الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- بطلميوس 12

  • بطلميوس الثاني عشر
طباعة أرسل لصديق


استقلال مصر الاسمى في كفة القدر أو في كفة الصراع

بين الأحزاب الرومانية (عام 80 –عام 51 ق.م.)


أزمات روما في بداية القرن الأول:

اجتازت روما أزمات خطيرة جدًا في بداية القرن الأول قبل الميلاد. ذلك أن سياسة الأنانية التي اتبعتها أحفظت قلوب الإيطاليين إلى حد أنهم قاموا بثورة مسلحة ينشدون استقلالهم ، بعد أن فشلوا في تحقيق المساواة التامة في الحقوق السياسية مع الرومان.

ولم تنجح روما في اخضاعهم في عام 88 ، إلا بعد أن اضطرت إلى الأذعان لكل مطالب الإيطاليين التي رفضتها من قبل. وفي العام نفسه شهدت روما اضطرابات دموية بسبب الخراب المالي ونزاع ماريوس وصلا على قيادة الحرب في الشرق. وقد كان يتعين انقاذ الإمبراطورية التي أسستها روما في آسيا الصغرى وبحر أيجة وبلاد الإغريق من ميثريداتس يوباتور ملك بونتوس الذي اجتاح آسيا الصغرى، واستولت قواته على ديلوس وبلاد الإغريق الجنوبية والوسطى .

وعندما حالف النصر صلا في صراعه مع ماريوس، وجه عنايته إلى درء خطر ميثريداتس. وما كاد صلا يخرج إلى بلاد الإغريق لتحقيق هذا الهدف حتى وقعت في روما اضطرابات عنيفة واستولى الشعبيون على مقاليد الأ/ور واعتبروا صلا عدوًا للدولة (عام 88). بيد أن ذلك لم يفت في عضد صلا، فقد تابع الصراع إلى أن تمكن في عام 85 من ارغام ميثريداتس على عقد الصلح ورده إلى حدوده الأولى، ولكن دون القضاء على قواته المعادية، مما كان من شأنه تجدد المتاعب وعدم استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط. وساعد على ذلك قيام دولة جديدة قوية هناك. ذلك أن تيجرانس، ملك أرمينيا وحليف مثريداتس، أسس إمبراطورية مترامية الأطراف، إذ أنه بعدما أصبح سيد أرمينيا وأرتوباتنس (Artopatenes) وأوسروينس (Osroenes) وبلاد ما بين النهرين الشمالية وجوف قيليقيا، توغل في سوريا الثمالية ـ حيث اتخذ أحد ولاته أنطاكية مقرًا له (عام 85) ـ واصطدم مع كليوبترا سليني، مطلقة بطلميوس التاسع وأرملة أنطيوخوس الثامن وأنطيوخوس التاسع وأنطيوخوس العاشر على التتابع. لكن هذه الأرملة لم تنزل عن حقوق أبنيها في عرش سوريا بل ولا في عرض مصر. ولم يلق صلا بالا إلى الخطر المتمثل في ازدياد قوة تيجرانس، إذ أنه بعد عقد الصلح مع ميثريداتس، بادر إلى هزيمة القوة التي كانت الحكومة الشعبية المناهضة له قد أرسلتها ضد ميثريداتس وتوجد عندئذ في آسيا الصغرى، ثم عكف على وضع الأمور في نصابها في ولاية آسيا، وعاد إلى إيطاليا حيث تغلب على أعدائه الذين كانوا قد استولوا على السلطة في أثناء غيابه، وأصبح في عام 82 دكتاتور روما وسيد العالم الروماني.


بطلميوس "الزمار" يرتقى العرش:

وعندما آفاق الإسكندريون من سورة غضبهم، وهي التي دفعتهم إلى الثأر لدم ملكتهم المحبوبة برنيقي الثالثة بقتل بطلميوس الحادي عشر اسكندر الثاني، وجدوا أنفسهم في مأزق حرج، لأنه لم تعد لأسرة البطالمة سلالة شرعية إلا كليوبترا سليني ملكة سوريا وابنا بطلميوس التاسع اللذان كانا في قبضة ميثريداتس، ولأنهم بقتل إسكندر الثاني قتلوا صنيعة صلا وتبعًأ لذلك فإنه كان يتعين عليهم شغل العرش الشاغر قبل أن تتدخل روما في هذه المسألة. وفي هذه الأزمة الخطيرة اتجهت أفكار الإسكندريين إلى ابني بطلميوس التاسع وبادروا بإقامة أكبرهما ملكًا على مصر، أصغرهما ملكًا على قبرص. ولقد اتخذ ملك مصر الجديد (بطلميوس الثاني عشر) لقب الإله فيلوباتور فيلادلفوس، لكنه لم يلبث أن أضاف إلى ذلك أيضًا لقب "نيوس ديونوسوس"، أي ديونوسوس الجديد إشارة إلى ديونوسوس الآخر من أفراد أسرة البطالمة، وهو بطلميوس الرابع. ومع ذلك فإن أكثر ألقابه شيوعًا كان لقب أوليتيس أي "الزمار" الذي أطلقه عليه الشعب، وهو لقب يعبر عن أبرز مواهبه. حقًا ق لا يتعارض عزف أية ألة موسيقية مع الأضطلاع بمهام المك، كما أثبت فردريك الأكبر، لكنه يبدو أن بطلميوس الثاني عشر كان مثل بطلميوس الرابع من حيث اللقب الإلهي وكذلك من حيث الاستسلام للملاذ والشهوات.

ويحدثنا شيشرون بأن بطلميوس الثاني عشر كان "صبيًا مقيمًا في سوريا"، عندما استدعى فجأة لارتقاء العرش. فما الذي أحضر ابن أو ابني بطلميوس التاسع إلى سوريا، وكان أغلبها عندئذ في قبضة تيجرانس؟ مر بنا أن تيجرانس كان حليف ميثريداتس، ولا يبعد أنه في حين أن بطلميوس إسكندر الثاني تمكن من الفرار إلى صلا، بقى ابنًا بطلميوس التاسع في بلاط بونتوس حتى عام 80 ق.م. وإذا كان ميثريداتس قد استولى في جزيرة قوس على ابني بطلميوس التاسع، فإنهما يكونان قد أرسلا إلى تلك الجزيرة مع ابن عمهما أما حوالي عام 103، وفي هذه الحالة لا يمكن أن تكون سن أصغرهما في عام 80 أقل من 22 عامًا وبناء على ذلك فإن وصف شيشرون لبطلميوس الثاني عشر بأنه كان صبيًا عندما استدعى لتولي العرش لا يمكن قبوله إلا على محمل المبالغة الخطابية. وأما أن يكون ابنًا بطلميوس التاسع قد أرسلا إلى قوس في تاريخ متأخر عن عام 103 ببضع سنين وفي هذه الحالة يكون وصف شيشرون دقيقًا. وإذا صح ما رجعناه من أن ابني بطلميوس التاسع كانا قد وقعا في قبضة ميثريداتس وعاشا بعد ذلك ردحًا من عمرها في بلاط بونتوس، فإن هذا يفسر قول أبيانوس أن كريتسي ميثريداتس خطبتا لملكي مصر وقبرص.

وليس من المستبعد أنه عندما توفي بطلميوس التاسع في عام 80، رأى ميثريدائس أن ينتهز هذه الفرصة للقضاء على آمال بطلميوس اسكندر الثاني، صنيعة غريمة صلا، بإرسال ابني بطلميوس التاسع إلى مصر، وقيل أن يفتح أمام مضيفيه هذه الآمال، رأى أن يدعم صلته بهما، فخطبهما لابنتيه تمهيدًا لعقد قرانهما إذا كللا بالنجاح في ارتقاء العرش وإذا كان هذان الشابان قد برحا بونتوس إلى مصر علن طريق سوريا، لكنهما علمًا في الطريق بأن بطلميوس الحادي عشر اسكندر الثاني قد سبقهما إلى مصر مما اضطرهما إلى البقاء في سوريا حتى تنجلي الحالة في مصر، فإن هذا يفسر قول شيشرون أن بطلميوس الثاني عشر كان في سوريا عندما استدعى لارتقاء عرش مصر.

وترينا وثيقة ديموتيقية بتاريخ شهر يناير عام 79 أنه كانت لبطميوس الثاني عشر عندئذ زوجة تدعى كليوبترا تروقاينا، وأن الزوجين كانا يحملان سويًا لقب "الإلهين فيلوباتورس فيلادلفوي Thooi Philopatores Philaaelphoi". وإذا كنا لا نعرف من كانت هذه الملكة الجديدة (كليوباترا السادسة)، فإن أرجح الاحتمالات هو أنها كان أخت بطلميوس اوليتيس (الزمار). ومن الغرب أن بطلميوس الزمار أحل حتى شهر مارس عام 76 حفل تتويجه على نهج الطريقة الفرعونية، مع أن ذلك كان يكسب مركزه صبغة شرعية في نظر المصريين، وأنه لم يتوج في منف وأنما في الإسكندرية، وإن كان بشر في فتاح كبير كهنة منف هو الذي قام بتتويجه.

روما ترفض الاعتراف بالملك الجديد:

وبرغم أن بطلميوس الثاني عشر ارتقى عرش مصر بمحض إرادة الإسكندريين ورغبتهم، فإن روما رفضت الاعتراف بالملك الجديد، ومن ثم فإنه نشأت في السياسة الرومانية "مسألة مصرية"، وأصبحت العلاقات دقيقة جدًا بين مصر وروما. وقد سرت في روما عندئذ أنباء خطيرة، فحواها أن بطلميوس الحادي عشر أورث مصر لروما بمقتضى وصيته الأخيرة. وإذا صح أن هذا الملك ترك مثل هذه الوصية ـ مقتفيا في ذلك أثر وصية بطلميوس ملك قورينايئة في عام 155، ووصية أنالوس الثالث ملك برجام في عام 133، ووصية بطلميوس أبيون ملك فورنايئة في عام 96 ـ فإنه من المستبعد أن يكون قد وجد فرصة لعمل هذه الوصية في خلال حكمه القصير، ويرجح أن يكون صلا هو الذي أرغمه على ذلك قبل أن يسمح له بمغادرة روما، ويأمر الإسكندريين بتوليه العرش. بيد أنه لما كان الكلام عن هذه الوصية لم ينقطع طوال عشرين عامًا دون أن يرى أحد نصها على الإطلاق، فإن ذلك يوحى إلينا بأن ب طلميوس الحادي عشر لم يكتب أو يضع توقيعه على مثل هذه الوصية، وبأن الأمر لم يتعد أخذ وعد قاطع منه بإعداد مثل هذه الوصية بعد ارتقاء العرش واستقرار الأمر له، وذلك لتكون الوصية صحيحة بعد ارتقائه العرش واستقرار الأمر له، وذلك لتكون الوصية صحيحة من الوجهة القانونية لكن الظروف لم تمهله لتنفيذ ما وعد به. وإذا صح أن صلا هو الذي ا قتضى هذا الوعد من صنيعته، فإن ذلك يدل على أن دكتاتور روما كان يعتزم إدماج مصر في حظيرة الإمبراطورية الرومانية، لكنه لا صلا ولا حكومة السناتو من بعده خطت أية خطوة لتثأر لمقتل بطلميوس الحادي عشر أو تنفذ وصيته المزعومة.

ولم تنته متاعب بطلميوس الزمار عند حد هذه الوصية المزعومة، إذ أنه في عام 75 جاء إلى روما ابنا أنطيوخوس العاشر وكليوباترا سليني ينشدان المساعدة لاستعادة سوريا من تيجرانس والاعتراف بحقهما في عرش مصر، استنادًا إلى أن أمهما كانت لفترة ملكة مصر، بوصفها ابنة ثامن البطالمة وزوج تاسعهم. لكنه لما كانت روما مشتبكة عندئذ في ثلاثة حروب (مع سرتوريوس، وأسبارتاقوس، وميثريداتس ثانية)، فإنها لم تكن مستعدة لخوض غمار حرب رابعة مع تيجرانس. ومن ناحسة أخرى كانت تفضل أن يكون على عرش مصر ملك ضعيف لم تعترف به، ونستطيع خلعه في أي وقت يتراءى لها ذلك، عن أن تمهد السبيل إلى توحيد المملكتين السورية والمصرية. وعلى الرغم من أنه كان مفهومًا أن السناتو أن يؤيد مطالب الأميرين السوريين، فإنه ترك المسألة معلقة إلى أن نفدذ صبر الأميرين وعادا إلى مأواهما في قيليقيا في عام 73. ولابد من أنه قد أزعج بطلميوس الزمار كذلك أن يرى روما تنفذ في عام 74 الوصية التي تركها بطلميوس أبيون في عام 96، بتحويل قورنايئة عندئذ إلى ولاية رومانية، فخشى بطلميوس الزمار أن يكون ذلك توطئة لتنفيذ وصية بطلميوس الحادي عشر المزعومة.

ولا شك في أنه في خلال هذا الوقت، الذي تحكمت فيه الأطماع الشخصية، وفسدت الذمم، وشاعت الرشوة في روما، حيث كان لكل شيء ثمنه، وكان النبلاء يقبضون على دفة الحكومة الرومانية، رأى النبلاء أنه من الخير لهم ترك المسألة المصرية معلقة، لأنهم كانوا يدركون شدة حرص بطلميوس الزمار على الفوز باعتراف روما، بالرغم من أن هذا الاعتراف كان ينطوي على نوع من الحماية، وأن بطلميوس لن يدخر مالاً لتحقيق أمنيته. ولما كانت ذمم النبلاء الخربة تتسع لكل خبرات مصر على كثرتها، فإن سياسة التسويف والتأجيل كانت تفيض بالخير والبركة على النبلاء الرومان، وفي الوقت نفسه تمنع مصر من الانتعاش واسترداد مكانتها، فتقع لقمة سائغة لهم في أي وقت يريدون الاستيلاء عليها فعلاً.

وقد صدق حدس النبلاء، إذ أن بطلميوس الزمار ـ ذلك الملك الضعيف ـ تكالب على ارضائهم ولم يفز إلا بإزدرائهم. ولكي يحصل على الأموال التي تشبعنهم الرومان، اعتصر رعاياه الذين لم يكن في وسعهم أن يحبوه على الإطلاق. ولا شك في أن عبء الضرائب البطلمية كان يقع قبل كل شيء على كاهل جموع الزراع. لكنه كان لدى الإسكندريين أيضاً من الأسباب ما جعلهم يكرهون هذا الملك، إذ أنهم وقد أحسوا بأن مكانة مدينتهم، بوصف كونها أولى مدن العالم، أصبحت مهددة، أخذوا يغارون من روما ويكرهون بطلميوس الزمار لجشعه وتزلقة الرومان. وهكذا يمكن تفسير تقلبات هذا الحكم المنكود، الذي دام ثلاثين عامًا، وكان مقدمة خالية من المجد للمأساة التي قضت على أسرة البطالمة في العهد التالي.

منح بومبي سلطات استثنائية:

ويبدو أنه في خلال السنوات القليلة التالية لتحويل قورينايئة إلى ولاية رومانية لم يعد أحد في روما يتحدث عن مصر، لكنه كانت تسير قدمًا تلك الأحداث التي جرت روما إلى استكمال فتح العالم، وإلى الحروب الأهلية، وإلى إثارة المسألة المصرية من جديد. ذلك أن الحرب التي شنها نبلاء السناتو في أسبانيا ضد سرتوريوس (Sertorius) ـ وكان أحد زعماء العامة وضاق ذرعًا بفشلهم في مقاومة صلا عند عودته من الشرق فانسحب إلى أسبانيا (عام 83) حيث أخذ يعد العدة للقضاء على حكومة النبلاء (عام 80-71) ـ والاضطرابات التي قطعت أوصال إيطاليا غداة وفاة صلا، والقضاء على ثورة العبيد، دفعت إلى الصف الأول فئة من الرجال كان أشهرهم بومبي الأكبر وليقينيوس قراسوس اللذان خرقا حرمه القواعد الدستورية وتوليا منصب القنصلية لعام 70 رغم أنف السناتو. ولما كان بومبي قد أصبح أعظم القواد الرومان وأقوى شخصية في الجمهورية الرومانية، فإنه منح في عام 67 سلطة استثنائية لقطع دابر القراصنة الذين عاشوا في البحار فسادًا وهددوا مؤنة روما نفسها. وفي عام 66 عهد إلى بومبي بقيادة الحرب الثالثة ضد ميثريداتس، وحين كان الناس يرتجون انتصاره كانوا أيضاً يرهبون عودته، خوفًا من أن يحذو حذو صلا ويقيم ديكتاتورية عسكرية.

