبطلمية وإنما في حملة قادها ماجاس ضد مصر. ذلك أنه يتبين من أحد المصادر القديمة أنه قبل إقدام ،طيوخوس الأول على عدو جوف سوريا (عام 274) تحالف مع ماجاس وزوجه ابنته أيامًا (Apama). ونعتقد أن ماجاس لم يعلن استقلاله وينادي بنفسه ملكًأ إلا عندئذ، لأ،ه لم يكن في وسعه الاجتراء على اتخاذ هذه الخطوة دون أن يكون له حليف قوي يشد أزره ضد فيلادلفوس. بيد أن هذا لا ينفي أن رغبة ماجاس في الاستقلال كانت تراوده منذ وفاة بطلميوس الأول ولا أنه أخذ يستعد لتحقيقها في الوقت المناسب. وما أن تحالف مع أنطيوخوس حتى زحف على مصر وكاد أن يصل إلى الإسكندرية بسبب ثورة الجنود الغال في جيش فيلادلفوس، ولكن تدابير أرسيوي نجحت في إثارة قبائل المارماريد (Marmaridae) في مؤخرة ماجاس فاضطر إلى التقهقر سريعًا. وأما الغال فإنهم حوصروا وقضى عليهم جميعًا.

ولما كنا سنرى بعد قليل النجاح الباهر الذي أحرزه فيلادلفوس في الحرب ضد أنطيوخوس، وكنا لا نسمع بعد ذلك عن وقوع أي نزاع بين الأخوين غير الشقيقين (ماجاس وفيلادلقوس) ولا عن قيام ماجاس بأية محاولة عدوانية ضد مصر ولاسيما في أعقبا النكبات التي مني بها فلادلفوس في الحرب السورية الثانية، فإننا نرجح أنه عقب فشل حملة ماجاس وانتصارات فيلادلفوس في الحرب السورية الأولى أتفق الأخوان على أن يدين ماجاس بالطاعة لأخيه لقاء الإعتراف به ملكًأ على قورينايئة، أو بعبارة أخرى الانفاق على إعطاء قورينايئة استلالاً ذاتيًا مع بقائها في حظيرة الإمبراطورية البطلمية.

ولعل المخاطر التي سلفت الإشارة إليها كانت سبب الفشل الذي منيت به القوات المصرية في سوريا، ولذلك فإنه ما كادت مصر تتخلص من هذه المخاطر حتى عادت إلى مهاجمة أنطيوخوس، فاستولت على كل شاطئ فينيقيا وردته على أعقابه داخل سوريا وأحرزت فتوحات واسعة على شواطئ آسيا الصغرى، فاضطر أنطيوخوس قد تمكن من الاحتفاظ بنصف قيليقيا الشرقي، فإن ممتلكات فيلادلفوس عند عقد الصلح كانت تشمل نصف قيليقيا الغربي بعد قالوقادنوس (Calycadnos) وساحل بامفوليا الشرقي بما في ذلك فاسليس (Phaselis)، ومن المحتمل أسبندوس (Aspendos) وأغلب لوقيا جنوبي ميلواد (Milyad)، وعدة أماكن في قاريا وأيونيا وهي: قاونوس وهاليقارناسوس وموندوس (Itanos) إلى جانب ساموس (التي أصبحت قاعدة الأسطول البطلمي في بحر أيجة) وثيرًا والقوقلاد. وفي سوريا، امتدت ممتلكات مصر حتى شملت وادي مارسياس، وإذا كانت دمشق قد بقيت في قبضة أنطيوخوس، فإن فليلادلفوس ضم أرادوس (Ardaos) وماراثوس (Marthos) وبذلك أصبحت كل فينيقيا مصرية. وعلى حدود مصر الغربية دانت له بالطاعة قبائل المرماريد (Marmaridae) عند الساحل وكذلك قورينايئة، وفي 9 من يولية عام 270 "صعدت إلى السماء" أرسينوي الثانية، وهي التي عزى إليها رسميًا كل هذه الانتصارات الباهرة، فلا عجب أنها قد فازت بمظاهر التقدير والتبجيل في حياتها وفي مماتها.

بطلميوس الابن:

ويحدثنا بأوسانياس بأن أرسينوي الثانية توفيت دون أن تنجب أبناء من فيلادلفوس. ويذكر مصدر قديم آخر أنها تبنت أولاد فيلادلفوس من زوجته السابقة وأن أ:برهم سنًا كان بطلميوس الثالث.

ونجد أنه في عدد من الوثائق البدموتيقية والإغريقية التي ترجع إلى فترة تمتد بين عامي 267 و259 قد ورد ذكر "بطلميوس ابن بطلميوس" بوصفه شريكًا في الملك لفيلادلفوس. ومما يجدر ذكره أن هذا الشريك قد ذكر في "وثيقة الدخل" التي ترجع إلى عام 259 ثم أزيل اسمه من هذه الوثيقة، وأنه لم يرد له ذكر بعد ذلك في الوثائق اللاحقة لهذا التاريخ.

وقد تضاربت آراء المؤرخين تضاربًا بينًا فيمن كان هذا الشخص الذي أشركه فيلادلفوس مع منذ عام 267 على الأقل حتى نحاه عنه في عام 259. وهناك خمسة احتمالات:

1- أنه كان بطلميوس الثالث وأن أسمه حذف من الوثائق منذ عام 259 لسبب غير معروف، لكنه يناهض هذا الاحتمال أن هذه الفترة الطويلة لم تحسب في سنى حكم بطلميوس الثالث مع أنه، وفقًا للسباقة التي وضعها بطلميوس الثاني، احتسب بداية سني حكمه منذ أشركه أبوه معه في الحكم في نوفمبر عام 247، وذلك للمرة الثانية وفقًا لهذا الافتراض غير المقبول، أو للمرة الأولى وفقًا لما نراه مع فريق من المؤرخين. وفضلاً عن ذلك فإنه ليس لدينا ما ينم عن سبب لحذف اسم ولي العهد من الوثائق منذ عام 259.

2- أنه كان ابنًا أنجبته أرسينوي الثانية لفيلادلفوس، لكن هذا الاحتمال لا يستقيم مع ما ذكره باوسانياس من أن أرسينوي الثانية توفيت دون أن تنجب لفيلادلفوس أبناء.

3- أنه كان أخًا أكبر لبطلميوس الثالث، لكنه يستبعد هذا الاحتمال ما أسلفناه من أن بطلميوس الثال كان أكبر أخوته.

4- أنه كان ابنًا غير شرعي لبلطميوس الثاني من إحدى حظاياه. وإذا كان يصعب إنكار كان لفيلادلفوس أبناء غير شرعيين، فإنه مع ذلك لا يستقيم عقلاً أن يرحم فيلادلفوس ابنه الشرعي لصالح ابن غير شرعي.

5- أنه كان الابن الأكبر لأرسينوي الثانية من لوسيماخوس، ذلك الابن الذي نجا من قبضة "الصاعقة". ومعنى ذلك أن تكون أرسينوي عندما سيطرت على فيلادلفوس وجعلته يتزوجها قد جعلته أيضاً يتبنى هذا الابن مثل ما تبنت هي أبناءه من زوجته الأولى. وعندما توفيت أرسينوي وغمرها فيلادلفوس بمظاهر الاحترام والتقدير لم يكن منه إلا أنه أشكر ابنها معه في الحكم، لكنه نحاه في عام 259 عندما ثار عليه هذا الابن العاق، ذلك أن مصدرًا قديمًا يذكر اشتراك "ابن الملك بطلميوس" مع تيمارخوس في ثورة ضد أبيه. ولا جدال في آن تيمارخوس الذي كان حاكم ميلتوص في اثناء الحرب السورية الثانية قضى عليه في عام 259.

ومعنى ذلك أن "الابن" الذي ورد ذكره في هذا المصدر قد خرج على ملك مصر في الوقت نفسه الذي اختفى فيه من الوثائق ذكر "الابن" الذي كان شريكًا لفيلادلفوس منذ عام 267 على الأقل. ويوج اعترضان على هذا الرأي، وأحدهما هو أن المصادر القديمة لا تثير إطلاقًا إلى اجتراء فيلادلفوس على تفضيل ابن زوجته من لوسيماخوس على أكبر أبنائه. وكان يمكن الأخذ بهذا الاعتراض لو أن مصادرنا كانت كاملة وافية وليست مبتورة وناقصة. والاعتراض الآخر هو أن بطلميوس الثالث مع أنه كان فعلاً ابن أرسينوي الأولى إلا أنه كان دائمًا يوصف في وثائق عصره الرسمية بأنه ابن "الإلهين الأخوين" أي بان بطلميوس الثاني وأرسينوي الثانية، ولو صح أنه كان قد استبعد عن ولاية العرش أول الأمر نتيجة لتدابير أرسينوي الثانية لما حرص على ذكر بنوته لزوج أبيه ومديرة أقصائه. والرد على هذا الاعتراض هين يسير: فأولاً لا جدال في أن أرسينوي الثانية تبنت بطلميوس الثالث. وثانيًا أن بطلميوس الثالث لم يعتز ببنوته لبطلميوس الثاني وأرسينوي الثانية بصفتهما الشخصية وإنما بوصفهما "الإلهين الأخوين".

ومعنى ذلك أن هذا الاعتزاز كان أمرًا طبيعيًا تمليه مقتضيات السياسة العليا التي درج البطالمة على ألا يدعوها تفسح مجالاً لاعتبارات الحب أو الكراهية. وفضلاً عن ذلك، فإنه لم يكن في وسع بطلميوس الثالث الإشادة ببنوته لأبيه المؤلمة وحده دون أرسينوي المؤلهة وذلك لسبب بسيط، وهو أن بطلميوس الثاني لم يؤله وحده وإنما مقرونًا مع أرسينوي الثانية باسم "الإلهين الأخوين".

فيلادلفوس وجنوب الوادي (أثيوبيا):

وفي قصيدة ثيوقريتوس "مديح بطلميوس"، وهي التي كتبت دون شك قبل وفاة أرسينوي الثانية، لأن فيلادلفوس وصف فيها "بالأخ والزوج العزيز" ورد بين رعايا مصر الأقاليم السالفة الذكر وكذلك الأثيوبيون". وقد كان فراعنة مصر العظام يبسطون نفوذهم جنوبًأ إلى ما وراء الشلال الأول، وهي الأصقاع التي كان الإغريق يدعونها "أثيوبيا" ونعرفها اليوم باسم النوبة وشمال السودان، حيث أصبحت الحضارة المصرية حضارة البلاد منذ عهد بعيد. ومما يجدر بالذكر أن كلمة أثيوبيا تعني عند الإغريق بلاد الذين لفحت الشمي وجوههم. وفي الأصل كان الإغريق يطلقون هذا الاسم على كل المناطق المدارية سواء في إفريقيا أم في آسيا. بيد أنه منذ عهد هرودوتوس أصبح هذا الاسم ينم بوجه خاص عن البلاد الواقعة جنوبي مصر، أي النوبة وشمال السودان وشمال الحبشة.

وعندما فتح الإسكندر الأكبر مصر، كان فاستاس (Nastasen) ملك "أثيوبيا" لا يزال يعتز في عاصمته نباتًا (Napata) بالتقاليد المصرية. وعند وفاة هذا الملك في عام 308، انقسم جنوب الوادي إلى مملكتين أحداهما في الشمال وعاضمتها نباتًا، والأخرى في الجنوب وكانت أشد بأساً من الأولى وعاصمتها مروى (Meroe)، وتعرف اليوم باسم البحراوية. ولم تكن للبطالمة أطماع كالفراعنة في ضم السودان إلى ملكهم، فقد كان جل اهتمامهم موجهًا إلى عالم البحر المتوسط، ولذلك اكتفوا بإقامة حدودهم الجنوبية عند الشلال الأول. ففي عهد الإسكندر الأكبر وبطلميوس الأول احتفظ بحاميات في الفنتين لحماية حدود مصر الجنوبية، لكن ديودوروس يحدثنا بأن فيلادلغوس أرسل حملة إلى "أثيوبيا"، ولعل ذلك قد حدث قبل عام 276. ولا يبعد أن الباعث على هذه الحملة لم يكن مجرد افتناء أنواع نادرة من الحيوان، بل كان أيضًا توطيد حدود مصر الجنوبية وتأمين طرق أعالي النيل. ذلك أن نصًا يرجع إلى النصف الأول من القرن الثالث يشير إلى هجوم الأثيوبيين" على القوات المصرية، ولعله كانت هناك صلة بين حملة فيلادلفوس والحوادث التي يشير إليها هذا النص. وإذا كنا نجد هنا دليلًا على اهتمام بطلميوس الثاني بالتجارة مع الجنوب، فقد سبق أن رأينا أدلة أخرى على اهتمامه بالتجارة الشرقية.

حرب خرمونيدس:

وقد سلف القول أنه لم يكن في صالح مصر أن تكون مقدونيا قوية، ولذلك فإنه ماكاد بوروس بعود في عام 274 من حملته المشهورة إلى إيطاليا حتى دفعته مصر إلى مناوءة أنتيجونوس جوناتاس وأمتدته بمساعدات مالية، لكن بوروس لم يلبث أن لقى حتفه في عام 272، وإزاء ذلك أخذت مصر تعمل حثيثًا على إيجاد أداة جديدة لمناهضة جوناتاس، وذلك بالتأليف بين قلوب الدول الإغريقية المتنافرة لتقوم بمجهود مشترك يحررها من ربقة مقدونيا. ووصف أرسينوي بأنها نصيرة الحرية الإغريقية في القرار، الذي اتخذه الأثينيون بناء على اقتراح المواطن خرمونيدس (Chremonides) بدعوة كافة الإغريق إلى ترسم خطى حلف أثينا واسبرطة وحلفائهما في مناهضة الغاصب المقدوني يشير إلى أن أرسينوي هي التي كانت قد أوحت بإنشاء ذلك الحلف الذي تألف في عام 267 ضد جوناتاس. ويتضح من هذا القرار أن الحلف كان يتألف من مصر واليس (Elis) والعصبة الآخية وتجيا (Tegea) ومانتينيا (Mantinea) وأورخومنوس (Crchomenos) وقافواي (Caphyae) وفيجاليا وكريت، فضلاً عن أثينا واسبرطة اللتين تحالفتا سويًا لمناصرة الحرية الإغريقية لأول مرة منذ مائتي عام، أي منذ تحالفهما ضد الغزو الفارسي. وقد عرفت الحرب التي تبعت ذلك بحرب خرمونيدس نسبة إلى ذلك المواطن الأثيني الذي سلفت الإشارة إليه ولعب دورًا كبيرًا في إثارة الإغريق ضد جوناتاس.

وكان يمكن أن تؤدي هذه الحرب إلى نتيجة مختلفة تمامًا بالاختلاف، لو أن بطلميوس فيلادلفوس أبدى النشاط نفسه الذي كان بيديه في خلال حياة أرسينوي، وكان يفرضه عليه في هذه الظروف واجب الشرف والمروءة، بل مصلحة مصر نفسها لكي لا يخرج جوناتاس من الصراع منتصرًا قويًا فيتهدد سيادة مصر البحرية. فقد أغرى بطلميوس الإغريق بالانتقاض على مقدونيا ووعدهم بالمساعدة، ومن كانت الحاجة ملحة إلى هذه المساعدة، لأنه نتيجة للحصار البري والبحري الذي ضربه جوناتاس على أثينا ووجود حاميات مقدونية في قورنثة ومجارا قطعت سبل الاتصال بين أثينا وحلفائها في البلوبونيز لكن بطلميوس لم يقدم مثل هذه المساعدة إذ يبين أنه وقد تملكته الرغبة في ألا يكرر الحملة التي قام بها أبوه في عام 308 وثبت أنها كانت فادحة التكاليف وتنطوي على مخاطرة شديدة دون أن تستفيد منها قوة مصر البحرية، قرر أن يقتفي أثر السياسة الأنانية التي كثيرًا ما أتبعها أبوه، سياسة الإفادة من تسخير جهود الحلفاء دون التورط في تعريض قوات مصر الرئيسية للمخاطر مادامت مصائر مصر نفسها غير مهددة. وبيان ذلك أنه عندما غزا جوناتاس أتيقا في عام266 وحاصر أثينا براً وبحرًا وخف أريوس (Areos) ملك اسبرطة لنجدتها على رأس القوات البلوبونيزية، قنع فيلادلفوس بتقديم مساعدات مالية وغذائية لأثينا، وقيام قائده البحري ياتروقلوس (Partoclos) بمظاهرات حربية جوفاء تجاه سواحل أنيقا واستيلائه على مثانًا وكذلك على بعض امدادات جوناتاس وإرساله هدية إليه من السمك والتين وهما طعام الغنى والفقير، وكان مغزى ذلك أنه إما أن يستولى على سيادة البحر وأما أن يهلك جوعًا. لكن باروقلوس لم يقدم معونة حربية فعالة للمدينة المحاصرة أو يساعد ملك اسبرطة على الالتفاف حول القوات المقدونية التي تحمي برزخ قورنثة وإرغام جوناتاس على خوض معركة فاصلة في أتيقا.

وفي العام التالي (265) صمم أريوس على اقتحام خطوط جوناتاتس، وكانت تسد برزخ قورنثة، لكنه فشل وقتل في المعركة. وقد ترتب على ذلك انحلال الحلف وعدم محاولة اسبرطة ثانية نجدة أثنينا، لكن النجدة لم تلبث أن جاءت أثينا من ناحية أخرى، إذ أن الإسكندر الثاني ملك أبيروس غزا مقدونيا في عام 264. وإزاء علاقات الود التي كانت قائمة بين مصر وأبيروس منذ عهد بطلميوس الأول، نتيجة للعداء الدفين الذي كانت هاتان الدولتان تضمرانه لمقدونيا، يجمع المؤخون على أن بطلميوس فيلادلفوس هو الذي أوعز إلى الإسكندر بغزو مقدونيا. وإذا كان فيلادلفوس قد اتخذ من تحرير الإغريق ذريعة زين بها لهم مقاتلة مقدونيا فلعله حرض الإسكندر على غزوها بضرورة الثأر لمقتل أبيه بروروس. وهكذا نرى أنه حين كان فيلادلفوس يزين لأصدقائه محاربة خصمه، ويبسط لهم يده بالمال بدلاً من أن يشاركهم في خوض غمار الحرب، وقف يشاهدهم يكتوون بنارها ليلتقطوا له الكستناء هيئة لينة. وقد قام الإسكندر بغزوته في عام 264، لكن ذلك لم يفلح في أقصاء جوناتاس عن أنيقا إلا برهة قصيرة عاد بعدها إلى محاصرة أثينا بشدة تاركًا جبهة مقدونيا تحت قيادة ابنة دمتريوس الذي تمكن من هزيمة الإسكندر في العام التالي (263). وفي هذا العام يمم الأسطول المصري وجهة شطر آسيا الصغرى تاركًا أثينا تكافح بمفردها إلى أن أعياها الكفاح والجوع فسلمت في شتاء 262/261. وبعد سقوط أثينا عقد جوناتاس صلحًا قصير المدى مع بطلميوس (عام 261).

وقد فقدت أثينا من جراء هزيمتها أهميتها السياسية السابقة وأصبحت خاضعة لسيطرة مقدونيا خضوعًا تامًا، في حين أن جوناتاس أصبح سيد بلاد الإغريق دون منازع، وفي قبضته الكثير من معاقلها وخاصة قورنثة وأثينا وكذلك أرتريا وخالقيس في جزيرة يوبويا.

تحالف مصر وبرجام:

ويعتبر سقوط أثينا فشلاً مزريًا للسياسة المصرية، ولو أن أنطيوخوس استطاع أن يتآلف عندئذ مع جوناتاس لتعرضت الإمبراطورية المصرية لأخطار داهمة. وبدلاً ن ذل كوحد فلادلفوس في عام 263 حليفًأ جديدًا له في يومنيس الذي خلف عمه فيلتايريوس في حكم برجام ذلك العام. وعلى الرغم من أن فيلتايروس كان قد أصبح مستقلاً في الواقع، فإنه كان يعترف لأنطيوخوس بسيادة اسميه على الأقل. أما يومنيس فإنه أعمل رأيه على أن يكون مستقلاً اسمًا وفعلاً، ومن ثم بدأ السياسة التي أصبحت تقليدية في أسرته، وكانت تنطوي على مناوءة السلوقيين، ومحالفة البطالمة. ولم ترحب مصر بهذه الصداقة لأسباب اقتصادية أيضاً، إذ أن مصر بوصفها دولة بحرية كبرى كانت في حاجة إلى كمية كبيرة من القطران وكان قطران سوريا قليلاً، ولذلك كان العالم الهلينيسي يستمد حاجته من القطران من مقدونيا ومن قمة أيدا (Ida) بالقرب من برجام. فكان جوناتاس وأنطيوخوس فيما بينهما يستطيعان إرغام مصر على دفع أثمان باهضة للقرطان في وقت السلم وحرمانها حاجتها في وقت الحرب. وقد كانت مصر تستطيع تفادي ذلك، لو أن دولة صديقة مثل برجام كانت تهيمن على قطران أيدا. وبما أ، يومنيس أسس عند ايدا مدينة تدعى فيلتايريا (Philetaireia)، فإن هذا ينهض دليلاً على أنه نجح في تحقيق عرضه وغرض مصر هناك. وإزاء مظاهر الاستقلال التي أبداها يومنيس شن عليه أنطيوخوس في عام 263 حملة تأيديبية، لكن متاعبه الداخلية عاقته عن متابعتها بنجاح، وبسبب هذه الحرب، ترك باتروقلوس أثينا في عام 263 لتسلطي وحدها بنار القتال مع أنتيجونوس، وذهب إلى آسيا الصغرى، حيث استولت مصر في العالم التالي على أفتوس، وأصبح في قبضتها شاطئ قاريا فيما بين ميلتوس وهاليقارناسوس. وقد أفلح يومنيس بماسعدة بطلميوس في تجنيد جيش كبير من المرتزقة هزم به أنطيوخوس بالقرب من ساردس في عام 262. وبهذا النصر دعم ميومنيس استقلاله ومن أخذ بوسع رقعه دولته.


الحرب السورية الثانية:


وفيما بين أكتوبر 262 وإبريل 261 توفي أطيوخوس الأول وخلفه ابنه الأصغر أنطيوحوس الثاني وكان أميراً نشيطًا وضع شئون دولته في نصابها، واشتعل بينه وبين فيلادلفوس لهيب حرب يطلق عليها عادة "الحرب النورية الثانية" مع أن غرب آسيا الصغرى كان مسرحها الرئيسي.

وقد كانت هذه الحرب سيئة الطالع على فيلادلفوس ، فإ،ه كان يشد أزر عدوه جزيرة رودس ـ صديقة بطلميوس الأول القديمة وكانت تحرص دائمًا على اتخاذ موقف محايد إزاء البطالمة والسوقيين، لكنها خشيت عندئذ أن تتأثر تجارتها من جراء سيادة مصر البحرية ـ وكذلك عدو فيلادلفوس اللدود جوناتاس، وكان يرقب الفرصة للقضاء على سيطرة البطالمة البحرية واستعادة السيادة البحرية التي كان يتمتع بها أبوه دمتريوس. ولذلك أخذ يبني أسطولاً جديدًا منذ صلح عام 261. إلا أنه لم يكن في وسع جوناتاس مع موارده المحدودة بناء أسطول كبير يماثل الأسطول البطلمي، لكن اشتباك بطلميوس في الحرب السورية الثانية وانتصار الأسطول الرودسي على قوة بطلمية بحرية أعطيا جوناتاس الفرصة التي كان يتحينها.
ولم يستطع يومنيس صاحب برجام مساعدة فيلادلفوس، بسبب انشغاله بحرب حليفته قوزيقوس (Cyzicos) مع بيزنطة، وكذلك بسبب ثورة ابن عمه فيما يحتمل. وقد زاد في متاعب فيلادلفوس ثورة بطلميوس بن لوسياخوس وأرسينوي الثانية، وكان فيلادلفوس ثورة بطلميوس بن لوسيساخوس وأرسينوي الثانية، وكان فيلادلفوس قد تبناه وأقامه حاكمًا على أفسيوس. ولعل مرد هذه الثورة إلى أن بطلميوس بن لوسيما خوس كان قد استشعر أنه أخذ يفقد حظوته لديْ فيلادلفوس فرأى في تعيينه حاكمًا على أفسوس تمهيدًا لأقصائه عن ولاية العرش، ولذلك قرر في عام 260 أن ينتهز فرصة متاعب فيلادلفوس ليقتطع لنفسه دولة في إيرنيا، وكانت فيما مضى ملكًا لأبيه لوسيما خوس. وقد رحب أنطيوخوس بهذه الحركة وأرسل بعض فرقه التراقية لشد أزر ابن لوسيماخوس، وانضم إليه أيضًا تيماخوس الأيتولي، حاكم ميلتوس البطلمي، الذي بادر إلى الاستيلاء على ساموس، لكن ابن لوسيماخوس لم يستطع الاحتفاظ بمركزه لأن جنوده التراقيين ثاروا عليه وقتلوه (عام 259). وعندئذ نصب تيما خوس نفسه طاغية على ميلتوس وأفسوس، غير أن أنطيوخوس لم يلبث أن استرد منه أفسوس ثم خلص ميلتوس من طغيانه بالقضاء عليه في عام 258 فخلع مواطنوها على أنطيوخوس لقب "إله".

فيلادلفوس يفقد أيونيا وسيادة بحر أيجة:

وقد كان الحادث الرئيسي في الحرب السورية الثانية هو ذلك النصر الباهر الذي أحرزه جوناتاس على الأسطول البطلمي قرب جزيرة قوس (258-256)، فقد ترتب على ذلك "أولاً" استيلاء أنطيوخوس على أيونيا ثم على جزيرة ساموس. وفضلاً عن ذلك فإن أنطيوخوس استولى أيضاً على ساموتراقيا وأماكن مختلفة في تراقيا نفسها، وكذلك على كل فينيقيا شمالي صيدا. "وثانيًا" اكتسب جوناتاس سيادة البحار، فإنه بمقتضى الصلح الذي عقد في عام 255 نزل فيلادلفوس لجوناتاس عن عصبة القوقلاد، لكنه صمح لفيلادلفوس بالاحتفاظ بجزيرة ثيرا. ولاشك في أن أنطبوخوس انضم إلى هذه المعاهدة لتأييد فتوحاته، لكن البعض يعتقد أنه ساتمر في الحرب مع فيلادلفوس حتى عام 252، إلا أن هذا الرأي يبدو غير محتمل، إذ أنه لو كان جواناناس قد هجره وعقد صلحًا منفردًا في عام 255 لفسدت العلاقات بينهما، في حين أن استراتونيقيى شقيقة أنطيوخوس تزوجت دمتريوس ابن جوناتاس في عام 253. ولكي يثبت جوناتاس أمام العالم أجمع أنه استعاد سيادة البحار التي كانت في قبضة أبيه أقام في ساموتراقيا تمثال النصر المشهور وشيد في ديلوس بابًا ضخمًا، وأنشأ هناك بدلاً من الحفلات المعروفة باسم بطوليما يا حفلين آخرين يدعى أحدهما أنتجو نايا (Atigoneia) بمناسبة تشييد بابه، ويدعى الآخر استراتونيقايا (Stratoniceia) بمناسبة زواج ابنه دمتريوس من استراتونيقي شيقة أنطونيوخوس.

إدماج فورينايئة في مصر:

وحوالي هذا الوقت مهد السبيل إلى إدماج قورينايئة ڤـ يالدولة المصريةمأساة لغيت السياسة والأهواء دورًا فيها، إذ أنه حوالي 258 توفي ماجاس عن ابنة في الرابعة عشرة من عمرها تدعي برنيقي. وكان ماجاس قد خطب وريثته لولي عهد مصر، وهو الذي أصبح فيما بعد بطلميوس الثالث يورجتيس (Euergetes).

ولعل مرد ذلك أن ماجاس، وقد أدرك استحالة إمكان وقوف قورينايئة في وجه مصر بعد وفاته، رحب بمساعي مصر الدبلوماسية لعقد هذه الخطبة حتى ينهي الخصومة التي دامت بينه وبين أخيه نحوا من خمسة عشر عامًا، ويضمن لابنته لا عرش قورينايئة فحسب بل عرش مصر أيضاً. ولما كان هذا الزواج يستتبع إدماج قورينايئة في مصر بعد وفاة بطلميوس الثاني وماجاس، فإنه كان يعارضه في قورينايئة حزب وطني كبير يرنو إلى الاستقلال وتتزعمه أيامًا أرملة ماجاس وشقيقة أنيطوخوس الثاني. وعندما توفي ماجاس رأت أياماً أنها إذا حالت دون اتمام هذا الزواج وزوجت ابنتها من أمير آخر أمكنها الاحتفاظ باستقلال قورينايئة المحلي والإبقاء على أسرتها الحاكمة وضمنت لنفسها تبعًا لذلك السيطرة الفعلية في المملكة.

ولعله إزاء النصر الباهر الذي كان جوناتاس قد أحرزه مؤخرًا على فيلادلفوس وقع اختيار أيامًا على دمتريوس "الجميل" (وكان أخا غير شقيق لجوناتاس)، ولابد من أن يكون جوناتاس قد رحب بذلك ليكيل لفيلادلفوس لطمة أخرى، لكن دمتريوس نفسه تسبب في فشل هذا المشروع بصلفة وغروره ووقوعه في غرام أباما فأوعزت برنيقي بقتله في فراش أمها وقبضت على زمام السلطة (حوالي عام 255). ويبين أنه قد تبع ذلك وقوع اضطرابات عنيفة في قورينايئة وضع حدا لها التشريعات التي اقترحها الفيلسوفان أقديموس (Ecdemos) وديموفالس (Demophanes).

ويرى البعض أن هذه التشريعات هي الدستور الذي حفظه لنا نقش عثر عليه منذ عهد غير بعيد، ومر بنا أنه يحوى الدستور الذي توحى القرائن بأنه يرجع إلى عهد بطلميوس الأول. ولا يمكن أن يكون هذا الدستور هو ذلك الذي وضعه أقديموس الأول. ولا يمكن أن يكون هذا الدستور هو ذلك الذي وضعه أقديموس وديموفانس وذلك لسبب بسيط وهوأن دستورهما كان دستوراً فيدراليًا في حين أن الدستور الوارد في النقش تنصب موارده جميعًا على مدينة واحدة ولا توجد به أية إشارة إلى وجود أية علاقة بين هذه المدينة ـ قوريني ـ وبين المدن الإغريقية الأخرى في قورنايئة. ويقول قانولوس (Catullus)، نقلاً عن قاليماخوس (Callimachos)، أن قتل دمتريوس كان جريمة حسنة مهدت السبيل إلى إدماج قورينايئة في دولة البطالمة، وذلك لزواج يرنيقي وريثة قورينايئة من خطيبها الأول ولي عهد مصر. ويحوم الشك حول تاريخ هذه الحوادث، لكنه يبدو أن زواج برنيقي لم يسبق كثيرًا ارتقاء زوجها عرش مصر.

فيلادلفوس يزوج ابنته لانطيوخوس:

ولما كانت لجوناتاس يد كبرى في الكوارث التي حلت بفيلادلفوس في الحرب السورية الثانية، وكان جوناتاس قد تدخل في شئون قورينايئة ليفسد على مصر تدابيرها لإدماج قورينايئة فيها، فلابد من أنه قد أقض مضاجع فيلادلقوس تقوية أواصر الصداقة بين جوناتاس وأنطيوخوس بالمصاهرة الت يعقدت بينهما في عام 253، خوفًا من أن يستغل جوناتاس هذه الصلة فيستحث أنطيوخوس على استعادة "جوف سوريا". فلكي يقضي فيلادلفوس على هذه المخاوف ويؤمن حدوده الشرقية على نحو ما أمن حدوده الغربية وبذلك تتاح له الفرصة لتصفية حيابه مع جوناتاس كان لابد من التفاهم مع أنطيوخوس، ولذلك فإن فيلادلفوس توصل في أواخر عام 253 إلى كسب أنطيوخوس إلى جانبه بالمصاهرة. وبيان ذلك أن أنطيوخوس كان متزوجًا من ابنة عمه لاوديقي (Laodice) وهي التي أنجبت له ابنين وابنتين، لكنها كانت قوية الشكيمة مما يسر على فيلادلفوس إقناعه بالاتفاق على تركها والزواج من أميرة فتية من أسرة البطالمة، هي برنيقي ابنة فيلادلفوس من أرسينوي الأولى، والفوز بصداق عظيم، بشرط أن يكون عرش أنطيوخوس لأبناء الزوجة الجديدة. وقد أقصيت لاوديقي وأبناؤها إلى أفسوس، وفي إبريل عام 252 أوصل فيلادلفوس ابنته حتى بلوزيون ورافقها أبولونيوس وزير مالية أبيها حتى الحدود وكانت عندئذ ععند صيدا. ويقال أن برنيقي كانت لا تشرب إلا مياه النيل التي شمل متاعها مؤنة منها وكان أبوها يتابع أرسالها إليها، وذلك لاعتقاد القدماء أن مياه النيل تضمن الحمل .

وعلى كل حال فإن برنيقي أنجبت أبنًا لأنطيوخوس، وكان صداقها كبيرًا إلى حد أنه أصبح مضرب الأمثال وأنه أطلق على برنيقي لقب "فرنفوروس" (Phernephoros)، أي صاحبة الصداق العظيم. ويرى البعض أن هذا الصداق كان مبلغًا كبيراً من المال إلى جانب دخل جوف سوريا، بينما يرى البعض الآخر أن هذا الصداق كان عبارة عن إرجاع بطلميوس لأنطيوخوس قيليقيا الغربية (وكانت مصر قد استولت عليها في أثناء الحرب السورية الأولى) فضلاً عن إغطائه أيضاً بامفوليا، وذلك لقاء تنازل السلوقيين عن لمطالبة بجوف سوريا. ونحن نميل إلى الرأي الأخير لأنه يتمشى مع الدوافع التي أوحت بعقد الزواج وهي تشويه الخلافات بين الأسرتين وتأمين الاحتفاظ بجوف سوريا، وكان أفضل ممتلكات مصر الخارجية ويعنيها أكثر من قيليقيا الغربية وبامفوليا، اللتين يعتقد البعض أن بطلميوس نزل عنهما لأنطيوخوس ثمنًا لعقد الصلح في نهاية الحرب السورية الثانية.
وعلى كل حال فإنه في أواخر عهد فيلادلفوس لم يتبق من ممتلكات مصر على شاطئ آسيا الصغرى الجنوبي سوى لوقيا وقاربًا. ولا يبعد أن فيلادلفوس كان يعلل النفس أيضًا يربط السياسة السورية بعجلة السياسة المصرية نتيجة لنفوذ ابنته لدى زوجها ثم لتربع ابنته وحفيدة على عرش سوريا. لكن ألم يقدر فيلادلفوس احتمال نشوب صراع على ولاية العرش قد يؤدي بحياة ابنته وحفيده؟ أم أنه أدخل ذلك كله في حسابه لكنه لم يأبه لمثل هذه التضحية لأنها تكون أدعى للتدخل في الشئون السورية؟ كلا الاحتمالين جائزان وما نعرفه عن خلق البطالمة لا يجعلنا نميل إلى إعفائهم من الأقدام على أي عمل في سبيل الأهداف التي كانوا يتوخونها.

ومن العجيب أن أنطيوخوس، مع علمه بحلق لاوديقي، قد سمح للمكاسب المادية التي كان الزواج الجديد عليها بأن تعميه عن المخاطر التي كان هناك احتمال قوي أن تترتب على إقصاء لا وديقي وأولادها ننصالح برنيقي وأبنائها. حقًا أنه حاول استرضاءها بضيعة كبيرة في آسيا الصغرى، لكنه كان طبيعيًا ألا تقنع بذلك أميرة مقدونية مثلها، كماكان طبيعيًا أن ينشأ بعد موته صراع عنيف على العرش كان من الممكن أن يتهدد كيان الدولة نفسها فضلاً عن ممتلكاتها. بل كان من الجائز حتى إذا لم تنجب له برنيقي أولادًا أن يجد أبناؤه من لاوديفي من يتحدى حقهم في ولاية العرش بحجة أن أباهم قد حرمهم ذلك الإرث.

فيلادلفوس يثأر لنفسه ويسترد سيادة بحر أيجة:

وبعد الإطمئنان إلى الحدود الشرقية والغربية، كان في وسع فيلادلفوس العمل على الثأر لنفسه من خصمه اللدود. وبيان ذلك أن جوناتاس، منذ ارتقائه عرش مقدونيا، كان قد اسند حكم قورنثة إلى أخيه غير الشقيق قراتروس كما أسند إليه بعد ذلك الإشراف العام على حامياته في أتيقا ويوبويا. وقد حفظ قراتروس العهد، لكنه بعد وفاته (حوالي عام 255) أخذ ابنه الإسكندر يتطلع إلى الفوز بولاية أوسع ولقب أعظم مم كان لأبيه. وحوالي عام 252 أغراه فيلادلفوس على المناداة بنفسه ملكًا وأمده بمساعدة مكنته من دعم م ركزه في قورنثة والاستيلاء على خالقيس، وبذكل شلت مؤقتًا حركة جوناتاس لأن خروج الإسكندر عليه قطع اتصاله بأعوانه في بلوبونيز وحرمه جانبًا كبيرًا من أسطوله وموارد بناء السفن، إذ أن فورنثة وخالقيس كانتا قاعدتين بحريتين رئيسيتين لجوناتاس في بلاد الإغريق.

وحين انخفضت قوات جوناتاس البحرية على هذا النحو كان فيلادلفوس جادًا في بناء أسطول كبير، ويبين أنه حوالي عام 250 استعاد سيادة بحر أيجة ومعها عصبة القوقلاد بدليل أنه أنشأ حفلات البطوليمايا في ديلوس في عام 249. هذا إلى أنه في عام 251 خلص أراتوس (Aratos) موطنه سيقوون من ريقة طاغية كان يستمد سلطته من جوناتاس ثم ضمها إلى عصبة آخايا، وكانت قد تكونت منذ عام 280 من عدد من المدن الصغرى لكنه لم يكن لها شأن يذكر حتى تولي أراتوس زعامتها فازداد عدد أعضائها كما ازدادت أهميتها السياسية. وقد كان فيلادلفوس يؤيد الإسكندر حتى وفاته في عام 247، ويؤيد أرانوس إلى أن توفي هو نفسه في بداية العام التاسع والثلاثين من حكمه أي في يناير عام 246.

استعراض سياسة فيلادلفوس الخارجية:

ويتضح جليًا مما مر بنا أن أهداف بطلميوس الثاني الخارجية كانت أهداف بطلميوس الأول نفسها في الجوهر، إلا أنه ذهب إلى مدى أوسع في تنفيذ السياسة الخارجية التي وضع أبوه أساسها. ذلك أنه عمل على دعم حدود مصر الغربية والجنوبية والشرقية، وعلى استكمال أسباب سيادة مصر في بحر أيجة، وعنى بالتجارة الجنوبية، ووجه اهتماماً كبيراً إلى التجارة الشرقية، نستدل على ذلك من حملته على النبط وتوطيد سلطان مصر في فلسطين وشرق الأردن وفينيقيا، ومن الاستيلاء على بعض أجزاء في أيونيا حيث كانت توجد بعض منافذ طريق الوسط، وكان أهم الطرق التجارية الآتية من أواسط آسيا. ولم يكن أقل من ذلك اهتمامًا بالتجارة مع الغرب، فهو لم يقم علاقات مع روما فحسب، بل كانت بينه وبين سراقوسة وقرطجنة علاقات وثيقة، على نحو ما سنرى في سياق الحديث عن التجارة.

وإذا كانت الحرب السورية الثانية قد سلبته أيونيا وسيادة بحر أيجة، وكان قد نزل عن أغلب ممتلكاته على شاطئ آسيا الصغرى الجنوبي، فإنه عمل على تأمين جوف سوريا وإدماج قورينايئة في مملكته ليبقى كيان الدولة سليمًا قويًا. وسرعان ما نجح في تشييد أسطول جديد واسترد سيادة بحر أيجة. وعلى الرغم من المبالغ الطائلة التي أنفقها على مجهود مصر الحربي وفي سبيل تأييد سياسته الخارجية، فإن الخزائن الملكية بقيت مكتظة بالأموال وكان سلطانه وطيد الدعائم في البلاد، لكننا سنرى أن سياسة فيلادلفوس الداخلية قد أثارت في أهالي البلاد حقدًا دفينًا تبدت مظاهره في عهد خلفائه، وكان لها أثر حاسم في مستقبل البلاد.

ليست هناك تعليقات: