الأربعاء، 12 نوفمبر 2008

سياسة البطالمة الدينية

وضع أساس السلطة المركزية:

لقد مر بنا أن مصر كانت جزءًا من إمبراطورية الإسكندر التي اقتسمها قواده بعد وفاته ، وأنه بعد حروب دامت أربعين عامًا بين القواد المختلفين ، تمخض عن هذا الصراع ظهور ثلاث ممالِك هينيسية قوية ، وهي مقدونيا وسوريا ومصر ، كان لعواهلها أغراض وأطماع يريدون تحقيقها .

ولذلك رأى البطالمة الأوائل ضرورة تكوين جيش وأسطول قويين يمكنانهم من الذود عن حياض مملكتهم ومن تحقيق أغراضهم. كما رأوا سلامتهم في الاعتماد إلى أقصى حد على المقدونيين والإغريق وأشباههم في تكوين الجيش والأسطول.

ولما كان عدم استقرار الحالة في مصر من خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد بسبب سوء الحكم الفارسي وثورات المصريين على هذا الحكم، قد أدى إلى اضطراب الإدارة وتدهور الزراعة والصناعة والتجارة، وكانت مشروعات البطالمة الخارجية تتطلب نفقات طائلة، لم يكن في استطاعة حال مصر الاقتصادية ـ على ما كانت عليه إذ ذاك ـ توفيرها، فقد كان ضروريًا أن يعاد تنظيم شئون مصر الإدارية والاقتصادية ـ وكان طبيعيًا أن يعتمد في ذلك على رجال إغريق ورءوس أموال إغريقية.

ولما كان البطالمة يعتبرون أنفسهم خلفاء الإسكندر الأكبر، وكان من أهم ما عني به الإسكندر نشر الحضارة الإغريقية بين ربوع الشرق، وكانت حضارة الناس في ذلك العصر تقاس بمقدار حظهم من تلك الحضارة، فقد كان طبيعيًا أن يكلأ البطالمة برعايتهم حضارة الإغريق ويعملوا على نشرها في مملكتهم، ولا سيما أنها كانت حضارة العناصر التي اعتمدوا عليها أكثر من غيرها في تشييد صرح ملكهم. لكنه يجب أن نلاحظ أن البطالمة لم يفرضوا تلك الحضارة على المصريين، لأنهم وجمعوا نصب أعينهم احترام عادات المصريين وتقاليدهم.

وإزاء حاجة البطالمة الملحة إلى الإغريق في كل مشروعاتهم سواء الداخلية منها أم الخارجية، فإن ملوك مصر الجدد فتحوا أبوابها على مصاريعها للإغريق ووالوا عليهم المنح والامتيازات، فهرعوا إليها زرافات ووحدانا، وأعقبهم كثيرون من سكان آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين، وإذا أفنا إلى ذلك العبيد، الذين أسروا في الحروب أو استحضروا من آسيا أو إفريقيا، أمكننا أن نتخيل الخليط الذي كان يتكون منه العنصر الأجنبي في مصر البطلمية.

ولا ريب في أن مصر قد غدت منذ الفتح المقدوني مملكة هينيسنية، إلا أنها كانت قبل كل شيء، بلدًا يعتز بحضارته الفرعونية وبنظمه الموروثة، وإذا كانت قد وفدت على ضفاف النيل فئة كبيرة من الأجانب، فإنهم كانوا أقلية ضئيلة بالنسبة إلى أهل البلاد، الذين استمروا يعيشون على نحو ما كانْ يعيش أجدادهم من قبل. فإذا كان البطالمة قد شملوا الإغريق بعطفهم، فقد كان لزامًا عليهم ألا يغفلوا المصريين كلية من حسابهم.
ومنذ انتصر بطليموس الأول على برديكاس كان البطالمة يعتبرون أنفسهم سادة مصر بحق الفتح، ولكن لكي يكون سلطاتهم دائمًا وسيادتهم راسخة، رأوا ضرورة كسب ولاء المصريين والأجانب، فقد كانت سياستهم ترمي إلى تكوين مملكة قوية غنية، شعارها الحضارة الإغريقية، ودعامتها أبناء مقدونيا وبلاد الإغريق ومصر. ولكي يفوز البطالمة بولاء العناصر المختلفة؛ التي كان يتكون منها سكان مصر إذا ذاك، لجأوا إلى وسائل شتى كان في مقدمتها استغلال المعتقدات الدينية السائدة بين رعاياهم. ولذلك، فإنه عند الكلام عن سياسة البطالمة الداخلية يجب البدء بمعالجة سياستهم الدينية، لأنها كانت من أهم الأسس التي أقاموا عليها السلطة المركزية.

  • البطالمة ونصب أنفسهم فراعنة
لكي نفهم كنه سياسة البطالمة الدينية إزاء المصريين ، ولماذا عمل البطالة على استغلال معتقدات المصريين الدينية في دعم مركزهم ووضع أساس السلطة المركزية في مصر ، يجب أن ندرك أن مصر القديمة كانت تعتز بتقاليدها المتوارثة ، التي تنظم حياتها العامة و الخاصة ، حتى بدت لنا هذه التقاليد وكأنها تضارع الأهرامات في رسوخها وثباتها .

ويجب أن ندرك كذلك أن الاحتفاظ بهذه التقاليد يرجع إلى سيطرة الديانة على عقول المصريين القدماء، فكان لها أثر أي أثر في حياتهم، ووقفت حائلاً دول كل بدعة جديدة، وقد كانت الديانة في مصر، كما كانت في غيرها من الجماعات الإنسانية القديمة، المصدر الذي استمد منه حكام البلاد سلطتهم، ولما كنا لا نجد في التاريخ القديم استثناء لهذه القاعدة، فإنه يكفي أن نذكر هنا ملوك الإغريق والرومان في العصور القديمة كانوا يستندون في حكمهم إلى حق الملوك الإلهي.

حق الملوك الإلهي:

ويبدو أن فكرة حق الملوك الإلهي نشأت في مصر منذ أقدم العصور، لكن الأسس التي قامت عليها هذه الفكرة لم تنظم إلا في عهد الأسرة الثانية عشرة، ثم تناقلتها الأجيال المتعاقبة دون تغيير جوهري فيها حتى آخر عهد الوثنية، وذلك برغم الأحداث المختلفة التي طرأت على تاريخ مصر. ومجمل هذه الفكرة أنه كان يحكم مصر على الدوام ملوك، وأن الملوك الأوائل كانوا آلهة حقيقيين، قاموا بتنظيم شئون البلاد، وعلموا المصريين فنون الحياة، و وضعوا قواعد ديانتهم، ثم ارتفعوا إلى السماء وخلفهم على العرش ملوك من البشر، غير أن هؤلاء الملوك كانوا بشرًا في المظهر فحسب، إذ كانوا في الحقيقة صورة مجسمة للآلهة.

ولما كان آخر ملوك مصر من الآلهة وليس أدل على صحة هذا الرأي من أنه لما كانت الأسرة الخامسة لا تمت بصلة إلى الأسرة الرابعة، وأراد ملوك الأسرة الخامسة توطيد مركزهم على العرش، أوعزوا إلى كهنتهم باختراع قصة وردت لنا في وثيقة يبدو أنها من عهد الأسرة الثانية عشرة.

وتروي هذه القصة كيف أن ساحرًا أبلغ الملك خوفوا بأن الإله رع خالط زوجة أحد القساوسة، لكي يضطلع الأبناء الذين تتمخض عنهم هذه المخالطة بحكم هذه البلاد جميعًا. ثم يضيف النص أن الإله رع دعا أولاً جماعة من الآلهات لمساعدة السيدة في وضعها، وأنه عند وصولهن إلى مضجع السيدة وقفت إيزيس أمامها ونفثيس خلفها، وقامت هكيت بتوليدها، وعندما ولد الطفل غسلته الآلهات وربطن سرته ووضعنه على سرير من الطوب، ثم اقتربت منه مسخنت وقالت: "سيقوم ملكًا في هذه البلاد جميعًا"، وبث خنوم الحياة في كل أعضائه.

ولما كان تحتمس الثالث ينازع حتشبسوت حق وراثتها العرض، فإن حتشبسوت زينت جدران معبد الدير البحري بمناظر ونقوش تعلن في الناس أن أمها أحماسيا كانت من سلالة نقية طاهرة، وأنها لم تحملها من أبيها وإنما حملتها من الإله الأكبر آمون ـ رع، وأن هذا الإله اصطفاها لتتربع على العرش. فمناظر ونقوش معبد الدير البحري ترينا كيف أن الإله آمون ـ رع دعا الآلهة الذين كان يتألف منهم تاسوعه الأكبر، وأعلن فيهم قرب مولد فرعون جديد، وطلب إليهم إعداد وسائل الحياة والقوة وحماية الفرعون الجديد من كل خطر، ثم نرى الإله آمون ـ رع يتجه نحو مخدع الملكة، يتقدمه الإله تحوت حاملاً في يده وثيقة بردية ويتلو عليه الأسماء الرسمية التي تحملها الملكة أحماسيا، وذلك لتفادي وقوع أي خطأ، وهنا تروي النقوش أن الإله خلع عن نفسه شخصيته، وتقمص برهة شخصية تحتمس الأول، ووجد الملكة نائمة، لكنها استيقظت عندما استنشقت أريج عبير الإله، فتقدم نحوها وتملكها ووضع قلبه فوق قلبها، وأظهر لها نفسه في شكله الإلهي، فأخذ جماله بمجامع قلبها وسرى حبه الإلهي في جميع أعضائها. وتشكر الملكة للإله حسن صنيعه، فيقدم إليها رمز الحياة والسعادة، ويعلن أن انتبها التي ستلدها منه "ستتمتع بحكم صالح في كافة أنحاء هذه الأرض، لأنني وهبتها روحي وقلبي وإرادتي وتاجي لكي تحكم القطرين". وبعد ذلك يأمر آمون ـ رع بإحضار الإله الخالق خنوم، ويخبره بأنه أنجب فتاة يجب أن تحكم القطرين وتتربع على عرش حورس الدنيوي، فيجيب خنوم بأنه سيخلق الطفلة أجمل من كافة الآلهات، وعندما يقترب موعد الوضع، يذهب الإله تحوت إلى الملكة ويدعوها لأن تتبعه، ثم يأخذ خنوم بإحدى يديها وتأخذ هكيت باليد الأخرى، وتتقدم الملكة إلى غرفة الوضع حيث تلم الملكة ابنتها بمساعدة الآلهات، ثم تغدق عليها مسخنت سائل الحياة، وتنطلق بالعبارة التي تمنحها ملك الجنوب والشمال، وتقدم الإلهة حتحور الطفلة إلى أبيها آمون ـ رع، فيضمها إلى صدره ويقبلها، وبعد ذلك تتولى اثنتان من الآلهات إرضاع الطفلة واثنتان أخريان رعايتِّها.

ولما كان مولد تحتمس الرابع موضع جدل كبير، وكان تزوج من أميرة أجنبية ليست من الدم الفرعوني، بل كانت من أمة الميتاني، التي تنزل على المجرى الأعلى للفرات، فإن ابنة أمينوفيس الثالث أدرك أن مركزه على العرش غير وطيد الدعائم وأراد أن يثبت أنه من سلالة الآلهة، ولذلك صوت على جدران المعبد الذي شيده في الأقصر مناظر تشبه قصة حتشبسوت، إذ نرى فيها كيف أن أم الملك أمينو فيس الثالث قد أنجبته من الإله آمون ـ رع، ووالدته بعناية الآلهات.

فرعون إله وبشر:

ووفقًا لمعتقدات المصريين كان فرعون دون سائر البشر يتمتع بصفة الألوهية في حياته، ولذلك فإنه كان المخلوق الوحيد الذي يستطيع الاتصال بالآلهة، ومن ثم كان الكاهن الأكبر بل الكاهن الوحيد، إذ أن الكهنة الحقيقيين كانوا يعتبرون نائبين عنه، كما أن كل قربان يتقدمون به كان يعتبر مقدمًا من الملك. ولذلك نجد عبارة الملك "يقدم القرابين" مكررة تكريرًا آليًا في الطقوس المصرية، وحتى في الطقوس الجنازية التي كانت تقام لموتى يجهلهم الملك كل الجهل، ووفقًا لمعتقدات المصريين، لم يكن فرعون فقط المخلوق الوحيد الذي يستطيع الاتصال بالآلهة، بل كان أيضًا الإله الوحيد الذي يتمتع بالاتصال ببني الإنسان، فإذا لم يكن على عرش مصر فرعون فإن الديانة المصرية كانت تفقد الحلقة الأساسية في الاتصال بين الناس والآلهة، ومن ثم كانت الأخطار تهب فرعون نعم الحياة، فيقوم بتوزيعها بين رعاياه، ومن ثم اعتبره المصريون منبع الحياة الذي كان الناس ينتهلون من موارده في هذا العالم، وبفضل النعم السماوية التي أسبغت على فرعون كان يتمتع بسلطة شاملة مطلقة على رعاياه، فكان يبقى على من يشاء ويقضي على من يشاء، ويحمي البلاد من الأعداء، ويسهر على أمن رعاياه ويوفر لهم أود الحياة، ولذلك كانت النقوش تصفه بأنه "واهب الحياة"، وكان المصريون يعتقدون بأن فناء يتهددهم إذا لم يرتق عرش مصر فرعون.

وكان فرعون كذلك حلقة الاتصال بين الموتى وآلهتهم في العالم الآخر، تلك الحلقة التي كانت تتوقف عليها حياتهم الثانية، وكانوا يعتبرونها الحياة الصحيحة ـ الحياة السماوية ـ التي تبدأ في العالم الآخر، وتدوم إلى الأبد بفضل القرابين التي يقدمها الملك إلى الآهلة ليقتسموها مع الموتى المؤهلين، أن المصريين كانوا يعتقدون أن طقوس الموتى ترفهم إلى مصاف الآلهة عند ما ينتقلون إلى العالم الآخر. وكان فرعون وحده هو الذي يستطيع أود الحياة إلى الموتى ولذلك كان يتحتم عليه أن يقوم كل يوم بهذا الواجب المقدس، الذي بدونه كان ينزل بهم موت ثان يؤدي تدريجيًا إلى فناء العالم الآخر، وهو ما كنوا يعتبرونه شرًا وبيلاً، ومن أجل أداء هذا الواجب كان يحق لفرعون أن يتصرف في جميع موارد البلاد، فكان وحده مالك الأرض والسيد المطلق على أهليها، الذي يقدم لهم أود الحياة، ولا يستطيعون الحياة بدونه في الدنيا ولا في الآخرة. وكان الملك يشع هذه الحيوية على الجميع بفضل الطقوس، التي يقوم بها كل صباح نحو هيئة الآلهة العظمى في المعابد، ولذلك كان وجود هذا الملك الإله، حورس الحي، أمرًا لا غنى عنه للاحتفاظ بكيان العالم.

وكان فرعون يقوم منذ ارتقائه العرش بهذا الدور الهام، الذي أعدته له طبيعته السماوية، لكن هذا الإعداد كان لا يكتسب أثرًا فعالاً إلا بفضل مراسيم التتويج، وكانت هذه المراسيم لا تختلف عما يقوم به الملك كل يوم. إلا بقدر أكبر من الجلال يناسب هذا الظرف الخاص. وكان الآلهة يطهرون الملك الجديد بالطقوس الخاصة بذلك، ويعلنون بين الآلهة والبشر أنه ابن الإله الأكبر ويتوجونه بالتاج الأبيض، بوصفه ملك الجنوب، وبالتاج الأحمر، بوصفه ملك الشمال، وبعد ذلك يتقدم الملك في موكب حاشد إلى معبد أبيه ليتسلم سائل الحياة من الإله الأكبر، ثم يعقب ذلك إقامة حفلات كبيرة وتوزيع هبات ملكية، وكان على الملك أداء واجب هام نحو الآلهة الذين ساعدوه في التتويج، وهو زيادة هذه الآلهة في معابدها، وكان ذلك يعطيه فرصة للاستيلاء فعليًا على سيادة هذه المعابد، وإرضاء الجماعات المختلفة من الكهنة، والحصول على ولائهم بتجديد منحهم السلطات التي يتولونها من قبل فرعون.

وبالرغم من أن تتويج الملك كان يمنحه النعم السماوية إلى الأبد، فإنه كان يحسن تكرار هذه المراسيم من حين إلى آخر، ليتجدد منح النعم السماوية التي أسبغت عليه وكان الحفل ـ ويسمى حفل سد Sed ـ الذي يتجدد فيه منح فرعون النعم السماوية يشبه حفل التتويج، ويشترك فيه مندوبون عن الجماعات الرئيسية للكهنة، وكانوا يحملون الشارات المميزة لبلادهم أو لآلهتهم المحلية، فإن الملك كان يعتبر في كل مكان ابن الإله المحلي، وكانت له في كل معبد "قاعة للعبادة"، وكانت كل الطقوس تقام باسمه، وقد كان في صالح الملك الإكثار من هذه المناسبات، التي يحتشد فيها الكهنة من كل أنحاء البلاد، لكي يعترف الكهنة جميعًا أمام الملأ بسيادته، وبما أن الملك كان يجزل العطايا في هذه المناسبات، فإن الكهنة كانوا يرحبون بها.

وبما أن فرعون كان يدين للآلهة بمولده القدسي، وبما أسبغوا عليه من نعم الحياة والقوة والخلود، فإنه كان يعني بإظهار حبه وإجلاله لهم، اعترافًا بجميلهم وضمانًا للاحتفاظ بخير العلاقات بينهم وبينه، وتبعًا لذلك بينهم وبين رعاياه، ولذلك كان الفراعنة يهتمون بتشييد المعابد أو بإضافة أجزاء جديدة إلى معابد قديمة أو بإصلاح هذه المعابد وزخرفتها، كما كانوا يهمتون بإقامة الشعائر الدينية وتقديم القرابين وإحياء الحفلات الدينية. وتردد النقوش ما يكنه الفراعنة والآلهة بعضهم نحو بعض من الحب المتبادل.

وكانت صفة فرعون باعتباره إلها دنويًا تنتهي بوفاته، ويحل مكانه في الحياة الدنيا فرعون آخر، وعند وفاة فرعون، كان ينضم إلى زمرة الموتى المتألهين في العالم الآخر في صورة أوزيريس إليه العالم الآخر، ويتبوأ عرش هذا الإله، فكانت مهام الملك لا تنتهي بوفاته وانتقاله إلى العالم الآخر، بل يصبح ملك هذا العالم أيضًا وحلقة الاتصال بين الموتى من البشر وآلهتهم في هذا العالم. ولذلك كانت توجه عناية كبيرة إلى قبر الملك الراحل لكي يبقى جسده خالدًا، وكان القبر يملأ بكل حاجات الحياة الجديدة، لكي يستطيع أن يعيش فيها منعمًا، ويحكم الموتى كما كان يحكم الأحياء، ولذلك أيضًا كان الملك الراحل مدار الطقوس الجنازية جميعًا، منذ عهد الأسرة الثالثة.

الإسكندر ينصب نفسه فرعونًا:

وإذا كان هذا هو مركز فرعون عند المصريين، وهذه هي معتقداتهم الدينية، فماذا كذا كان موقف غزاة مصر الجد، الإسكندر والبطالمة، من هذه المعتقدات؟ أو بعبارة أخرى: هل اتخذ هؤلاء الملوك الأجانب صفات الفراعنة؟ وهل اضطلعوا بالأعباء الدقيقة التي كانت تفرضها "الطقوس الدينية اليومية" على فرعون؟ لكن يجب أن نذكر أن فرعون كان لا يؤدي هذه الواجبات بنفسه، بل كان يلجأ إلى وسيلتين، وإحداهما هي إنابة الكهنة عنه في أداء هذه الواجبات، والأخرى هي المناظر التي تتحلى بها جدران المعابد وتمثل الملك وهو يقوم بهذه الواجبات. ففي كل مكان كان الملك يقدم القرابين، وإنما بواسطة الكهنة الذين يمثلونه، وفي كل معبد نرى دائمًا تصاوير تمثل الملك وهو يقدم القرابين وفروض الولاء للآلهة، أما في حفلات التتويج وفي حفلات تجديد هذا التتويج، فإن الملك كان يباشر ذلك بنفسه.

ولقد مر بنا أن الإسكندر قدم القرابين في معبد فتاح للآلهة المصرية والعجل المقدس أبيس، وأنه توج نفسه على نهج الفراعنة القدماء، وهو ما يحدثنا به كتاب قديم من القرن الثالث للمسيح يعزي للعالم المعروف كاليسثينيس (Callisthenes) مؤرخ الإسكندر، وهذا الكتاب يحتوي كل الأساطير التي نشأت منذ القدم حول هذا البطل، ويشك بفان في صحة هذه الرواية اعتقادًا منه أنها اخترعت في مصر لإرضاء الشعور القومي وإظهار الإسكندر في ثوب خليفة الفراعنة الشرعيين، أما فيلكن فيرى أنه بالرغم من الشك في قيمة هذا المصدر التاريخي، فإن الفكرة في ذاتها يمكن اعتبارها فوق مستوى الشك. ولا يستبعد جوجيه صحة هذه الرواية وإن كان يرى أنه لم يكن هناك داع لإقامة طقوس التتويج، وذلك لأن السماح للإسكندر بدخول قدس الأقداس باعتباره ملكًا كان ينطوي على الاعتراف بأنه قد أصبح منذ تلك اللحظة فرعون مصر الشريع. وهذا صحيح في ذاته لأن فرعون، كما عرفنا، كان هو وحده الذي يستطيع تقديم القرابين للآلهة ودخول قدس الأقداس وإن كان ينيب عنه عادة كبير الكهنة، لكن لما كان الإسكندر قد عني بكسب عواطف المصريين بالظهور في ثوب جدير بخليفة حقيقي للفراعنة القوميين، وكانت طبيعة فرعون السماوية لا تكتسب أثرًا فعالاً إلا بفضل مراسيم التتويج، فإننا نرجح أنه حين ذهب إلى معبد فتاح في منف لقديم القاربين للآلهة المصرية قد توج أيضًا فرعونًا، ولا سيما أن ذلك التتويج كان لا يكسب الإسكندر صبغة شرعية حقيقة فحسب في نظر المصريين، وبذلك يقطع شوطًا بعيدًا في ضمان خلاص المصريين لحكمه، بل كان أيضًا يرفعه إلى مصاف الآلهة، وهو ما كان الإسكندر يرنو إليه من أجل تحقيق مشروعاته.

وقد مر بنا أنه عندما حج الإسكندر إلى معبد آمون في سيوة ناداه الكاهن الأكبر باسم "ابن آمون" ومحه باسم الإله السيطرة على العالم التي كان آمون يمنحها للفراعنة، مما يدل صراحة على أن الإسكندر كان قد أصبح فرعونًا قبل حجه إلى سيوة. وفضلاً عن ذلك فإننا نجد النقوش المصرية اسم الإسكندر مشفوعًا بثلاثة من الألقاب الرسمية التي كان الفراعنة يحملونها منذ غابر الزمن. وهذه الألقاب الثلاثة هي "حورس" (أول ألقاب الفراعنة) و "نسوت بيتي، أي ملك مصر العليا ومصر السفلى" (رابع تلك الألقاب) و"سارع، أي ابن رع" (خامس الألقاب التقليدية).

وإزاء كل ذلك نرجح أن الإسكندر قد رسم فرعونًا، وأنه في حفل رسامته منح الألقاب الفرعونية، ومن ثم فإنه برغم ما تقتضيه روح البحث العلمي من الشك في صحة ما يرويه ذلك المصدر القديم عن تتويج الإسكندر، يبين لنا من القرائن المتعددة أن هذا المصدر قد فحظ لنا حقيقة تاريخية جديرة بالتصديق، ويرى فيلكن أن الألقاب الفرعونية التي تحملها الإسكندر تثبت شيئين، وهما سيطرته على مصر وما تبع ذلك من تأليهه، وهكذا لأول مرة اتخذ الإسكندر لنفسه صفة أخرى، صفة ملك مصر، إلى جانب صفته الأولى، صفة ملك مقدونيا، ولم يكرر الإسكندر ذلك فيما بعد إلا مرة أخرى واحدة.

إن المصدر نفسه، الذي يحدثنا عن تتويج الإسكندر في منف، يروى لنا قصة طريفة، وفحواها أن نكتانبو الثاني ـ وهو آخر فرعون وطني حكم مصر ـ عندما طرده الفرس في منتصف القرن الرابع، لم يفر إلى النوبة بل إلى مقدونيا حيث هام بحب ملكتها، وأن الإله آمون قد تقمص صورة نكتانبو وخالط أوليمباس وأنجب منها الإسكندر، وأنه بعد انتهاء المخالطة، قال للملكة: "إفرحي أيتها السيدة لأنك حملت مني ابنًا سيثأر لك ويحكم العالم أجمع".

ويرى بعض المؤرخين المحدثين أن هذه القصة اخترعت في القرن الثالث للمسيح، لكننا، وإن كنا نسلم بأنها قصة مخترعة حقًا، نرى أنها ترجع إلى أيام الإسكندر، بسبب ما بينها وبين قصة حتشبسوت وأمينوفيس الثالث من الشبه، ويحتمل أن رجال الدين بإيعاز من الإسكندر، كانوا يبغون من وراء هذا الاختراع أن يثبتوا للمصريين أن الأسرة الجديدة التي أسسها الإسكندر في مصر كانت سليلة الأسرة الفرعونية السابقة. ويبدو أنه في أواخر أيام الحكم الفارسي في مصر، راجت نبوءة قيل إنها ترجع إلى عهد أمينوفيس، ومقتضاها أ، الفرس سيطردون، وأن املك الوطني سيعود ثانية.

ولعل هذا يفسر سر ترحيب المصريين بالإسكندر، على اعتبار أنه سليل ملكهم الوطني نكتانبو. ولا شك في أن ذلك كان نوعًا من الدعاية، صادف نجاحًا ملحوظًا.

لم يأل الإسكندر إذن جهدًا في أن يظهر أمام رعاياه في ثوب فرعون حقيقي، لأنه توج على نهج الفراعنة الوطنيين، وحمل ألقابهم التقليدية، وأثبت أنه ابن الإله آمون، وخليفة الفراعنة القدماء، فماذا فعل خلفاؤه من بعده؟ لا شك في أن فيليب أرهيدايوس والإسكندر الرابع لم يرسما فرعونين، لأنهما لم يأتيا إلى مصر، لكن الوالي بطليموس عني بإعطائها صفة الفراعنة، وقد كان ذلك يسيرًا إلى مصر، لأنها كأنا الوريثين الشرعيين للإسكندر الأكبر، فاعتبرا فرعونين مثله، وأغدقت عليهما الألقاب الفرعونية، فنجد في الوثائق أن كلا من فيليب أرهيدايوس والإسكندر الرابع يحمل الألقاب الخمسة التقليدية جميعًا.

بطليموس الأول يحمل بعض ألقاب الفراعنة:

هذا ما كان من أمر أسرة الإسكندر، فماذا كان من أمر أسرة البطالمة؟ لا ريب في أن البطالمة كانوا يدركون مركز فرعون عند المصريون، والفائدة التي يجنونها من وراء نصب أنفسهم فراعنة وحمل الألقاب التقليدية، لكن الوثائق التي وجدت حتى الآن تدل على أن البطالمة لم يأخذوا كل صفات الفراعنة إلا بالتدريج، وبعد مضي وقت غير قصير على تأسيس أسرتهم، إذ ليس في الوثائق ما يثبت أن البطالمة الثلاثة الأوائل قد رسموا فراعنة أو أن بطليموس الأول قد حمل كل ألقاب الفراعنة التقليدية، وإن كان يمكن الجزم بأنه حمل على الأقل لقبين من الألقاب وهما اللقب الرابع (نوست بيتي) واللقب الخامس (سارع)، وأنه حذا حذو الفراعنة والإسكندر الأكبر وفيليب أرهيدايوس فاتخذ اسما للعرش أو بعبارة أخرى اسمًا مميزًا للقب الرابع، وهو "مري آمون ستب أن رع" (محبوب آمون الذي اختاره رع).

بطليموس الثاني وخلفاؤه يحملون كل ألقاب الفراعنة:

أما بطليموس الثاني وخلفاؤه فإنهم كانوا جميعًا يحملون كل الألقاب الفرعونية التقليدية، فقد ورد اسم بطليموس الثاني مشفوعًا بالألقاب الخمسة في النصوص المصرية الموجودة أولاً في لوحة بيثوم (تل المسخوطة)، وهي تشير إلى أحداث وقعت بين العام السادس والعام الحادي والعشرين من حكمه (179 – 264)، وثانيًا لوحة مندس (تل الربع بجوار تمي الأسديد) وهي تتناول أحداثًا وقعت منذ العام الخامس عشر إلى العام الحادي والعشرين من عهده (270 ـ 264 ق.م) وثالثًا على جدران القاعة التي تسبق قدس الأقداس في م عبد إيزيس الكبير بجزيرة فيلة.

ويرى البعض أن فيلادلفوس قطع شوطًا محسوسًا نحو التشبه بالفراعنة لأنه حمل كل ألقاب الفراعنة التقليدية وتزوج من شقيقته ارسينوي الثانية. وعند بعض الباحثين أنه من العسير استبعاد أثر التقاليد المصرية في هذا الزواج، ولا جدال في أن الفراعنة درجوا عادة على اتخاذ زوجاتهم الشرعيات من بين أخواتهم لاعتقادهم أن الزوجة المنحدرة من سلالة ملكية لم تكن فقط قادرة على صيانة الدم الملكي نقيًا، بل كانت أيضًا تنقل من فرعون إلى آخر الصفة الإلهية التي ك انت تعزي إلى الفراعنة منذ أقدم العصور، ومن ثم فإنها كانت أضمن وسيلة لنقل حق وراثة العرش من آبائها إلى أبنائها، وقد كانوا يبررون هذه العادة بإرجاع أصلها إلى آلتهم، فأساطيرهم تحدثنا عن زواج أوزيريس من أخته إيزيس وزواج ست من أخته نفثيس. أما الإغريق فإنهم كانوا يعتبرون زواج الأخر من أخته فسقًا، مما د فع الشاعر الهجاء سوتادس إلى التنديد بزواج فيلادلفوس من أرسينوي.

ولو أن فيلادلفوس كان قد اعتنق حقًا الأفكار المصرية في مسألة الزواج وأراد التشبه بالفراعنة فعلاً، لما تزوج من قبل أرسينوي الأولى ابنة ليسيماخوس. وإذا قيل لعله لم يعتنق هذه الأفكار مبكرًا، فإنه يحق لنا أن نتساءل كيف أنه بعد زواجه من أرسينوي الثانية زوج ابنه الأكبر من برينيكي ابنة ماجاس وابنته برينيكي من أنطيوخوس الثاني؟ وإذا كان المؤرخون يختلفون أيما اختلاف في تفسير أسباب زواج فيلادلفوس من أخته ، فإنه يبدو لنا أن أكثرها هو توافق الأمزجة بين هذين الشخصين، وتأثير أرسينوي على أخيها، وحاجة هذا الملك إلى شخصية نشيطة تشد أزره وتسد ما به من نقص، ولما كان مثل هذا الزواج كريهًا إلى الأغريق، فقد كان يجب إذن البحث عن حجة قوية غير الأغراض الشخصية لتبريره، ولو كان فيلادلفوس قد رفع قبل ذلك الوقت إلى مصاف آلهة الإغريق، لاعتبر زواجه من أخته شبيهًا بزواج زيوس من هيرا، لكن فيلادلفوس لم يكن قد نادي نفسه إلهًا بعد، فلم يبق إذن إلا الالتجاء إلى التقاليد المصرية. ولذلك فإن التشبه بالفراعنة لم يكن هو الدافع الحقيقي إلى ذلك الزواج، وإن كان قد انتحل سببًا لتبريره، وقد اعتبر ذلك الزواج سابقة، حذا حذورها كافة البطالمة تقريبًا منذ عهد بطليموس الرابع. وأصبحت القاعدة منذ زواج فيلادلفوس من أرسينوي الثانية أن يطلق على كل الملكات لقب "الأخت"، حتى إذا لم يكن أخوات بعولتهن، ومثل ذلك برينيكي الثانية زوجة بطليموس الثالث.

ولدينا وثيقة مشهورة من عهد بطليموس الثالث (يورجتيس) تعرف باسم نقش أدوليس. وتحدثنا هذه الوثيقة عن الحرب السورية، وتعني بإثبات أن الملك ينحدر من سلالة آلهة الإغريق، على حين أن ها ت غفل ذكر الألقاب الفرعونية، ويبدو أن السبب الرئيسي لذلك هو أن هذا النص غير الرسمي الذي كتبه وأقامه أحد ضباط الملك الإغريق مكتوب بالإغريقية، وأن رجال البطالمة كانوا يعرفون شدة حرص ملوكهم على الظهور أمام الإغريق في ثوب ملوك إغريق.

وتوجد أمثلة متعددة لوثائق رسمية حررت بالإغريقية و الهيروغليفية وأغفلت الألقاب الفرعونية في النص الإغريقي بينما ذكرت تلك الألقاب في النص الهيروغليفي. ومع ذلك يلقى نقش أدولس شعاعًا من النور على سياسة الملك نحو المصريين، فهو يرينا اهتمام الملك بأن يحذو حذو الفراعنة، إذ يحدثنا النص بأن الملك عندما غزا بلاد الفرس بحث عن الأشياء المقدسة التي كان الفرس قد أخذوها من مصر وأعادها ثانية إلى وادي النيل. وهذه العبارة لا تشبه ما ورد في نص كانوب فحسب، بل ما ورد في غيره من النصوص الرسمية من عهد الفراعنة وكذلك البطالمة، ولا بد من أن العبارة التي وردت في نص أدوليس لم تكن تقليدية جوفاء، لأن هذا النص كما ذكرنا ليس نصًا رسميًا، ولم يكتب لكسب ود المصريين، أي لا بد من أن يكون الملك قد عني حقًا بإحضار بعض الأشياء المقدسة التي كان الفرس قد أخذوها من مصر.

وقد كشفت الحفريات التي قام بها متحف بلدية الإسكندرية في الأعوام 1943 و 1944 و 1945 عن ثلاث مجموعات من اللوحات تحمل جميعًا نقشًا واحدًا مكتوبًا باللغتين الإغريقية والهيروغليفية. وقد خلا النص الإغريقي من الألقاب الفرعونية بينما أثبت النص الهيروغليفي تلك الألقاب، فقد جاء في النص الإغريقي: "الملك بطليموس بن بطليموس وأرسينوي الإلهين الأخوين، شيد لسيرا بيس المعبد والسياج المقدس". أما النص الهيروغليفي فقد جاء فيه "إن ملك الجنوب والشمال، وريث الإلهين الأخوين الذي اختاره آمون، حياة رع، القوى، ابن رع، بطليموس المعمر أبدًا حبيب فتاح قد شيد هذا المعبد".

وفي كانوب أصدر الكهنة في السادس من شهر مارس عام 237 ق.م. في خلال اجتماعهم السنوي بمناسبة عيد ميلاد بطليموس الثالث وعيد ارتقائه العرش قرارًا مشهورًا وصلت إلينا ثلاث نسخ منه منقوشة على الحجر بالإغريقية والهيروغليفية والديموتيقية. وهنا أيضًا أغفل النص الإغريقي ذكر الألقاب الفرعونية بينما أثبت النص الهيروغليفي هذه الألقاب جميعًا، وفضلاً عن ذلك فقد ورد اسم بطليموس الثالث مقرونًا بالألقاب الخمسة التقليدية على جدران معبد فيلة، وكذلك على جدران معبد أقامه في نجع الفوقانية شمالي الكرنك.

بطليموس الرابع وخلفاؤه يرسمون فراعنة:

وإذا كان بطليموس الثاني قد خطا خطوة واسعة نحو اتخاذ صفة الفراعنة، لأنه حمل الألقاب الفرعونية ولأنه تزوج أخته، فإن بطليموس الرابع خطا خطوة أوسع من جده. إذا نجد منذ حكم فيلو باتور ألقاب الفراعنة كاملة حتى في النص الإغريقي للوثائق الرسمية، بل هناك من القرائن ما يدل على أن هذا الملك رسم فرعونًا على نمط الفراعنة الوطنيين، وأهم هذه القرائن عبارة وردت في القرار الذي أصدره القساوسة في 15 من نوفمبر عام 217، بمناسبة انتصار هذا الملك في معركة رفح، فإن هذا القرار ، الذي حفظه لنا نصب عثر عليه في ببثوم، يسرد ألقاب الفراعنة كاملة بالهيروغليفية والديموتيقية والإغريقية، ويذكر أن "الغله فتاح وافق على هذا الملك". أليس معنى ذلك دخول هذا الملك قدس الأقداس في معبد فتاح لتتويجه فرعونًا؟ إن ورود عبارة مشابهة على حجر رشيد، وتفسيرها على هذا النحو فيما يختص ببطليموس الخامس الذي نعرف قطعًا أنه رسم فرعونًا، لا يدع مجالا للشك فيما ذهبنا إليه من تأويل هذه العبارة، وقد وصل فيلكن إلى النتيجة نفسها من عبارة أخرى في صدر هذا القرار، وترجمتها أ، "أباه (أبا الملك، أي الإله الأكبر فتاح) قد أقامه ملكًا". ونجد اسم بطليموس الرابع مقرونًا بالألقاب الفرعونية كاملة في وثيقة بردية يبدو أنها تتضمن أمرًا ملكيًا وفي نقش محفوظ بمتحف القاهرة، وفي نقوش على جدران بهو الأعمدة وكذلك على جدران قدس الأقداس في معبد إدفو، وإذا تذكرنا الأزمة الخطيرة التي واجهت فيلو باتور في عهده مما اضطره إلى تجنيد المصريين لمحاربة أنطيو خوس، وإذا عرفنا أن لهيب الثورة الوطنية اندلع في عهد هذا الملك، مما اضطره إلى إجزال المنح للمصريين، فإننا ندرك أنه إذا كان البطالمة الأوائل، وقد شعروا بقوتهم بفضل تعضيد الإغريق لهم، تحاشوا أن يتخذوا أمامهم كل صفات الفراعنة، ولم يروا حاجة إلى توكيد هذه الصفات أمام المصريين، فإن بطليموس الرابع، وقد شهد انقطاع وفود الإغريق على مصر في وقت تحرح فيه مركزه بسبب الأخطار الخارجية والثورات الداخلية، لم ير مفرًا من الخضوع للتقاليد المصرية، فتوج نفسه فرعونًا وحمل كافة ألقاب الفراعنة.

وإذا كان الشك لا يزال يساور البعض في رسامة فيلو باتور فرعونًا، فليس هناك مجال لهذا الشك فيما يتعلق برسامة بطليموس الخامس (إبيفانس) وخلفائه، فإن حجر رشيد المشهور حفظ لنا بالإغريقية والهيروغليفية والديموتيقية نص القرار الذي أصدره القساوسة المجتمعون في منف في السابع والعشرين من شهر مارس عام 196، وهو يرينا اسم الملك مقرونًا بألقاب الفراعنة كاملة حتى في النص الإغريقي، وكذلك اهتمام القساوسة بأن يقرروا بأن الهيكل، الذي يحمل فيه تمثال الملك، يجب أن يزين بمناظر تسجل تتويج الملك في العام السابق. إذا ورد في النص: "ولكي يميز بسهولة هذا الهيكل من الهياكل الأخرى على الدوام، يجب أن تعلوه عشرة تيجان ذهبية للملك ... ‘لى أن يوضع في وسطها التاج المعروف باسم بشنت "Pechent" الذي لبسه الملك عندما دخل معبد منف لأداء المراسم الضرورية عند ارتقاء العرش....".

ومما يجدر بالملاحظة أن قرار حجر رشيد قد سجل باللغتين الهيروغليفية والديموتيقية فقط على أحد جدران معبد إيزيس الكبير في فيلة، وأن نصبًا عثر عليه في نقراطيش يحمل النص الهيروغليفي فقط لهذا القرار وهو محفوظ بحالة تفضل الأصل كثير، وبطبيعة الحال نجد في هذين النقشين مثل ما نجد في نقش ثالث على جدران معبد أمحوتب في فيلة، وفي نقش رابع على جدران معبد إدفو، اسم بطليموس الخامس مقرونًا بألقابه التقليدية.

وإذا كانت عوامل الضعف والانحلال قد حملت بطليموس الرابع والخامس على التودد إلى المصريين برسامة نفسيهما فرعونين، كما كان يفعل ملوك مصر الأقدمون، فإن هذه العوامل استمرت في عهد خلفائهما، بل أضيف إليها عاملان آخران كان لهما أثر بين في تكييف مجرى سياستهم الداخلية والخارجية، وهما الانقسامات بين أفراد الأسرة المالكة، وتغلغل نفوذ روما في مصر. ولذلك فإنه على الرغم من افتقارنا إلى الوثائق التي تشير إلى رسامة هؤلاء البطالمة المتأخرين فراعنة، فإننا لا نشك في رسامتهم وذلك لأن بطليموس الرابع والخامس قد استنا سنة جديدة لم يكن من إصالة الرأي الخروج عليها، ولا بد من أنها قد أصبحت قاعدة محترمة بين البطالمة المتأخرين، ويؤيد ما نذهب إليه في هذا الصدد تصوير هؤلاء الملوك على جدران المعابد في أشكال وأوضاع مصرية صميمة في حضرة الآلهة، وما نعرفه قطعًا عن رسامة كل من بطليموس الثامن يورجتيس الثاني وبطليموس الثاني عشر (الزمار) فرعونًا، ومما يجرد بالملاحظة أن بطليموس الزمار لم يرسم فرعونًا إلا في شهر مارس عام 76، أي بعد ارتقائه العرش بنحو من أربعة أعوام، ويستخلص البعض من ترجمة حديثة للوحة الهيروغليفية، التي أقيمت على قبر الكاهن الأكبر بشرني ـ فتاح (Psherni-ptah)، أن بطليموس الثاني عشر لم يرسم فرعونًا في معبد منف، كما كانت العادة، وإنما في قصره بالإسكندرية، هذا وإن كان الملك قد زار معبد منف بعد ذلك.

ولا شك لدينا أيضًا في أن كل البطالمة الأواخر قد حملوا مثل أسلافهم الألقاب الفرعونية كاملة، وعلى كل حال فإن لدينا أمثلة متعددة لنقوش قرنت فيها أسماء بطليموس السادس فيلو متور، وبطليموس الثامن يورجتيس الثاني وبطليموس التاسع سوتر الثاني وبطليموس الزمار بكل ألقاب الفراعنة.

ويبدو إذن مما مر بنا أنه إذا كان البطالمة الثلاثة الأوائل لم يتخذوا على الأرجح من صفات الفراعنة إلا ألقابهم التقليدية فقط ولم يثبتوا هذه الألقاب إلا في النصوص المصرية دون الإغريقية، فإن البطالمة الأواخر لم يحملوا الألقاب الفرعونية كاملة فحسب في النصوص المصرية الأغريقية سواء بسواء، بل عنوا أيضًا برسامة أنفسهم فراعنة. ولعل السر في ذلك هو أن البطالمة الأوائل شعروا بقوتهم وشدة بأسهم وحاجتهم إلى تأييد الإغريق لهم، إلى حد أنهم لم يروا داعيًا للإغراق في التشبه بالفراعنة، ولا سيما أن ذلك كان يغضب الإغريق ويكسب الكهنة من القوة ما يهدد مركزهم، لكن عندما بدأ الاضمحلال يدرب دبيبه إلى الدولة وأخذت المخاطر تتهددها، ولم يعد في استطاعة البطالمة الاعتماد كلية على الإغريق لم يجدوا مخرجًا لهم إلا في اتخاذ صفات الفراعنة كاملة فيحملوا ألقابهم ويتوجوا على نمطهم.

بقاء المعتقدات القديمة في مولد فرعون:

وقد بقيت المعتقدات القديمة الخاصة بمولد فرعون من الآلهة سائدة في أيام البطالمة لكن بدلا من أنه كان يخصص المولد فرعون قاعة في المعبد أو جانب من قاعة، كما كان يحدث في عهد الفراعنة الوطنيين، كان في عهد البطالمة يخصص معبد صغير لهذا الغرض، أطلق عليه اسم "الماميزي"، أي بيت الولادة، وقد كان هذا المعبد الصغير يقام إلى جانب كل معبد من المعابد التي يعبد فيها ثالوث مقدس، ويمثل المعبد الصغير صورة المكان السماوي الذي أنجبت فيه الآلهة "ثالث أفراد الثالوث" أو بعبارة أخرى الإله الابن، أي حورس الطفل. ولا شك في أن مولد جورس الطفل كان رمزًا لمولد فرعون، وفي هذا ما يثبت بقاء المعتقدات القديمة، التي تقول بأن فرعون هو حورس وسليل الآلهة.

ونسوق دليلاً آخر على بقاء هذه المعتقدات وأهميتها في نظر الأسرة الحاكمة وأفراد الشعب سواء بسواء في أيام البطالمة، على نحو ما كانت عليه في أيام الفراعنة، فإنه عندما انجبت كليبوبترة السابعة في 23 من يونيه عام 47 ق. م طفلا ذكرًا من يوليوس قيصر، ولم تكن تجري في عروق هذا الطفل دماء الفراعنة، لأن أباه لم يكن فرعونًا، وجدت كليبوبترة لنفسها ولابنه مخرجًا من هذا المأزق في معتقدات المصريين الدينية، ولذلك صورت على جدران معبد أرمنت قصة تشبه قصة حتشبسوت في معبد الدير البحري وقصة امينوفيس الثالث في معبد الأقصر، وقصة نكتانبو الثاني وأوليمبياس أم الإسكندر، إذا نقشت على جدران عبد أرمنت قصة فحواها أن الإله آمون ـ رع تقمص شكل يوليوس قيصر وخالط كليوبترة وأنجب منها ابنها، الذي أطلق عليه الإسكندريون اسم قيصرون، وهكذا اكتسب قيصرون صبغة شرعية، وحق له أن يعتلي عرش الفراعنة، وعندما اعتلى قيصرون العرش واشترك مع أمه في الحكم بعد وفاة بطليموس الرابع عشر، صور على جدران المعابد في شكل الفراعنة الأقدمين



إشراك ملوك وملكات البطالمة في العبادة مع الآلهة المصري
وتحدثنا لوحة مندس بأن بطليموس الثاني أشرك زوجه أرسينوي الثانية مع كبس مندس "الإله الاكبر، حياة رع، الكبش الذي ينتج، أمير الشابات، صديق البنت والأخت الملكية، الملكة وسيدة البلاد، أرسينوي التي تعيش إلى الأبد".

وقد أشركت أرسينوي كذلك مع توم (Toum) في بيثوم، ونيت في سايس، وفتاح في منف، وموت (Mout) في طيبة، ومونت في هرموننيس، وخفسو في الكرنك، وسبك في كروكديلبوليس بالفيوم، وإيزيس في فيلة إلخ.

ونتبين من قرار كانوب أن الإلهين المنقذين الأخوين والإلهين الخيرين كانوا يعتبرون قرناء الآلهة المصرية في كل المعابد ويشركون في العبادة، وأن القرابين كانت تقدم للإلهين الخيرين ثلاث مرات شهريًا، وذلك إلى جانب الاحتفال بأعيادهما السنوية، مثل عيد ميلاد الملك وعيد ارتقائه العرش، وأنه تقرر عبادة ابنتهما برينيكي في كل معابد مصر، وفي عهد بلطميوس الرابع أشرك الإلهان المحبان لأبيهما، وفي عهد بطليموس الخامس أشرك الإلهان الظاهران، وهكذا يبدو أن إشراك الملك الحاكم وزوجه في العبادة مع من سبقه من البطالمة المؤلهين والآلهة المصرية كان تقليدًا مرعيًا منذ عهد بطليموس الثاني بل لا يبعد منذ أتخذ البطالمة صفات الفراعنة، فقد مر بنا أن فرعون كان يعتبر ابن الإله المحلي في كل مكان وتقام الطقوس باسمه في كل معبد ، وقد كان نتيجة طبيعية لاعتبار الملك بطليموس وزوجه إلهين شريكين للآلهة المصرية في المعابد التي أقيمت من أجل تلك الآلهة أن جدران المعابد كانت تزين بصورهما في ملابس الفراعنة وأوضاعهم باعتبارهما إلهين، تحيط بهما نقوش هيروغليفية تسبغ على الملك ألقاب الفراعنة التقليدية وتسجل تقواه وما جاد به من الخيرات، ويجب أن يلاحظ أن الصور التي تمثل أي ملك من ملوك البطالمة على جدران المعابد المصرية صور تقليدية للملك بوصفه فرعونًا اصطنعت وفقًا لتقاليد الفن المقدس، وليست فيها أية محاولة لإبراز صورة حقيقية للملك، فلا يمكن أن نستخلص من تلك الصور شكل الملك الحقيقي ولا الرداء الذي كان يضعه فعلاً في حياته اليومية. وقد ترتب على عبادة أفراد أسرة البطالمة باعتبارهم آلهة مصرية ما نجد لهم من التماثيل وكذلك الصور سواء على النقود أم على الأحجار الكريمة في شكل الآلهة والآلهات المصرية. وأكثر هذه التماثيل والصور تمثل أميرات البطالمة في شكل الإله إيزيس.

ويستوقف النظر أنه عندما نصب البطالمة أنفسهم آلهة وعبدهم الإغريق عبادة رسمية، كان كهنة هذه العبادة الإغريقية يذكرون في ديباجة الوثائق في كل أنحاء البلاد، على حين أن كهنة عبادة البطالمة عبادة مصرية كانا لا يذكرون في ديباجة الوثائق، غير أن كتاب الوثائق (Monographoi) الوطنيين كانوا يكتفون عادة بأن يذكروا بعد التوقيع أنهم يكتبون باسم القبائل الخمس من كهنة آمون رع مثلاً في طيبة، وكهنة مونت في هرمونثيس، و"لآلهة الأخرى المشتركة معه". وفي بعض الأحيان كان الكتاب يعددون من هذه الآلهة الأخرى الشريكة (Synnaoi Paredroi)، أي الملوك المؤلهين الذين كانت لهم ألقابهم المقدسة، وتقوم القبيلة الخامسة من الكهنة بطقوسهم الخاصة، فنجد في آخر وثيقة، بتاريخ 29 كيهك في الثالث والعشرين من حكم بطليموس الخامس (3 فبراير 182 ق.م)، "كتب هذا بابي (Pabi) ابن كلودج (Kloudj) باسم كهنة القبيلة الخامسة، الذين كانوا كهنة آمون ـ رع ـ سونتر (Mounrasonther) والإلهين الأخوين والإلهين الخيرين والإلهين المحبين لأبيهما والإلهين الظاهرين". ويبدو أن النص هنا على القبيلة الخامسة بدلاً من الصيغة العادية "باسم القبائل الخمس" يشير بجلاء إلى أن عبادة البطالمة في المعابد المصرية كانت من اختصاص هذه القبيلة الخامسة، التي يبدو أن بطليموس الثالث أنشأها لهذا الغرض.


البطالمة والديانة المصرية
أدرك الإسكندر والبطالمة أنه كان من الأسباب التي أحفظت قلوب المصريين ضد الفرس أنهم انتهكوا حرمة الديانة المصرية ، ولذلك وضع الإسكندر والبطالمة نصبًا أعينهم الاعتراف بالديانة المصرية دينًا رسميًا .

وكان ذلك ينطوي على إظهار احترامهم وإجلالهم لهذه الديانة ، وكذلك على السماح للمصريين بحرية عبادة آلهتهم القديمة وقد سهل على البطالمة اتباع هذه السياسية عاملان: أحدهما أن "الدولية" التي تمخض عنها العصر الهلينيسي جعلت ميول هذه العصر تتجه نحو الحرية الفكرية وحرية الاعتقاد، والآخر أن الإغريق كانوا يكنون للديان المصرية احترامًا عميقًا، ولما كان الباعث على إتباع هذه السياسة هو رغبة البطالمة في توطيد دعائم ملكهم، فإنهم لم يألوا جهدًا في العمل على إظهار إجلالهم واحترامهم للديانة المصرية. وقد رأينا أدلة ملموسة على ذلك فيما أسلفناه من اهتمام البطالمة باتخاذ صفات الفراعنة، وتصويرهم على جدران المعابد على نمط الفراعنة القدماء، بل تصويرهم على الأحجار الكريمة والنقود في شكل آلهة مصرية، ولتحيق هذه السياسة، اتبعوا وسائل شتى يمكننا تلخيصها في تقديم القرابين وإرجاع تماثيل الآلهة التي كان الفرس قد أخذوها من البلاد، ومنح المعابد هبات مالية وأراضي، وإنشاء المعابد والهياكل وإصلاحها وزخرفتها، ومنح المعابد حق حماية اللاجئين إليها.

الإسكندر الأكبر:

ويمكننا الوقوف على مدى ما قام به هؤلاء الملوك الغرباء في هذا الصدد من استعراض ما وصل إلينا من أخبار كل منهم، أما الإسكندر الأكبر فإنه عندما نزل في منف، كان همه الأول أن يقدم القرابين للآلهة الوطنية والعجل المقدس أبيس، وبعد ذلك وضع أساس معبدًا إيزيس في الإسكندرية، وشيد في معبد الأقصر أمام قدس الأقداس، مكان قاعة ذات أربعة أعمدة، هيكلا صغيرًا كان مصريًا في عمارته وزخرفته، ويزين هذا الهيكل صور تمثل الإسكندر في حضرة الآلهة آمون وموت وخنسو، الذين أهدى إليهم هذا الهيكل، وأصلح الإسكندر مدخل البوابة التي كانت تكون الواجهة الغربية في معبد الكرنك العظيم أيام تحتمس الأول وأنشأ معبدًا في الواحة البحرية.

بطليموس الأول:

وما كاد بطليموس الأول يطأ أرض مصر، عندما نصب واليًا عليها في عام 323 ق.م، حتى بادر بإظهار احترامه للديانة المصرية بأن تبرع بمبلغ قدره خمسون تالنتا (أي حوالي 10.000 جنيه) للاحتفال بجنازة أحد العجول المقدسة، ولم يكتف بطليموس بذلك، فإن نصب الوالي التذكاري، الذي عثر عليه في القاهرة في عام 1871، يعطينا صورة صادقة لمجهودات بطليموس الأول في هذه الناحية، وهذا النصب عبارة عن لوحة من الجرانيت الأسود، يزين أعلاها منظر ينقسم قسمين يمثل أحدهما ملكًا يقدم القرابين إلى حورس إليه مدينة بي (Pe) ويمثل الآخر الملك وهو يقدم القرابين إلى بوتو (Buto) إلهة مدينتي بي وتب (Tep). ويرجع تاريخ النص إلى "العام السابع من حكم الملك الإسكندر المعمر أبدًا في الوقت الذي يبدأ فيه فيضان النيل، أي في شهر يونيه عام 311، ويحدثنا هذا النص بأن أرض باتانوت (الجزء الشمالي من محافظتي الغربية وكفر الشيخ) كانت دائمًا أبدًا ملكًا لإلهي بي وتب، وأن إجزر كسيس سلب الإلهين هذه الأرض، غير أن خباش أعاد للألهين ممتلكاتهما وأضاف إليها، وحذا بطليموس حذو خباش فقد أعاد منح كافة هذه الممتلكات لإلهي بي وتب، وقد كان خباش زعيم الحركة الوطنية، التي قام بها المصريون ضد الفرس ي عام 486، ويبدو أن بطليموس الأول قد أراد بما أورده في هذا النص أن يذكر المصريين بمساوئ حكم الفرس، والفرق بين معاملتهم الآلهة المصرية ومعاملته هو هذه الآلهة، كما أنه بمحاكاته ما فعله من قبل الزعيم الوطني خباش، أراد أن يظهر في ثوب زعيم الحركة الوطنية، هذا إلى أنه رمى إلى تذكير المصريين، بطريق غير مباشر، بالخدمات التي سبق أن أسداها الإغريق للمصريين كلما ثاروا ضد الفرس، ويردد هذا النص العبارة التقليدية القائلة بأنه أعاد المعابد ما وجده في آسيا من أثاث المعابد وكتبها المقدسة وتماثيل الآلهة.

وتشير أدلة أخرى إلى أن بطليموس عني منذ قدومه إلى مصر بافتقاء أثر الفراعنة في اهتمامهم بالمنشآت الدينية، فإنه أعاد إنشاء قدس الأقداس في معبد الكرنك بسام فيليب ارهيدايوس، وزخرف باسم الإسكندر الرابع قاعة ي معبد الكرنك، يظن أنها قاعة احتفالات تحتمس الثالث، وقد وجد في هذه القاعة تمثال طريف للإسكندر الرابع، إذ أنه مثل من الأمثلة النادرة لفن النحت التي يمتزج فيها الطراز المصري بالطراز الإغريقي. وشيد بطليموس في عهد الإسكندر الرابع هيكلاً في بني حسن، وقد صور الملك في أعلى واجهة الهيكل راكعًا يقدم تمثال "الصدق" إلى الإلهة باشت (Pasht)، ووقفت الآلهة حتحور خلف الملك، الذي صور أيضًا على أحد جانبي الباب في حضرة آمون وحورس، وعلى الجانب الآخر في حضرة تحوت وخم Chem. وأقام بطليموس الأول بوابة أمام معبد الفنتين، صور عليها الإسكندر الرابع وهو يتعبد إله خنوم. وإذا كانت هذه المنشآت ثانوية، فإنها كانت على الأقل مثلاً حذا حذوة خلفاء بطليموس الأول.

بطليموس الثاني:

وتدل الوثائق التي وصلت إلينا من عصر بطليموس الثاني فيلادلفوس على أنه لم يتوان في إظهار إجلاله واحترامه للآلهة المصرية: فإن لوحة بيثوم التي أقيمت في العام الحادي والعشرين من حكمه (265 / 264 ق.م) تنبئنا بأن هذا الملك زار بيثوم ثلاث مرات. أما الزيارة الأولى فكانت في العام السادس من حكمه (عام 280 / 279) عندما بدأ العمل في القناة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وزار بلاد الفرس وأحضر من هناك تماثيل الآلهة، وأهدى معبدين إلى توم (Toum) وأوزيريس، إلهي بيكرحت (Pikerehet). أما الزيارة الثانية فكانت في العام الثاني عشر (عام 274 / 273)، عندما اصطحب معه أخته وزوجه الملكة ارسينوي الثانية وأجزل الهبات لآلهة بيثوم. أما الزيارة الثالثة فكانت في العام الحادي والعشرين (عام 265 / 264) عندما منح الملك المعابد المصرية هبة مالية قدرها 750000 دين (Deben)، وهو ما يوازي 3125 تالتنت من الفضة، أي ما يزيد على نصف مليون جنيه. وتؤكد هذه الوثيقة مما ورد في هذه الوثيقة وفي قراري كانوب ورشيد أن البطالمة كانوا يهبون العابد منحًا معينة، إلى جانب ما كانوا يمنحونها في مناسبات خاصة، وتحدثنا لوحة مندس عن تقدير فيلادلفوس لإله هذه المدينة والهبات التي أجزلها له.

وقد شيد فيلادلفوس عددًا كبيرًا من المعابد المصرية اختص إيزيس باثنين منها، فإنه بدأ بناء معبدها الكبير في جزيرة فيلة، وأقام لهذه الإلهة معبدًا آخر في الدلتا في بهبيت الحجارة ـ بالقرب من سمنود ـ مكان معبد نكتانبو الأول، وقد امتاز هذا المعبد ببهائه ورونقة، إذا بني جميعه من جرانيت أسوان الأحمر، وأنشأ فيلادلفوس معبدًا صغيرًا لا محوتب في جزيرة فيلة. وشيد كذلك معبدين آخرين على الأقل، أحدهما في مندس والآخر في نقراطيس، وأقام بوابة أمام معبد موت في الكرنك.

بطليموس الثالث:

وتحدثنا وثيقة كانوب عن سياسة بطليموس الثالث يورجتيس نحو الديانة المصرية، فإن هذه الوثيقة تروى لنا كيف أن الملك بطليموس (بن بطليموس وأرسينوي الإلهين الأخوين) وبرينيكي أخته وزوجته، الإلهين الخيرين، يجزلان دائمًا للمعابد الوطنية نعمًا كثيرة عظيمة، ويزيدان مظاهر الإجلال للآلهة، ولا يدخران وسعًا في العناية بأبيس ومنفيس وغيرهما من الحيوانات المقدسة المشهورة مهما كفلها ذلك من النفقات، وتعيين الكهنة المناسبين، وأن الملك بعد قيامه بحملة في الخارج أعاد إلى مصر التماثيل المقدسة التي كان الفرس قد أخذوها منها...". ثم تمضي الوثيقة في سرد لأعمال الطيبة التي قام بها الملك نحو رعاياه، فإنه نشر السلام في البلاد، ودافع عنها ضد أعدائها، وأقام فيها حكومة رشيدة، وعندما قل الفيضان عن مستواه العادي ولم يسد حاجات البلاد، نزل الملك والملكة عن جانب غير قليل من دخلهما لإنقاذ حياة الكهنة والأهالي، فإنهما أحضرا القمح من سوريا وفينقيا وقبرص وغيرها من البلاد بسعر مرتفع، وإزاء كل هذه الخدمات "قرر القساوسة أن تزاد مظاهر الإجلال التي تقدم للملك والملكة وأبويهما وجديهما، وأن يحمل الكهنة في كل المعابد لقب كهنة الإلهين الخيرين وذلك إلى جانب ألقابهم الأخرى، وأن تضاف في كل معبد قبيلة خامسة من الكهنة تحمل اسم الإلهين الخيرين وتكون على قدم المساواة مع القبائل الأربع القديمة، وأن يقيم الكهنة في أوائل كل عام في كافة المعابد حفلاً قوميًا مقدسًا، إجلالا للملك والملكة، وأن تقام لبرينيسكي ابنة الإلهين الخيرين التي توفيت فجأة مراسم الإجلال في كل المعابد، وأن يقام لها أيضًا في جميع المعابد من الدرجتين الأولى والثانية تمثال من الذهب المطعم بالأحجار الكريمة، وأن تقام في أبرز مكان في كل معبد من معابد الدرجات الأولى والثاني والثالثة صورة من هذا القرار، على لوحة من الحجر أو البرنز، مكتوبة باللغات الهيروغليفية والديموتيقية، ليثبت القساوسة في طول البلاد وعرضها أنهم يكرمون الإلهين الخيرين وسلالتهما كما هو حق.

إن هذه الوثيقة عبارة عن قرار أصدره مجمع الكهنة، الذي انعقد في مدينة كانوب في السادس من شهر مارس عام 237 عقب عودة بطليموس الثالث مكرهًا من حروبه في آسيا بسبب الثورة التي نشبت في مصر نتيجة لحدوث مجاعة فيها، وقد وصلت إلينا ثلاث نسخ من الحجر لهذه الوثيقة، عثر على أولاها في عام 1865 بين أطلال مدينة تانيس القديمة، ووجدت الثانية في عام 1881، وهاتان الوثيقتان موجودتان الآن في متحف القاهرة. أما النسخة الثالثة فإنها محفوظة في متحف اللوفر وبها عطب كثير.

أما عن المنشآت الدينية التي أقامها هذا الملك، فإنه أكمل معبد إيزيس في فيلة، الذي لم يتم بناؤه في عهد أبيه بطليموس الثاني، إذ أن المدخل الكبير من الناحية الشمالية يحمل نقشًا باللغة الإغريقية مؤداه أن الملك بطليموس والملكة برينيكي وأبناءهما يهدون الهيكل إلى إيزيس وحاربو كراتس، وقد وجدت في جزيرة بيجه (Biggch) المجاورة لجزيرة فيلة بقايا معبد وجد عليها اسم بطليموس الثالث وأسماء بعض الفراعنة القدماء. وقد بدأ في إقامة معبد لإيزيس في أسوان، وشيد معبدًا صغيرًا في إسنا، والباب الخارجي لمعبد فتاح والمدخل الأكبر لعبد خنسو والمعبد الشمالي لمعبد مونتو بالكرنك، ولا بد من أنه شيد معبدًا جديدًا لأوزيريس في كانوب، فقد عثر هناك على لوحة ذهبية كانت قد وضعت، كما هي العادة في أغلب الأحوال، بين أحجار الأساس، وتحمل هذه اللوحة نقشًا بالإغريقية هذا نصه: "الملك بطليموس بن بطليموس وأرسينوي، الإلهين الأخوين، والملكة برينيكي، أخت الملك وزوجته، يهديان هذا الهيكل إلى أوزيريس". لكن لعل أهم آثار هذا العاهل في بناء المعابد هو معبد حورس في إدفو الذي وضع أساسه في 23 من أغسطس عام 237، إلا أن بناءه وزخرفته لم يتما إلا في ديسمبر عام 57 ق.م في عهد بطليموس الثاني عشر. ويعتبر هذا المعبد من أروع ما أنتجه في العمارة المصرية في عهد البطالمة.

ومما يجدر بالملاحظة أنه صاحب ازدياد المنشآت الدينية المصرية التي أقامها هذا الملك عقب قرار كانوب الإقلال من القرابيين التي كانت تقدم للمعابد في أنحاء العالم الأغريقي، لأن باوسانياس، الذي شاهد كثيرًا من التمثيل والقرابين التي قدمها بطليموس الأول والثاني في كل أنحاء بلاد الإغريق، لم يذكر لنا أنه شاهد قربانًا أو تمثالاً قدمه بطليموس الثالث، على الرغم من أن سلطانه كان يمتد على بحر إيجه أكثر من سلفيه، ومعنى ذلك أن ازدياد عناية هذا الملك بالديانة المصرية قلل من اهتمامه بالديانة الإغريقية.

بطليموس الرابع:

ولما كان البطالمة الثلاثة الأوائل يعتمدون اعتمادًا كليًا على الإغريق في تكوين قواتهم الحربية، فإن جل اهتمامهم كان موجهًا إلى كسب عطف الإغريق، هذا وإن كانوا لم يغفلوا المصريين بتاتًا من حسابهم، لكنه عندما انقطع وفود الإغريق إلى مصر منذ أواخر القرن الثالث بسبب نقص عددهم، نتيجة لاشتراكهم في حروب خلفاء الإسكندر بمثابة جنود مرتزقة، وفي الحروب الداخلية التي قطعت أو صال بلاد الإغريق، ونتيجة لتحديد النسل بينهم، اضطر البطالمة منذ عهد بطليموس الرابع إلى الاعتماد على المصريين أيضًا في بناء قواتهم الحربية؛ فلم يكن هناك مفر عندئذ من أن يعدلوا سياستهم إزاء المصريين، ولذلك كان بطليموس الرابع أول من توج منهم فرعونًا على نمط الفراعنة القدماء وأول ملك من البطالمة تعرف حتى الآن. أن اسمه قرن بالألقاب الفرعونية كاملة في كافة الوثائق الرسمية سواء أكانت مسجلة بالهيروغليفية أم الديموتيقية أم الإغريقية. ولا عجب إذن أن لوحة بيثوم، التي حفظت لنا القرار الذي أصدره مجمع الكهنة في منف في نوفمبر عام 217، تحدثنا بأن اهتمام بطليموس الرابع بإظهار إجلاله للآلهة والديانة المصرية على الدوام حدا به إلى أن يفيض عليها بالهبات من واسع كرمه، فكافأته الآلهة على ذلك بأن عقدت له ألوية النصر وكلأته بعنايتها وحفظته من كل مكروه. وتحدثنا هذه الوثيقة بأنه ما كاد يصل على علم الملك أنه قد لحق تماثيل الآلهة المصرية في فلسطين كثير من الأذى، حتى أصدر أمرًا كريمًا بألا يتعرض لها أحد ثانية بمكروه، وذلك رغبة منه في أن يدرك جميع الأجانب عظيم اهتمام الملك بآلهة مصر وشدة حرصه عليها، وكذلك أمر بأن تنقل إلى مصر كل موميات الحيوانات المقدسة، وبأن يقام لها حفل عظيم وتدفن في مقابرها، وبأن ينقل إلى معابدها في مصر في حفل كريم ما وجد مشوهًا من التماثيل.

وقد كان الملك معنيًا بأمر التماثيل المقدسة التي نقلت من مصر إلى آشور وفينقيا عندما انتهك الفرس حرمه المعابد المصرية، ولذلك أمر بالبحث عن هذه التماثيل وإعادتها إلى مصر، وأقام حفلاً كبيرًا إجلالاً لما وجد من هذه التماثيل، وقضي بأن تعاد إلى حيث كانت من قبل. وبعد عودة الملك إلى مصر، زار المعابد وقدم القرابين إلى الآلهة ومنح المعابد هبات كثيرة إلى جانب ما كان قد منحها من قبل، وأقام تماثيل كثيرة في المعابد بدل ما فقد منها، وأصلح التماثيل التي كانت في حاجة إلى إصلاح، وأنفق في سبيل ذلك مبالغ طائلة، وأمر بأن تصاغ آنية المعابد من الذهب والفضة، وأجزل الهبات لرجال الدين، وإزاء كل هذه الحسنات التي تفضل بها الملك، قرر القساوسة أن تزاد مظاهر الإجلال التي كانت تقدم للمك ولأخته وأسلافهما من أسرة البطالمة، وأن يقام تماثلان من طراز مصري للملك ولأخته في أبرز مكان في كل معبد من معابد مصر، وأن يوضع تمثال الإله المحلي في كل معبد أمام تمثال الملك، أن يقيم كهنة المعابد الصلوات للتماثيل لثلاث مرات يوميًا، وأن يقام في كافة معابد مصر كل عام حفل يبدأ يوم ذكرى انتصاره على عدوه ويدوم خمسة أيام.

وكان طبيعيًا أن يوجه بطليموس الرابع اهتمامه إلى المنشآت الدينية، فقد أسهم في بناء معبد حورس في إدفو، ذلك المعبد الذي بدأه أبوه.

وتحدثنا نقوش هذا المعبد بأنه "قد تم بناء قاعة قدس الأقداس للإله حورس الذهبي في السابع من شهر أبيب في السنة العاشرة من حكم الملك بطليموس فيلوباتور، وزينب جدرانها بنقوش بديعة وبالاسم الأكبر لصاحب الجلالة وبصور آلهة إدفو وإلهاتها، وفي العام السادس عشر من حكم جلالة الملك تم بناء مدخلها الأكبر (أو مدخل المعبد الأكبر) والباب المزدوج لردهته الكبيرة، وعندئذ اندلع لهيب الثورة واختفت جماعات من الثوار داخل المعبد..". وقد وجد خرطوش هذا لملك على أبنية مختلفة في الأقصر، مما يثبت أنه إذا لم يكن قد شيد هناك مباني جديدة فلا أقل من أنه زين أبنية قائمة أو أصلحها. وقد بدأ فيلو باتور غربي النهر بناء ذلك المعبد الأنيق الصغير الذي يعرف باسم دير المدينة، وحاول إتمام المعبد الصغير الذي بدأه أبوه في الفنتين، وقد وجداسم فيلو باتور على أماكن مختلفة من مجموعة المعابد في فيلة. ومما يستحق الذكر أنه وجد معبد للإله أر ـ هس ـ نفر (Ar-hes nefer) شرقي المعبد الكبير في فيلة، وأنه قد ثبت أن فيلوباتورا شيد المقصورة الداخلية ي هذا المعبد، وأن الملك النوبي إرجامنس (Ergamenes) أضاف إلى هذه المقصورة قاعة أمامها، لكنه لم يتمها. وقد وجد في دكة (جنوبي فيلة بسبعين ميلا) معبد مشايه لهذا المعبد اشترك في بنائه أيضًا إرجامنس وفيلوباتور، لكن الملك النوبي هو الذي بني هنا المقصورة الداخلية وفيلوباتور القاعة التي أمامها. وشيد فيلو باتور معبدًا لآلهة الشلال على جزيرة سهيل جنوبي أسوان، وأضاف إلى مباني معبد إيزيس في أسوان الذي بدأه أبوه، لكن بناء هذا المعبد لم يتم حتى اليوم.

بطليموس الخامس:

وتستطيع الوقوف على مدى اهتمام بطليموس الخامس إبيفانس بالديانة المصرية من قرار حجر رشيد الذي أصدره مجمع الكهنة في منف في 37 من مارس عام 196. ويحدثنا هذا القرار بأن بطليموس الخامس قام بخدمات كبيرة للمعابد والآلهة ورعاياه، فإنه خصص للمعابد دخلا من المال والقمح، وتكبد نفقات طائلة ليعيد الرفاهية إلى البلاد ويقيم المعابد، وأمر بأن تحفتظ المعابد بكافة الموارد التي كانت لديها في عهد أبيه، وأحيا ما أهمل من طقوس الآلهة، وقدم من الهدايا إلى أبيس ومنفيس وسائر الحيوانات الأخرى المقدسة في مصر أكثر مما قدم إليها الملوك الآخرون، ووجه عناية كبرى إلى دفنها وما يقدم إلى هياكلها، وأحتفظ بمكانة المعابد المصرية، وصرف مبالغ طائلة في زخرفة معبد أبيس، وأسس معابد وهياكل ومذابح، وأصلح ما يحتاج إلى الإصلاح من المؤسسات الدينية، فقد كان إلهًا كريمًا تفيض نفيه بالبربكل ماله صلة بالديانة، ولذلك قرر القساوسة جميعًا أن تزاد مظاهر الإجلال التي تقدم للملك وأسلافه، وأن يقام له في أبرز مكان في كل معبد تمثال من طراز مصري يوضع إلى جانبه تمثال الإله الرئيسي في المعبد، وأن يقيم القساوسة الصلاة للتمثالين ثلاث مرات يوميًا، وأن يقام لهذا الملك في كل معبد تمثال وهيكل من الذهب يوضعان في قدس الأقداس مع الهياكل الأخرى، وأن يقام حفل كبير في المعابد في السابع عشر وفي الثلاثين من كل شهر، لأن الملك توج في السابع عشر من شهر بابه (Phaophi) وولد في الثلاثين من شهر مسري (Nesore)، وأن يقام في كل المعابد سنويًا عيد إجلالاً لملك يدوم خمسة أيام، تبدأ في اليوم الأول من شهر توت، وأن يحمل القساوسة لقب قساوسة الإله إبيفانس إلى جانب ألقابهم الأخرى، وأن يذكر اسم كاهن هذا الإله في الوثائق الرسمية، وأن يكتب هذا القرار على لوحة من الصخر بالهيروغليفية والديموتيقية والإغريقية، وتقام في كل معبد من معابد الدرجات الأولى والثانية والثالثة.

أما عن منشآت بطليموس الخامس الدينية، فقد حدثنا عنها هذا القرار بصفة عامة، ونجد ما يؤيد ذلك في نصوص المعابد في إدفو وفيلة، فقد ساهم إبيفانس في إتمام معبد إدفو العظيم، وأتم معبد (أر ـ هس ـ نفر) الذي بدأه أبوه والملك النوبي إرجامنس في جزيرة فيلة، ويبدو أنه شيد مدخل معبد إمحوتب في هذه الجزيرة، فقد صور على الجانب الأيسر لهذا المدخل أمام إمحوتب، وعلى الجانب الأيمن أمام ثالوث الشلال، خنوم وساتت (Satet) وأنوكت (Anuquet)، وكذلك أمام أوزيريس وإيزيس وإمحوتب. ولعل الأخطار التي تهددت الإمبراطورية المصرية والثورات التي اندلع لهيبها في البلاد شغلت هذا الملك عن القيام بمنشآت عظيمة.

بطليموس السادس:

أما بطليموس السادس فيلومتور، فإنه لم تصل إلينا نقوش من عهده لتحدثنا عن هباته للمعابد والآلهة، لكن ليس معنى ذلك أنه لم يعن بإظهار إجلاله للديانة المصرية، لأننا نرى دليلاً كافيًا على ذلك في منشآته الدينية، فقد ساهم بدوره في تشييد معبد إدفو، إذ تحدثنا نقوش هذا المعبد بأنه "في أول شهر طوبة في العام الخامس من حكم بطليموس فيلومتور، وضعت البوابة الخشبية الكبيرة في قاعة المنتصر الأعظم وكذلك الأبواب المزدوجة في بهو الأعمدة الثاني، واستؤنف العمل ثانية داخل قاعة الأسلحة في العام الثلاثين من حكم هذا الملك". وشيد فيلومتور معبد سوبك وحورس في كوم أمبو. وبدأ بناء معبد خنوم في إسنا، وبنى هيكلاً في معبد موت، وأضاف مدخلاً إلى معبد فتاح بالكرنك، وأقام هو وأخوه بطليموس الثامن بابا فيم عبد آموت ـ رع هناك، وأضاف بهوًا إلى معبد أنطيوبوليس (قاو الكبير)، وساهم في إكمال معبد إيزيس الكبير فيلة، وبدأ في إقامة معبد لحتحور في هذه الجزيرة، وأضاف بوابة إلى الهيكل الذي أقامه الملك النوبي أزاخر آمون (Azechramon) في دبود ( Debod) وهي تقع جنوبي فيلة بنحو عشرة أميال.

بطليموس الثامن:

ونتبين مدى اهتمام بطليموس الثامن يورجتيس الثاني بشئون الديانة المصرية من القرار الذي أصدره في عام 118، ليضع الأمور في نصابها في مصر، بعدما عانته من الاضطرابات العنيفة بسبب المشاحنات الداخلية بين أفراد أسرة البطالمة، وخاصة بين بطليموس الثامن وكليوبترة الثانية، فقد كان من بين ما تضمنه هذا القرار قيام الخزانة الملكية بدفع نفقات دفن العجول المقدسة، وتأييد حق المعابد ـ التي تتمتع بهذا الحق ـ في حماية اللاجئين إليها. وتحدثنا نقوش معبد إدفو عن الأراضي التي وهبها البطالمة لهذا المعبد، حتى أنه في نهاية عهد بطليموس الثامن كان هذا المعبد يملك أراضي في أربع مديريات، تبلغ مساحتها أربعة عشر ميلاً مربعًا وربع الميل.

أما المنشآت الدينية التي قام بها هذا الملك فمتعددة، ونجد بين نقوش معبد إدفو "استمر العمل حتى اليوم الثامن عشر من شهر في العام الثامن والشعرين من حكم بطليموس يورجتيس الثاني وزوجه الملكة كليوبترة، لإتمام نحت النقوش على الحجر، وزخرفة الجدران بالذهب والألوان، وصنع الأبواب من الخشب وعمل قمتها من البرونز الجيد، وعمل إطارات الأبواب ومزاليجها، وتثبيت ألواح ذهبية على الأبواب، وإتمام الجزء الداخلي من المعبد". وقد أقام هذه الملك هيكلاً للآلهة أبيت (Apit) في الكرنك، وقام بإضافات إلى معبدي دير المدينة ومدينة هابو، وشيد بالقرب من المعبد الأخير هيكلاً صغيرًا للإله توت، وبدأ بناء معبد في الكاب وأضاف بيت الولادة إلى معبد كوم أمبو، وأقام مسلتين صغيرتين من الجرانيت أمام معبد إيزيس الكبير في فيلة، وأضاف إلى الفناء الخارجي في هذا المعبد دهليز من الأعمدة، وأتم معبد حتحور في فيلة، الذي بدأه أخوه بطليموس السادس، وأضاف إلى معبدي دبود، ودكة.

بطليموس التاسع والعاشر:

وتحدثنا نقوش معبد إدفو بأن الأخوين، بطليموس التاسع سوتر الثاني وبطليموس العاشر الإسكندر الأول، أعطيا معبد إدفو هبات من الأراضي مساحتها خمسة أميال مربعة وربع الميل، وقد منح بطليموس العاشر في عام 95 ق.م. معبد أثرببيس (Artribis) حق حماية اللاجئين، وأضاف بطليموس التاسع إلى مباني معبد مداموت، وأعاد بناء بوابة طهراقة في معبد مدينة هابو، وأتم معبد الكاب، وشيد أقبية معبد دندرة، وأتم بيت الولادة الذي بدأه بطليموس الثامن أمام معبد حورس في إدفو، وأضاف إلى هذا المعبد الفناء الخارجي، بما فيه من أعمدة عددها اثنان وثلاثون عمودًا، وأضاف إلى معبد إيزيس الكبير في فيلة، ونجد آثار منشآت هذا الملك في تالميس (كلبشة) بالنوبة وفي الواحة الخارجة. أما بطليموس العاشر فإنه أعاد بناء معبد دندرة، وأتم المنشآت التي كان أخوه قد بدأها، ومثل ذلك الجدار الخارجي الذي يحيط بمعبد إدفو.

بطليموس أوليتس وكليوبترة السابعة:

ولم يقم بطليموس الثاني عشر (الزمار) إلا بمنشآت ثانوية، فإنه أقام مذبحًا لإيزيس وخم (Khem) وهه (Heh) في فقط، وأتم بناء وزخرفة معبد إدفو، فإنه وضع أبوابًا برونزية للبوابة الكبرى في هذا المعبد، وزين هذه البوابة بمناظر تمثله وهو يضرب أعداءه ف يحضرة حورس إله إدفو وزجه حتحور إلهة دندرة. وقد ساهم أيضًا في إتمام بناء الجزء الرئيسي من معبد كوم أمبو، وشيد البوابة الخارجية لهذا المعبد، ونجد صورة وخرطوشة في عدد من المعابد ف يجزيرتي فيلة وبيجه، وفي الكرنك ودندرة، مما يدل على أنه خصص جانبًا من عنايته وأمواله للديانة المصرية، وليس أدل على اهتمام الملكة كليوبترة السابعة بالديانة المصرية من ذهابها في خلال العام الأول من حكمها إلى الوجه القبلي، حيث اشتركت بنفسها، على رأس جمع حاشد من رجالها وكهنة طيبة وهرمونثيس، في موكب بوخيس (Buchis)، عجل هرمونثيس المقدس، وكان يعتبر الصورة المجسدة لإله الشمس رع، الذي كانت هي ابنته، ويضاف إلى ذلك أنها أقامت معبدًا في هرمونثيس، صورت في جدرانه القصة التي زعمت فيها أنها انجبت قيصرون ن الإله آمون رع، وفضلاً عن ذلك فإنها أمرت بتصوير نفسها هي وقيصرون على جدران معبد دندرة.


  • البطالمة ورجال الدين المصريون

نظم رجال الدين :

إن سيطرة الديانة على عقول المصريين القدماء سيطرة تامة ، حتى تغلغلت معتقداتهم الدينية في حياتهم ونفوسهم ، أكسبت رجال الدين عندهم مركزًا رفيعًا وأهمية خطيرة .

وأصبحوا بمضي الزمن هيئة وراثية ، بمعنى أن الشرط الأول الذي كان يجب أن يتوفر فيهم هو أن يكونوا من أسرة كهنوتية ، لكنه ليس معنى ذلك أنه كان يحتم على أبناء الكهنة أن يقتفوا أثر آبائهم في خدمة الآلهة ، وكان رجال الدين يميزون بلباس خاص من الكتان ، ويحلقون رؤسهم ولحاهم وشواربهم ويختنون ، وكانوا يؤلفون جماعات تتصل كل منها بمعبد من معابد مصر المتعددة .

وكانت المعابد تنقسم ثلاث طبقات: الطبقة الأولى، والطبقة الثانية، والطبقة الثالثة، وكان كهنة كل معبد ينقسمون ي بداية الأمر أربعة أقسام، أو أربع قبائل بلغة الإغريق القدماء، لكن أضيفت قبيلة خامسة منذ عام 328 ق.م. وليس هناك ما يستدل منه على أن هذه القبائل كانت تمتاز فيما بينها بالمركز أو بالعمل الذي يناط بها. ويبدو أنه كان يعهد بالأعمال الدينية في كل معبد إلى هذه القبائل بالتناوب لمدة شهرن لكن الكهنة أنفسهم كانوا ينقسمون طبقات متباينة بالترتيب الآتي: كبار الكهنة (Archieris) ، فالمعبرون عن نبوءات الآلهة (Prophetai) ، فالكهنة المختصون بإلباس تماثيل الآلهة في المعابد (STolistai) ، فحملة الريش (Pterophoroi) ، فالكتبة المقدسون (Hiergorammatis) ، ثم يلي هؤلاء عدد من الكهنة المختلفين، الذين يدل لقبهم (We- eb) على أنهم كانوا من بين أفراد قبائل الكهنة .

وإلى جانب قبائل الكهنة، كانت توجد جماعات دينية أقل منها مرتبة ولا يعتبر أفرادها كهنة بأدق معاني الكلمة، وإن كانت أعمالهم مت بصلة إلى الدين، وكان لكل جماعة من هذه الجماعات عمل معين، فكانت تختص إحداها بحمل هياكل تماثيل الآلهة في المهرجانات (Pastophoroi)، والثانية بشق بطون الموتى استعدادًا لتحنيطهم (Paraschitai)، والثالثة بتحنيط الأموات من البشر والحيوانات المقدسة (Taricheutai)، والرابعة بتقديم القرابين للموتى (Choachytai). وكان يوجد أيضًا عددً من الكاهنات أو النساء اللائي يخصصن لهن عمل معين في المعابد، ومثل ذلك التوأمتان المشهورتان في سيرابيوم منف، وكانت وظيفتهما البكاء على العجل أبيس الميت وتقديم القرابين لإمحوتب.


وكان كهنة كل معبد يكونون وحدة مستقلة عن غيرها، لها مذاهبها وطقوسها التي تعبر عن وجهة نظرها الخاصة في تفسير القواعد الدينية العامة، هذا وإن كان الملك يعتبر في كل معبد ابن الإله المحلي وكاهنه الأول، ونجد أحيانًا عددًا من المعابد الصغرى تحت إشراف شخص واحد من مرتبة المعبرين عن بنوءات الآلهة، مثل معابد فيلة والفنتين وأباتون (Ahaton) في النصف الثاني من القرن الثاني ق.م. وتحدثنا نقوش النصب الجنازي الذي كان على قبر بشرني ـ فتاح، كبير كهنة المعبد الأكبر في منصف ـ وهو الذي رسم بطليموس الزمار فرعونًا في عام 76 وتوفى في عام 42/41 – بأن معابد مصر العليا والسفلى كانت تساهم في دفع مرتبة السنوي، مما قد يوحي بأنه على الأقل في أواخر عصر البطالمة كان يوجد رئيس عام للكهنة المصريين، ومع ذلك يصعب أن نقرر إلى أي حد كانت الجماعات الدينية فيكل معبد تخضع لسلطة دينية مركزية.

وقد كان يوجد في كل معبد من المعابد الكبيرة كاهن أكبرن يحتمل أن كهنة المعبد هم الذين كانوا ينتخبونه للإشراف عليهم جميعًا. وكان يساعد الكاهن الأكبر في إدارة المعبد مجلس تختاره قبائل الكهنة كل عام، بحيث يمثل كل قبيلة خمسة من أفرادها. وكان الكهنة في كافة أنحاء البلاد يرسلون، في مناسبات معينة، مندوبين عنهم لعقد مؤتمر عام يتخذ قرارات تنفذها كل المعابد في مصر. وقد ثبت أن هذا المؤتمر عقد في عهد بطليموس الثالث في مدينة كانوب، أما بعد ذلك ففي مدينة منف.

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

السلام عليكم
اتمنى من حضراتكم كتابة اسم المراجع وتواريخها وتواريخ النشر لتكون نبراسا لكل طالب علم
اشكركم