حزب الشعب وضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية:

وللقضاء على بومبي إذا سولت له نفسه استغلال انتصاراته في الشرق أحيا قراسوس حزب مايوس القديم، الذي انضمت إليه شخصية قوية كانت لا تزال تتلمس سبيلها إلى الحياة العامة، وهي شخصية يوليوس قيصر. وفي عام 65 تولى قراسوس القنسورية وقيصر الأيديلية، ووضعا نصب أعينهما القيام بالأ‘مال التي تكسبها محبة الجماهير وتضمن لهما نفوذاً كبيرًا في الدولة. وقد كان من أهم مشروعات قراسوس ضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية وتكليف قيصر بالقيام بذلك، وهكذا يضمن الحزب المناوئ لبومبي أن تكون تحت أمرته دولة غنية، يستطيع الدفاع عنها قائد قدير ضد قوات كبيرة، كما أثبت البطالمة الأوائل. ولم تعوز قراسوس الحجج التي تبرر الاستيلاء على مصر فقد كان شائعًا أن بطلميوس الحادي عشر أورث مصر لروما، بمقتضى وصية لم ترتفع فوق مستوى الشبهات إلا أنه لم يثبت بطلانها. ولا غراء الشعب على تنفيذ شروط هذه الوصية المزعومة، كان من اليسير على قراسوس أن يفيض في القول بأن البطالمة كانوا أغنى ملوك عالم البحر الأبيض المتوسط، وبأن قمح مصر الفائض عنها سيتدفق على الأسواق الرومانية. وتبعًا لذلك قدم مشروع قانون بضم مصر إلى الإمبراطورية الرومانية، لكن المشروع رفض بفضل معارضة شيشرون ـ صديق بومبي ـ ومعارضة النبلاء، لا حبًا في مصر، ولا انتصاراً للحرية، وإنما لكي لا يحرموا خيرات مصر التي كانت ولابد من أن تذهب، مادامت الأمور تسير على هذا النحو، إلى خصومهم رجال حزب الشعب. فوقف النبيل قاتولوس (Catulus)، زميل قراسوس في منصب القنسورية، عقبة كأداة في سبيل زميله، واستقال القنوران من وظيفتهما دون القيام بأي عمل من مهامها.

ولم يخرج بطلميوس الزمار من هذه الأزمة لا ليواجه أزمة جديدة، إذ أنه في ديسمبر عام 64 تقدم نقيب العامة رولس (Rullus) بشروع قانون للأراضي، يرمي في ظاهره إلى تخفيف الأزمة الاقتصادية التي يعانيها عامة روما، لكنه يرمي في الحقيقة إلى تقوية حزب الشعب استعدادًا لمواجهة عودة بومبي. وكان المشروع يدور حول إنشاء مستعمرات لعامة روما في الأراضي التي تملكها الدولة في إيطاليا وبخاصة في إقليم قابوا (Capua)، وشراء أراض أخرى إذا لم تكف هذه الأراضي لسد حاجة العامة، على أن يؤخذ المال اللازم لهذا الغرض من بيع جانب من أملاك الدولة التي اكتسبت في الولايات منذ عام 88، وبعهد إلى جلنة مكونة من عشرة أعضاء بتنفيذ هذا المشروع. لكن شيشرون، صديق بومبي، ما كاد يتولى قنصلية عام 63 حتى هاجم هذا المشروع منذ اليوم الأول، فقد أخافه أو تظاهر بالخوف من السلطة التي كانت ستوضع في قبضة لجنة العشرة فيصبح في وسعها أن تتصرف في كافة أقاليم الإمبراطورية، وأكد أن رولوس لم يكن إلا ألعوبة في قبضة شخص قدير، وأن هذا المشروع لم يقصد به إلا مناوءة بومبي والاستيلاء على مصر. وقد قال شيشرون في الخطبة التي ألقاها في السناتو:

"إن ما كانوا يستهدفونه صراحة يسعون إليه الآن خفية وسيقول أعضاء لجنة العشرة ما قاله وما يزال يردده الناس كثيرًا وفي مقدمتهم القنصلان، أنه بمقتضى وصية الملك إسكندر قد أصبحت المملكة المصرية ملكًا للشعب الروماني. وهكذا ستسلمون الإسكندرية إلى أولئلك الرجال أنفسهم الذين يمطمحون إليها الآن بدهاء، في حين أنكم أنكرتموها عليهم عندما كانوا يكافحون من أجلها في وضح النهار". وبعد ذلك ببضعة أيام عدد شيشرون أمام الشعب الأقاليم التي كان يمكن أن تدخل في نطاق نصوص هذا المشروع الفضفاضة، وذكر أن من بين هذه الأقاليم "الإسكندرية ومصر بأجمعها التي يخفونها ويسدلون الستار عليها، وسلمونها لأعضاء لجنة العشرة دون أن يظهر ذلك". وقد وفق شيشرون في مهاجمة هذا المشروع إلى حد أن رولس اضطر إلى سحبه. وهكذا خرج "الزمار" من أزمة تلو أزمة بفضل خصوم الشعبين الرومان، ومع ذلك فإنه لم ينج كلية من الخطر، إذ أن الذين أنقذوه لأغراشهم الخاصة أو لأغراض السياسة الرومانية الداخلية، لم ينزلوا له عن حق روما في مصر ولم يعترفوا به ملكًا شرعيًا. وإذا كان في روما من وقف حائلاً دون ضم مصر إليها، فقد كان فيها أيضًا الذين يعملون جاهدين على تحقيق ذلك. ويدل هذا كله على أن المسألة المصرية كانت مائلة على الدوام في عقول الساسة الرومان، إلى حد أنها أصبحت سلاحًا تتنازع الأحزاب على استغلاله.

وحين كان خصوم بومبي يحاولون على هذا النحو تقوية أنفسهم، كان بومبي يحرز انتصارات باهرة في الشرق. ذلك أنه أنزل بشيريداتس هزيمة فاصلة في عام 66 فر بعدها إلى القوم حيث غدر به ابنه فارناقس (Pharnaces)، وأصبحت مملكة بونتوس وبقية آسيا الصغرى خاضعة لوما. وفي العام التالي أرغم تيجرانس على الارتداد إلى أرمينيا، وفي عام 64 حول بومبي سوريا إلى ولاية رومانية، وفي عام 63 فتح فلسطين. ولما كان بطلميوس الزمار يخشى قسوة بومبي ويريد كسب جانبه، فإنه أرسل فرقة مؤلفة من 8000 فارس لتساعده على فتح فلسطين، ذلك الإقليم الذي كان البطالمة يطالبون به، لكن هذا العمل أوغر صدر الإسكندريين ضد مليكهم، فاستبد به الخوف من جراء ذلك مما حدا به إلى أن ينشد مساعدة بومبي لرد العاصمة إلى صوابها، ولذلك فإنه أمطر بومبي وجيشه بوابل من الهدايا ودعاه إلى زيارة مصر، لكن بومبي قبل الهدايا ورفض الدعوة. ومع ذلك فإن خوف الإسكندريين من تدخل الرومان كان كافيًا لتهدئة روعهم، ولا أدل على خوف الإسكندريين من الاشتباك مع روما مما يرويه ديودوروس، الذي زار مصر حوالي عام 60 ق.م. فهو يؤكد أن الإسكندريين كانوا يبالغون في الحفاوة بكل زائر من إيطاليا.

قيصر يستصدر قانون الاعتراف بيطلميوس الزمار:

وفي ديمسبر عام 62 ما أن وصل بومبي إلى برونديسيوم حتى سرح قواته جميعًا، وذهب إلى روما حيث أظهر استعداده للتفاهم مع السناتو، وكان كل ما يبتغيه بومبي هو المصادقة على النظم التي وضعها للشرق، ومنح جنوده المسرحين إقطاعات زراعية وفقًا للتقليد المألوف. وبدلاً من أن يقدر السناتو مسلك بومبي منذ عودته من الشرق، ويسارع إلى احتضانه واتخاذه سندًا قويًا يدرأ عنه وعن النظام الجمهوري الروماني عاديات المشاغبين والقواد ذوي الأطماع الجامحة، ركب السناتو رأسه واتخذ موقفًا عنتًا إزاء بومبي، وبذلك قذف به في أحضان التحالف مع قراسوس وقيصر. وكانت أولى نتائج هذا التحالف الذي يعرف في التاريخ باسم "الحكومة الثلاثية الأولى" انتخاب قيصر قنصلاً لعام 59 ق. م. وقد كان من بين تشريعات يوليوس قيصر قانون للأراضي قريب الشبه من مشروع قانون رولوس، لكن قيصر كان دائًا في حاجة إلى المال وكان بطلميوس مستعدًا لاقتداء عرشه بأي مبلغ، ولذلك فإنه ابتاع تأييد قيصر بمبلغ كبير قدره 6000 تالنت، أي ما يعادل مليون ونصف مليون جنيه استرليني، فلم يمس القانون الزراعي مصر.

وأخيرًا بفضل قيصر، على نقيض موقفه السابق إزاء هذه المسألة، وعلى الرغم من معارضة النبلاء هذه المرة، صدر قانون خاص بملك الإسكندرية (do rege alexandrino) اعترف بطلميوس الزمار ملكًا، وفي الوقت نفسه صديقًا وحليفًا للشعب الروماني، جزاء ما قدمه من الخدمات للجيش الروماني في آسيا (فبراير عام 59). وتنفيذاً لهذا القانون، عقدت معاهدة تحالف مع مصر ووضعت نسخة منها في سجيلات القابيتول. وهكذا أتت النجاة إلى بطلميوس من الجانب الذي أقض مضاجعة مدة طويلة.

روما تضم قبرص:

ومع ذلك كله وبعد ذلك كله، لم يظفر بطلميوس الزمار بالطمأنينة التي كان ينشدها، إذ أن القانون الذي اعترف بالزمار ملكًا لم يذكر شيئاً عن قبرص، وكان أخوه يحكمها منذ عام 80 ق.م. ولما كان بطلميوس الزمار قد علق مصيره بمصير الصراع الحزبي في روما، وكان ذلك الصراع عنيفًا مضطربًا، فإنه كان من الممكن أن تتمخض الحوادث عن نتائج أبعد مدى مما كان يتوقعه أحد. وفي عام 58 قصد قيصر بلاد الغال تاركًا روما ظاهرًا في كنف حليفية بومبي وقراسوس، وحقيقة في قبضة صنيعته نقيب العامة قلوديوس (Clodius). وكان من بين قوانين قلوديوس قانون تقرر بمقتضاه ضم قبرص إلى روما، ومصادرة أملاك التاج هناك لصالح الخزانة الرومانية لكي تعوض ثورة قبرص روما شيئًا ما عن التضحية التي تحملتها بنزولها عن مصر، وتغطي نفقات قانون شعبي خاص بتوزيع منح من القمح دون مقابل.

ويقال أن فروديوس انتقم لنفسه على هذا النحو من بطلميوس ملك قبرص، لأنه عندما وقع في قبضة القراصنة فدية كافية. ولما كان قاتو من أقوى الحكومة الثلاثية، وكان قيصر قد أوعز إلى قلوديوس بأبعاده عن روما لكي لا يهدم في غيبة قيصر ما بناه في أثناء قنصليته، فإنه لأقصاء قاتو عن روما وتحميله جانبًا من تبعة ضم قبرص، عهد إليه بوصفه أكثر بجال روما نزاهة بإقناع ملك قبرص بالنزول عنها لورما، لقاء اعتراف روما به كاهنًا أكبر لمعبد أفروديتي في بافوس (Paphos) لكن ملك قبرص فضل على ذلك تناول السم. ولم يكن استيلاء روما على قبرص فضل على ذلك تناول السم. ولم يكن استيلاء روما على قبرص إلا عملا من أعمال السطو الظالمة، ليس له أي مبرر إلا غنى هذه البريرة وجشع روما، وإن كان قلوديوس لم تعوزه الحيلة لتبرير هذه الجريمة، إذ أنه اتهم الملك باطلاً بعدائه للرومان وتحالفه مع القراسنة، واستند إلى وصية بطلميوس الحادي عشر التي إذا كان قد أبطل مفعولها، فيما يخص مصر ذاتها، قانون قيصر الذي اعترف بيطلميوس الزمار ملكًا وحليفًا، فإن هذا القانون لم يتضمن أية إشارة إلى قبرص. وبضم قبرص إلى روما بعد قورينايئة لم يبق من دولة البطالمة إلا مصر.

فرار الزمار لاستعداء روما على شعبه:

وضاعت قبرص دون أن يحرك بطلميوس الزمار ساكنًا، مع أنه كان يتعين عليه ألا يدخر وسعًا في الاحتفاظ بهذه الجزيرة، فقد كانت آخر ممتلكات مصر الخارجية وفي حوزتها منذ عهد بطلميوس الأول. وإزاء خوار عزيمة بطلميوس الزمار، وانهماك هذا الملك التافه في إرهاق رعاياه بشتى التكاليف ليدفع الرشوة التي اشترى بها اعتراف روما به ملكًا، تذمرات الإسكندرية تذمرًا شديدًا. ويحدثنا ديون قاسيوس (Dio Cassius) بأن الإسكندريين طلبوا إلى بطلميوس أما أن يسترد قبرص من الرومان وأما أن يقطع علاقاته بمثل هؤلاء الأصدقاء. ولما لم يستطع الملك تهدئة ثائرة الإسكندريين لافتقاره إلى الجنود المرتزقة، فر هاربًا إلى روما حيث انهم رعاياه بأنهم طردوه.

ويتبين من المصادر القديمة أن روما صدقت هذه المزاعم. ومما يجدر بالملاحظة أن رواية بورفوريوس بوجه خاص لا تترك مجالاً للشك في أن الملك برح الإسكندرية بمحض إرادته، وتؤيد ذلك رواية بلوتارخ التي سنعرضها بعد قليل. وعلى كل حال فإنه عندما غادر الملك الإسكندرية في خلال عام 58، لم يذهب إلى روما مباشرة وإنما ذهب أولاً إلى رودس ليستطلع رأي قانو في أمره. ويصف بلوتارخ هذه المقابلة وصفًا مفصلاً لا تنقصه الصراحة، فهو يحدثنا بأن بطلميوس أبلغ قاتو برسوله، على أمل أن يخف الأخير إليه، لكنه اتفق أن قاتو كان عندئذ متوعكًا، ودعا الملك إلى زيارته إذا شاء. وعند مجئ الملك كان قاتو جالسًا على كرسي يزيل ضرورة فلم يتقدم للقائه أو ينهض من مكانه وحيًا الملك كأي زائر عادي ودعاء للجلوس، فضايق بطلميوس مثل هذا اللقاء، وبقى مشدوها من بساطة حال قاتو، وكبريائه وطباعة الحافة. وعندما بدأ الكلام عن شئونه سمع اقتراحات كلها رواية وصراحة، ذلك أن قاتو أظهر له أنه بذهابه لاستعداء روما على رعيته، قد هجر حياة سعيدة ليعرض نفسه للعبودية والمتاعب والرشوة والجشع بين الرومان الأقوياء الذين لا يمكن مصر أن تشبع نهمهم، وأن تحولت كلها ذهبا، ونصحه بأن يمكن مصر أن تشبع نهمهم، وإن تحولت كلها ذهبًا، ونصحه بأن يعود إدراجه ويتفق مع مواطنيه، وأبدى استعداده لمرافقته، والتوفيق بينه وبين رعيته. ويبدو أنه كان لهذه العبارات أثر بين في نفس الملك، فكاد أن يتبع نصيحة قاتو، إلا أن رفاقه حولوه عن هذا السبيل السوي.

ويدل تفكير بطلميوس في العودة إلى مملكته على أن رعيته لم تطرده. ويؤكد تيماجنيس (Timagenes) الإسكندري أن بطلميوس الزمار لم يغادر مصر مكرها وإنما بتأثير ثيوفانيس (Theophanes) صديق بومبي وكان يعمل على إشعال لهيب حرب تنقذ صديقه من سأم الراحة وتضفي عليه مجدًا جديدًا. وإذا كنا لا نستبعد قيام ثيوفانيس بهذا لدور فإننا نرى مع بلوتاريخ أن أخلاق بومبي كانت تسمو عن الاشتراك في مثل هذه المناورات. لكنه إذا كان بطلميوس قد هجر عاصمته تلقائيًا بقصد العودة لاقتحامها عنوة فكيف أنه ترك خلفه كل أسرته في وسط رعيته؟ من الجائز أن بطلميوس لم يخرج من الإسكندرية وقد اختمرت في رأسه تلك الفكرة الطائشة، بل أن ثيوفانيس أغراه أولاً بترك الإسكندرية فترة من الزمن حتى تهدأ ثائرتها، ثم أخذ يزين له فكرة استعداء الرومان على الإسكندريين ليلقنوهم درسًا لا ينسونه فينعم بعد ذلك بالسكينة والهدوء. ويؤيد هذا الاحتمال أن بطلميوس لم يقصد روما مباشرة وإنما ذهب أولاً على رودس ليستطلع رأي كانو، وأنه كاد أن يقتنع بنصيحة ذلك الرجل الحكيم ويعود إدراجه إلى عاصمته لولا تأثير بطانة السوء.

وفي روما أحسن بومبي وفادة بطلميوس الزمار وأنزله في قصره على تل البانوس (Albanus)، وبقى بطلميوس في العاصمة الرومانية، من أواخر عام 58 إلى أواخر عام 57، يعمل بغير كلل على شراء ذمم رجال اسناتو بالرشاوي والوعود لتحقيق بغيته، وقد قيل فيما بعد أنه اشترى ذمم جميع رجال اسناتو. ولما كانت موارد مملكته قد انقطعت عنه، فإن استدان مبالغ كبيرة من الممول الروماني رابيريوس بوستوموس (Rabirius Postumus). وقد استولت الدهشة على الإسكندريين لمبارحة الملك دولته، ولم يستطيعوا اقتفاء أثره بسبب ذهابه إلى رودس.

برنيقي الرابعة وكليوبترا تروفاينا:

ووفقاً لما يرويه ديون قاسيوس لم يعرف الإسكندريون أنه التجأ إلى إيطاليا بل ظنوا أنه توفي ولذلك أقاموا مكانه على العرش ابنته برنيقي الرابعة ويصفها استرابون بأنها كانت أكبر بناته الثلاث وأبنته الشرعية الوحيدة. ويذكر بورفيرريوس أن الإسكندريين لم يقدموا على إقامة خلف لبطلميوس الزمار إلا بعد أن طالبت غيبته في إيطاليا حتى أنهم أصبحوا لا يتوقعون عودته. ولم تحكم برنيقي وحدها بل شاركتها كليوبترا تروفاينا، وبصفها بورفوريوس بأنها كانت أختها، لكن أغلب المحدثين يميلون إلى اعتبارها أمها، وإن كان بعضهم يرى أن كليوبترا تروفاينا الأم توفيت حوالي أواخر عام 69 ق.م. لأنه لم يرد لها ذكر في اوثائق بعد ذلك الوقت، ومن ثم فإن أكثر أولاد بطلميوس الثاني عشر أما يكون قد ولدوا قبل ذلك، وهذا لا يتفق مع ما نعرفه عن أعمارهم، وأما يكونون غير شرعيين، اللهم إلا إذا كان "الزمار" قد تزوج بعد ذلك سيدة لم يرد لها ذكر في الوثائق. لكن هذا غير مقبول لأنه يشير المشكلة نفسها التي يثيرها عدم ذكر كليوبترا تروفاينا بعد عام 69. ونستبعد أيضاً أن أكثر أولاد بطلميوس الثاني عشر كانوا غير شرعيين، لأنهم لو كانوا كذلك لاستغل الرومان هذه الحقيقة أو على الأقل أشاروا إليها في خلال محاولتهم القضاء على أسرة البطالمة من عام 42 إلى عام 30 ق.م. ويضاف إلى ذلك أن بطلميوس الثاني عشر، وقد قاسى الأمرين حتى اعترف الرومان به ملكًا شرعيًا، لابد من أنه كان يدرك ما ستصادفه ذرية غير شرعية من قبل الرومان الذين كانوا منذ مدة طويلة يمهدون السبيل إلى ضم مصر إلى حظيرة الإمبراطورية وكادوا ينفضون عليها في بداية عهده، وتبعًا لذلك فإنه لم ينجب سفاحًا. وأما عدم ذكر كليوباترا تروفاينا الأم في الوثائق بعد عام 69، فهو دليل سلبي قد يقضي عليه الكشف عن وثيقة جديدة أو أكثر. وبالفعل يحدثنا نقش على مدخل معبد ادفو المصري بتاريخ 5 ديسمبر عام 57، عن اتمام المعبد في عهد بطلميوس الثاني عشر "أوزيريس الصغير وزوجة االملكة كبيوبترا تروفاينا". فلو أن كليوباترا كانت قد توفيت أو طلقت منذ عام 69 لما ورد ذكرها في هذا النقش. ورب معترض يقول أن هذا النقش غير دقيق بدليل أن بطلميوس الزمار نفسه لم يكن عندئذ متربعًا على العرش. لكن هذا الاعتراض مردود لأنه إذا جاز القول بأن هذا النقش لا يعبر عن الواقع ولا عن وجهة نظر الإسكندرية، فإنه يجوز القول كذلك بأنه يعبر عن وجهة النظر المصرية، بل هو في الواقع يعبر عن وضع "الزمار" من الناحية القانونية، لأنه إذا جاز القول بأن هذا النقش لا يعبر عن الواقع ولا عن و جهة نظر الإسكندرية، فإنه يجوز القول كذلك بأنه يعبر عن وجهة النظر المصرية، بل هو في الواقع يعبر عن وضع "الزمار" من الناحية القانونية، لأنه إذا كان "الزمار" لا يمارس عندئذ الحكم فعلاً، فإنه كان لا يزال صاحب العرش الشرعي، فهو لم يمت ولم يعزل ولم يخلفه زوجان وفقًا للعرف والتقاليد.

وإزاء ذلك نعتقد أن هذا النقش ينهض دليلاً على أنه إذا كانت الإسكندرية قد اعترفت بابنته وشريكتها، فإن بقية البلاد كانت لا تزال في عام 57 تعترف ببطلميوس وزوجة كليوبترا تروفاينا، وعلى أن تروفاينا كانت لا تزال على قيد الحياة، وهذا يتفق وما يحدثنا به بورفوريوس من أن تروفاينا توفيت بعد عام واحد من حكمها مع برنيقي. والقول بأن أكثر أبناء "الزمار" كانوا غير شرعيين معناه اعتبار كل عبارات استرابون صحيحة، لكننا نلاحظ أنه حين وصف برنيقي بأنها ابنة الزمار الشرعية الوحيدة، قال أن الإسكندريين أقاموها ملكة بمجرد طرد أبيها، أي أنه يعزو إلى الإسكندريين طرد الملك ولا يشير إلى اشتراك أحد مع برنيقي في الحكم، وهذان الأمران ينقصان من قيمة رواية استرابون، فقد رأينا من القرائن ما يرجح أن الإسكندريين لم يطردوا "الزمار"، وعرفنا من بورفوريوس أن برنيقي لم تحكم بمفردها. وتحدثنا بردية غير مؤرخة نشرت حديثًا عن حكم الملكتين. وأما عن قول استرابون بأن برنيقي الرابعة هي وحدها من بين ذرية الزمار التي كانت شرعية، فلعل منشأه أن يكون استرابون قد خلط بينها وبين عمتها برنيقي الثالثة وهي التي استخدم باوسانباس في وصفها هذه العبارة نفسها "البنت الشرعية الوحيدة". ومن المرجح كذلك أن يكون بورفوريوس قد أخطأ وصف كليوبترا تروفاينا شريكة برنيقي الرابعة بأنها أختها، إذ أن أدنى الاحتمالات إلى صحة هو أن هذه السيدة كانت زوجة "الزمار"، وأنها لسبب نجهله لم يرد لها ذكر في الوثائق بين عام 69 وعام 57 ق.م وأما سبب عدم موافقتها لزوجها حين برح الإسكندرية في عام 58، فمن اليسير تفسيره ولا سيما أن ابنته برنيقي وباقي أولاده لم يصحبوه كذلك. ولعل مرد ذلك إلى توقعه العودة سريعًا إلى مملكته، كما مر بنا.

ويحدثنا بورفوريوس بأن تروفاينا توفيت بعد عام واحد من الحكم المشترك، وبأن برنيقي استمرت تحكم بمفردها مدة عامين. وهذا يتفق مع ما يرويه ديون قاسيوس من أن برنيقي حكمت ثلاثة أعوام، بينما تحدثنا إحدى الوثائق البردية بأن غيبة الزمار عن مصر دامت عامين. ولعل سبب الاختلاف بين هذه المصادر يرجع إلى شيء من التجوز في التعبير، لأن هذه الفترة كانت سنتين وبضعة أشهر، فاعتبرها بورفوريوس وديون قاسيوس ثلاث سنوات وكاتب البردية سنتين فقط. وينهض دليلاً على أن مدة حكم برنيقي زادت على سنتين ما جاء في بردية ديموتقية بمتحف اللوفر من أنها "كتبت في العام الثالث من عهد الملكة الموافق للعام الخامس والعشرين من عهد الملك".

وهذه الوثيقة تثير مشكلة جديدة، ذلك أن العام الثالث من عهد برنيقي (56/55) لا بوافق العام الخامس والعشرين وإنما العام السادس والعشرين وإنما العام السادس والعشرين من عهد الزمار، ولعل مرد ذلك إلى خطأ غير مقصود وقع فيه كاتب الوثيقة أو ناشرها. وعلى كل حال فإن هذه الوثيقة تؤيد ما رجحناه من أنه خارج الإسكندرية كان "الزمار" لا يزال يعتبر بعد هروبه ملك مصر الشرعي، وتدل على أن برنيقي لم تعتبر، على الأقل في نظر المصريين، أكثر من شريكة الزمار.

الإسكندريون يرسلون بعثة إلى روما:

وعندما علم الإسكندريون بأن بطلميوس في روما، قرروا إرسال بعثة إلى السناتو تتألف من مائة عضو لتبرر تصرفاتهم، وتدحض مزاعم الملك، وتولى الفيلسوف ديون (Dion) رياسة هذه البعثة. وقد رأى بطلميوس أن الوسيلة المثلى للحيلولة دون سماع الرومان وجهة نظر الإسكندرية أن يحول دون وصول سفرائها إلى روما، فأوعز إلى بعض الأشقياء بقتلهم عند وصولهم، وفعلاً قتل بعضهم في الطريق إلى روما، والبعض الآخر في العاصمة نفسها، واشتريت ذمم بقيتهم. وإذا كان ديون قد ن جا بحياته أول الأمر ودعى للإدلاء بأقواله أمام السناتو، فإن بطلميوس أقنعه بوسائله الخاصة بألا يلبي الدعوة، ثم دبر مقتله في بيت مضيفة لكي يضمن ألا يفتح ديون فاهة على الإطلاق.

الصراع في روما على الفوز بمهمة إعادة الملك:

وقد كان كل من بومبي وقراسوس يتمنى الفوز بمهمة إعادة بطلميوس إلى عرشه، لكن السناتو عهد بهذه المهمة إلى القنصل سبينشر (P. Cornelius Lentulus Spinther) وكان على وشك الذهاب إلى قيليقيا ليتولى حكمها في العام التالي. ولما كان سبينثر هو الذي تولى أمر استدعاء شيشرون من منفاه، فإن شيشرون رد هذا الجميل بتأييد توليه المهمة السالفة الذكر بخطيه رنانة وصلت إلينا بعض فقراتها. وأقضى قتل رسل الإسكندرية إلى سلسلة من المحاكمات والفضائح. ويحدثنا ديون قاسيوس بأنه "أتهم كثيرون لكنه أدين قليلون لأن الرشوة كانت فاشية، ولأن الخوف دفع الشركاء في الجريمة إلى معاونة بعضهم بعضها".

وقد كان بطلميوس يفضل قيام صديقه بومبي بمهمة إعادته إلى عرشه، لكنه كان أيضاً يخشى أن بقاءه في روما ـ وسط ذلك الجو المضطرب الذي كان يسودها عندئذ ـ قد يؤدي لسبب أو آخر إلى حدوث ما يدفع السناتو إلى العدول عن مساعدته على إعادته إلى عرشه ولاسيما أن بعض النبلاء كانوا يعارضون التدخل في هذه المسألة على الإطلاق. وإزاء ذلك كله غادر بطلميوس روما إلى أفوس، تاركًا عميله أمونيوس في روما للسهر على صوالحه وتوزيع الرشاوي، أملاً في تعديل قرار السناتو لصالح بومبي، أو على الأقل قيام سبينثر بتنفيذ قرار السناتو سالف الذكر.

وبرغم أنه كانت قد منحت لبومبي في سبتمبر عام 57 سلطات واعتمادات مالية لا حد لها ضمانًا لإمداد روما بالمؤنة فإنه كان يفضل أن يضم إلى هذه المهمة مهمة إعادة بطلميوس، إذ أنه كانت تواتيه على هذا النحو فرصة أخرى لقيادة جيش روماني، غير أنه لم يجرؤ على أن يذيع علنًا هذه الرغبة التي كانت تختلج في نفسه، واحتفظ بالموقف المبهم الذي اعتاده، تاركًا أصدقاءه يعملون على تحقيق رغبته.

ولم يخف أمونيوس أن مليكيه كان يفضل بومبي، لكنه اصطدم بمعارضة النبلاء وأصدقاء كل من سبينشر وقراسوس. وللرد على مناورات بومبي، لجأ معارضوه إلى حيلة بارعة لأبطال قرار السناتو الخاص بمهمة إعادة بطلميوس إلى عرشه، أو على الأقل لإنقاص قدر هذه المهمة فيزهد فيها بومبي. ذلك أنه عندما حدث في بداية شهر يناير عام 56 أن صاعقة أصابت تمثال بوبيترلاتياريس (Jupiter Latiaris) انتهزت هذه الفرصة لترويج شائعات بأن حدوث ذلك وسط الشتاء نذير سوء من السماء، وتبعًا لذلك فإنه وفقًا لعادة الرومان في مثل هذه الأحوال كان لابد للجنة الخمسة عشر القائمة على حراسة وتفسير كتب الوحي السبولية (Aibyllae) المقدسة عند الرومان من أن نستطلع هذه الكتب بحثًا عن الوسيلة الملائمة لاسترضاء الآلهة. وعند قيام اللجنة بهذه المهمة زعمت أنها وجدت نبوءة هذا نصها: "إذ جاءكم ملك مصر يسأل المعونة فلا ترفضوه صداقتكم، ولكن لا تذهبوا لمساعدته بالقوة وإلا حاقت بكم المتاعب والأخطار".

وقد بادر أحد نقباء العامة إلى مخالفة القواعد المتبعة من عدم إذاعة مثل هذه الأسرار قبل أن تبلغ إلى السناتو ويتخذ قراراً بشأنها وأرغم لجنة الخمسة عشر على إذاعة نص هذه النبوءة. فكان يجب إذن مراعاة شعور الجماهير الديني، غير أن أولئك الذين كانت لهم صوالح في إعادة بطلميوس قالوا أنه لم يحظر سوى استخدام القوة، وأنه يمكن إعادة هذا الملك بالوسائل السلمية. وبقى إذن أن يتقرر من يكون المبعوث الروماني الذي يضطلع بهذه المهمة، أهو سبينثر أم بومبي أم قراسوس؟ لكنه لم تكن لبطلميوس ثقة إلا في بومبي، وقد أوضح ذلك في خطاب عنى نقيب العامة بلاوتيوس (Plautius) بأن يقرأه على لاشعب. وإذا كانت مهمة إعادة بطلميوس قد فقدت كثيراً من أهميتها بعد حظر استخدام القوة، فإنه بقيت الفوائد المادية التي كان يمكن أن يجنيها من يضطلع بهذه المهمة.

وقد احتدمت المناقشة في الجلسات التي عقدها السناتو في الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من يناير حول ثلاثة افتراحات، كان أحدها ينادي بتنفيذ القرار الذي سبق أن اتخذه السناتو، أي بقيام سبينثر بالمهمة وكان أبرز أنصار هذا الاقتراح هورتنسيوس ولوقولوس وشيشرون. وأما الاقتراح الثاني فإنه كان يدعو إلى إسناد المهمة إلى بومبي الذي تظاهر سواء في أحاديثه الخاصة أم في السناتو بتأييد سبينثر، بينما نشط أصدقاؤه في الترويج لاختياره.

وكان الاقتراح الثالث يدور حول إسناد المهمة إلى ثلاثة مبعوثين بدلاً من مبعوث واحد. وكان قراسوس صاحب هذا الاقتراح وكان هدفه من وراء تقسيم المهمة بين ثلاثة أشخاص جعل بومبي يزهد فيها بعد الإقلال من شأنها إلى هذا الحد. ولم تتفق الآراء إلا على عدم استخدام القوة في إعادة بطلميوس فصدر بذلك قرار من السناتو. وفي السابع عشر من يناير تمكن النبلاء وسط اجتماع انقسمت فيه الآراء من الحصول على قرار من السناتو يحظر إعادة بطلميوس، ولكن ذلك كان دون جدوى، فقد صادر بعض نقباء العامة هذا القرار، وأجلوا المسألة إلى ما بعد شهر فبراير، وكان السناتو يخصص هذا الشهر لاستقبال البعثات الدبلوماسية. وفي أواخر شهر يناير تقدم اثنان من نقباء العامة إلى جميعة القبائل بمشروع قانون يعهد إلى بومبي بإعادة ملك مصر. ولا نعرف كيف حيل دون إقرار هذا القانون، وإن كنا نعرف أنه كان يسود جلسات جمعية القبائل شعب عنيف واضطرابات شديدة، وأن قلوديوس كان يدعو إلى اختيار قراسوس.

وفي اليوم السادس من فبراير، عندما كان بومبي يتحدث مؤيدًا ميلون (Milo)، رئيس العصابات التي واجه النبلاء بها عصابات قلوديوس، عدوهم وعدو بومبي، طغت الضوضاء على صوته. وما كاد بومبي يختتم خطبته حتى وقف قلوديوس، فارتفعت الجلبة من ناحية معارضية ليردوا له التحية بأحسن منها، وانطلقت الألسنة تقذف قلوديوس وأخته المتهتكة قولديا بالشتائم والأشعار الجارحة حتى فارقته شجاعته وضاع صوته وفقد ثقته بنفسه. ووسط هذا الشعب، الذي دام من الساعة السادسة مساءً إلى الساعة الثامنة، سأل قلوديوس أعوانه، وقد تملكه الغضب وشحب لون وجهه، "من الذي يريد هلاك العامة جوعًا؟" فأجابته عصابته "بومبي"، "ومن الذي يريد الذهاب إلى الإسكندرية؟" ـ "بومبي"، "ومن الذي تريدون إرساله إلى هناك؟" ـ "قراسوس" لكن النبلاء استخدموا كل الوسائل للحيلولة دون ذلك. واتخذ السناتو قراراً بألا يعيد أحد أحد بطلميوس، لكن أنصاره من نقباء العامة صادروا هذا القرار.

ويحدثنا ديون قاسيوس عن قانون أصدرته جمعية القبائل في هذا المعنى. لكن شيشرون، وهو الذي نستمد منه أكثر معلوماتنا عن هذه المسألة، لا يذكر شيئًا عن مثل هذا القانون. ولو صح أن جمعية القبائل كانت قد أصدرت هذا القانون لصادره أنصار بطلميوس من نقباء العامة مثل ما صادروا قرار السناتو المماثل. وعلى كل حال فإنه في شهر يولية عام 56 لم يكن قد تم أي شيء في المسألة المصرية.

وفي آخر شهر يولية كتب شيشرون إلى سبنثر ينهي إليه أنه هو وبومبي يريان أن السناتو لم يقرر حرمانه حق إعادة الملك، وأنه إذا ترك الملك في عكا أو في أي مكان آخر قريب، وتوجه إلى الإسكندرية على رأس أسطول وجيش وسيطر عليها ثم دخلها الملك بعد ذلك، فإنه يكون على هذا النحو قد نفذ قرار السناتو لأنه أعاد الملك إلى عرشه واحترام النبوءة السبولية لأنه لم يستخدم القوة في ذلك. وأوضح له أنه وهو وبومبي متفقان على أن تقدير عمله ستوقف على النتيجة النهائية، فإذا حالفه التوفيق فإن الكل سيجمع على أنه تصرف بحكمه وشجاعة، وأما إذا صادفه أدنى فشل فإن أولئك الأشخاص أنفسهم سيصفون تصرفه بالجشع والتهور. وتبعًا لذلك فإنه يجب أن يقدر جيدًا ما لديه من فرص النجاح، وإذا تبين أنه في وسعه الاستيلاء على مصر فإنه يجب ألا يتردد، وأما إذا خامره الشك في نجاح هذه المغامرة، فإنه يجب عدم الإقدام عليها. وقد أثبتت الأيام أنه حين رفض سبينثر الإقدام على تلك المغمرة كان حكيمًا بعيد النظر، لأنه عندما أقدم عليها جاينيوس ونجح فيها لم تهال له روما، وكان شيشرون أول من هاجمه وقذف في وجهه المثل الطيب الذي ضربه سبنثر. ولم تؤد المعارضة الخرفاء التي شنها النبلاء على كل ما من شأنه خدمة صوالح بومبي إلا إلى تقربه ثانية إلى قيصر وقراسوس، وإعادة توكيد أواصر الحكومة الثلاثية الأولى أو بعبارة أدق التحالف الثلاثي الأول (إبريل عام 56)

البحث عن زوج لبرنيقي الرابعة:

وإذا كان الاسكندريون لم يطردوا بطلميوس الزمار، فإنهم في خلال المناورات التي شهدتها روما عملوا على جعل عودته أمرًا متعذرًا، وذلك باختيار ملك آخر يتزوج برنيقي الرابعة ويتولى الدفاع عن مصر. ولما كان لا يستطيع أحد من أخوى برنيقي الاضطلاع بذلك، بسبب صغر سنهما، فإن الاسكندريين اتجهوا إلى أسرة السلوقيين. وقد قبل ذلك أحد ابني كليوباترا سليني، ويحتمل أنه كان أصغر الاثنين اللذين ذهبا إلى روما في عام 75، لكنه توفي في أثناء المفاوضات. وعندئذ اتجه الاسكندريون نحو أحد أحفاد أنطيوخوس الثامن جروبوس، لكن جابينيوس الحاكم الروماني لولاية سوريا حظر عليه مغادرة هذه الولاية.

وأخيرًا عثر الاسكندريون على شخص اسمه سلوقس، كان يدعى أنه من سلالة ملوك سوريا، فاستدعى إلى الإسكندرية حيث تزوجته برنيقي وأشركته معها على العرش، لكنه سرعان ما تبين أنه شخص خشن في مظهره وطباعه إلى حد أن الاسكندريين خلعوا عليه لقب "السماك" (Kybiosaktes). ويحدثنا استرابون بأن برنيقي لم تطق معاشرته إلا بضعة أيام، فلقي حتفه خنقًا. وعندئذ استدعى الاسكندريون شخصًا كان يزعم أنه ابن ميثرايداتس السادس، لكنه كان على الأقل أمام الناس ابن قائد إغريقي خدم هذا الملك وقام بأعمال باهرة في خلال حرب ميثريداتس الأولى (88-85ق.م) وأسند الملك إليه أمر التفاوض مع صلا على الصلح. ولم تلبث الشكوك أن ساورث ميثريداتس حول وجود تفاهم مريب بين قائده وصلا جعلته متساهلاً أكثر مما يجب في المفاوضات التي انتهت بصلح عام 85. وإزاء هذه الشكوك فر القائد إلى روما قبيل بدء حرب ميثريداتس الثانية (عام 83)، وساعد القائد الروماني لوقولوس في أثناء حرب ميثريداتس الثالثة.

وكان زوج برنيقي الجديد يدعى كأبيه الرسمي أرخلاوس (Archelaos) وكان بومبي قد أقام هذا الشاب حاكمًا على قومانا (Comana). ويمضي استرابون فيروي كيف أن هذا الشاب كان في سوريا للاشتراك مع جابينيوس في حملة ضد البارثيين عندما اختفى من هناك فجأة وأقيم ملكًا في الإسكندرية. وأما ديون قاسيوس فيؤكد أن جابينيوس هو الذي سمح لأرخلاوس بالذهاب إلى الإسكندرية ليزداد الموقف تعقيدًا ويرتفع الثمن الذي يدفعه بطلميوس لقاء خدماته. وعلى كل حال فإنه فيما بين 7 من مارس و16 من إبريل عام 56 تزوج أرخلاوس من برنيقي، وتربع على عرش البطالمة.

جابينيوس يعيد الزمار إلى عرشه:

ولما لم يعد لدى بطلميوس الزمار أمل في استرداد عرشه بتأييد السناتو أو بمساعدة سبينثر والي قيليقيا، فإنه أخذ يعقد آماله على جابينيوس حاكم سوريا ووعده بمبلغ ضخم، إذا حقق أمنيته بالقوات التي كانت تحت إمرته.

وقد كان قيام جابينيوس بهذه المهمة ينطوي على مخالفتين خطيرتين، وهما خروجه من ولايته دون تصريح، واشتباكه من تلقاء نفسه في حرب حظر السناتو خوض غمارها، حين قرر عدم استخدام القوة في إعادة بطلميوس. بيد أن جابينيوس استهان بالأخطار التي ستترتب على ارتكاب هاتين المخالفتين بسبب الفوائد التي سيجنيها من إعادة بطلميوس وبسبب تفاهمه مع بومبي واعتماده على تأييده، وكان بومبي قنصلاً في عام 55 وأقوى شخصية في روما عندئذ. وقد انتحل جابينيوس عذرًا لقيامه بتلك المهمة خوفه من أن يعتدي على ولايته أسطول أرخلاوس والقراصنة التي قيل له أن البحر كان يعج بهم، ومن ثم فإنه وجد نفسه في حالة الضرورة القصوى التي ينص القانون عليها وتبيح له التصرف كما يتراءى له.

وقد غزا جابينيوس مصر في ربيع عام 55، ومعه بطلميوس الزمار، وعلى رأس فرسانه الشاب القدير مارقوس أنطونيوس (Marcus Antonius).

وكانت مهمة جابينيوس سهلة إذ أن الحامية اليهودية في بلوزيون سلمت هذه المدينة للجيش الروماني، فزحف بعد ذلك في طابورين على الإسكندرية، حيث حاول أرخلاوس صد الغزاة، لكن أنطونيوس أفلح في تطويقه ومهاجته من الخلف بينما انقض عليه جابينيوس من الأمام فباء بالفشل وخر صريعًا في ميدان القتال. وبعد أن تفانى أنطونيوس في قتال أرخلاوس، بادر بعد مصرعه إلى إكرام مثواه وإقامة جنازة ملكية له.

ولسنا نعرف عن يقين التاريخ الذي استعاد فيه الزمار عرشه، وإن كنا نعرف أن أقدم بردية وصلت إلينا مؤرخة باسمه بعد عودته ترجع إلى 22 من إبريل عام 55ق.م. وإزاء ما وقع في سوريا من اضطرابات في أثناء غياب جابينيوس فإنه لم يتوان في مغادرة مصر تاركًا وراءه حامية يتألف أكثرها من قوات غالية وجرمانية سيتردد ذكرها فيما بعد.

وقد كانت تتملك بطلميوس الزمار رغبتان قاهرتان: وهما الانتقام من ابنته وأنصارها، وامتصاص دماء رعاياه للوفاء بديونه للمرابين الرومان، ولذلك فإنه ما كاد يستعيد عرشه حتى بادر إلى إعدام ابنته وعدة من أنصارها وعدد كبير من الأغنياء ومصادرة أملاكهم.

الزمار يشرك اثنين من أولاده معه في الملك:

ولما كان قد جاء في بردية إغريقية "في الثاني والعشرين من شهر بؤونة في العام السادس والعشرين عهد الملك (الكبير) بطلميوس نيوس ديونوسوس فيلوباتور فيلادلفوس، فإن هذا يوحي بأنه كان لبطلميوس الثاني عشر شريك واحد أو أكثر أصغر منه سنًا، ويتأيد هذا بأننا نجد أن أبناء هذا الملك أو على الأصح اثنين من أبنائه قد ورد ذكرهما معه أولاً: في نصب ديموثيقي، فقد جاء في هذا النصب "في العام الثامن والعشرين من عهد الملوك الأحياء إلى الأبد.. (عام 53)"، وثانياً: في نصب إغريقي، فقد جاء في هذا النصب "باسم الملك بطلميوس الإله نيوس ديونوسوس وأبنائه الآلهة نيوي فيلادلفوي...29 من شهر بشنص في العام التاسع والعشرين (= 31 من مايو عام 52)، وثالثاً: في نقش إغريقي غير مؤرخ من جزيرة فيلة: فقد جاء في هذا النقش "باسم الملك بطلميوس الإله نيوس ديونوسوس فيلوباتور فيلادلفوس وأبنائه...". وإزاء ذلك نرجح أن يكون بطلميوس الثاني عشر – عندما استعاد عرشه وأعدم ابنته برنيقي الرابعة – قد أشرك معه في الملك أكبر أولاده اللذين أوصى بأن يخلفاه على العرش وهما كليوباترا السابعة وبطلميوس الثالث عشر.

تعيين رابيريوس وزيرًا للمالية:

وقد كان أكبر دائني بطلميوس الممول الروماني رابيريوس، وهو الذي بدأ بإقراضه مبلغًا كبيرًا جدًا عندما اشترى من قيصر الاعتراف به "صديقًا وحليفًا" للشعب الروماني في عام 59. ولما كان بطلميوس قد فر من مملكته في العام التالي. فإنه لم تكن لديه فرصة لسداد ذلك الدين. ولكي ينفذ رابيريوس دينه الأول فتح خزائنه أمام بطلميوس ليغترف منها كما يشاء من أجل أن يبتاع ذمة كل من يستطيع مساعدته على استرداد عرشه. وما كاد بطلميوس يسترد عرشه. وما كاد بطلميوس يسترد عرشه حتى بادر رابيريوس إلى الحضور إلى الإسكندرية ليحصل على أمواله وفوائدها وكذلك ليوافي جابينيوس بمكافأة التي دفعته بطلميوس وزيرًا للمالية. وقد استغل رابيريوس مركزه ووجود الحامية الرومانية التي تركها جابينيوس لحماية الملك في اعتصار دافعي الضرائب. وإزاء وجود حامية رومانية في مصر وتربع وزير روماني في دست المالية، لم تكن حال مصر أسوأ مما لو كانت قد ضمت نهائيًا إلى الإمبراطورية الرومانية. وقبل أن ينتهي العام كان رابيريوس قد أثار نقمة الإسكندريين عليه إلى حد أن بطلميوس اضطر إلى أن يسجنه هو وعماله لتهدئة ثائر الاسكندريين وحماية رابيريوس ورجاله من الاعتداء عليهم. ويبدو أن الإسكندريين لم يقنعوا بذلك، وأنهم هددوا باقتحام أبواب السجن، إذ أن رابيريوس – على حد قول محاميه – هرب عاريًا خالي الوفاض بعد أن ظن أكثر من مرة أنه كان قاب قوسين أو أدنى من الهلاك. لكنه لابد من أنه قبل هروبه كان قد استولى على مبالغ كبيرة سربها إلى الخارج – وهذا هو ما قيل على الأقل في روما – ثم اتخذ مما حدث له ذريعة لكي لا يدفع شيئًا لدائنيه أو شركائه.

وقد أثارت إعادة بطلميوس إلى عرشه عدة محاكمات، إذ أنه ما كاد يتأيد في روما نبأ ما قام به جابينيوس، وكان قد حرص على عدم موافاة السناتو بتقرير عن حملته، حتى تلقفه خصومه بالهجوم الشديد، وذهبت أدراج الرياح كل محاولات بومبي وقراسوس لتهدئة الضجة التي أثيرت حول هذا الموضوع.

ولما كان جابينيوس أحد قنصلي عام 58 اللذين كانا قد باعا شيشرون إلى قلوديوس فنفاه دون أن يتيح له فرصة الدفاع عن نفسه، فإن رغبة شيشرون في إرضاء بومبي، صاحب اليد الكبرى في استدعائه من منفاه في عام 57، تلاشت أمام رغبته في الانتقام من جابينيوس، فأطلق لفصاحه العنان في مهاجته. وعندما عاد جابينيوس إلى روما في سبتمبر عام 54 قدم للمحاكمة مرتين، إحداهما بتهمة الخيانة العظمى لخروجه من ولايته وتدخله بالقوة في مصر دون إذن من السناتو أو الجمعية الشعبية، والأخرى بتهمة الرشوة بسبب المبلغ الكبير الذي وعده به بطلميوس. وعندما صدر الحكم بتبرأة جابينيوس من التهمة الأولى، وكانت أشد خطرًا من التهمة الثانية، ملك شيشرون فزع شديد حدا به إلى الإصغاء إلى طلب بومبي والدفاع عن غريمه في المحاكمة الثانية. وأما جابينيوس، فإنه وقد أحس بالطمأنينة، ارتكب خطأ فادحًا آثار عليه نقمة المحلفين في المحاكمة الثانية، ذلك أنه لم يسخ في شراء ذممهم قدر سخائه في شراء ذمم المحلفين في المحاكمة الأولى. وتبعًا لذلك فإنه بالرغم من دفاع شيشرون، ومما شهد به كتابة بومبي وقيصر وبطلميوس، ومما أدلى به سفراء الإسكندرية من أن جابينيوس لم يأخذ شيئًا على الإطلاق، فإنه صدر ضده حكم بالإدانة وبدفع غرامة قدرها 10.000 تالنت، وإزاء عجزه عن الدفع لم يكن له مصير إلا النفي. ولما كان المألوف في مثل هذه القضايا هو دفع ضعف الأموال المبتزة، فإن مقدار الغرامة التي فرضت على جابينيوس يدل على أن مقدار الرشوة التي اتفق عليها مع بطليموس كان 5000 تالنت.

وقد حوكم رابيريوس أيضًا بتهمة حصوله على جانب من رشوة جابينيوس وهي التي مر بنا أنه كلف بتحصيلها. ولاتصال موضوع هذه التهمة بموضوع تهمة الرشوة التي وجهت إلى جابينيوس، فإن قضية رابيريوس نظرت أمام الهيئة ذاتها التي فصلت في قضية جابينيوس. وإذا كان شيشرون قد دافع عن جابينيوس إرضاء لبومبي، فإنه اضطر إلى الدفاع عن رابيريوس إرضاء لقيصر. وليس في مصادرنا شيء عن الحكم الذي صدر في هذه القضية، مما أفضى إلى انقسام آراء المحدثين بصدد ذلك، إذ أن البعض يرجح أنه أدين وفرضت عليه غرامة كبيرة عجز عن دفعها فنفى هو أيضًا، في حين أن البعض الآخر يرجح أنه بريء وعاش في روما مستظلاً برعاية قيصر. غير أننا لا نستبعد أن يكون رابيريوس قد أدين ونفي إلى أن استدعاه قيصر من المنفى فيما بعد مثل ما استدعى جابينيوس.

وأما بطلميوس الزمار فإنه توفي بين 15 من فبراير و22 من مارس عام 51 مكروهًا من شعبه ومحتقرًا من الرومان.

ويحدثنا استرابون بأن كل البطالمة الذين أتوا بعد بطلميوس الثالث كانوا ملوكًا عابثين أفسدتهم الرذائل، وبأن أسوأهم جميعًا كان رابعهم ويورجتيس الثاني وبطلميوس الزمار، وبأن الأخير أضاف إلى عبثه وفجوره ولعًا شديدًا بلعب المزمار، وبأنه كان فخورًا بمواهبه الموسيقية إلى حد أنه كان لا يخجل من الاشتراك في المسابقات الموسيقية التي كان يقيمها في قصره. ويقول أثينايوس أن بطلميوس الزمار لم يكن رجلاً وإنما زمار متلاف استنفد كل الثورة التي ادخرتها مصر منذ عهد بطلميوس الثاني.

وإذا كانت تصرفات هذا الملك تدل على أنه كان شخصًا عابثًا مستهترًا فظًا غليظ القلب، أهلته صفاته الوضيعة ليقوم بدور العبد الذليل الخاضع للرومان، فإن الإنصاف يقتضينا أن نسجل أنه لم يستنفد كل مدخرات مصر في الإنفاق على مباهجه، فقد اضطرته الظروف إلى أن يشتري حقه في الملك من الرومان الذين تقاضوا ثمناً مرتفعًا لقاء ذلك. ولم يلبث بسوء تصرفه ونزقه أن اضطر إلى تبديد جانب كبير آخر من ثروة مصر في استرداد عرشه الذي لم يطرده أحد منه.

ليست هناك تعليقات: