الخميس، 13 نوفمبر 2008

سياسة البطالمة الدينية4

السلطة المركزيـة:
أداة الحكـم
1- ألقاب الملـك

لقد رأينا أن البطالمة، على الرغم من أنهم كانوا سادة مصر بحق الفتح، لم يعتمدوا على هذا الحق وحده لتبرير سلطانهم بل لجأوا إلى الديانة لصبغ مركزهم بصبغة شرعية، فاتخذوا صفات الفراعنة وتشبهوا بهم أمام رعاياهم المصريين، ورفعوا أنفسهم إلى مصاف الآلهة في نظر رعاياهم الإغريق .

ولكن تأليه البطالمة لم يؤد – كما كان يحدث أحيانًا في المماليك الشرقية – إلى أن يعيشوا في أعماق قصورهم، بعيدين عن رعاياهم ، تكتنفهم الأسرار. فقد كانوا يقابلون الجميع ويظهرون أمام الملأ ويسمعون شكاوي رعاياهم ويعيشون دون كلفة مع أصدقائهم .

اسم بطلميوس في الأسرة المالكة:

وعلى نقيض الفراعنة القدماء الذين كان لكل منهم اسم خاص به، كان كل ملوك البطالمة يحملون اسم بطلميوس. ويبدو أنهم أرادوا بذلك إثبات دوام الملكية في أسرتهم بالرغم من انتقالها من فرد إلى آخر. أما الفراعنة فإنهم لم يعنوا إلا بإثبات دوام الملكية التي تعتمد على حق الملوك الإلهي، ولذلك كانوا جميعًا يحملون اسم حورس، وكان يعبر في العقائد المصرية عن حق الملوك الإلهي. ونرى أثر هذه الرغبة البطلمية نفسها فيما درجوا عليه حتى آخر عهدهم، من وضع صورة مؤسس أسرتهم على أحد وجهي العملة التي كانوا يسكونها. وهل كان البطالمة يحملون هذا الاسم الملكي – اسم بطلميوس – عندما يرتقون العرش أم أن هذا الاسم كان يعطى لأولياء العهد منذ إشراكهم في الحكم، أو منذ ميلادهم؟

بما أن كل ملوك البطالمة كانوا يحملون اسم بطلميوس، وبما أننا نجد في نصوص لا يرقى الشك إلى صحتها أن أكبر أبناء الملوك كانوا يدعون بطلميوس حتى قبل إشراكهم في الملك، فإننا نستخلص من ذلك أن أولياء العهد كانوا يدعون منذ ميلادهم بطلميوس، وأنه إذا آل الملك إلى شخص آخر فإن هذا الشخص كان يترك اسمه الأصلي الخاص به ويحمل اسم بطلميوس. ونحن لا نعرف الاسم الذي كان بطلميوس الثاني يحمله، قبل حرمان أخيه بطلميوس كراونوس من وراثة العرش. أما القول بأنه كان يدعى فيلادلفوس فمردود لسببين: وأحدهما أنه لم يطلق على بطلميوس الثاني لقب فيلادلفوس إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، والآخر أن فيلادلفوس لم تكن اسمًا بل لقبًا وأن أرسينوي الثانية كانت أول من حمله. ولسنا نعرف أيضًا الاسم الذي كان يحمله بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني قبل ارتقائه العرش، لكن إذا كنا نجهل اسم بطلميوس الثاني وبطلميوس الثامن قبل أن يؤول إليهما الملك، فإننا نعرف أنه كان لبطلميوس الثاني، إلى جانب خليفته بطليموس الثالث، ابن صغير يدعى ليسيماخوس، وأنه كان لبطلميوس الثالث أيضًا، إلى جانب خليفته بطلميوس الرابع، ابن صغير يدعى ماجاس، وأن بطلميوس العاشر، منافس أخيه الأكبر بطلميوس التاسع سوتر الثاني، كان يميز عن أخيه الأكبر بتلقيبه بالاسكندر، وليس ببعيد أنه قد كان اسمه في بادئ الأمر قبل ارتقائه العرش.

ولما كانت لا توجد قرينة على أن الأبناء الآخرين للبطالمة، عدا الذين كانوا أولياء العهد منذ ميلادهم، كانوا يدعون كذلك "بطلميوس"، فإنه يبدو أن هذا الاسم كان مقصورًا في الأسرة الملكية على الملك وخليفته. لكن البطالمة لم يحتكروا هذا الاسم، إذ أنهم سمحوا لرعاياهم بحمله.
ملكات البطالمة واسم كليوباترا:

ومنذ زواج بطلميوس الخامس من كليوباترا الأولى ابنة أنطيوخوس الثالث، كانت كل ملكات البطالمة تحملن اسم كليوباترا منذ ميلادهن، فيما عدا برينيكي الثالثة ابنة بطلميوس التاسع، وبرينيكي الرابعة ابنة بطلميوس الثاني عشر.

لكل ملك لقب إلهي إغريقي:

وإذا كان سائر ملوك البطالمة قد حملوا جميعًا اسم "بطلميوس"، إما اعتزازًا بانتسابهم إلى رأس الأسرة ولإثبات حقهم في الملك، أو للتدليل على أن الملكية لم تتغير بانتقالها من فرد إلى آخر، فقد كان لكل منهم لقب إلهي إغريقي يميزه عن غيره. ولسنا نعرف منشأ كل هذه الألقاب، التي يعبر بعضها عن خدمات جليلة أو صفات رفيعة مثل المنقذ والخير، على حين أن بعضها الآخر يعبر عن صلات أسرية مثل المحب لأبيه أو المحب لأمه. فهل الملوك هم الذين كانوا يتخذون هذه الألقاب أم أن رعاياهم الذين كانوا يخلعونها عليهم؟ يجب أولاً استبعاد الرأي القائل بأن الكهنة المصريين هم الذين كانوا يخلعون هذه الألقاب على الملوك، فإن ديباجة الوثائق المصرية تعطي الملك الألقاب الخمسة التقليدية ثم تضيف إليها خارج الخرطوش ترجمة لقبه الإلهي الإغريقي الذي لا شك في أن صيغته الإغريقية هي الأصل. ويضاف إلى ذلك أن طابع هذه الألقاب الإلهية إغريقي، ولا يمت بصلة عن قرب أو بعد إلى صفات الآلهة المصرية. ويبدو أنه لم توجد قاعدة ثابتة لهذه الألقاب، لأنه إذا كان أهل رودوس هم الذين خلعوا على بطلميوس الأول لقب المنقذ، فإنه من المحتمل أن البطالمة الآخرين هم الذين اختاروا لأنفسهم الألقاب التي حملوها.

وهل هذه الألقاب تعبر عن صفات حقيقية أو منتحلة في الملوك، أو أنها تخلد ذكرى حوادث معينة؟ لا شك في أن أهل رودس خلعوا على بطلميوس الأول لقب سوتر (المنقذ) اعترافًا بصنيعه، ولا في أن بطلميوس الثاني وزوجه أرسينوي لقبا بالإلهين أدلفوي (الأخوين) تخليدًا لذكرى زواجهما أما بطلميوس الثالث، فلا يعرف لماذا لقب بيورجتيس (الخير)، وإن كان معروفًا أن مجمع الكهنة المصريين في 238 لم يخع عليه هذا اللقب. ولا يستبعد أنه اتخذ هذا اللقب عند ارتقائه العرش تخليدًا للخدمة التي أسداها لمصر بضم ملك قورينايئة إليها، نتيجة لزواجه من برينيكي ابنة ماجاس. ولعل السبب نفسه هو الذي حدا ببطلميوس الثامن إلى اتخاذ هذا اللقب الإلهي نفسه، عندما ارتقى عرش مصر بعد أن كان ملك قورينايئة.

وليس هناك سبيل إلى الشك في أن البطالمة، منذ عهد بطلميوس الرابع، هم الذين كانوا يختارون ألقابهم منذ ارتقائهم العرش، لكنه يصعب علينا تفسير هذه الألقاب وإن كنا نرجح أن بطلميوس الرابع لقب نفسه فيلوباتور، أي المحب لأبيه، ليحاول بذلك أن يكتسب لنفسه المحبة التي كان أبوه يتمتع بها بين الشعب. ونرجح أيضًا أن بطلميوس السادس لقب بفيلومتور أي المحب لأمه، لأن أمه تولت الوصاية عليه في حداثته لكننا لا نعرف لماذا لقب بطلميوس الخامس "الإله إبيفانس". ويبدو أنه منذ عهد بطلميوس الثامن، إما أن يكون معين البطالمة في اختيار ألقابهم الإلهية قد نضب أو أنهم أرادوا التشبه بأجدادهم، فأخذا يكررون ألقاب أسلافهم مثل يورجتيس، سوتر، فيلادلفوس، فيلوباتور.

ولقد كان للبطالمة عدة ألقاب تذكر في ديباجة الوثائق، غير أنهم لم يستخدموا عادة من هذه الألقاب إلى لقب "ملك" ولقب "إله" فضلاً عن اللقب الإلهي الخاص بكل منهم. وكان اللقب الأول يذكر قبل الاسم واللقب الثاني بعد الاسم، وإنما قبل اللقب الإلهي مباشرة، فكان بطلميوس الثالث مثلاً يدعى "الملك بطلميوس الإله يورجتيس". وكان ينقش على نقود البطالمة الاسم مشفوعًأ بلقب ملك فقط أو باللقب الإلهي فقط دون ذكر كلمة إله. وحسبنا دليلاً على أن اللقب الإلهي كان الاسم الذي يعبد تحته الملك، أن عبارة إله كانت لا تضاف إلى اسم بطلميوس بل إلى اللقب الإلهي، فكان لا يقال "الإله بطلميوس" بل مثلاً "بطلميوس الإله الخير أو المحب لأبيه. أو المحب لأمه الخ". وتعتبر عبارة "الملك بطلميوس الإله الاسكندر" خطأ فاحشًا، مرجعه أن الكاتب اعتبر الاسكندر لقبًا إلهيًا. ومما يجدر بالملاحظة أن البطالمة لم يجدوا داعيًا لأن يدعوا أنفسهم في الوثائق الإغريقية ملوك مصر العليا ومصر السفلى، على نحو ما كان الفراعنة يفعلون، أو لأن يشفعوا أسماءهم بأسماء ممتلكاتهم الخارجية، كما يفعل بعض ملوك العصر الحديث.

تعدد ألقاب البطالمة الإلهية:

ومنذ عهد بطلميوس الخامس ظهر تقليد جديد هو تعدد الألقاب الإلهية، بدل أن كان كل ملك يكتفي فيما مضى بلقب إلهي واحد، فقد كان بطلميوس الخامس الإله إبيفانس يورخاريستوس، وكانت كليوباترا الثانية الإلهة فيلومتور سوتيرا، عندما انفردت بالملك بعد فرار بطلميوس الثامن.

وكانت كليوباترا الثالثة عندما اشتركت في الحكم مع ابنها بطلميوس التاسع، تدعى وحدها الإلهة المحبة لأمها المنقذة العادة المنتصرة، وتعرف هي وابنها بطلميوس التاسع، وكذلك هي وابنها بطلميوس العاشر "بالإلهين المحبين لأمهما المنقذين". وكان بطلميوس الثاني عشر يعرف أول الأمر "بالإله فيلوباتور" لكنه عندما تزوج أخته أضاف إلى ذلك لقب "فيلادلفوس"، ولم يلبث أن أضاف إلى ذلك لقبًا آخر هو "ديونيسوس الجديد". ويمكننا أن نستخلص من استقراء الحوادث، أنه منذ أيام بطلميوس الثالث كان الملك يتخذ لقبًا إلهيًا أساسيًا نتيجة لتأليهه عقب ارتقائه العرش، لكنه منذ أيام بطلميوس الخامس كان يضاف أحيانًا إلى هذا اللقب لقب آخر، وذلك فيما يبدو نتيجة لحوادث معينة.

ويعزو بعض المؤرخين الألقاب الإضافية إلى الرغبة في تفادي الخلط بين الملوك، عندما درج البطالمة الأواخر على أن يتخذوا لأنفسهم ألقابًا إلهية كان أسلافهم قد حملوها من قبل. لكننا لا نرى هذا الرأي، لأن بطلميوس الثامن، وكان أول من حمل لقبًا إلهيًا سبقه إليه بطلميوس آخر هو بطلميوس الثالث، لم يكن له سوى لقب إلهي واحد هو يورجتيس. وفضلاً عن ذلك فإن بطلميوس التاسع الذي حمل لقب مؤسس الأسرة سوتر، لم يحمل لقبًا إلهيًا ثانيًا. ويضاف إلى ذلك أن هذا الرأي لا يفسر لنا لماذا حمل بطلميوس الخامس لقبين إلهيين هما إبيفانس وبوخاريستوس، إذ أنه لم يحمل أي بطلميوس قبله أي لقب من هذين اللقبين. لقد كانت هناك وسيلة أخرى لتفادي هذا الخلط وهي ترقيم البطالمة، لكنه لم يلجأ إلى هذه الوسيلة سوى بعض المؤرخين القدماء.

ألقاب السخرية:

أما ألقاب السخرية التي كثيرًا ما عرف بها الملوك فيما كتبه المؤرخون القدماء بدلاً من ألقابهم الرسمية. فلا شك في أنها خلعت على الملوك إبان حكمهم، ولا في أنها أكثر ألقابهم مطابقة للحقيقة باعتبارها تمثل شخصيتهم في نظر الرأي العام. ويكفي أن نثبت هنا بعض هذه الألقاب، فقد أطلق مثلاً على بطلميوس الثالث وعلى بطلميوس الرابع "الخليع، Tryphon"، وعلى بطلميوس الثامن "البطين، Physkon" و"الشرير Kakergetes" و"الخليع"، وعلى بطلميوس التاسع "حمص، Lathyros"، وعلى بطلميوس الثاني عشر "الزمار، Auletes". أما ألقاب التشريف التي كانت تضاف إلى ألقابهم الرسمية في عبارات الإهداء وبعض الوثائق الأخرى، فقد أغفل ذكرها المؤرخون لأنها وليدة المداهنة.

ألقاب زوجة الملك:

وكانت زوجة الملك تحمل لقب "الملكة" وتشارك عادة زوجها "لقبه الإلهي". لكن لقب "الملكة" كان يمنح كذلك لأميرة لم ترتق العرش، مثل فيلوتيرا شقيقة بطلميوس الثاني، وبرينيكي ابنة بطلميوس الثالث. وفي أواخر عهد البطالمة، كان أبناء الملك يدعون آلهة ويمنحون ألقاب أبويهما المقدسة، ففي وثيقة بتاريخ 31 مايو عام 52 نجد ذكر الملك بطلميوس الإله الجديد ديونيسوس وأبنائه الآلهة الصغيرة فيلادلفوي. وكما كان يحدث أيام الفراعنة، كان يطلق كذلك على ملكات البطالمة، منذ زواج بطلميوس الثاني من أخته أرسينوي، لقب "الأخت"، حتى عندما لم تكن الملكة أخت الملك، ومثل ذلك برينيكي زوج بطلميوس الثالث، وبرينيكي زوج بطلميوس العاشر، فإن هاتين السيدتين لم تكونا، على نحو ما مر بنا، أختي هذين الملكين.



2- وراثـة العـرش


للوراثة بوجه عام قواعد نظم انتقال الميراث إلى الورثة المباشرين، وتعين حالات حرمان هؤلاء الورثة إرثهم، ووسائل انتقال حق الميراث إلى الورثة غير المباشرين. وهذه القواعد في كل البلاد جزء أساسي من القانون الخاص، ولا يمكن الاستغناء عنها بوجه خاص لتنظيم وراثة العرش، ولاسيما أن هذا الإرث لا يقبل التقسيم كأي إرث آخر.

وعندما ارتقى البطالمة عرش الفراعنة، وجدوا للوراثة في مصر قانونًا تقليديًا. ولا شك في أنهم كانوا يلمون جيدًا بتقاليد بلادهم، فهل قبلوا التقاليد المصرية كافة، أم بقوا على ولائهم كل التقاليد الإغريقية والمقدونية، أم أنهم اختاروا من التقاليد المصرية والتقاليد الإغريقية والمقدونية ما راق لهم؟ إنه لم يصل إلينا أي نص قانوني عن الوراثة في الأسر المالكة، سواء في مصر أم في بلاد الإغريق أم في مقدونيا، ولذلك يجب أن نستخلص قانون الوراثة من مجرى التاريخ برغم ما يكتنفه من الغموض والإبهام.

الوراثة عند المصريين:

ويرى كثيرون من علماء الدراسات المصرية القديمة أن أهم ظاهرة في القانون العام وفي القانون الخاص عند المصريين، هي حق المرأة في الميراث على قدم المساواة مع الرجل، ولذلك كان يحق لابنة الملك أن ترث العرش مثل أخيها، ولهذا السبب كان الفراعنة يتزوجون من أخواتهم محافظة على وحدة الملك. لكن بوشيه لكارك لا يرى هذا لسببين: وأحدهما أن الحالات التي حملت فيها التاج أو تولت الوصاية سيدة مصرية حالات قليلة ومتباعدة، وقد تكون من قبيل الاستثناء الذي يثبت القاعدة. والسبب الآخر أنه يمكن تفسير زواج الإخوة من أخواتهم تفسيرًا آخر، وهو الرغبة في الاحتفاظ بالدم الملكي نقيًا خالصًا.

ولا جدال في أنه وفقًا للقانون الخاص عند المصريين كان للمرأة الحق في الميراث على قدم المساواة مع الرجل، لكن يبدو أنه كان لوراثة العرش وضع خاص وأن المرأة كانت تلعب فيها دورًا هامًا، فقد كان يشترط في ولي العهد أن يسري في عروقه دم ملكي من ناحية الأم بوجه خاص، إذ كان المصريون يعتقدون أن الملكة المنحدرة من سلالة ملكية أقدر من الملك على نقل حق وراثة العرش. وبدو أن مرد ذلك إلى أنها لم تكن فقط قادرة على صيانة الدم الملكي نقيًا، بل كانت أيضًا تنقل من فرعون إلى آخر الصفة الإلهية التي كانت تعزى إلى الفراعنة منذ أقدم العصور، إذ كان المصريون يعتقدون أن هذه الصفة تنتقل عن طريق النساء لا عن طريق الرجال. ولذلك إذا تزوج ملك سيدة لم تكن من سلالة ملكة، فإنه لم يكن لأبنائه منها حق شرعي في العرش إلا إذا تزوج أحد هؤلاء الأبناء أميرة من سلالة ملكية. وخير مثل لذلك أن تحتمس الأول تزوج عددًا من السيدات لم تكن من بينهن سيدة من سلالة ملكية إلا أحمس وأنجب من زوجاته الأخريات أبناء ذكورًا كان أكبرهم قبل وفاته تحتمس الثاني على حين أنه لم ينجب ذكورًا من الملكة أحمس وإن أنجبت له حتشبسوت. وفي أواخر أيام تحتمس الأول زوج تحتمس الثاني إلى حتشبسوت حتى يضمن العرش لسلالته. وعندما مات أمنحتب الأول دون أن يترك من بعده ابنًا ليخلفه على العرش كانت ابنته أحمس هي صاحبة الحق في وراثة الملك فتزوجها أمير من أمراء البيت المالك يدعى تحتمس الأول ومن ثم أصبح له الحق في ولاية العرش.

ويمكننا أن نستخلص مما أسلفناه أنه كان لا يحق للبنت وراثة العرش إلا إذا مات أبوها دون أن يترك ذرية من الأولاد الذكور، أو مات عن ذرية لم تتوافر العناصر الأساسية للحق الشرعي في وراثة العرش لأحد من أفراد هذه الذرية إلا للبنت. غير أنه لما كان المصريون يكرهون أن يروا امرأة تتولى الملك، فإنه كان يتعين عليها أن تتزوج، وكان العرش لا يؤول إليها وإنما إلى زوجها، حتى ولو لم يكن من الأسرة المالكة، لكنه يبدو أنها في بعض الحالات كانت تعتبر شريكة لزوجها في الملك بدليل أنها كانت تحمل مثله لقب ملك الوجهين.

وإزاء كل هذه الاعتبارات يصعب إنكار حق المرأة في وراثة العرش وإن كان في اوقت نفسه يصعب التسليم بأنها كانت أحق بالعرش من أخوتها الذكور أو حتى بأنها كانت ترث العرش على قدم المساواة معهم، إذ أنه وفقًا للتقاليد المصرية وطبيعة المرأة ذاتها كان يتعذر عليها النهوض بأعباء الملك الرئيسية مثل عبادة الآلهة الكبرى وقيادة الجيوش وتصريف العدالة.

ووسط هذه الظروف كان من اليسير أن تنجم مشاكل خطيرة حول ارتقاء العرش. ويبدو أنه لتفادي ذلك درج الفراعنة منذ عهد الأسرة الثانية عشرة على إشراك ولي العهد في الملك مع أبيه وقد حدث ذلك أيضًا في حالات كثيرة في عصر الدولة الحديثة.

ويذهب بوشيه لكلرك إلى أنه كان لا يرتقي العرش إلا أكبر أبناء فرعون الذين ولدوا إبان تربعه على العرش، لكن الشواهد التاريخية لا تؤيد هذا الرأي. ويبدو أن نقاء الدم كان العنصر الأساسي للحق الشرعي، ولكي يصونه الفراعنة لخلفائهم دأبوا على اتخاذ إحدى أخوانهم الشقيات أو غير الشقيقات زوجة عظمى أو ملكة، وكان الابن البكر المولود من هذا الزواج يعتبر وارثًا منتظرًا يرتقي العرش عند موت والده. غير أن الدم الإلهي وحق الابن البكر وإن كان الشرطين الأساسيين فإنهما لم يكونا كافيين لارتقاء العرش، بل كان يتعين أن يهب إله الشمس "وظيفته" بطريق التنصيب المقدس وأن يجعل من ابنه خلفًا له. وفي هذا الاحتفال كان الإله يضع التاج المزدوج على رأس الملك، ويربط حورس وتحوت النباتين الرمزيين للوجهين القبلي والبحري تحت عرشه وتكتب الإلة سشات اسمه على ورق الشجرة المقدسة.

الوراثة عند الإغريق:

أما عند الإغريق، فإن المرأة كانت تعتبر دائمًا قاصرًا وتحرم الميراث لمصلحة أخواتها، وكانوا يقتسمونه فيما بينهم بالتساوي. وكانت المرأة لا ترث إلا إذا كانت الوحيدة (epikleros)، وفي هذه الحالة كان يتحتم عليها أن تتزوج من أقرب أقاربها لكي تحتفظ بالإرث في الأسرة. فما أقرب وجه الشبه بين الظروف التي كان يحق فيها للمرأة الإغريقية الحصول على الإرث العادي والظروف التي كان يحق فيها للمرأة المصرية وراثة العرش. وعند الإغريق، لمن كان يؤول الملك؟ لم توجد ملكية في بلاد الإغريق في العصور التاريخية إلا في إسبرطة، حيث كانت تحرم النساء ارتقاء العرش، ويتولى املك الابن الأكبر الذي ولد إبان تربيع أبيه على العرش. فهذا على الأقل هو المبدأ القانوني الذي عرضه دماراتوس (Demaratos) على دارا لكي يقنعه بأن يجعل إجزركسيس خليفته، إذ قال له: "في إسبرطة أيضًا، إذا كان يوجد أبناء ولدوا قبل ارتقاء أبيهم العرش ثم أنجب هذا الأب ابنًا عندما أصبح ملكًا، فإن هذا الابن هو الذي كان يخلف أباه".

وفي مقدونيا، كانت الملكية وراثية إلا في حالة النزاع على ارتقاء العرش، فإن الجيش هو الذي كان يفصل عندئذ بين المتنازعين. وكان التاج المقدوني يؤول عادة إلى أكبر الأبناء على الإطلاق.

قواعد الوراثة عند البطالمة:

فماذا فعل البطالمة؟ يرى بعض المؤرخين أنه لما كان البطالمة قد أخذوا عن الفراعنة حق الملوك الإلهي وعادة زواج الأخ من أخته، فإنهم لم يستحدثوا شيئًا في قانون الوراثة المصري. أما البعض الآخر فيرى أن البطالمة لم يرعوا إلا قانون الوراثة العادي عند الإغريق، فكان العرش ينتقل إلى أكبر الأبناء الذكور على الإطلاق، وكانت البنات لا يرثن العرش إلا عند عدم وجود وريث شرعي، وفي هذه الحالة كن يتزوجن من أقرب أقاربهن، وكان الأبناء غير الشرعيين يحرمون الإرث. وإذا اختلف هذان الرأيان في ظاهر الأمر فإنه يتضح مما أسلفناه أنهما متفقان في الجوهر. وعلى كل حال يجدر بنا أن نستعرض الحوادث قبل أن ندلي برأي في هذا الموضوع.

إن القانون الخاص عند الإغريق كان يقسم الإرث بالتساوي بين الأبناء الذكور، ولم يجعل لأحدهم أفضلية على أحد، غير أن العرش لا يمكن تقسيمه بل يجب أن يؤول إلى أحدهم. وقد أكمل قانون إسبرطة هذا النقص، فجع الملكية من نصيب الابن الأكبر الذي ولد إبان تربع أبيه على العرش. ولكن هذا كان يخالف ما جرى به العرف في مقدونيا، ومن البديهي أنه لم يكن في وسع البطالمة تجاهل ذلك. ولاسيما أن جيش البطالمة، وكان يعتز بأنه مقدوني، قد احتفظ بالتقليد المقدوني، وكان يعطيه حق المناداة بالملك الجديد. وإذا تصفحنا تاريخ البطالمة فإننا نلاحظ أولاً أنه، باستثناء حالة بطلميوس كراونوس (الصاعقة)، كان أكبر أبناء الملك هو الذي يخلف أباه على العرش. لكن هل سبب حرمان كراونوس يرجع إلى أنه ولد قبل ارتقاء أبيه العرش أم لأن أباه لم ير أنه صالح لتولي الملك؟ يبين من القرائن أن الاحتمال الثاني هو الأدنى إلى الحقيقة.

وفي سائر الممالك الأخرى كان أولياء العهد يتزوجون بمجرد بلوغهم سن الرشد، لكن ذلك كان مخالفًا لتقاليد البطالمة، فقد جرت العادة بألا يتزوج أولياء العهد في دولة البطالمة قبل ارتقائهم العرش، أو على الأقل قبل إشراكهم في الملك. ولذلك لم يتزوج بطلميوس الثاني والثالث والرابع قبل إشراكهم في الملك أو ارتقائهم العرش، ولما كان خلفاؤهم قد ارتقوا العرش في حداثتهم، فإنهم بطبيعة الحال لم يتزوجوا قبل أن يصبحوا ملوكًا. ولا يجوز القول بأن بطلميوس الأول لم يحترم هذا التقليد لأنه تزوج بل أنجب خليفته بطلميوس الثاني قبل أن يتخذ لقب ملك، وذلك لأن بطلميوس الوالي كان في الواقع ملكًا غير متوج في مصر ولم ينقصه سوى اللقب، بل لم يوجد ملك آخر سواه على عرش مصر. ولعل هذا المبدأ يفسر لنا لماذا اكتفى ميثريدانيس بأن يخطب ابنتيه للأميرين البطلميين الذين كانا عنده وأرجأ إتمام الزواج إلى أن يرتقي أحدهما العرش.

وكيف نفسر التزام البطالمة هذا التقليد؟ لعل خير تفسير لذلك هو رغبة البطالمة في الجمع بين التقليد المقدوني الذي يقضي بأن يتولى العرش أكبر الأبناء على الإطلاق، والتقليد الإسبرطي الذي يشترط أن يكون مولد ولي العهد بعد ارتقاء أبيه العرش.

ونلاحظ ثانيًا أنه لم يكن للمرأة حق وراثة العرش، إلا في الحالات التي تشابه ما نص عليها القانون الخاص الإغريقي. ولا أد على ذلك من أن كثيرات من أميرات البطالمة تزوجن ملوكًا من السلوقيين، ولم نسمع بأن إحداهن نقلت إلى زوجها حق اعتلاء عرش مصر، أو حق امتلاك جزء من ممتلكات مصر حتى عندما كانت الأميرة كبرى بنات الملك البطلمي، مثل كليوباترا ابنة بطلميوس السادس التي تزوجت على التتابع اسكندر بالاس وديمتريوس الثاني وأنطيوخوس السابع. وعندما توفي بطلميوس التاسع سوتر الثاني ولم يكن له وريث شرعي في مصر سوى ابنته برينيكي الثالثة، تقرر وفقًا للقانون الخاص الإغريقي أن تتزوج أقرب أقاربها وهو بطلميوس اسكندر الثاني. ولم تتول الملك كليوباترا السابعة ابنة بطلميوس الثاني عشر، إلا باعتبارها زوجة أولاً لأخيها بطلميوس الثالث عشر ثم لبطلميوس الرابع عشر. وعندما توفي أخواها، أشركت معها ابنها قيصرون الذي أعلنت أنها أنجبته من الإله آمون.

ونلاحظ أخيرًا أنه لم يكن للأبناء غير الشرعيين حق في وراثة العرش، فقد مر بنا في معرض الكلام عن السياسة الخارجية أن بطلميوس الثامن أوصى بقورينايئة لابنه غير الشرعي بطلميوس ابيون، لكنه لما كانت نقود قورينايئة منذ عام 116 حتى عام 107 تحمل اسم بطلميوس التاسع سوتر الثاني، فإن هذا يدل على أمرين، وأحدهما امتداد سلطان هذا الملك على قورينايئة، والأمر الآخر عدم احترام الوصية طالما لم يتوافر لدى أبيون القوة اللازمة ولا الفرصة المناسبة لتأييد حقه وفقًا لهذه الوصية. ولم يتسن لأبيون أن يقيم نفسه ملكًا على قورينايئة إلا عندما انفجر الصراع في أسرة البطالمة وطرد بطلميوس التاسع من مصر في عام 107. ولكي يضمن أبيون الفوز بتأييد روما، وتبعًا لذلك عدم تصدي ملك مصر الجديد له، اقتفى أثر أبيه في عام 155 وأوصى بمملكته لروما من بعده.

ويمكننا إذن أن نلخص القواعد الأساسية في قانون وراثة العرش عند البطالمة فيما يلي:

1- كان يرث العرش أكبر الأبناء الذكور على الإطلاق.
2- لم يكن للنساء حق وراثة العرش مادام يوجد وريث شرعي ذكر، أما إذا لم يوجد هذا الوريث الشرعي، فإنهن كن يرثن العرش بشرط أن يتزوجن أقرب أقاربهن.
3- لم يكن للأبناء غير الشرعيين حق ورثة العرش.
إن أثر القانون الخاص الإغريقي واضح في قانون وراثة العرش عند البطالمة، وكذلك أثر التقاليد المقدونية، ولا نرى في القانون البطلمي ما ينافي العرف الذي جرى عليه الفراعنة.


3- ارتقاء العرش والإشراك في الملك


لم يصل إلى علمنا شيء على الإطلاق عن مراسم ارتقاء الملوك العرش في إسبرطة أو مقدونيا أو الممالك الهلينيسية، فإن المؤرخين القدماء الذين أفاضوا في وصف جنائز ملوك إسبرطة لم يدر بخلدهم أن يصفوا لنا مراسم ارتقائهم العرش ومباشرتهم سلطة الحكم. غير أننا قد لا نعدو الحقيقة، إذا افترضنا أن تلك المراسم كانت عبارة عن تقديم الملك القرابين للآلهة القومية، وتعبير الشعب عن ولائه للملك.

أما فيما يتعلق بالبطالمة فيجب أن نفرق بينهم باعتبارهم فراعنة، وهو ما كانوا يتظاهرون به أمام المصريين، وبينهم باعتبارهم ملوكًا إغريقًا، وهو ما كانوا يظهرون به أمام الإغريق. وقد كان الملك يؤكد سلطانه وقدسيته أمام المصريين بأداء مهامه الكهنوتية، وبرسامته في معبد فتاح بمنف أمام ممثلي المعابد المختلفة. وتحدثنا المصادر القديمة عن حفلات في الإسكندرية تدعى أناكلتريا (Anakleteria) وبروتوكليسيا (Protoklesia)، كان لها من الأهمية بحيث كان يدعى إليها مبعوثون من الدول الأجنبية. وإذا كان لا سبيل إلى الشك في أن الأنا كلتريا كان حفل إعلان بلوغ الملك سن الرشد، فلسنا نعرف على وجه التحقيق ماذا كان حفل البروتوكلسيا. فإن كل ما نعرفه هو أن الكتاب الثاني من تاريخ المكابيين يحدثنا بأن أنطيوخوس الرابع أرسل إلى مصر بمناسبة بروتوكليسيا بطلميوس السادس مبعوثًا يدعى أبولونيوس. يجب أن نستبعد أولاً ما يقترحه بعض المحدثين من أن هذا الحفل كان حفل زواج بطلميوس السادس، إذ أن كلمة بروتوكليسيا لا تمت إلى الزواج بصلة عن قرب أو بعد. ولنر الآن هل كان هذا الحفل هو حفل ارتقائه العرش؟ أم هو حفل إعلان بلوغه سن الرشد؟ أم هو حفل رسامته فرعونًا، الذي لابد من أنه قد أعقب ذلك. جريًا على التقليد الذي وضعه بطلميوس الخامس؟ ولما كانت صبغة حفل رسامة الملك فرعونًا مصرية بحتًا وينتفي معها حصور ممثلين من الدول الإغريقية، فإننا نستبعد أن أبولونيوس قد مثل أنطيوخوس في حفل رسامة بطلميوس السادس فرعونًا. ولما كان بطلميوس السادس قد ارتقى قبل حفل البروتوكلسيا، وكان هناك وجه للشبه بين معنى أناكلتريا وبروتوكليسيا، فلابد من أن هذا الحفل كان حفل بلوغه سن الرشد أي أن البروتوكلسيا والأناكلتريا كانا مترادفين. لكن أحد المؤرخين يرى أنه لم يوجد في عهد البطالمة سوى حفل واحد لإثبات مباشرة الملك سلطته، وهو حفل رسامته فرعونًا. غير أننا لا نستطيع قبول هذا الرأي، لأن هذا الحفل كان مصريًا بحتًا، كما مر بنا، ولأنه كان للبطالمة صفتان كما ذكرنا، إحداهما باعتبارهم فراعنة والأخرى باعتبارهم ملوكًا إغريقًا. وإذا كانت رسامتهم فراعنة تثبت للمصريين توليهم سلطة الملك، فلابد من أنه كان يوجد حفل آخر ليثبتوا أمام الإغريق مباشرتهم السلطة الشرعية. وفضلاً عن ذلك فإن البطالمة الأوائل لم يرسموا فراعنة، فهل لم يحتفلوا إذن بمباشرتهم سلطتهم؟ يدو جليًا مما أوردناه عند الكلام عن البطالمة واتخاذ صفة الفراعنة أن حفل رسامتهم فراعنة كان يأتي دائمًا عقب ارتقائهم العرش، أي بعد الاحتفال في الإسكندرية بتوليهم سلطتهم الملكية أمام الإغريق. ولعل هذا الحفل الإسكندري كان عبارة عن تقدم الملك إلى "جمعية الجيش" لتبايعه بالملك وفقًا للعرف المتبع في مقدونيا. فقد ورد في المصادر القديمة ذكر هذه الجمعية المقدونية التي وجدت في بعض الممالك الهلينيسية وخاصة في مصر. وقد كانت هذه الجمعية في الأصل مصدر السلطات بوصفها الشعب المقدوني منتظمًا في صفوف فرقه الحربية. ولعله حين فقدت هذه الجمعية أهميتها أصبح الملك يتقدم إلى ضباط القصر وجنوده ليبايعوه بالملك.

ولننتقل الآن إلى دراسة نقطة أخرى، وهي إشراك وارث العرش مع أبيه في الملك. وقد لوحظ أنه في الأسر الناشئة التي لم يوطد مرور الزمن دعائمها، وفي البلاد التي يسمح فيها بتعدد الزوجات، وفي الممالك التي يؤول الملك فيها لأكبر الأبناء الذين يولدون بعد تربع أبيهم على العرش، يكتنف انتقال الملك من فرد إلى آخر بسبب الوفاة منافسات خطيرة. والوسيلة المثلى لاتقاء هذا الخطر، هي أن يجعل الملك خليفته في مركز يسمح له بالتغلب على أي منافس له بإشراكه معه في السلطان، وهكذا يضمن له منذ ذلك الوقت طاعة رعاياه واحترامهم. ولم يجهل الفراعنة هذه الوسيلة، فقد سلف القول أنه في عهد الدولتين الوسطى والحديثة كان ولي العهد يشرك مع أبيه في الملك. وإذا كانت الأمثلة المعروفة من عهد الفراعنة لا تسمح لنا بالجزم بأن كل الفراعنة درجوا على هذه العادة، فإنها تكفي لترينا أن هذه الوسيلة استخدمت في أحيان كثيرة، ولاسيما أنها وجدت ما يبررها فيما فعله الآلهة قديمًا، فإن والد أوزيريس هو الذي توجه وعلمه فنون الملك.

ولقد كان لإشراك ولي العهد مع أبيه في الحكم ميزة أخرى، إلى جانب ضمان فوز ولي العهد بالملك، فإن مهمة الملك دقيقة، وتتطلب مرانا طويلاً عليها قبل الانفراد بالاضطلاع بأعبائها. ولذلك حرص البطالمة الأوائل على إعطاء أبنائهم ثقافة إغريقية ممتازة تكسبهم إعجاب العالم الإغريقي، كما حرصوا أيضًا على أن يكسبوا ورثتهم المعرفة التي حصلوا عليها من تجاربهم العملية. وكان ذلك لا يحدث بالتعليم النظري، وإنما بالمران العملي على إدارة دفة الملك بإشراك ولي العهد مع أبيه. ولم يقصد بالرسائل الكثيرة التي كتبت عندئذ حول الملكية، إلا تلقين الملوك وأبنائهم فلسفة الملكية والأساس المعنوي الذي كانت تقوم عليه. فإن هذه الرسائل كانت من وضع الفلاسفة، والفلاسفة بطبيعتهم لا يعنون بالحياة العملية، على حين أنه كان يتعين على الملوك وورثتهم أن يكونوا عمليين وألا يعتمدوا على النظريات وحدها. ومما يجدر بالملاحظة أن ضمان الملك للوارث الذي اختاره الملك الحاكم ليخلفه بإشراكه معه في الملك لم يؤد إلى وضع هذا الوارث على قدم المساواة مع أبيه، ولا إلى استعمال نظامين للتأريخ، أحدهما للأب والآخر للابن في أثناء اشتراكهما في الملك.

وسواء لدينا أكان بطلميوس الأول قد اقتبس هذه الوسيلة من تقاليد مصر القديمة أم أملاها عليه بعد نظره وفطنته، فإنه أشرك معه في الملك ابنه الصغير بطلميوس الثاني. ولكي لا يدع أية فرصة لابنه الأكبر كراونوس، فإنه أعطى كل سلطته لابنه الصغير إلى حد أن المؤرخين اعتبروا ذلك نزولاً عن العرش. وترينا الوثائق أن بطلميوس الثاني أشرك "ابنه" معه في الملك منذ العام التاسع عشر من حكمه (عام 267/266)، لكن اسم هذا الشريك قد اختفى من الوثائق بعد العام السابع والعشرين من حكم بطلميوس الثاني (259-258). وقد سبق أن ناشنا هذا الموضوع ورجحنا أن هذا "الابن" الذي أشركه بطلميوس الثاني معه في خلال تلك المدة كان ابن أرسينوي الثانية من ليسيماخوس. وقد سبق أن ذكرنا كذلك أن بطلميوس الثاني أشرك معه في أواخر حياته ابنه من أرسينوي الأولى، منذ نوفمبر سنة 247 حتى يناير سنة 246.

ولا نستطيع الجزم بأن بطلميوس الثالث أشرك معه في الملك خليفته بطلميوس الرابع، إلا أنه من المحتمل أن يكون قد اتخذ هذه الحيطة. ولما كانت لدينا من عهد بطلميوس الرابع وثيقة ديموتيقية مؤرخة بالعام الخامس عشر (208) من عهد الملك و"ابنه بطلميوس"، فإن هذا يدل على أن بطلميوس الرابع أيضًا لجأ إلى إشراك ابنه الصغير معه ليضمن له الملك على هذا النحو.

وقد أشرك بطلميوس السادس فيلومتور معه في الملك أولاً ابنه يوباتور منذ عام 153/152 إلى أن توفي في عام 150، وبعد ذلك ابنه نيوس فيلوباتور. كما أن بطلميوس الثاني عشر بعد أن استرد عرشه في عام 55 أشرك معه ابنيه اللذين خلفاه على العرش، كليوباترا السابعة وبطلميوس الثالث عشر. وكذلك أشركت كليوباترا السابعة معها في الملك ابنها قيصرون.

ويتسم عهد بطلميوس السادس فيلومتور بأربع ظواهر: الأولى، تولى أم الملك الوصاية عليه والاعتراف بها شركة له. والثانية، إدماج اسم زوجة الملك مشفوعًا بلقب ملكة في ديباجة الوثائق الرسمية. والثالث، اشتراك أكثر من ملك واحد في الحكم على قدم المساواة. والرابعة، تقسيم الدولة قسمين مستقلين أحدهما عن الآخر. وإذا كانت هذه الظواهر جميعًا وليدة مقتضيات الظروف وخارجة عن نطاق العرف والقانون، وكانت الظواهر الأولى والثالثة والرابعة قد زالت بزوال تلك الظروف، فإن الظاهرة الثانية لم تزل بل أصبحت تقليدًا ثابتًا منذ ذلك الوقت.

إن وصاية كليوباترا الأولى على ابنها الصغير بطلميوس السادس فيلومتور كانت أمرًا من اليسير تبريره في نظر الإغريق والمصريين على السواء لعدم وجود وصي ذكر من الأسرة وبما أنها هي التي كانت تمارس السلطة فعلاً فإنه لم يكن هناك مفر من الاعتراف بها شريكة للملك. ولا أدل على أن ذلك كان ظرفًا خاصًا اقتضته ظروف لم تدبرها كليوباترا الأولى من أن هذه الملكة لم تلق عناء في الاعتراف بوضعها، على حين أن كليوباترا الثانية لم تستطع أن تحكم بمفردها، بعد طرد بطلميوس الثامن وكليوباترا الثالثة إلا بالاعتماد على القوة، وقد أخفقت في هذه المحاولة الثورية. وقد كانت محاولة كليوباترا الثالثة الاحتفاظ بسلطانها وإخضاع ابنيها لسلطانها مخالفة للقانون. أما ما حدث في عهد بطلميوس الثاني عشر أوليتس وبعده، فقد وقع في فترة فوضى لم يسد فيها أي قانون سوى رغبة روما. وقد كانت كليوباترا السابعة هي الملكة الوحيدة التي مارست السلطة باسمها، وإن لم تحكم بمفردها، وغني عن البيان المصدر الذي كانت تستمد منه سلطانها.

ولا يوجد في كل هذه الحالات دليل على وجود قانون لوراثة العرش يسوي بين المرأة والرجل، ولا على إشراك المرأة في الملك إشراكًا شرعيًا يمنحها كل حقوق زوجها، أو يجعلها في مركز يسمح لها بمنافسة ابنها. لكن أحد المؤرخين يرى أنه وجد قانون جديد منذ عهد كليوباترا الثانية، إذ يرى هذا المؤرخ أن لقب ملكة، وذكر الملكات في قائمة البطالمة المؤلهين، وتصويرهن على النقود مع شارات الملك، تنهض دليلاً على إشراكهن في الملك فعلاً. أما دليل هذا الإشراك في رأيه، فهو إدماج الاسم مشفوعًا بلقب ملكة في ديباجة الوثائق الرسمية، ووضع سني حكم خاصة بهن على النقود. وقد وجد كل ذلك في حالة كليوباترا الثانية، على نحو ما رأينا آنفًا عند الكلام على تأليه البطالمة في نظر الإغريق. لكنه يمكن الرد على ذلك بأن إدماج اسم الملكات في الديباجة الرسمية لا يدل إلا على ازدياد نفوذهن، وبأن كليوباترا الثانية لم تستعمل سني حكم خاصة بها إلا عندما اغتصبت الملك في أثناء الحرب الأهلية مع أخيها وزوجها بطلميوس الثامن. ولم يؤد هذا الاغتصاب إلى إشراكها في الملك، بل إلى إحلالها مكان بطلميوس الثامن، وقد انتهى ذلك بعودة بطلميوس الثامن إلى العرش.

وإزاء حداثة سن بطلميوس السادس لم ينطو اشتراك كليوباترا الأولى معه في الملك على اقتسام السلطة فعلاً بينهما، فإنه وإن كانت الوثائق تؤرخ باسميهما إلا أن كليوباترا بوصفها الوصية على الملك، هي التي كانت تمارس السلطة الفعلية. أما أول مثل فعلى لإشراك أكثر من ملك واحد على قدم المساواة فإنه يرجع إلى عام 170 قبل الميلاد، عندما تقرر إشراك بطلميوس الصغير مع أخيه الأكبر بطلميوس السادس فيلومتر وأختهما كليوباترا الثانية، وبذلك أصبح يحكم مصر الثلاثة الملوك فيلومتورس، أي ملكان وملكة ويختلف هذا الاشتراك في الحكم عن إشراك ولي العهد مع أبيه كما كان يحدث في الماضي بشيئين: أحدهما المساواة في السلطان شكلاً بين الملوك الثلاثة وفعلاً بين الملكين، والآخر استخدام نظام جديد للتأريخ في خلال فترة الاشتراك. أما بعد انتهاء هذه الفترة فإن كلاً من بطلميوس السادس وأخيه بطلميوس الصغير كان يعتبر بداية لحكمه منذ ارتقاء كل منهما العرش.

لكن نظام الإشراك في الملك على قدم المساواة لم يكن وطيد الدعائم، وسرعان ما خلفه نظام تقسيم الملكة بإيعاز من روما، فأصبح بطلميوس الأكبر يحكم مصر وقبرص، وبطلميوس الصغير يحكم قورينايئة. وفي عهد بطلميوس الثامن أصبح يحكم مصر ثانية ثالوث ملكي، لكن هذا الثالوث كان يتألف هذه المرة من ملك وملكتين، وهم بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني وكليوباترا الثانية وكليوباترا الثالثة، ولكن لا شك في أنه لم توجد إذ ذاك مساواة حقيقية بين هؤلاء الملوك. وفي عهد بطلميوس التاسع والعاشر لم يوجد إشراك في الملك، بل منافسات أدت إلى تقسيم المملكة من جديد، وكانت قبرص نصيب المنافس لملك مصر. ومن الخطأ تفسير هذه الظاهرة بأنها كانت تطبيقًا للقانون الإغريقي، الذي يقسم الإرث بالتساوي بين الورثة، إذ أن ما حدث كان وليد منازعات وظروف غير طبيعية. ومن الخطأ كذلك أن يفسر إشراك الملكات في الحكم بأنه كان تطبيقًا للقانون المصري الذي يجعل المرأة مساوية للرجل في الحقوق، لأنه لم توجد مساواة حقيقية بين الرجال والنساء في وراثة العرش في دولة البطالمة.

ويمكننا أن نجمل ما أوردناه آنفًا في أن قانون الوراثة الطبيعي عند البطالمة كان يقضي. بأن يرتقي العرش أكبر الأبناء الذكور على الإطلاق. أما الاشتراك في الحكم أو تقسيم الملك، فإنه كان ينافي قانون وراثة العرش الذي لم يحترم في بعض الأحيان، وكان أول من خالفه بطلميوس الأول عندما حرم ابنه بطلميوس كراونوس وراثة العرش.


4- سلطة الملـك


كان الملك صاحب مصر وسيد رعيته المطلق الذي تتركز في يديه كل السلطات، فقد كان في الوقت نفسه الرئيس الديني، بل إله جميع رعيته، وكبير القضاة، والقائد الأعلى للجيش والأسطول ورأس الأداة الحكومية. وبما أنه كان إلهًا فإن سلطته كانت لا تحد، وكانت لأوامره سلطة القانون، بل كان السلطة الوحيدة التي تستطيع إصدار قوانين يخضع لها جميع سكان البلاد. وكان مصدر تلك الدساتير (Politeiai) وقوانين المواطنين (Politikoi Ilnomoi)، التي أباحت لذلك العدد القليل من المدن الإغريقية في مصر وللجاليات الأجنبية التي تكونت خارج تلك المدن أن تنعم بقسط من الاستقلال الذاتي. وكان أيضًا القاضي الأعلى الذي يفزع إليه رعاياه كلما حاق بهم ظلم. وفي بعض الأحيان كان يفصل شخصيًا في أمور تافهة، مثل تجنيد شاب مقدوني في حامية بلد غير البلد الذي سجل فيه، أو دفع ما تأخر من مرتبات صغار الكهنة. وكثيرًا ما كان يسمح لرعاياه بمقابلته لإنهاء أعمالهم سواء في الإسكندرية أم في خلال رحلاته العديدة في أنحاء البلاد. ولذلك كان يوجد على مقربة من الملك سكرتارية خاصة تضم عددًا كبيرًا من الموظفين، لتسجيل أوامره وقراراته والقيام بشئون مراسلاته السياسية والإدارية. ويمكننا أن نستنتج كثرة عدد موظفي سكرتارية الملك من عدد السكرتيرين الذين كانوا يصحبون أبولونيوس – وزير مالية بطلميوس الثاني – في رحلاته، لأن حاشية وزير المالية كانت صورة مصغرة لحاشية الملك. وتحدثنا وثائق زينون، وكيل أشغال أبولونيوس، بأن رجال السكرتارية كانوا يعمون آناء الليل وأطراف النهار. وقد كان المسئول عن كل مراسلات الملك سكرتير خاص يدعى إبيستولوجرافوس (Epistolographos). أما الأوامر وفيما يظن أيضًا التوقيعات على الشكاوى المرفوعة إلى الملك فكانت من اختصاص سكرتير آخر يدعى هيبومنيماتوجرافوس (Hypomnematographos). أما لتنفيذ سلطة الملك والاضطلاع بما تتطلبه إدارة البلاد، فكانت توجد أداة منظمة تنظيمًا دقيقًا سنعود إلى الكلام عنها فيما بعد.

ويجدر بنا الآن أن نأتي على تعريف تلك المصطلحات (epistole, programma, diorthoma, diagramma, nomos, prostagma, entole) التي كانت شائعة في لغة الإدارة البطلمية لوصف ما يصدر عن سكرتارية الملك من رسائل.

أما الاصطلاح الأول (epistole) فأمره يسير إذ أنه كان يعبر عن أية رسالة إدارية توجه إلى أي موظف، على حين أن الاصطلاح الثاني (entole) كان يعبر عن أي منشور إداري يوجه إلى عدد من الموظفين.

أما الاصطلاح الثالث (prostagma) فكان يطلق على كل أمر يصدره صاحب سلطة، كأمر من الملك إلى مساعديه ورعاياه، أو أمر من موظف إلى مرءوسيه، أو أمر من أحد الآلهة إلى أحد أتباعه. وكانت الأوامر الملكية تستخدم أيضًا لإشهار الأحكام التي يصدرها الملك بوصفه القاضي الأعلى ولا يمكن الاستئناف منها. لكن الأوامر الملكية كانت قبل كل شيء أداة من أدوات سلطة البطالمة التشريعية، وبواسطة هذه الأداة كان البطالمة يشرعون لمصر وولاياتها وللمصريين والإغريق في كل ناحية من نواحي القانون العام والقانون الخاص.

وكانت الأوامر الملكية نوعين: أحدهما عبارة عن أمر يتضمنه خطاب، والآخر أمر يذاع في الناس ويستهل بعبارة تفيد صدوره عن الملك. ويتبين من الوثائق أن الأوامر الملكية التي من النوع الأول قد تتناول أمورًا عامة أو خاصة، على حين أن الأوامر الملكية التي من النوع الثاني لا تتناول إلا مسائل عامة فقط.

ويرى بيكرمان أنه يصعب التمييز من حيث الشكل بين ماهية الوثائق التي يطلق على بعضها nomoi (ومفردها nomos) وعى بعضها الآخر diagrammata (ومفردها diagramma) وذلك لأن كلا من النوعين كان يتألف من عدد من البنود تتعلق بموضوع واحد، وكلاً منهما كان ينشر في مقر الملك الذي يصدره ويبلغ للموظفين المختصين.

ويرى ولز أنه يوجد وجه شبه بين طبيعة هذين النوعين، وأن اصطلاح دياجراما قد أدخل في لغة الإدارة الهلينيسية للتفرقة بين القوانين الجديدة التي وضعها الاسكندر وخلفاؤه وبين قوانين المدن الإغريقية.

وترى الآنسة لانجيه أن عدد هذين النوعين من الوثائق محدود بحيث يصعب معه تعريف فحوى كل نوع، ومع ذلك فإنها تستخلص من دراسة هذه الوثائق أن كلمة nomos كانت تطلق عند البطالمة على نوع بعينه من القوانين هو قوانين الدخل. ولكنه فات هذه الباحثة أن قوانين المواطنين (poltikoi nomoi) كانت تنظم كل نواحي حياة مواطني المدن الإغريقية وأعضاء الجاليات القومية، ويدل اسمها ذاته على أن نطاقها لم يقتصر على الناحية المالية.

وترى هذه الباحثة أن الدياجراماتا كانت تشريعات لا تقتصر على الشئون المالية بل تمتد إلى نواح أخرى، وأن هذه التشريعات كانت على ما يلوح تتخذ في كل حالة شكل مجموعة نظم خاصة بموضوع معين. وتشارك هذه الباحثة رأي ولز في أن الدياجراماتا بوصفها "قوانين عامة" كانت تحل بالتدريج محل القوانين القائمة التي كان نطاقها محدودًا. ويرى بيكرمان أن أكثر الدياجراماتا في مصر البطلمية كانت عبارة عن الخطط السنوية للاقتصاد الموجه، وأن بعض الدياجراماتا ذات طابع قانوني، وتستكمل بعض نواحي الإجراءات القضائية والقانون الخاص. ويبدو لنا أننا قد لا نعدو الحقيقة إذا اعتبرنا الدياجراماتا لوائح لتنفيذ القوانين القائمة والتنسيق بينها واستكمال ما فيها من ثغرات.

والرأي السائد هو أن الديورثوماتا (diorthomata) كانت قرارات لتنقيح وتعديل القوانين واللوائح القائمة. والأمثلة التي وصلت إلينا خاصة بالشئون المالية، فقد كانت قوانينها كثيرة التعديل لتطابق احتياجات الملك المالية وظروف الحياة الاقتصادية. ويبدو أن هذه القرارات كانت غير معروفة خارج نطاق الشئون المالية.

وكان لاصطلاح بروجراما (Programma) معنيان، وأحدهما هو الدعوة للمثول أمام القضاء، والآخر هو إعلان يتضمن أمرًا إداريًا. ومثل ذلك أنه عندما قدم بتيسيس (Peteesis) كبير المحنطين في مديرية منف التماسًا إلى الملك بطلميوس اسكندر الأول يطلب عدم الاعتداء على بيته، بعث الملك إلى كل موظفي الإدارة في مديرية منف منشورًا (entole) لتنفيذ هذا الالتماس وكلف المشرف على معبد أنوبيس بإعداد وتعليق إعلان (Programma) بالإغريقية والديموتيقية على بيت صاحب الالتماس يحظر فيه الاعتداء على ذلك البيت بناء على أمر الملك.

5- حاشية الملـك


قد احتفظ البطالمة وكذلك ملوك الدول الهلينيسية الأخرى بتقليد كان معروفًا في مقدونيا وفي مصر القديمة وفي بلاد الفرس، وهو تربية عدد من أبناء كبار الموظفين والأسر العريقة مع أبناء الأسرة الملكية. ويظن أنهم كانوا بمثابة رهائن لضمان ولاء أسرهم للعرش، على أنه كان يختار منهم كبار الموظفين. ولكن يجب ألا يفهم من ذلك أن كبرى المناصب المدنية والعسكرية كانت وقفًا عليهم، فقد أفسح الملوك الفرصة أمام أصحاب المواهب مهما كانت نشأتهم. وكان يطلق على هؤلاء الأولاد الذين يربون مع أبناء الأسرة المالكة اسم فتيان القصر (Paides Basilikoi)، وعندما يرتقي العرش الأمير الذي ربوا معه، كان يطلق عليهم أقران الملك (Syntrophoi Basileos). ويبدو أنه كان لبعض هؤلاء الأولاد صبغة عسكرية ويطلق عليهم اسم ملاكس (Mellakes). ومن المحتمل أن عددًا من البنات كان يربى كذلك مع أميرات الأسرة المالكة.

وقد كان أغلب مساعدي الملك الرئيسيين في إدارة مملكته من بطانته، الذين كونوا على مضي الزمن بلاطًا ينقسم طبقات تميز كل منها بألقاب فخرية. فقد كانت توجد طبقة أقرباء الملك (Syngeneis) ونظرائهم (Homotimoi)، وطبقة الأصدقاء الأول (Protoi Philoi) ونظرائهم (Isotimoi)، وطبقة كبار رجال الحرس الخاص (Archisomatophylakes)، وطبقة الأصدقاء (Philoi)، وطبقة الخلفاء (Diadochoi). وكانت حاشية الملك تضم إلى جانب ذلك عددًا كبيرًا من موظفي القصر بأدق معاني الكلمة، مثل الأمين (Eisangeleus) وكبير الصيادين (Archikynegos) والياور (Epi tais heniais) وكبير المشرفين على طعام الملك (Archedeatros) وكبير الساقين (Archioinochoos) وكبير الأطباء (Achiatros) والأطباء العاديين (Iatroi) ومعلم الملك (Topheus) ومربيه (Tithenos) وخدم مخدعه (Kateunastai) وعدد كبير من الخدم والحشم (Archiyperetai, Heperetai).
وقد كانت الألقاب الفخرية معروفة في بلاط مصر القديمة وبلاد الفرس ومقدونيا والممالك الهلينيسية. ففي مصر القديمة كان يوجد على عهد الفراعنة الوطنيين عدة ألقاب فخرية لعل أهم ما يعنينا منها هنا لقب "قريب الملك" (nsut-rekh) ولقب "الصديق الأوحد" (smer-wa). وكان لقب "قريب الملك" موجودًا كذلك في البلاط الفارسي، ويبدو أنه كان مقصورًا في الأصل على أفراد السبع الأسر التي كانت تعتبر أعرق الأسر الأرستقراطية هناك. لكن إذا صح ما يرويه ديودوروس من أن جيش دارا الثالث في موقعة جاو جميلا كان يضم ألف فارس ممتاز من "أقرباء الملك" فإن معنى ذلك أن هذا اللقب يمنح كذلك لفريق ممتاز من الفرسان. ويحدثنا جزنفون بأن لقب النظراء (homotimoi) ترجمة إغريقية للقب فارسي كانت تحمله فئة ممتازة من المشاة كاملي العدة في الجيش الفارسي.

وفي الدول الإغريقية، سواء في العصر الكلاسيكي أم الهلينيسي، كان كثيرًا ما يوصف المقربون إلى الملك أو الطاغية بأنهم أصدقاؤه. وفي مقدونيا، نعرف أنه على الأقل منذ عهد أرخلاوس (413-399) كان بعض النبلاء يختارون لصحبة الملك ويدعون "رفاق الملك" (hetairoi). ويروي ديودوروس أنه في أثناء الاحتفال بزواج كليوباترا ابنة فيليب الثاني (عام 336) تقدم الملك في دخول المسرح بمدينة إيجي (Aegae) جماعة "من أصدقائه"، وأنه قبل أن يبدأ الاسكندر غزو آسيا عقد مجلسًا من كبار ضباطه وأبرز "أصدقائه" وكان من بينهم بارمنيو وانتيباتروس، وأنه عندما شفي الاسكندر على يدي فيليب الأكرناني رفعه إلى مصاب "أقرب الأصدقاء إليه"، مما يوحي بأنه كانت توجد طبقات فخرية متباينة في البلاط المقدوني. ويستوقف النظر أن أريانوس يطلق وصفي "أصدقاء" (Philoi) و"رفاق" (Hetairei) على ذات الأشخاص في الفقرة نفسها. وإذا كان يبين أن أصفياء الملك كانوا يوصفون تارة بأنهم أصدقاؤه وتارة بأنهم رفاقه، فإنه من المحتمل أنه منذ عهد خلفاء الاسكندر أصبحت كلمة "أصدقاء" تستخدم بدلاً من كلمة "رفاق" في وصف أصفياء الملك.

وعندما تربع الاسكندر على عرش بلاد الفرس واعتنق التقاليد الشرقية، خلع على رجال البلاط من الوطنيين الألقاب الفخرية التي اعتادوا عليها وخاصة لقب "أقرباء الملك". وعندما ضاق المقدونيون ذرعًا باستشراق سيدهم وثاروا عليه في أوبيس (Opis) في عام 324 عبر له كالينس (callines) عن شعورهم بقوله: "إنه لما يؤلم المقدونيين يا مولاي أنكم اتخذتم لكم أقرباء من الفرس فأصبحوا يدعون أنفسهم أقرباء الاسكندر، وسمحتم لهم بتقبيلكم، على حين أنه لم يحظ بهذا الشرف أحد من المقدونيين". فأجابه الاسكندر: "لكنني أعتبركم جميعًا أقربائي وسأدعوكم على هذا النحو منذ الآن". وعندئذ تقدم منه كالينس وقبله وتبعه في ذلك كل من أراد، فقد كان حق تقبيل الملك مقصورًا على "الأقرباء". ويبدو أن الاسكندر أغدق أول الأمر لقب "أقرباء الملك" على الفرس من رفاقه الفرسان ثم توسع بعد ذلك فخلعه على كل المقدونيين من هؤلاء الرفاق. ومن ناحية أخرى قصر الاسكندر لقب "الحرس الخاص" على كبار ضباطه من المقدونيين، وتقرر منذ ذلك الوقت ألا يزيد عدد من يحملون هذا اللقب الفخري على سبعة أشخاص، إلا أن هذا اللقب لم يفصل بعد عن المنصب الذي كان ينم عليه، بمعنى أنه كان لا يمنح عندئذ لأشخاص يتولون مناصب تبعدهم عن شخص الملك. ونستخلص مما مر بنا أنه بعد القضاء على الإمبراطورية الفارسية أصبح لدى البلاط المقدوني على الأقل ثلاثة ألقاب فخرية وهي: "الأقرباء" و"الحرس الخاص" و"الرفاق".

ويتردد ذكر "أصدقاء" الملك أنطيوخوس الأول في نقش من حوالي عام 287ق.م. وجاء ذكر "الأصدقاء" كذلك في القرار الذي أصدره سلوقس الثاني عقب ارتقائه العرش (264ق.م). وقبل اندلاع لهيب الحرب بين روما وأنطيوخوس الثالث كان يمثل الملك في المفاوضات مع السفراء الرومان شخص يدعى مينيو (Minio) وصفه ليفيوس بأنه "كبير الأصدقاء". ويتضح المقصود بهذه العبارة من الخطوة التالية التي اتخذها الملك وهي دعوة مجلسه للانعقاد، فقد كان أحد أعضاء هذا المجلس اسكندر الأكارناني الذي يصفه ليفيوس بأنه كان فيما مضى "صديق" فيليب الخامس ثم هجره إلى الملك السلوقي. ولما كان اسكندر ملمًا بشئون بلاد الإغريق والرومان، فإنه رفع إلى تلك المرتبة من أصدقاء الملك التي تبيح ه المشاركة في مجالسه الخاصة. ويستخلص من ذلك أن مرتبة "الأصدقاء الأول" كانت تعني عندئذ مستشاري الملك السلوقي وأن منيو كان أحدهم. ويستدل من المصادر اليهودية على وجود الألقاب "أقرباء الملك"، و"الأصدقاء الأول" و"الأصدقاء" في البلاط السلوقي.

ولنر الآن ما كان من أمر البطالمة. إن بلوتارك يحدثنا بأن بطلميوس الأول كان يزور "أصدقاءه" ويتناول الطعام وينام في بيوتهم، وبأنه كان يقترض منهم أدوات الطعام عندما يدعوهم لديه، لأنه كان لا يملك أكثر مما يلزم له، إذ كان يرى أنه أحرى بالملك أن يعمل على إثراء الآخرين عن أن يثري هو نفسه. ويدعو ديودوروس القائدين كيلس (Killes) ونيكانور "صديقي" بطلميوس الأو. ويطلق استرابون على المهندس المعماري سوستراتوس لقب "صديق الملكين" أي صديق بطلميوس الأول والثاني. ويظن بعض المؤرخين أن "الصديق" أنتيجونوس الذي أحضر إلى فيلادلفوس جنودًا مرتزقة من الغال و"الصديق" أنطيوخوس الذي عهد إليه بطلميوس الثالث بكيليكيا لم يكونا أنتيجونوس جوناتاس وأنطيوخوس هيراكس بل رجلين من بلاط الإسكندرية.

وتحدثنا إحدى برديات زينون بأن زويلوس اتصل "بأصدقاء" الملك قبل أن يكتب في 257ق.م إلى أبولونيوس وزير مالية بطلميوس الثاني طالبًا التصريح له ببناء معبد لسيرابيس في مدينة لم يحددها. ويحتمل أن بردية أخرى من عام 256/255 تمدنا بدليل على وجود طبقة "الأصدقاء الأول". ونجد في نقش من عهد بطلميوس الثاني أن بلوبس بن اسكندر حاكم ساموس قد وصف بأنه "صديق الملك بطلميوس".

وإذا صح أن النقش الذي ذكر فيه ليونيداس بن فيلوتاس يرجع إلى عام 255ق.م. فإنه يمدنا بمثل طريف لأب وابنه كانا في عداد "الأصدقاء الأول" في عهد بطلميوس الثاني. وفي المراسلات التي تبودلت بين بطلميوس الثاني والعازار كبير كهنة أورشليم وصف مبعوثو الملك إلى العازار بأنهم "أجل الأصدقاء" ووصف أحدهم، وكان يدعى اندرياس، بأنه "كبير رجال الحرس الخاص" (archisomatophylax).

وتحدثنا أربع برديات من عهد بطلميوس الثالث إحداها من عام 230/229 والثانية من عام 227/226 والثالثة والرابعة من عام 225 بأن خريسيبوس (Chrysippos) وزير مالية بطلميوس الثالث كان يحمل لقب "كبير رجال الحرس الخاص".

وقد كان أبولونيوس بن ثيون وزير مالية بطلميوس الخامس ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء" على حين أن بوليكراتس حاكم قبرص في عهد هذا الملك كان ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء الأول".

ومن الثابت أن هيبالوس الذي يرجح ترجيحًا قويًا أنه أقيم حاكمًا عسكريًا عامًا على كل أقاليم مصر عدا الإسكندرية منذ إبريل عام 185 حتى ديسمبر عام 169، كان ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء الأول". وكان ينتمي إلى هذه الطبقة أيضًا كومانوس (حاكم مديرية أرسينوي ثم أحد مستشاري بطلميوس الصغير عندما أقامه الاسكندريون مكان أخيه في عام 170 عقب غزوة أنطيوخوس الرابع ووقوع بطلميوس السادس في قبضته) وكراتروس (حاكم منف في عام 176/175 أو 165/164) وديونيسوس (حاكم ليونتوبوليس بين 169 و164). وترينا هذه الأمثلة أنه في أوقات متقاربة كان ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء الأول" أشخاص تتفاوت أهمية مناصبهم تفاوتًا كبيرًا.

وقبل الاستطراد في الكلام عن الطبقات الفخرية البطلمية يجدر بنا أن نشير هنا إلى ما سنلاحظه عند الكلام عن نظام الإدارة المحلية من أنه كان يوجد في منطقة طيبة ثلاث فئات من الحكام وهي: أولاً، الحاكم العام وكان نفوذه يمتد على المنطقة بأجمعها. وثانياً، فئة الحكام الذين كان نفوذ كل منهم يمتد على عدد من المديريات. وثالثاً، فئة الحكام الذين كانت منطقة نفوذ كل واحد منهم مديرية واحدة فقط.

ومما يجدر بالملاحظة أنه طوال النصف الأول من القرن الثاني كان كل من نعرفهم من الفئة الأولى من حكام منطقة طيبة مثل نومنس (171/169) وهيرونيموس (169/163) وبويثوس (163/145) كانوا ينتمون إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص"، شأنهم في ذلك شأن أكثر من نعرفهم من حكام المديريات خارج منطقة طيبة مثل بطلميوس (حاكم أرسينوي حوالي 175/170) وسوتيون (حاكم بوباسطس 163/145) وأريوس (حاكم فاربايثوس 163/145) وبطلميوس (حاكم هيراكليوبوليس 156/155)، على حين كان كومانوس (حاكم أرسينوي) وكراتروس (حاكم منف) وديونيسيوس (حاكم ليونتوبوليس) ينتمون، كما مر بنا، إلى طبقة "الأصدقاء الأول". وإذا كنا نعرف أن خلفاء كراتروس حتى عام 158 مثل ديودوتوس وديونيسيوس وبوسيدونيوس ينتمون إلى طبقة "الأصدقاء"، فإننا مع الأسف لا نعرف شيئًا عن خلفاء ديونيسيوس حاكم ليونتوبوليس. ولا جدال في أن منطق طيبة بأسرها باعتبارها وحدة إدارية كانت أكثر أهمية من أية مديرية واحدة، ومع ذلك فقد رأينا كيف أن حاكم عام منطقة طيبة كان يحمل لقبًا مساويًا للقب حكام المديريات في أكثر الحالات وأقل مرتبة من لقب أولئك الحكام في حالتين. وقد كان حكام طيبة من الفئتين الثانية والثالثة مثل دايماخوس ولوكيسكوس وبطليموس ينتمون إلى طبقة الخلفاء مثل ما كان كودياس حاكم هيراكليوبوليس، بينما كان إنياس (Aineas) حاكم أفرودبتوبوليس (154/153) – وهي إحدى مديريات منطقة طيبة – ينتمي إلى طبقة "رجال الحرس الخاص".

وفي النصف الثاني من القرن الثاني ارتفعت ألقاب الحكام جميعًا. ذلك أنه في عام 148 أصبح بويثوس ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء الأول"، وفي عام 136/135 إلى طبقة "الأقرباء". ومنذ ذلك الوقت أصبح كل من يتولى منصب حاكم عام منطقة طيبة ينتمي إلى طبقة "الأقرباء"، مثل باوس (عام 130) ولوخوس (127/126) وهرموكراتس (115) وفوموس (111/110) وأبولودوروس (بعد عام 105) وكاليماخوس (76/75). وفي المديريات الواقعة خارج منطقة طيبة، نعرف أن حكام أرسينوي أصبحوا في الربع الثالث من القرن الثاني ينتمون إلى طبقة "الأصدقاء الأول" مثل فانياس، وأبولونيوس، وفيلينوس، بينما كان بوليمارخوس حاكم هيراكليوبوليس ينتمي إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص" وأبولودوروس حاكم هرموبوليس إلى طبقة "نظراء الأصدقاء الأول". وفي الربع الأخير من هذا القرن كان حكام أرسينوي مثل بارثينيوس وليسانياس وأبولونيوس وايرينايوس وبطلميوس وكذلك اسكلبيادس حاكم هرموبوليس ينتمون إلى طبقة "الأقرباء".

وفي القرن الأول كان جميع حكام المديريات سواء في منطقة طيبة أم خارجها ينتمون إلى طبقة "الأقرباء" مثل كاليماخوس حاكم عام منطقة طيبة وابيماخوس وابولونيدس وبسايس ومنكرع ونيكوماخوس وهم من الفئة الثانية من حكام منطقة طيبة، ومثل زينون وبانيسكوس وبلاياس وهم من الفئة الثالثة من حكام منطقة طيبة، ومثل أبولونيوس وديوسكوريدس حاكمي أرسينوي، ومثل ديونيسيوس وبانيسكوس وسلوقس وسوتلس ويورولوخوس وهليودوروس حكام هيراكليوبوليس.

ولا جدال في أن منصب وزير المالية كان أرفع مقامًا وأخطر شأناً من أي منصب آخر في الحكومة البطلمية. وقد عرفنا أنه في النصف الأخير من القرن الثالث كان خريسيبوس ينتمي إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص" وأبولونيوس بن ثيون إلى طبقة "الأصدقاء" فقط. وفي القرن الثاني حين كان حاكم عام منطقة طيبة وأكثر حكام المديريات ينتمون إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص" بل حين كان اثنان من حكام المديريات ينتميان إلى طبقة "الأصدقاء الأول" كان وزيرًا المالية اسلكبيادس (163) وديوسكوريدس (156) ينتميان إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص" بل إن ديوسكوريدس كان لا يحمل في عام 158 سوى لقب "صديق"، لكن الوزير سارابيون كان ينتمي حوالي عام 150 إلى طبقة "الأقرباء". وحين كان بويثوس حاكم عام طيبة ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء الأول" كان الوزير ديونيسيوس (حوالي عام 148) ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء"، وحين كان باوسن حاكم عام منطقة طيبة ينتمي إلى طبقة "الأقرباء" كان الوزير أبولونيوس ينتمي إلى طبقة "الأصدقاء الأول". لكنه منذ أصبح ايرينايوس (114/112) وزيرًا للمالية كان كل وزراء المالية الذين نعرفهم سواء في القرن الثاني مثل بطلميوس (108) أم في القرن الأول مثل أثينايوس (64/63) وكاستور (75 أو 89) ونومنيوس (57/56) وثيون (القرن الأول) ينتمون إلى طبقة "الأقرباء" شأنهم في ذلك شأن حكام جميع المديريات.

وقد كان حكام ممتلكات مصر الخارجية يحملون مختلف الألقاب، فقد كان لادموس (164/163-150/149) وأريستيبوس (163) [ثيرا] ينتميان إلى طبقة "الخلفاء"، وكان بلوبس (عهد بطلميوس الخامس) [ساموس] وتيمايوس (عهد بطلميوس السادس) [مثانا] يحملان لقب "صديق"، وكان اجياس (عهد بطلميوس الخامس) [كريت] ينتمي إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص"، وكان بوليكراتس (عهد بطلميوس الخامس) [قبرص] وفيلوتاس قائد حامية إتانوس (حوالي بداية القرن الثاني) ينتميان إلى طبقة "الأصدقاء الأول"، على حين أن خلفاء بوليكراتس في حكم قبرص، مثل ارخياس وهلنوس وسلوقس بن بيثوس وثيودوروس بن سلوقس، وهم الذين تولوا حكم تلك الجزيرة في عهد بطلميوس السادس وكليوباترا الثانية وعهد بطلميوس الثامن، وكذلك أونساندروس الذي شغل المنصب نفسه في عهد بطلميوس التاسع سوتر الثاني كانوا جميعًا ينتمون إلى طبقة "الأقرباء".

وما الذي نستطيع استخلاصه من كل ذلك؟

ينهض كل ذلك دليلاً على أن أدلة القرن الثالث ق.م. طفيفة إذا ما قورنت بأدلة القرنين الثاني والأول، وفضلاً عن ذلك فإنها لا تمدنا بكل مراتب الألقاب التي نجدها في القرنين الأخيرين. ومع ذلك فإن تلك الأدلة على ندرتها ترينا أن لقبين على الأقل – إن لم يكن ثلاثة – كانا يستعملان قبل عصر بطلميوس الخامس. وإزاء ذلك لا يمكن قبول الرأي القائل بأن بطلميوس الخامس هو الذي أنشأ الألقاب الفخرية في دولة البطالمة، ولاسيما أنه لا يمكن أن نتصور أن البطالمة الأوائل عاشوا وحيدين لا تحيط بهم نخبة من الأصفياء، وبخاصة أنه كان للاسكندر وكل الخلفاء مثل هؤلاء الأصدقاء.

ولكن كيف يمكن تفسير ندرة الأدلة المستمدة من النقوش والوثائق البردية عن الألقاب الفخرية في عهد البطالمة الأوائل؟ هناك حقيقة مسلم بها وهي أن النقوش والوثائق البردية الإغريقية التي ترجع إلى نصف القرن الأول من عهد البطالمة، وهي الفترة التي يحتمل أن تكون الألقاب قد أنشئت فيها، قليلة إلى حد أننا نفتقر افتقارًا شديدًا إلى أدلة من هذه الفترة عن سائر النظم البطلمية، ومن ثم فلا عجب أن الأدلة التي لدينا من هذه الفترة عن سائر النظم البطلمية، ومن ثم فلا عجب أن الأدلة التي لدينا من هذه الفترة عن الألقاب الفخرية قليلة. أما قلة الأدلة عن هذه الألقاب طوال القرن الثالث ق.م، فإنها يمكن أن تعزى إلى أحد أمرين أو كليهما معًا، وأحدهما الصدفة، والآخر الاحتمال بأنه في عهد البطالمة الأوائل كان منح الألقاب محدودًا مثل ما كانت الحال في عهد الاسكندر الأكبر، عندما قصر لقب "رجال الحرس الخاص" على سبعة فقط إلى أن أدمج بيوكستاس في عداد تلك الفئة الممتازة فأصبح عددهم ثمانية. وفضلاً عن ذلك فإن النقوش والبرديات لم تكن قوائم ولا نشرات رسمية صادرة عن القصر الملكي أو الدوائر الحكومية بحيث أنه كان يتعين دائمًا قرن الأسماء الواردة فيها بألقاب أصحابها الفخرية. ولما كنا نعرف عن يقين أنه حتى بعد عهد بطلميوس الخامس كثيرًا ما أغفلت النقوش والبرديات ذكر ألقاب أشخاص حدثتنا نقوش وبرديات أخرى أقدم منها بأنهم كانوا يحملون ألقاب فخرية، فلا عجب أن كان إغفال ذكر الألقاب أكثر وأعم في برديات ونقوش الفترة التي يرجح أن تكون الألقاب أنشئت فيها واقتصد في منحها اقتصادًا شديدًا، وتبعًا لذلك كان عامة الناس قليلي الألفة بها.

وإذا صح أن بطلميوس الخامس هو الذي أنشأ فعلاً الألقاب الفخرية في مصر البطلمية، فكيف تأتي أن الكتاب القدماء أغفلوا الإشارة إلى هذا الحدث الجديد؟ وكيف يمكن أن نقبل الرأي القائل بأن بطلميوس الخامس أنشأ الألقاب الفخرية تقليدًا للبلاط السلوقي مع أنه لا يوجد دليل على وجود كل هذه الألقاب في ذلك البلاط على نحو ما لاحظ ديتنبرجر. وأخيرًا، كيف كان يتسنى لملك مثل بطلميوس الخامس – بعد ما عاناه من وصاية منكودة ومن ذل الحماية الرومانية ومن ضياع ممتلكات مصر الخارجية في مستهل عهده – أن يضفي على مجموعة من الألقاب تبتدع دفعة واحدة في عهده مجدًا كان هو نفسه يفتقر إليه؟

إزاء كل الاعتبارات التي أوردناها نرى أن إنشاء الألقاب الرئيسية على الأقل يجب أن يعزي إلى البطالمة الأوائل الذين يبدو أنهم كانوا شددي الاقتصاد في منحها، ولكن على مر الزمن زيد عدد الألقاب واتسعت دائرة الأشخاص الذين كانت تغدق عليهم.

وكما تصور قلة الأدلة من القرن الثالث، فيما يحتمل، اقتصاد البطالمة الأوائل في منح الألقاب، فإنه يحتمل أيضًا أن وفرة الأدلة من القرنين الثاني والأول تصور سخاء البطالمة الأواخر في هذا الصدد. وقد لا نعدو الحقيقة إذا عزونا بداية هذا الاتجاه نحو السخاء في منح الألقاب الفخرية إلى عصر بطلميوس الرابع، فإن هذا الملك عندما اشتعل لهيب الثورات المصرية اضطر إلى محاولة كسب ود المصريين بحدبه على الديانة المصرية ورسم نفسه فرعونًا وقرن اسمه بالألقاب الفرعونية التقليدية لا في الوثائق المصرية فحسب بل في الوثائق الإغريقية أيضًا. ولما لم يكن في وسع بطلميوس الرابع إغفال الإغريق الذين كانوا سنده وعضده ولاسيما بعد قيام الثورات المصرية ولم يرضهم بطبيعة الحال ما أظهره الملك من عطف نحو المصريين، فإنه من الجائز أن يكون هذا الملك قد عمل على استرضاء الإغريق ودعم سيطرته عليهم بالتوسع في إغداق الألقاب الفخرية عليهم، فضلاً عن اهتمامه بعبادة ديونيسوس اهتمامًا شديدًا وتحويل عبادة البطالمة عبادة إغريقية رسمية عامة إلى عبادة أسرية، وجعل عبادة بطلميوس الأول في مدينة بطوليميس عبادة رسمية عامة في منطقة طيبة لبطلميوس الأول والملك الحاكم.

وإزاء تفاقم المتاعب التي واجهت خلفاء بطلميوس الرابع، كان طبيعيًا أن يزداد سخاء البطالمة الأواخر في منح الألقاب الفخرية. ويبدو محتملاً أن هذا الاتجاه كان مزدوجًا بحيث تضمن زيادة في عدد المنتفعين وكذلك في عدد مراتب الألقاب من أجل الاحتفاظ، على حد رأي هن (Henne)، بقدر من التفرقة بين حملة الألقاب. وعندما نلقي سلسلة الألقاب البطلمية الفخرية كاملة نجد أنها أصبحت تمنح لمختلف أنواع الموظفين عسكريين ومدنيين، في الإدارة المركزية والإدارة المحلية، في الإسكندرية وفي الريف، في مصر ولا ولاياتها.

ويتضح جليًا من الأمثلة والمقارنات التي أوردناها أنه:

أولاً: لم تكن هناك صلة بين الألقاب والمناصب، وإلا لما حمل لقبًا بعينه رجال تتفاوت مراتب وظائفهم تفاوتًا كبيرًا، ولما حمل أشخاص في وظائف أجل شأنًا من وظائف غيرهم ألقابًا أقل مرتبة من ألقاب هؤلاء الأشخاص. لكننا لا نعرف الأساس الذي كانت الألقاب تمنح بمقتضاه، وإن كنا نعرف أنه منذ أواخر القرن الثاني أصبح أمرًا مألوفًا أن ينتمي كبار الموظفين حتى في الإدارة المحلية إلى طبقة الأقرباء.

ثانياً: قد صاحب التوسع في منح الألقاب الفخرية اتجاه عام نحو هبوط قيمة الألقاب لم يكن مقصورًا على حكام الأقاليم بل تعداهم حتى شمل كل الموظفين المدنيين والعسكريين.

ثالثاً: لم تتمتع مديرية أرسينوي (الفيوم) بأية ميزة خاصة تكسب حاكمها مكانة أسمى من مكانة حكام المديريات الأخرى.

رابعًا: من الجائز أن العسكريين كانوا أول الأمر أكثر امتيازًا من المدنيين بوجه عام من حيث الألقاب التي حملوها، غير أن هذه الميزة – إذا كانت قد وجدت على الإطلاق – لم يعد لها وجود عند نهاية القرن الثاني، لكنه لا يمكن القول بأنه على مر الزمن سبق المدنيون العسكريين في شوط الألقاب.

وقد كانت الألقاب الفخرية على الأقل في القرن الثاني تشمل الطبقات التالية مرتبة على هذا النحو:

1- الأقرباء 2- نظراء الأقرباء
3- الأصدقاء الأول 4- نظراء الأصدقاء الأول
5- كبار رجال الحرس الخاص 6- الأصدقاء
7- الحرس الخاص 8- الخلفاء

وهذا يبين أن البطالمة لم يستحدثوا جديدًا عند إنشاء الأرستقراطية التي تحيط بهم، لأن نظم البلاط في مقدونيا وبلاد الفرس ومصر الفرعونية كانت بوجه عام متشابهة ولم تختلف عنها كثيرًا النظم التي وضعها البطالمة لبلاطهم. ويجب أن نشير هنا إلى أنه لم يكن في وسع بلاط البطالمة، وقد أنش في بيئة غريبة عنه لا تربطه بها صلة القربى، أن يرتكز على أرستقراطية وراثية وإنما على أرستقراطية حكومية في مجموعها تتألف من كبار الموظفين الذين خلع الملك عليهم ألقاب التشريف. وإذا كان من المحتمل أن بعض أفراد الأسر المقدونية النبيلة استمروا يتمتعون بمكانة خاصة في البلاط البطلمي، فإنه لم يكن هناك مفر من أن تتضمن الأرستقراطية الحاكمة فريقًا من الإغريق الذين وفدوا على مصر. إذ لا شك في أنه بمضي الزمن اكتسبت بعض الأسر التي استقرت في مصر نفوذًا كبيرًا عندما تولى أفرادها مناصب رفيعة وضمنوا لأبنائهم مثل هذه المناصب ونحا هؤلاء نحو آبائهم.

ولا جدال في أن لقب "قريب الملك" كان أعلى الألقاب الفخرية. ويلاحظ أن الرسائل الملكية إلى "الأقرباء" كانت أحيانًا تدعو المرسل إليه "الأخ"، على نحو ما يفعل الملوك في مخاطبة بعضهم بعضًا، فنجد أمرًا من يورجتيس الثاني وكليوباترا الثانية إلى "لوخوس الأخ"، وخطابًا مرسلاً إلى "لوخوس القريب والقائد"، وخطا بين مرسلين من بطلميوس سوتر الثاني وكليوباترا أحدهما إلى "فوموتس (Phommoutes) الأخ" والآخر إلى "هرموكراتس الأخ".

وخير دليل على تسلسل الألقاب بالترتيب الذي أوردناه أن بويثوس حاكم عام منطقة طيبة حين نلقاه لأول مرة كان ينتمي إلى طبقة "كبار الحرس الخاص" ثم نلقاه بعد ذلك في طبقة "الأصدقاء الأول" وأخيرًا في طبقة "الأقرباء". والنتيجة المنطقية لهذا الترتيب أن طبقة "كبار رجال الحرس الخاص" كانت أعلى مقامًا من طبقة "الأصداء". ويؤيد ذلك أولاً أن هيراكلايدس حاكم مديرية بريثيبس كان رئيس المحكمة التي نظرت قضية هرمياس المشهورة وكان ينتمي إلى طبقة "كبار رجال الحرس الخاص" على حين أن اثنين من أعضاء هذه المحكمة وهما أبولونيوس وهرموجنس كانا ينتمان إلى طبقة "الأصدقاء"، ومن غير المعقول أن يكون المرءوس أعلى مقامًا من الرئيس. وثانيًا أن وزير المالية ديوسكوريدس قد وصف في عام 157 بأنه من "الأصدقاء" وفي العام التالي بأنه من "كبار رجال الحرس الخاص".

ولما كانت القرائن توحي بأن الألقاب الفخرية كانت مرتبة طبقات، فلابد من أنه في الظروف العادية كان يجب التقدم في سلكها خطوة إثر أخرى دون القفز عدة خطوات دفعة واحدة. لكنه لما كان منح هذه الألقاب عادة رهن إرادة الملك، فإن وجود نظام معين لهذه الألقاب كان لا يحول دون الخروج على هذا النظام أحيانًا إرضاء لرغبة الملك. ولسنا نعرف إذا كانت الألقاب البطلمية تبيح لصاحبها أن يحمل شارة تدل على لقبه، ولا إذا كانت تستبع التزامات معينة أو على العكس نحمل معها منحًا معينة من الملك. ولا توحي الأدلة بأن الألقاب كانت تورث، وإن كنا لا نستبعد إفادة الأبناء من مكانة آبائهم وإيثار أبناء أصحاب الألقاب على غيرهم.


6- القصر الملكي


بالرغم من الإشارات المتعددة إلى قصور البطالمة فيما كتبه المؤرخون القدماء، فإننا لا نعرف عنها شيئًا يستحق الذكر، إذ أنه لم يصل إلينا أي وصف لها، ولم يعثر المنقبون عن الآثار على أطلالها. ولا شك في أن قصور البطالمة كانت ترفل في كل مظاهر الجلال والعظمة، فقد كان غنى البطالمة مضرب الأمثال بفضل ثروة مصر ورخائها. وإزاء ذلك نعتقد أنه ليس من الأسراف القول بأنه كان لا يدانى قصور البطالمة قصور الملوك في أية دولة هلينيسية أخرى. ومع ذلك لابد من أن الذوق الإغريقي قد حد من مظاهر العظمة، التي كانت تسرف فيها قصور الفراعنة وملوك الفرس، أو قصور ملوك فرنسا في القرن الثامن عشر.

ولا شك في أن الصبغة العامة التي سادت قصور البطالمة كانت إغريقية لأن هؤلاء الملوك نصبوا أنفسهم زعماء للحضارة الإغريقية، وزعموا أنهم من سلالة الآلهة الإغريقية، فقد كانوا يدعون، كما سلف القول، أنهم ينحدرون عن هرقل وديونيسوس. هذا وإن سمحوا للكهنة المصريين بأن يصوروهم على جدران المعابد المصرية في شكل الفراعنة، ويصفوهم بأنهم أبناء رع، من أجل الفوز بولاء رعاياهم الوطنيين. وكانت لغة البلاط الرسمية هي اللغة الإغريقية، لكنه يبدو أن اللغة المقدونية كانت تستعمل في دوائر الأسرة المالكة. وعندما تعلمت كليوباترا السابعة اللغة المصرية، اعتبر ذلك أمرًا فذًا غير عادي.

ولابد من أن ملابس رجال البلاط كانت إغريقية بسيطة في مظهرها. ويبدو أنه لم يفرق بين ملابس الملك أو رجال البلاط وبين ملابس المواطنين الإغريق العاديين إلا جودة القماش ولونه – اللون القرمزي الذي اشتهرت به صور – ودقةزركشته. وكان رداء الملك في الحفلات الرسمية الزي المقدوني العسكري، ويتألف من قبعة من الفل لها دائر عريض (Kausia)، ومن عباءة (Chlamys) تعلو سترة قصيرة، ومن نعل بأشرطة على الساق لمسافة غير قصيرة (Krepides). ولم يكن لأحد من ملوك العصر الهلينيسي تاج بالمعنى المعروف، إذ أنهم اقتفوا أثر الإسكندر فكانوا يلفون حول رءوسهم شريطًا (Diadema) يربطونه عند مؤخرتها فيتدلى طرفاه على ظهر العنق. وكان هذا الشريط عادة أبيض وأحيانًا أبيض وقرمزي اللون. وعندما يرتدي الملك القبعة، كان الشريط الملكي يربط حول قرص القبعة ويتدلى طرفاه إلى الخلف. ويحتمل أن سراة المصريين – فيما عدا الكهنة – أو على الأقل أولئك المصريين الذين يتولون مناصب في القصر أو في الحكومة كانوا يرتدون ثيابًا إغريقية. وترينا تماثيل البطالمة أنهم كانوا حليقي الذقن والشوارب في العالم الإغريقي بعد عصر الاسكندر، واعتنقتها الأرستقراطية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد، واستمرت هذه العادة إلى أن خلفتها عادة إطلاق اللحى في عهد الإمبراطور هادريانوس.

ولا يبعد أن قصور البطالمة كانت تشبه منازل أغنياء الإغريق، وإن كانت أكثر منها اتساعًا وبها. ويظن أن جدران القصور الملكية بنيت إما من ألواح من الصخور الملونة أو من الطوب الذي غطى بهذه الألواح، وأن غرفها كانت تزخر بأثاث أنيق صنع من الخشب ورصع بالعاج والمعادن النفيسة، وكانت مفروشة بطنافس بديعة فوق أرضية مرصوفة بالفسيفساء. ويرى بعض الباحثين أن عمارة هذه القصور وأثاثاتها كانت إغريقية في طرازها فلا تشبه بقايا المباني الفرعونية، وإنما تشبه ما نراه في الصور التي حليت بها جدران المنازل في بومبي. ولذلك يظن أن أبهية الأعمدة في قصور البطالمة كانت مكونة من أعمدة إغريقية كورنثية أو أيونية، ولم تكن مؤلفة من أعمدة مصرية. لكننا نعتقد أنه من الخطأ الجزم بأن القصور الملكية كانت إغريقية في جميع مظاهرها برغم افتقارنا إلى دليل، وبرغم معرفتنا أن قاعة الاحتفالات العظيمة التي شيدها بطلميوس الثاني، والمركب الفخم الذي بناه بطلميوس الرابع كان يزدهيان بأعمدة مصرية. ولذلك نرى أنه بالرغم من الصبغة الإغريقية العامة التي كان يصطبغ بها البلاط والقصور البطلمية، لا يبعد أنه كانت توجد في المباني بغض عناصر العمارة والزخرفة المصرية.

وكان البلاط يقيم عادة في الإسكندرية، منذ نقل العاصمة إليها، إلا أنه كان ينتقل فيما يبدو مع الملك في مناسبات معينة من الإسكندرية إلى كانوب، إذ تحدثنا وثائق زينون البردية عن وجود البلاط في كانوب، بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد الملك. وقد كان البطالمة المتأخرون يقيمون كذلك فترات قصيرة في منف.

وعندما استخدم بطلميوس الأول المؤرخ هكتايوس (Hecataeus) من أبديرها (Abdera) ليكتب تاريخ مصر، مجد الملكية وصورها على النحو الذي يتمثله الإغريق، فوصف الحياة التي كان الملوك يحيونها بأنها لا تشبه حياة غيرهم ممن يتمتعون بسطة مطلقة ويتصرفون في كل شيء على نحو ما يروقهم. فمثلاً في حالة أعوانهم لم يكن من بينهم عبد واحد بل كانوا جميعًا أبناء أبرز رجال الدين، وذلك ليكون الملك – وقد أحاط نفسه بأنبل الرجال للعناية بشخصه والقيام على خدمته آناء الليل وأطراف النهار – في مأمن من الانحدار إلى الدنايا... وقد نظمت أوقات الملوك ليلاً ونهارًا بحيث خصص وقت معين لكل شيء، وكان عليهم مراعاة ذلك بدلاً من مراعاة رغباتهم الخاصة. فقد كان هناك وقت محدد لاستقبال الناس أو تصريف العدالة، ووقت للنزهة ووقت للاستحمام، ووقت لمعاشرة الزوجة. وكان على الملوك أيضًا أن يتبعوا نظامًا معينًا في الأكل يبدو أنه من وضع أحكم الأطباء. ولما كان مثل هؤلاء الملوك يعيشون وفقًا لنظم اختارها لهم أرشد الناس، وكانوا يعاملون رعاياهم بالعدل، فإنهم كانوا لا يرتكبون إلا أقل الأخطاء وكان رعاياهم يظهرون نحوهم من المحبة ما يفوق حبهم لذويهم.

ولما كنا نعتقد أن ما كتبه هكتايوس يصور سلوك الفراعنة من وجهة نظر الفلسفة السياسية الإغريقية، فإن هذا التاريخ يعطينا فكرة جلية عما كان الإغريق النابهون يتوقعونه عندئذ من الملوك المعاصرين. ولا نستبعد أن يكون بطلميوس الأول قد اهتدى ببعض هذه الأفكار في وضع أساس التقاليد التي يجب أن يعيش هو وخلفاؤه على نمطها. وإذا صح أن يكون البطالمة الأوائل قد راعوا مثل هذه التقاليد، فإنه لا يخامرنا شك في أن البطالمة الأواخر، ولاسيما العابثين منهم، قد انحرفوا عنها انحرافًا شديدًا فأهملوا شئون الدولة وانغمسوا في ملاذهم وأصبح بلاطهم يعج بأحط العناصر مما كان له أسوأ الأثر في مصير دولتهم.

7- الوزراء

ومن بين رجال البلاط كان الملك يختار مجلسه، الذي لا نعرف عنه شيئًا، وكذلك وزراءه وكبار موظفيه. ويذكر "جوجيه" أنه كان يأتي في مقدمة رجال السلطة المركزية "كبير الوزراء"، ويصفه بأنه كان حامل أختام الدولة ويرجح أن لقبه كان مثل لقب كبير الوزراء في دولة السلوقيين "المشرف على شئون الدولة" (Ho epi ton pragmaton). ويبين أن جوجيه قد استخلص ذلك من النظام الذي كان معمولاً به عند السلوقيين ولم يستخلصه من الوثائق البطلمية، إذ ليس فيها أي سند لهذا الرأي. ولعل هذا هو ما حدا به إلى القول في موضع آخر إنه من العسير القول بأنه كان في خدمة البطالمة عادة موظف يمكن أن ندعوه كبير الوزراء وأن نشبهه بالوزير عند فراعنة الدولة الحديثة. والواقع أنه يصعب أن نتصور وجود وزير في دولة البطالمة يفوق في أهميته ومكانته واتساع سلطانه ونفوذه وزير المالية الذي كان يتمتع بمكانة سامية في البلاط ويكاد يسيطر سيطرة تامة على كل نواحي الحياة العامة في البلاد. ولا غرو فقد كان يشرف على حياة البلاد الاقتصادية وكافة موارد الخزانة العامة وخرجها، وكان يطلق عليها اسم "خزانة الملك" (Basilikon). ولعل السبب في هذه التسمية يرجع إلى أن الملك والدولة كانا لا ينفصلان، ولذلك فإنه لم يكن في الوسع التفرقة بين ما يملكه أحدهما ويملكه الآخر، حتى ليمكننا القول بأن شعار البطالمة كان كشعار لويس الرابع عشر "الدولة أنا" (L'Etat c'est moi). وكان الوزير الذي يضطلع بمهام هذه الأعباء الخطيرة يدعى ديويكيتس (Dioiketes)، وهو لقب متواضع يحمل معنى "مدير الضيعة"، ومع ذلك فإن هذا اللقب بالغ الدلالة على أن البطالمة كانوا يعتبرون مصر ضيعتهم الخاصة، ومن ثم فإنه يتفق تمام الاتفاق والنظم التي استنوها لحكم هذه الضيعة. وسنعود مرة أخرى إلى الكلام عن هذا الوزير الخطير.

ويمكن اعتبار موظف كبير، يدعى أرخيديكاستس (Archidikastes)، وزير العدل. وبالرغم من أننا لا نعرف مهامه على وجه التحقيق، فإنه من المرجح أنه كان يعين بعد موافقة الملك القضاة الإغريق (خرماتيستاي، Chrematistai) والقضاة المصريين (لاؤكريتاي، Laokritai) في طول البلاد وعرضها. ويظن أنه كان أيضًا يحضر للملك القضايا التي كان أربابها يستأنفون الأحكام التي صدرت فيها إلى الملك، باعتبارها محكمة الاستئناف العليا. وعلى عهد البطالمة الأوائل كان يوجد وزير للأشغال (Architekton) كانت مهمته العناية بنظام الري وصيانة وسائله. وكان ينفذ أوامره في كل مديرية مهندسون كان لديهم من السلطة ما يمكنهم بمساعدة قائد المديرية من تسخير ما يلزمهم من الأيدي العاملة. ويرجح البعض أنه كان يوجد كذلك وزير للحرب يقوم بالإشراف على تجنيد الجيوش ودفع مرتبات الجنود ومنح الإقطاعات. ويرى البعض الآخر أن الملك بوصفه القائد الأعلى للجيش هو الذي كان يشرف على التجنيد. وإذا كان يصعب الإدلاء برأي حاسم في هذه المسألة بسبب قلة ما لدينا من الأدلة، فإنه مع ذلك يبدو لنا أن الملك أو الوصي على العرش هو الذي كان يضطلع بكل هذه المهام بمساعدة وزير المالية وأصحاب الحظوة لدى البلاط وكذلك قائد الجيش، حين يكون للجيش قائد غير الملك.

السلطة المحلية:
لم يكن في وسع الملك ووزرائه الاضطلاع بمهام الحكم ، دون مساعدة هيئة مدربة من الموظفين . ويعتبر تكوين هذا الجيش من الموظفين من جلائل أعمال البطالمة .

ويزيد في قيمة عمل البطالمة الأوائل أنه لم يكن لهم ولا لأعوانهم الذين وفدوا معهم دراية خاصة، ولا تعليم مناسب للعمل الذي اضطلعوا به ، فإنهم قبل ذلك كانوا يديرون شئونهم الخاصة بطريقة بدائية ، كما أن إدارة الشئون العامة التي اشترك فيها بعض هؤلاء المهاجرين في بلادهم الأصلية كانت أولية إذا قيست بالنظم البطلمية .

ومن العسير أن نعرف كيف تمكن البطالمة من تكوين هذه الأداة الحكومية الدقيقة، في بلد أجنبي ووسط ظروف غريبة، من عناصر لم تتوافر لديها المؤهلات اللازمة لمثل هذا العمل، فإن رءوس هذه الأداة ومديري مصالحها المختلفة وأقسامها المتعددة كانوا كلهم تقريبًا من الإغريق، الذين لم يعدهم ماضهيم للاضطلاع بمثل هذه الأعمال المعقدة.

ولا شك في أن أداة البطالمة الحكومية كانت إلى حد ما من تراث الماضي، لكنها أصبحت في مجموعها أداة إغريقية منظمة تنظيمًا دقيقًا. ولم تقتصر هذه الصبغة الإغريقية على أسماء المناصب – وقد كانت في بداية الأمر غامضة غير دقيقة – ولا على استخدام اللغة الإغريقية، ولا على نظام إغريقي للمحاسبة، إذ كانت هذه الأداة إغريقية في نظامها وفي الروح التي سرت فيها. وقد كان ذلك طبيعيًا لأنه كانت للبطالمة وبخاصة الأوائل منهم أهداف وأغراض جديدة، كان تحقيقها يتطلب إعادة تنظيم الشئون الإدارية والمالية والاقتصادية القديمة التي كانت سائدة في مصر قبل مجيئهم إليها. ومن ثم كانوا يتطلبون من موظفيهم أن ينشئوا ويجددوا، وألا يكتفوا بتسيير الأداة الحكومية القديمة. وليس أدل على المهارة التي اكتسبها أولئك الموظفون على عهد بطلميوس الثاني من القوانين المالية والاقتصادية التي أصدروها في عهده.

إن نجاح البطالمة في إعادة تنظيم الأداة الحكومية لتحقيق أهدافهم، يعتبر من أبدع مبتكرات العبقرية الإغريقية، ودليلاً على مرونتها واستعدادها لتكييف نفسها وفقًا للظروف التي توجد فيها. ومن المؤكد أن البطالمة أنفسهم وكبار مساعديهم ومستشاريهم هم الذين وضعوا أساس البناء، الذي كان يجب على صغار الموظفين استكماله. وإذا كانت الظروف قد قضت أول الأمر باختيار الموظفين من أوفق العناصر الأجنبية التي توفرت لدى الملك، فإن هؤلاء الموظفين اكتسبوا بمضي الزمن دراية بملهم أورثوها لخلفائهم. ولا يبعد أن قد كانت مكاتبهم منذ البداية مصالح حكومية، وفي الوقت نفسه مراكز لإعداد الشبان لتولي المناصب الحكومية. وقد نجحت الأداة الحكومية البطلمية في أداء عملها بدقة ومهارة في كل فروع الإدارة. وإذا لم تكن هذه الأداة الحكومية أداة كاملة الإتقان – ويجب أن نلاحظ أننا لم نسمع قط عن أية أداة حكومية كاملة – فإنها كانت كفيلة بتحقيق أهداف البطالمة. لكن هذه الأداة الدقيقة تدهورت في أواخر عصر البطالمة، وأصبحت أداة فاسدة مرهقة كل همها ابتزاز الأموال، غير أن هذا لم يكن عيب تصميم هذه الأداة، وإنما عيب الظروف التي عملت فيها وطبيعة الأهداف التي وجهت إليها.

ولا شك في أنه عند وفاة بطلميوس الثاني، كانت قد وضعت القواعد الأساسية التي قام عليها نظام الحكم، الذي نستخلص من الوثائق البردية أنه كان متبعًا في عهد البطالمة. ولعل السر في ندرة الوثائق البردية الإغريقية، التي تصف لنا النصف القرن الأول من حكم البطالمة، يرجع إلى أن بطلميوس الثاني هو الذي استكمل نظم الحكم البطلمية.

وأول ما يسترعي انتباهنا في دراسة نظم الحكم البطلمية، هو الفارق بين النظم التي وضعت للإغريق والنظم التي طبقت على أهل البلاد. ويبدو هذا الفارق جليًا في المركز الشخصي الذي اختص به الإغريق، وفي المدن الإغريقية التي أنشئت على أرض مصر. وإذا كان كثر السنين وتتابع الأحداث قد خفف من حدة هذا الفارق، فإنهما لم يقضيا عليه كلية.


1- المدن الإغريقية في مصر


لقد كان إنشاء المدن الإغريقية في مصر أمرًا لا مندوحة عنه، لأن المدينة (Polis) كانت البيئة الأساسية لحياة الإغريقي العامة، فقد تشبع الإغريق بالفكرة القائلة بأن المدينة هي النظام الطبيعي الوحيد الذي يستطيع أن يعيش في كنفه الرجال الأحرار. ذلك أن نظم المدينة الحرة كانت تكفل لمواطنيها حرية القول والعمل، وتتيح لهم المشاركة في إدارة دفة شئونها وتوفر لهم من أسباب الحياة ما هو خليق بإنسان يحترم نفسه وجدير بالاستمتاع بحياته. ومن ثم فإن المدينة كانت في نظر الإغريق تعبر عن كل ما تشمله حياة الإنسان وواجبه نحو الجماعة، أو بعبارة أخرى عن اتحاد النوع الإنساني لغاية مشتركة، هي وحدها التي تستطيع أن تبرز وتستغل أنبل الغرائز وأقدر الكفايات في كل فرد حر. ولذلك كان الإغريق ينشئون مدينة لأنفسهم، حيثما نزلوا في مكان واتخذوه مستقرًا دائمًا لهم، ومثل ذلك المستعمرات العديدة التي أنشأوها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود في "عصر الاستعمار" (القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد). وقد كانت هذه المستعمرات مدنًا تكون كل منها دويلة مستقلة، حتى عن المدينة الأصلية التي نزح منها أولئك المستعمرون، فإنه لم تكن تربطهم بوطنهم الأصلي سوى روابط دينية وروحية.
وفي نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، عندما صمم الإسكندر الأكبر على فتح الشرق، نادى بأنه يقوم بهذه الحملة بوصفه القائد الأعلى لعصبة المدن الإغريقية، ومن أجل خدمة الحضارة الهلينية. ولذلك فإنه عندما كون إمبراطوريته الشرقية ووجد في الأقاليم التي أخضعها لسلطانه مدنًا إغريقية، سمح لهذه المدن بالبقاء، اللهم إلا إذا استثنينا بعضها التي دفعته أسباب خاصة إلى القضاء عليها. ولم يجد الإسكندر وسيلة لنشر الحضارة الإغريقية بين ربوع إمبراطوريته، أفضل من إنشاء مدن إغريقية جديدة في أماكن عني باختيارها.

وعندما تداعت إمبراطورية الإسكندر، وقامت على أنقاضها ممالك كانت تضم بين جوانبها مدنًا إغريقية، وجد مبدآن متعارضان وهما: مبدأ السلطة الملكية ومبدأ استقلال المدن. ولم يكن هناك مفر من أن تفقد هذه المدن جانبًا من استقلالها، وتصبح خاضعة لسلطة الملك، فلم تعد دولاً مستقلة بل أصبحت جزءًا من دولة أكبر منها، لكن المدن لم تفقد حق إدارة نفسها، أو بعبارة أخرى حق تمتعها باستقلال ذاتي. وقد كان هذا الاستقلال الذاتي أهم فارق يميز الإغريقي، الذي يعيش في المدن (Kata Poleis) ويشترك في حكم الجماعة التي ينتمي إليها، عن الشرقي، الذي يعيش في القرى (Kata Komas) ولا يتمتع بأي نوع من أنواع الاستقلال، بل يخضع لأوامر حاكم موفد من قبل السلطة المركزية.

ولعل الإسكندر كان يعلل الأمل بأنه سيجيء يوم في المستقبل البعيد، يمتزج فيه الشرقيون والغربيون ويكونون شعبًا واحدًا، يعيش في المدن على النمط الإغريقي تحت سلطة خلفائه، وذلك نتيجة لمجهودات الإغريق في سبيل تقدم المبادئ التي قامت عليها حضارتهم، وإقبال الشرقيين رويدًا رويدًا على المساهمة في الحياة السياسية، بتأثير المدن الإغريقية المنتشرة بين أرجاء الإمبراطورية، إلى أن يندمجوا في هذه المدن تدريجيًا. لكن هذا الأمل لم يتحقق في أغلب أقاليم العالم، إلا في عهد الرومان، الذين كانوا ورثة الإغريق في الشرق، ففي مصر مثلاً لم تنبت بذور الاستقلال المحلي التي غرسها هناك فتح الإسكندر، إلا في خلال القرن الثالث بعد الميلاد.


* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

وقد عرفنا أنه عندما قدم الإسكندر إلى مصر وجد بين جنباتها مدينة إغريقية قديمة، هي مدينة نقراطيس التي تأسست في عهد الأسرة السادسة والعشرين، وكانت بمثابة دولة إغريقية داخل الدولة المصرية. ومتى عرفنا ما كانت عليه هذه المدينة من الثراء، إذ كانت في قبضتها تجارة مصر مع دول البحر الأبيض المتوسط، فإننا لا ندهش إذا كان الإسكندر قد فكر لحظة في أن يجعلها العاصمة الجديدة. لكنه إذا كانت هذه الفكرة قد دارت بخلد الإسكندر، فلا شك في أنها كانت فكرة عابرة، لأن نقراطيس كانت بعيدة عن البحر ولا تتصل به إلا عن طريق أحد فروع النيل، ولأن ثراءها يعزي قبل كل شيء إلى عدم وجود موانئ هامة على شاطئ البحر في هذه الناحية، فلم يكن هناك مفر من أن تفقد نقراطيس أهميتها وثروتها يوم تقوم مدينة كبيرة على شواطئ البحر المتوسط، الذي كانت تتجمع حول حوضه دول العالم المتمدين. وقد أثبتت الأيام صحة هذا الرأي، لأن نقراطيس أخذت تتراجع القهقري منذ أنشأ الإسكندر مدينته التي خلدت اسمه على تعاقب الأجيال. وإذا كان الاسكندر قد شيد الإسكندرية لتكوين منبع الحضارة الإغريقية في مصر، وتقضي على نفوذ العاصمة المصرية القديمة منف، فإن بطلميوس الأول أنشأ بطوليميس في أقاصي الصعيد لتواجه طيبة، العاصمة المصرية الخالدة التي شهدت أزهى عصور الفراعنة.

ولقد ضمت إمبراطورية البطالمة بين أنحائها مدنًا إغريقية كثيرة، إلا أنه لم يوجد في مصر نفسها في خلال القرون الثلاثة التي تربع فيها البطالمة على عرش مصر سوى هذه المدن الثلاث التي ذكرناها. لكن وثيقة من القرن الثاني للميلاد قد أوحت بالفرض القائل بأن بارايتونيون (Paraetonion) كانت مدينة كذلك، قيل إن الاسكندر أسسها، غير أننا في الواقع لا نكاد نعرف عنها شيئًا. وإذا كان بعض المؤرخين الحديثين يزعمون أن ليكوبوليس "أسيوط" وهرموبوليس ماجنا "الأشمونين" كانتا أيضًا مدينتين إغريقيتين، فلا شك في أنهم قد أساءوا فهم الوثائق التي بنوا عليها زعمهم.

ومما يجدر بالملاحظة أن المستعمرات التي أنشئت لتعمير مديرية الفيوم واستقرار جنود البطالمة فيها لم تكن مدنًا إغريقية، بل كانت قرى أسكن فيها الإغريق وغيرهم من الأجانب مع المصريين، ومنحوا امتيازات أكسبتهم مركزًا سما بهم فوق مركز المصريين، فكانت حالهم شبيهة بحال الإغريق الذين استوطنوا في منف أو غيرها من المدن والقرى المصرية.

وإذا قارنا بين دولة البطالمة في مصر ودولة السلوقيين في سوريا، فإننا ندهش لقلة عدد المدن الإغريقية في مصر. ولعل ذلك يرجع قبل كل شيء إلى أن ملوك السلوقيين الأوائل كانوا يحكمون مساحات أوسع من دولة البطالمة. ولو أنه قد أنشئت في وادي النيل الضيق مدائن إغريقية كثيرة، لأدى ذلك إلى الانتقاص من سلطة الملك والإضعاف من وحدة البلاد.

ومعلوماتنا طفيفة عن المدن الإغريقية في مصر، إذ أننا لا نكاد نعرف شيئًا عن نقراطيس في العصر الإغريقي الروماني، ولا نعرف إلى النزر اليسير عن الإسكندرية وبطوليميس، وما نعرفه عن إحدى هذه المدن يصعب تطبيقه عادة على غيرها لعدم توافر الأدلة لدينا، ولاسيما أن ما نعرفه عن موقع هذه المدن ومظهرها الخارجي يدفعنا إلى الشك في أن الحياة العامة في هذه المدن كانت تخضع دائمًا للقوانين نفسها. ومع ذلك يبدو لنا أن مدن مصر الإغريقية كانت تتفق في ظاهرتين على الأقل، وهما وجود هيئة مواطنين في كل منها، وتمتع هؤلاء المواطنين بحق امتلاك الأراضي في إقليمها امتلاكًا حرًا، وهو حق لم يتمتع به أحد في مصر خارج هذه المدن في خلال القرن الثالث على الأقل، على نحو ما سنرى فيما بعد.

نقراطيس


يرى "جوجيه" أن نقراطيس لم تختلف كثيرًا في مظهرها الخارجي عن أي بلد مصري، وأنها كانت تتألف من بيوت مبنية من اللبن، على جوانب شبكة معقدة من الشوارع والأزقة. أما لويس ممفورد فيرى أن تخطيط نقراطيس كان يتسم بسمات خاصة من النظام والتناسق. ويبدو من سياق حديثه أنه يرى أنها خططت وفقًا للتخطيط الشبكي الذي نشأ في "مليتوس" التي وفد منها مؤسسو نقرطيس. ويبدو أن اتساعها لم يزد على 800 متر في الطول و400 متر في العرض، وأنه لم تحط بها أسوار، لأن الفراعنة كانوا لا يسمحون للأجانب بأن يستقروا في مكان منيع بل إنهم وضعوا في هذه المدينة حامية مصرية.

وكانت المدينة الإغريقية عادة لا تشمل المدينة فحسب، بل تشمل كذلك إقليمًا زراعيًا خارج حدودها. ولا يبعد أن ذلك كان أيضًا حال كل المدن الإغريقية في مصر. ولعل إقليم نقراطيس كان ما يطلق عليه في قوئم إسنا اسم مديرية نقراطيس. وقد كانت نقراطيس تقع في مديرية سايس، غير أنه لا سبيل إلى الشك في أن هذه المدينة كانت مستقلة عن تلك المديرية.

وقد مر بنا أن تجار مليتوس أسسوا هذه المدينة، حوالي مطلع القرن السابع قبل الميلاد، على فرع النيل الكانوبي قرب قرية كوم جعيف الحديثة بمركز إيتاي البارود، وأنها أصبحت في عهد أماسيس المقر الوحيد للتجار الإغريق. وقد ساهم في عمران هذه المدينة في عهد أماسيس إغريق من جزيرة إيجينة ومن المدن والجزر الأيولية والأيونية والدورية في شرق بحر إيجة وشاطئ الأناضول الغربي. ويلوح مما نعرفه عن أصل هذه المدينة أن أهلها كانوا ينقسمون منذ البداية إلى طبقات لكل منها حقوق مختلفة، إذ يبدو مما كتبه هردوتوس أنه كان يفرق في نقراطيس بين الإغريق المستوطنين الذين أعطاهم أماسيس المدينة ليتخذوها وطنًا لهم، وبين الإغريق الذين لم يستقروا فيها بصفة دائمة، غير أن أماسيس منحهم أماكن ليقيموا فيها مذابح وهياكل، ومعنى هذا أنهم لم يكونوا زائرين عابرين فقط. وقد كان الهلينيون (Hellenion) أحد هذه الهياكل، وساهم في نفقات تشييده المدن الأيونية خيوس وتيوس وفوكيه (Phocca) وكلاتزومني والمدن الدورية ليندوس (Lindos) وياليسوس (Jalsos) وخاميروس (Chamiros) وكنيدوس وهاليكارناسوس وفاسليس (Phaselis)، والمدينة الأيولية ميتيلين (Mytilene). وكانت توجد كذلك هياكل منفصلة لإغريق مليتوس وإيجينية، ويحتمل أيضًا لإغريق قورينائية. ومن المؤكد أن أصحاب الهلينيون أنشأوا أيضًا سوقًا عامة، هي التي كان يشرف عليها "مراقبو السوق" (Prostatai tou emporiou) وكان ينتخبهم، على الأقل بادئ الأمر، أولئك الإغريق الذين أسسوا الهلينيون وكذلك السوق العامة، ولا شك في أنه كانت توجد كذلك أسواق خاصة لأهل مليتوس وإيجينة وساموس لم تكن خاضعة "لمراقبي السوق". ويظن أيضًا أن هؤلاء المراقبين لم يكونوا بين حكام المدينة، بل كانوا نوعًا من القناصل التجاريين يقيمون دائمًا في المدينة.

ولابد إذن من أن النقراطيسيين كانوا يكونون جماعة منفصلة عن أولئك السكان غير الدائمين، ويحتمل أنهم كانوا بادئ الأمر يكونون وحدهم هيئة المواطنين الذين يتمتعون بحقوق المواطنة. وإذا كان يبدو أن سلالة المستعمرين الأصليين من أهل مليتوس كانوا يكونون نواة مواطني نقراطيس، فإنه يصعب علينا أن نعتقد أن الجماعات القومية المختلفة التي أسست الهلينيون والسوق العامة لم تكتسب بمضي الزمن أهمية كبيرة في حياة المدينة، وأن "مراقبي السوق" لم ينته بهم الأمر بأن أصبحوا في عداد حكام المدينة. وإننا في الواقع لنستشف من عبارات هرودوتوس اتجاهين متضادين: كان أحدهما انفصال هذه الجماعات عما عداها، والآخر نحو إدماجها في المواطنين الأصليين. إذ لا شك في أننا عندما نقرأ في هرودوتوس أن حق اختيار "مراقبي السوق" كان مقصورًا على المدن التي أنشأت الهلينيون، نستخلص أن ذلك كان رجع الصدى لأصوات إغريق الهلينيون، كما نستخلص أن الإغريق الآخرين في نقراطيس، وقد بهررهم ثراء السوق العامة، كانوا يطالبون بالمساهمة في إدارتها، فبدأ على هذا النحو تطور لا نستطيع أن نتتبع أدواره، وإن كنا نرجح أنه انتهى باندماج مختلف الجنسيات الإغريقية هناك بعضها في بعض، وبعدم قصر السوق العامة على فئات بعينها، ومن ثم أصبحت سوقًا عامة للمدينة بأسرها. ولابد من اندماج هذه العناصر المتباينة لم يتم دون أن يترك وراءه أثرًا، ودون أن يؤدي إلى تقسيم السكان إلى طبقات، غير أن الوثائق التي لدينا قليلة إلى حد أننا لا نعرف إذا كان يوجد بين النقراطيسيين مواطنون يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة، وآخرون لا يتمتعون إلا ببعض هذه الحقوق. ويستبعد بعض المؤرخين أن المواطنين كانوا ينقسمون إلى قبائل وعشائر، بحجة أن نقراطيس أسست قبل أن يخترع كليسثينيس (Caleisthenes) هذا النظام الذي نقلته المدن الأخرى عن أثينا. لكن إذا كان هذا السبب لا ينهض دليلاً على أن نقراطيس لم تقتبس هذا النظام بعد وجوده، فإنه على كل حال لا يوجد أي دليل على وجود هذا النظام في نقراطيس، وإن كان يستخلص مما عثر عليه هناك من العملة الأثينية والآنية الفخارية الأثينية أن الأثر الأثيني كان يسود نقراطيس في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الرابع قبل الميلاد. .


وقد جمع أثينايوس بعض ما كتبه المؤرخون عن نقراطيس، مسقط رأسه، فنجد أن شخصًا يدعى هرمياس يحدثنا عن وجود حكام في نقراطيس يدعون تيموخوي (Timouchoi)، كما يحدثنا عن الولائم التي كانت تقام في دار البريتانيون، مما يدل على أنه كان يوجد أيضًا بريتانيس (Prytaneis). وكلمة تيمخوي اصطلاح كان مستعملاً في لغة الإدارة في مدن آسيا الصغرى الأيونية ومستعمراتها، فقد وجد هذا الاصطلاح في تيوس وسينوب وماسيليا. ويحتمل أنه كان يقصد بهذا الاصطلاح أعضاء مجلس أرستقراطي شبيه بمجلس ماسيليا، حيث كان يشرف على هذا المجلس لجنة مؤلفة من خمسة عشر عضوًا يعهد إليهم بتصريف الشئون العادية.وكانت هذه اللجنة تختار من بينها ثلاثة لإدارتها، يتمتع أحدهم بسلطة شاملة. لكننا لا نعرف هل كان أعضاء لجنة الخمسة عشر وأعضاء لجنة الثلاثة يحملون أيضًا لقب تيمخوي أم كانوا يدعون يريتانيس، غير أننا نرجح أنهم كانوا يحملون اللقب الأخير بسبب طبيعة عملهم. ويؤيد هذا الرأي ما نستخلصه من رواية هرمياس عن وجود تيموخوي وبريتانيس في نقراطيس، لكننا لا نعرف إذا كان يوجد في نقراطيس إلى جانب مجلس التيموخوي لجنتان مثل ما كان يوجد في ماسيليا. وإذا صح أن هرمياس هذا هو هرمياس من مثيمني (Methymne)، معاصر أفلاطون، فإن ما رواه عن نظم نقراطيس ينصب على فترة سابقة على عصر البطالمة. ومع ذلك فإن الوثائق البردية تشير إلى أن نقراطيس احتفظت في عهد البطالمة بنظمها القديمة، بل إنها كانت تسك عملة خاصة بها في خلال الفترة الواقعة بين وفاة الإسكندر الأكبر واتخاذ بطلميوس الأول لقب ملك. ونعرف أن بطلميوس الثاني اهتم بتجديد معالم هذه المدينة، وأنه كان لا يزال لها شأن كبير في القرن الثاني، فقد أسلفنا أنه عندما غزا أنطيوخوس الرابع الدلتا وحاصر الإسكندرية اهتم بكسب ود نقراطيس فوزع الهبات على مواطنيها. ولا شك في أن كل ذلك ينهض دليلاً على أن هذه المدينة كانت موضع عناية البطالمة ورعايتهم.

ونستخلص من وثيقة، يبدو أنها من عصر بطلميوس الرابع فيلوباتور أو بطلميوس السادس فيلومتور، أن نقراطيس كانت لا تزال تتمتع بشيء من الاستقلال الذاتي في عصر البطالمة، لأننا نرى في هذه الوثيقة مدينة نقراطيس تمنح مراسم التشريف لكاهن الإلهة أثينا، وكان يجمع بين وظيفته الدينية ووظيفة حارس العقود (Syngraphophylax) في هذه المدينة.

إننا لا نعرف كيف نظمت علاقة نقراطيس بالسلطة المركزية، لكن لا شك في أنه مهما كان حظ هذه المدينة والمدينتين الإغريقتين الأخريين في مصر من الاستقلال الذاتي في إدارة شئونها المحلية، فإنها كانت جميعًا تخضع لسلطة الملك. ولضمان ذلك اتخذت وسائل شتى، سنتعرف عليها عند الكلام عن الإسكندرية وبطوليميس. وكل ما نعرفه في هذا الصدد عن نقراطيس مستقي من نقش من عهد بطلميوس الرابع، وصف فيه شخص يدعى كومون (Comon) بأنه أويكونوموس (Oikonomos) نقراطيس، وهو اللقب الذي سنرى أنه كان يطلق على مندوبي الإدارة المالية المركزية في المديريات. وقد يؤدي هذا إلى الافتراض أن البطالمة وضعوا السلطة المحلية في المدينة تحت إشراف مندوب الإدارة المالية المركزية هناك، لكنه من المحتمل أيضًا أن كومون لم يكن إلا موظفًا محليًا أي أحد موظفي البلدية، أو أنه كان حقًا مبعوث الإدارة المالية المركزية، لكن مهمته كانت مقصورة على العناية بشئون الحامية في نقراطيس. ولعل البطالمة قد اكتفوا بوجود هذه الحامية في نقراطيس لضمان خضوعها لسيطرتهم.

ويستدل على احتفاظ نقراطيس بنظمها حتى العصر الروماني بأن الإمبراطور هادريان اتخذ في القرن الثاني من هذه النظم نموذجًا احتذاه في إنشاء مدينة أنطينوؤبوليس.

وتحدثنا وثيقة من القرن الثاني للميلاد بأن قوانين نقراطيس كانت لا تعترف بشرعية الزواج بين الإغريق والمصريين.ويرجح المؤرخون الحديثون أن هذه القوانين التي ترمي إلى الاحتفاظ بالعنصر الإغريقي نقيًا خالصًا، كانت قائمة كذلك في عهد البطالمة بل منذ إنشاء المدينة.

وقد انتقص تأسيس الإسكندرية من الأهمية التجارية التي كانت تتمتع بها نقراطيس لكن ما وجد بين أطلالها من الآنية الفخارية الكثيرة المصنوعة في الخارج يرينا أن هذه المدينة كانت مزدهرة في عصر البطالمة. ولا غرو فإن سجلات زينون البردية ترينا أن نقراطيس كانت الميناء الرئيسي على الطريق البري بين بلوزيون والعاصمة.

وإذا كانت نقراطيس قد احتفظت في عهد البطالمة بنظمها كمدينة إغريقية، فإنها احتفظت كذلك بتقاليدها في حلبة الثقافة الإغريقية، وليس أدل على ذلك من عدد رجال الأدب الإغريقي الذين أنجبتهم في عهد البطالمة والرومان. لكن صبغتها الإغريقية العامة لم تحل دون وجود عناصر مصرية هناك، ونستدل على ذلك من بقيا المعبد المصري التي كشف عنها هناك. ولا شك في أن المصريين المقيمين في نقراطيس لم يعتبروا بين مواطنيها، على نحو ما سنرى أنه كان حال المصريين في الإسكندرية وبطوليميس أيضًا.


الإسكندرية


على بعد نحو من أربعين ميلاً من نقراطيس في الاتجاه الشمالي الغربي، وعلى مسافة بضعة أميال غربي فرع النيل الكانوبي، اختار الاسكندر البقعة التي شيدت عليها مدينة الإسكندرية، وهي تقع على ذلك الشريط من اليابسة الذي يفصل البحر عن بحيرة مريوط. ويبدو أن الإسكندر اختار هذه البقعة لجفافها وارتفاعها عن مستوى الدلتا وبعدها عن رواسب فرع النيل الكانوبي، وسهولة وصول مياه الشهرب إليها، وذلك فضلاً عن قرب جزيرة فاروس وبحيرة مريوط منها. فقد قدر الاسكندر أنه بمد جسر من الجزيرة إلى الشاطئ يمكن توفير مرفأين في هذا المكان، يستخدم أيهما تبعًا لاتجاه هبوب الريح، وأن البحيرة يمكن استخدامها مرفأ للمراكب الآتية من داخل البلاد عن طريق النيل.

ولعل وجه الشبه بين موقع جزيرة فاروس تجاه شاطئ الدلتا وموقع صور على جزيرة تجاه الشاطئ الآسيوي هو الذي لفت نظر الاسكندر إلى ما يتوافر لموقع الإسكندرية من مميزات، فقرر على الفور إنشاءها دون تدبير سابق، بدليل ما ترويه المصادر القديمة عن عدم توافر كمية كافية من الجير لتعيين مواقع الأجورا والمعابد وأسوار المدينة والاستعانة بالحبوب المخصصة لمؤنة الجنود لإتمام التخطيط مما اعتبر فألا سعيدًا ينما عما ستصيبه المدينة من الرخاء والرفاهية.

وما الذي حدا بالاسكندر إلى تأسيس الإسكندرية؟ هل أراد أن يجعل هذه المدينة مقر إمبراطورية تتألف من عالم البحر الأبيض المتوسط؟ نحن لا نستبعد على الاسكندر أية مشروعات إنشائية، لكننا نستبعد أن يقصر إمبراطوريته على هذه الدائرة الضيقة فقد كان هدفه الاستيلاء على آسيا بل العالم. أم هل فكر في جعل الإسكندرية مقر إمبراطوريته العالمية؟ ونحن نستبعد ذلك أيضًا لأنه لو قصر إمبراطوريته على العالم الإغريقي والإمبراطورية الفارسية، لكانت بابل بحكم موقعها أفضل من الإسكندرية للاضطلاع بهذه المهمة. ولو صح ما قيل من أنه كان يريد فتح الغرب أيضًا لاتجه بتفكيره إلى أثينا بحكم ماضيها ومكانتها وموقعها. أم هل أراد، وقد حطم منذ فترة قصيرة مدينة صور التي كانت أكبر ميناء في شرق البحر الأبيض المتوسط، أن ينشئ ثغرًا مقدونيًا يخلف صور في العالم التحاري؟ هذا محتمل، ولاسيما أنه لم يكن لمصر ميناء جدير بأهميتها وغناها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وذلك بالرغم من أن علاقاتها بعالم بحر إيجة كانت في ازدياد مطرد منذ عدة قرون خلت. ولا أدل على ذلك من أن الفراعنة قد تركوا منذ مدة طويلة عواصمهم القديمة في الجنوب واتخذوا مقرهم في الدلتا التي أصبحت قلب بلادهم النابض، إلى حد أن الاسكندر لم ير ضرورة للذهاب إلى الحدود الجنوبية واكتفى بإرسال حامية صغيرة إلى الفنتين لتحمل إلى أهالي منطقة طيبة نبأ وصول عاهلهم الجديد.وبعد دخول مصر حظيرة الإمبراطورية المقدونية، كان طبيعيًا أن يزداد اتجاه نشاطها نحو بحر إيجة.

ولعل هدف الإسكندر لم يكن اقتصاديًأ فحسب بل كان حربيًا أيضًا، وهو أن يجعل من الإسكندرية قاعدة بحرية تدعم سيطرته على بحر إيجة وشرق البحر الأبيض المتوسط. ولعله أراد كذلك أن تكون مدينته الجديدة، وقد قامت على أسس الحضارة الإغريقية، منبعًا يفيض بماء هذه الحضارة فينشر خصبها بين ربوع الشرق القديم.

ويبين أن الإسكندرية كانت أول ميناء لمصر على مياه البحر المتوسط العميقة، لأن بلوزيون – إذا صح ما يرويه استرابون – كانت تقع على فرع النيل البلوزي على مسافة أربعة كيلو مترات تقريبًا من البحر. وقد كانت نقراطيس تبعد كثيرًا عن البحر. أما كانوب، التي كانت تعتبر مينهاءها، فلا يبعد أنها لم تكن أكثر من مأوى عند مصب النيل. (انظر خريطة مصر في عصر البطالمة). وإذا كانت بلوزيون قد احتفظت بمكانتها باعتبارها مفتاح مصر من ناحية الشرق – وترينا وثائق زينون أن جماركها كانت عامرة في القرن الثالث بما يتدفق عليها من واردات سوريا – فإن نقراطيس فقدت أهميتها تبعًا لازدياد أهمية الإسكندرية التي جذبت إليها أنظار الشرق والغرب معًا وأصبحت تلعب دورًا كبيرًا في حياة مصر الاقتصادية، لا باعتبارها عاصمتها فقط بل أيضًا باعتبارها ميناءها الأول. فقد كانت تستقبل من الخارج ما تحتاج إليه البلاد فتوزعه عليها، ويأتي إليها من كل أنحاء البلاد ما يزيد على حاجتها فتصدره إلى مختلف الأسواق الخارجية. ولم تكن الإسكندرية مركزًا تجاريًا ممتازًا فحسب بل كانت أيضًا مركزًا صناعيًا هامًا.
وسرعان ما غدت الإسكندرية أكبر مدينة إغريقية في العالم تفوق في اتساعها أكبر المدن القيمة: أثينا وكورنثة وسراقوسة. وقد غدت كذلك في طليعة عواصم الحضارة الإغريقية واستمتعت بمكان الصدارة في حلبة هذه الحضارة طوال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، فلا عجب أن خلعت اسمها على حضارة هذين القرنين.

ويبدو مما يرويه استرابون أنه كانت تقوم في البقعة التي شيدت الإسكندرية عليها قرية تدعى راكوتيس (Rhakotis)، إذ يحدثنا بأن ملوك مصر السابقين كانوا قانعين بمنتجات بلادهم ولا يريدون استيراد شيء من الخارج، ويكرهون الأجانب وخاصة الإغريق لما عرف عنهم من الجشع في اغتصاب البلاد الأجنبية. ولذلك أقاموا في هذه البقعة حامية عسكرية لصد الأجانب عن دخول البلاد وأنزلوا جنودهم في القرية التي كانت تعرف باسم راكوتيس، وأصبحت جزءًا من مدينة الإسكندرية وراء أحواض الميناء. ونقرأ في "قصة الاسكندر" التي تعزى إلى كاليسثينيس أن البقعة التي شيدت الإسكندرية عليها كان يقوم عليها قديمًا ست عشرة قرية مصرية كانت راكوتيس أكبرها.

وتدل الأبحاث الجيولوجية الحديثة على أن شاطئ الإسكندرية كان في عصر ما قبل التاريخ يتألف من سلسلة من الجزر الصغيرة، تقع عند مدخل الخليج الذي أصبح فيما بعد بحيرة مريوط، لكن تراكم رمال الصحراء أدى على تعاقب الأجيال إلى ربط هذه الجزر بعضها ببعض وتحويل الخليج إلى بحيرة. وبمضي الزمن طرأت تغييرات أخرى على أرض الإسكندرية، فإن مستواها اليوم قد انخفض عما كان عليه في عصر البطالمة والرومان مسافة تتراوح بين متر ومتر ونصف أو أكثر من ذلك. ويبدو أن هذا الانخفاض قد حدث بالتدريج، إما نتيجة لهزات زلزالية عنيفة أو نتيجة لإحدى الظواهر الجيولوجية أو لارتفاع مستوى البحر. ويجب أن يلاحظ أيضًا أن مستوى المدينة القديمة أوطأ من مستوى المدينة الحديثة ببضعة أمتار، لا بسبب هذا الهبوط فحسب بل بسبب مخلفات العصور المختلفة التي كونت طبقات فوق طبقات، إذ أنه لكي نصل إلى مستوى المدينة في العصر الروماني يجب أن نحفر في باطن الأرض ستة أو سبعة أمتار. ولذلك لابد من أن أطلال المدينة البطلمية تقع على عمق أبعد من ذلك، ومن ثم يرجح أن المياه تغمر كل طبقات ذلك العصر، وقد ترتب على ذلك أنه يتعذر إعطاء صورة كاملة لمدينة الإسكندرية القديمة.

وقد كان يظن أن فاروس لم تكن وقت مجيء الاسكندر أكثر من مأوى لبعض صيادي السمك المصريين، وأن الاسكندر وخلفاءه من أفراد أسرة البطالمة هم الذين أنشأوا في هذا المكان ميناء عظيمًا. لكن أبحاث جاستون جونديه (Gaston Jondet) أثارت مشكلة هامة، فإنه كشف في قاع البحر، عند المكان الذي كان يعرف قديمًا باسم جزيرة فاروس، عن بقايا أرصفة ومنشآت بحرية ضخمة. ولم يثبت بعد إذا كانت هذه الأطلال جزءًا من ميناء الإسكندرية في العهد الإغريقي، أو جزءًا من ميناء أقدم عهدًا من ذلك ثم أهمل وعفا عليه الزمن قبل الفتح المقدوني. ويميل جونديه إلى الاعتقاد بأن رمسيس الثاني أو الثالث هو الذي أنشأ الميناء المندثر ليحمي مصر من طغيان سكان البحار ويقول: "إن مواد البناء ضخمة، كما هي الحال في أبنية الفراعنة، ولابد من أن نقلها وإنشاءها كانا أصعب من إقامة الأحجار التي تتألف منها الأهرامات الكبيرة".

ويرى فريق من الباحثين أن هذه البقايا المطمورة في الماء مخلفات مواني بحرية يعزون إنشاءها إلى الكريتيين في العصر المينوئي المتوسط أو الحديث أي في عصر الدولة الوسطى أو الدولة الحديثة. ويرى الدكتور الفخراني أن ملوك مصر في عهد الدولة القديمة هم الذين أنشأوا هذه المواني المطمورة، وأن هذه المواني ازدادت في الأهمية في عصر الأسرة التاسعة عشر وظلت قائمة إلى أن حدثت تغييرات جيولوجية وطبيعية أفضت إلى اختفائها تحت الماء.

وقد اهتم الكتاب القدماء بتفاصيل قصة تعيين مواقع أسوار المدينة أكثر من اهتمامهم بإعطائنا معلومات دقيقة عن مقاييس الأسوار وأبعادها وشكلها ومواقعها. وقد انفرد تاكيتوس (Tacitus) من بين كافة المؤرخين القدماء بأن عزا إنشاء الأسوار إلى بطلميوس الأول، أما غيره من المؤرخين فإنهم لم يشيروا إلى الأسوار إلا إذا عرضت مناسبة للإشارة إلى أحد الحصارات التي عانتها المدينة. ولا سبيل إلى الشك في أن أسوار الإسكندرية كانت أعظم من أسوار أية مدينة إغريقية أخرى، فيما عدا سراقوسة وأثينا. وقد أثبتت الحوادث أنها كانت منيعة على الدوام، فقد فشل أمامها أنطيوخوس الرابع ملك سوريا في عامي 170 و168ق.م. وقضى دقلدقيانوس ثمانية أشهر للاستيلاء عليها في عام 295-296. ويكاد ينحصر كل ما نعرفه عن هذه الأسوار في العهد الإغريقي فيما يلي:

أولاً: أنه كان يحيط بالإسكندرية منذ تأسيسها أسوار يبلغ أقصى طولها حوالي 15 ك.م.
ثانياً: حصنت هذه الأسوار بإقامة أبراج عليها في مسافات متقاربة.
ثالثاً: كانت هذه الأسوار تتبع من الناحية الشمالية الشرقية مجرى الشاطئ حتى رأس لوخياس (Lochias)، ثم تتجه نحو القناة المتفرعة من الفرع الكانوبي.

ويحدثنا استرابون بأن المدينة كانت تبلغ 30 ستاديًا (Stadia ومفردها Staion = 610 قدم أو 185.9 متر) في الطول وسبعة أو ثمانية في العرض أما استفان البيزنطي فيروي أن طول المدينة كان 24 ستاديًا وعرضها ثمانية.

ومن المعروف أن المدينة الإغريقية كانت تتألف عادة من المدينة وإقليمها الزراعي، لكن جوجيه يعتقد أن الإسكندرية لم تتألف إلا من المدينة وضواحيها، وذلك لأن ما يعرف بإقليم الإسكندرية كان في العهد الروماني منفصلاً عن المدينة ويكون مديرية على حدة تحت سيطرة قائد يقيم في هرموبوليس بارفا (Herpmpolis Parva) (دمنهور)، ويرجح جوجيه أن هذا النظام كان سائدًا في عهد البطالمة أيضًا. وحتى إذا صح هذا الفرض، فإنه لا يدل في رأينا على أنه لم يكن للإسكندرية إقليم زراعي، بل على أنه كان لها إقليم كبير إلى حد أنه كان يكون مديرية بأكملها. وفي هذا أبلغ دلالة على عطف البطالمة وحدبهم على مواطني عاصمتهم الإغريق. ويجب ألا نخلط بين إقليم الإسكندرية (Alexandaeias Chora)، وبين ذلك الجزء من مديرية ليبيا الذي كان يطلق عليه أفور يسمنى (Aphorismene) وتخصص منتجاته للإسكندرية. ومما تجدر ملاحظته أن الإسكندرية كانت لا تعتبر جزءًا من مصر وإنما مجاورة لها، على حد تعبير الإغريق والرومان الذين كانوا يدعونها الإسكندرية بجانب مصر (pros Aigypto أو kat' Aigypton أو Ad Aegyptnm). ويحدثنا مؤلف قصة حياة الإسكندرية بأن الفاتح الكبير وضع أساس مدينة الإسكندرية في اليوم الخامس والعشرين من شهر طوبة عام 331ق.م. وبأن المدينة كلها اعتادت طوال العصور القديمة تزيين الحيوانات بالزهور وتقديم القرابين لآلهة المدينة الحارسة Agathoi Daimones في مثل هذا الموعد من كل عام.

وكان المهندس الذي استخدمه الإسكندر لتخطيط المدينة يدعى دينوكراتس (Dinocrates). وقد طبق هذا المهندس أفكار تخطيط المدن التي نشرها هيبوداموس (Hippodamos) من مليتوس في القرن الخامس قبل الميلاد، وطبقت في إعادة تخطيط بيرايوس (Peiraios) ورودس وهاليكارناسوس. وأهم طابع لتخطيط الإسكندرية هو شوارعها التي تجري في خطوط مستقيمة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، حتى لتشبه لوحة الشطرنج. وقد شبه الأقدمون شكل رقعة المدينة بشكل عباءة الحرب المقدونية وكانت كجزء من دائرة يبلغ طوله ضعف عرضه تقريبًا.

وإذا كان كليومنيس النقراطيسي هو أول من بدأ في إقامة منشآت الإسكندرية وكان كل البطالمة تقريبًا قد أسهموا في تجميل هذه المدينة، فلا سبيل إلى الشك في أنه كان لبطلميوس الأول والثاني أكبر نصيب في ذلك. ويبدو أنها في عهد بطلميوس الثاني كانت قد استكملت أهم مظاهرها التي اشتهرت بها في عهد الإغريق والرومان. وكان بها شارعيان رئيسيان يزيد عرض كل منهما على ثلاثين ياردة، وتقوم على جانبيهما دهاليز أعمدة كانت تضاء ليلاً. وكان أحد الشارعين الرئيسيين يمتد من باب كانوب (أبو قير) في الشمال الشرقي إلى باب الغرب في الجنوب الغربي. أما الآخر فكان يجري من باب الشمس عند بحيرة مريوط في الجنوب الشرقي إلى باب القمر، عند أو شرقي الجسر الذي يربط الشاطئ بجزيرة فاروس أو عند رأس لوخياس. وقد كان هذا الشارع يتقاطع عند وسطه تقريبًا فيما يظن مع الشارع الأول فيتألف في ذلك المكان ميدان كبير (Meson pedion) وكانت بقية الشوارع بوجه عام تجري موازية لهذين الشارعين الرئيسيين. وكان كثير من هذه الشوارع يسمح بمسير العجلات، وذلك على نقيض الشوارع الضيقة التي كانت توجد عادة في المدن الإغريقية القديمة.

ويبدو أنه عندما توفيت أرسينوي فيلادلفوس كان من بين ما فعله بطلميوس الثاني لتخليد ذكراها أنه أعاد تسمية شوارع الإسكندرية أو على الأقل ما يمر منها في الحي الملكي وأطلق عليها اسم أرسينوي، إذ تحفظ وثيقة بردية أسماء عدة من شوارع الإسكندرية يحمل كل منها اسم أرسينوي، لكنه لتمييز بعضها عن بعض أضيف إلى اسم أرسينوي في كل حالة لقب إحدى الآلهات الإغريقية التي شبهت بها. فقد أضيف إلى اسم أرسينوي الألقاب التالية: باسيليا (Basileia) وكذلك تليا (Teleia) تشبهًا بهيرا، واليوسينيا (Eleusinia) على غرار ديمتر، وإليمون (Eleemon) مثل أفروديتي في قبرص، وخالكيؤيكوس (Chalkioikos) كأثينا في إسبرطة. وكانت قوانين المدينة تقضي بأن يترك بين كل بيت وما يجاوره مسافة قدم واحد على الأقل، إلا إذا تم الاتفاق على عكس ذلك بين الجارين، وكان يحق لهما إذا شاءا بناء جدار مشترك بين بيتيهما.

وقد ربط جزيرة فاروس بشاطئ المدينة جسر أطلق عليه اسم الهبتاستاديون (Heptrstadion، لأن طوله كان 7 ستاديا أي حوالي 1300 متر) فنشأ عن ذلك ميناءان أحدهما إلى الشرق ويدعى "الميناء الكبير" (Megas Limen) والآخر إلى الغرب ويدعوى "بونوستوس" (Eunostos). ويظن أن هذا الاسم إما مأخوذ من اسم ملك سولي في قبرص، زوج ابنة بطلميوس الأول، أو لأن معنى هذا الاسم بالإغريقية "العودة السالمة". وكان هذان الميناءان يتصلان بواسطة ممرين في جسر الهبتاستاديون عند طرفيه. وقد خصص لاستعمال الملوك ميناء خاص يسمى "ميناء الملوك"، وكان يقع على الشاطئ الجنوبي للميناء الكبير تجاه جزيرة انتيرودوس (Antirrhodos)، الواقعة في الجنوب الشرقي داخل الميناء الكبير، وكان يمتد من رأس لوخياس – وكان يؤلف الجانب الشرقي داخل الميناء الكبير – لسان يحمي هذا الميناء من التيارات والرياح الشمالية. ولا يفصل هذا اللسان عن الصخرة التي تقوم عليها المناورة شرقي جزيرة فاروس إلا مدخل ضيق للميناء الكبير.

وكان يقوم على رأس لوخياس (منطقة السلسلة الحديثة) معبد وجانب من القصور الملكية، وكانت تمتد حتى تجاه جزيرة أنتيرودوس، حيث كان يوجد المسرح ويليه معبد بوسيدون على نتوء داخل الميناء الكبير. وقد أضاف أنطونيوس إلى هذا النتوء جسرًا شيد عند طرفه مسكنًا منعزلاً عرف باسم التيمونيوم (Timonium). وبعد ذلك كان يوجد معبد قيصر (Caesareum) [وهو الذي بدأت كليوباترا السابعة بناءه وأتمه الرومان بعد الفتح] والسوق والأرصفة والمستودعات.

ويبدو أن الأرصفة وما يجاورها من المستودعات (Apostaseis) كانت تكون منطقة حرة (Exhairesis) تفصلها أسوار عن المدينة، فقد كانت البضائع تنقل إلى هذه المنطقة دون فرض مكوس عليها. أما البضائع التي كانت تنقل من هناك إلى المدينة فقد كان تجبى عنها المكوس المقررة.ويرى كثيرون أن الترسانة الملكية كانت تقع داخل الميناء الكبير، غير أننا لا نستطيع قبول هذا الرأي، لأنه في خلال "حرب الإسكندرية" جر الإسكندريون من هذه الترسانة مراكب قديمة كانت متروكة هناك، فلو كانت الترسانة تقع في داخل الميناء الكبير حقًا، لتعذر على الإسكندريين عمل ذلك لأننا نعرف أن قيصر كان يسيطر على الميناء الكبير طوال هذه الحرب. ولذلك لابد من أن الترسانة كانت خارج نطاق الميناء الكبير، ونرجح أنها كانت في ميناء يونوستوس، ولاسيما أن استرابون يشير إلى وجود ترسانة هناك. ولعلها كانت توجد بالقرب من الحوض الداخلي في هذا الميناء، وكان يعرف باسم الصندوق (Kibotos).

وقد كان حي القصور الملكية (Broucheion) يطل على الميناء الكبير ويمتد فيما بين البحر وشارع كانوب ويشغل ربع مساحة المدينة أو ثلثها تقريبًا، ويكون الجانب الأكبر مما يعرف باسم المدينة الجديدة (Neapolis) في الجزء الشمالي الشرقي من الإسكندرية، حيث كانت تقوم أروع معالم العاصمة. فقد كانت توجد في هذا الحي القصور والحدائق الملكية وحدائق الحيوان التي زينت بنافورات رائعة، ودار العلم (Mouseion) ويظن أنه كان يتصل بها هيكل هوميروس – الذي شيده فيلوباتور – والمكتبة. وكانت توجد في هذا الحي كذلك دار القضاء (Dekasterion)، والجيمانزيوم، وكان مقر الحياة الاجتماعية لمواطني الإسكندرية المتمتعين بحقوق المواطنة، وكان بناء رائعًا له بهو أعمدة يمتد مسافة تزيد على ستاديون، ويظن أنه كان يوجد شمال شرقي الحي الذي يعرف اليوم باسم كوم الدكة. وكان يوجد هناك أيضًا البانيون (Paneion) وهو تل صناعي أقيم إجلالاً للإله بان، تشرف قمته على المدينة بأكملها وتحيط به حديقة (ويظن أنه تل كوم الدكة). وفي رأي الكثيرين أنه كانت توجد كذلك في هذا الحي السيما (Sema)، وهي المعبد الجنازي الذي دفن فيه الإسكندر داخل تابوت من الذهب. وبمضي الزمن شيدت حول هذا المعبد عابد جنازية أخرى للبطالمة المؤهلين، فإن بطلميوس الثاني بدأ هذا العمل بتشييد معبد لأبويه ومعبد آخر، فيما يظن، لزوجه أرسينوي وليكون مثواه الأخير. أما مضمار سباق الخيل (Hippodromos) وميدان الألعاب (Stadium) فكانا يقعان في أطراف المدينة، أولهما في الناحية الشرقية، بالقرب من المكان الذي يوجد فيه اليوم ميدان السباق. وثانيهما في الناحية الجنوبية الغربية، في حي راكوتيس الذي أقيم معبد السيرابيوم على تل فيه، حيث يوجد الآن العامود المعروف خطأ باسم عامود بومبي.

وشرقي جزيرة فاروس وعلى مقربة منها، حيث توجد الآن قلعة قايد بك، كانت وجد جزيرة صغيرة أقيمت عليها منارة الإسكندرية الشهيرة، التي كانت تعتبر إحدى عجائب العالم القديم. وإذا كان المهندس سوستراتوس من كنيدوس قد بدأ في بنهائها في عهد بطلميوس الأول، فإنها أتمها في بداية عصر بطلميوس الثاني، حوالي عام 280/279ق.م. ولسوء الحظ أن معالم هذا البناء الضخم قد اندثرت تمامًا في خلال القرن الرابع عشر، لكن تيرش (Thiersch) حاول أن يصور لنا ما كانت عليه هذه المنارة بعد أن استعرض في كتابه كل ما يتعلق بها من مصادر العصور القديمة والعصور الوسطى، وكذلك كل ما يتصل بكافة المنارات التي بنيت بعدها ويرجح أنها تأثرت بها. وقد توصل تيرش إلى نتائج تثير الإعجاب، إذ يبين أنها شديدة القرب من الحقيقة، برغم اعتماده في الوصول إليها على معلومات غير مستمدة من وصف أشخاص رأوا المنارة بأنفسهم. ولحسن الحظ اهتدى حديثًا إلى مصدر لم يكن معروفًا لتيرش، ويمتاز هذا المصدر على كل ما اعتمد عليه هذا العالم بأنه وصف دقيق واضح للمنارة قبل اندثارها.

أما هذا المصدر فهو كتاب وضعه معماري من ملقا (Malaga) بأسبانيا، يدعى أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي المالكي الأندلسي المعروف بابن الشيخ، وكان يعيش بين 1132 و1207م ونزل بالإسكندرية عامي 1165 و1166، حيث وقف نفسه على البحث الأدبي ودراسة الآثار. ولما كانت لديه كفاية تؤهله لدراسة المباني دراسة دقيقة، فإن الباحثين يعلقون أهمية كبيرة على ما أدلى به من معلومات عن منارة الإسكندرية التي زارها ودون مقاييسها في مذكرات، استخدمها عند عودته إلى ملقا بعد عام 1166 في وضع كتاب، اسمه "كتاب ألف باء"، لتعليم ابنه "عبد الرحمن". وقد نشر هذا الكتاب في القاهرة في عام 1287هـ (1870م). وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب (ص537 و538) نجد وصفًا مفصلاً لمنارة الإسكندرية، استخدمه بعض الباحثين الأسبان في إعطائنا صورة جديدة لشكل المنارة، لعلها أدنى إلى الحقيقة من كل ما عرفناه عنها حتى الآن، وذلك بفضل مقاييس "ابن الشيخ" وأمانة وصفه ودقة ملاحظته، ولاسيما أنه كان بناء قادرًا وراوية دقيقًا.

ويستخلص من هذه الدراسة أنه كان يربط جزيرة فارس بالصخرة التي قامت عليها المنارة جسر مائل يرتفع رويدًا من الجزيرة إلى صخرة المنارة، ويقوم على ستة عشر قوسًا ويبلغ طوله مائة باع (68 مترًا) تقريبًا. وقد أقيم حول القسم الأول من المنارة، لحمايته من طغيان البحر، سور ارتفاعه 12 ذراعًا (6.96) وسمكنه عند قمته 12 ذراعًا. لكن هذا السمك كان يزداد كلما هبط السور إلى قاعدته. ويبدو أنه كان يحيط بكل جوانب السور، من الخارج، إفريز لا نعرف عرضه. وفي الوسط، داخل السور، أقيمت المنارة نفسها، وكانت تتألف من ثلاثة أقسام يعلوها المصباح.

وكان القسم الأول رباعي، والثاني ثماني، والثالث اسطواني الشكل، وقاعدة القسمين الأول والثاني أكثر اتساعًا من قمتها. ويبلغ طول كل حائط، عند القاعدة، 45 باعًا (30.60 مترًا) في القسم الأول، وعشرة إبوع (6.80 مترًا) في القسم الثاني. ومعنى ذلك أن محيط قاعدة القسم الأول وقدره 180 باع (122.40 مترًا) يزيد بمائة باع (68 مترًا) على محيط قاعدة القسم الثاني وقدره 80 باعًا (54.40 مترًا). ويبلغ ارتفاع القسم الأول 31 قامة (71.30 مترًا) ثم تعلو ذلك، حول الممشى الذي يحيط بالقسم الثاني ويبلغ عرضه 15 شبرًا (3.375 مترًا)، حائط كالستار طولها قامة واحدة (2.30 مترًا)، وعرضها سبعة أو تسعة أشبار (1.575 مترًا أو 2.025 مترًا). ويبلغ ارتفاع القسم الثاني 15 قامة (34.50 مترًا)، أي حوالي نصف ارتفاع القسم الأول، ثم تعلوه حائط كالستار يفصلها عن القسم الثالث ممشى عرضه تسعة أشبار ونصف شبر (3.137 مترًا). ويبلغ محيط القسم الثالث الأسطواني أربعين باعًا (27.20 مترًا)، أي نصف محيط القسم الثاني، وارتفاعه أربع قامات (9.20 مترًا)، أي ربع ارتفاع القسم الثاني تقريبًا. وبعد الفتح العربي، أقيم وسط القسم الثالث، مكان المصباح القديم، جامع صغير كالقبة، ارتفاعه ثلاث قامات (6.90 متر) ومحيطه 20 باعًا (13.60 مترًا)، وأمامه سور سمكه شبران (0.45 مترًا)، وبينه وبين المسجد ممشى عرضه خمسة أشبار (1.125 مترًا). ويتضح من ذلك أن ارتفاع المنارة كان يبلغ 53 قامة (121.90 مترًا) ابتداء من قاعدة القسم الأول، هذا فيما عدا أساس البناء كله الذي يقدر بست قامات (13.80 مترًا)، فيكون ارتفاع البناء بأجمعه 59 قامة (135.70 متر).

وكان يقوم في القسم الأول المربع، بين محوره وجدرانه، مرتقى حلزوني لا درج فيه، وكان عرض هذا المرتقى سبعة أشبار (1.575 مترًا). أما في القسمين الثاني والثالث فقد بني سلمان يتألف أولهما من 32 درجة، وثانيهما من 18 درجة. ولم توجد غرف في أقسام المنارة المختلفة إلا في القسم الأول بسبب اتساعه. وقد كان بعض هذه الغرف إلى يمين المرتقى الحلزوني وبعضها إلى يساره، لكنه لا يمكن الجزم بعدد الغرف في كل من هذين الجانبين، وإن كنا نعرف أنه على مسافة أربعين باعًا (27.20 مترًا) من مدخل المنارة كانت توجد إلى اليسار غرفة تؤدي إلى قاع المنارة. وبعد ذلك بستين باعًا (40.80 مترًا) كان توجد إلى يمين المرتقى ويساره 18 غرفة يتصل بعضها ببعض. وبعد 60 باعًا أخرى كانت توجد 15 غرفة، وبعد 24 باعًا (16.32 مترًا) كانت توجد 17 غرفة، وبذلك يكون مجموع الغرف التي عددها "ابن الشيخ" 51 غرفة. لكنني لاحظت أنه ختم وصفه بقوله إن عدد جميع الغرف كان 68، فهل سبب ذلك أنه كانت توجد غرف أخرى أغفل ذكرها أول الأمر لكنه أدخلها في المجموع، أم أنه احتسب سهوًا السبع عشرة غرفة الأخيرة مرتين؟ هذا ما لا يمكن الجزم به وإن كان الاحتمال الثاني يبدو معقولاً.

ولم يذكر "ابن الشيخ" شيئًا عن زخرفة المنارة الخارجية ولا عن المصباح، لأن مر الأيام كان قد أتى عليها. ولذلك لا مفر من الاعتماد على ما ورد في المراجع الأخرى وخاصة ما استخلصه منها تيرش، ومجمله أن المنارة بنيت من الحجر وزخرفت بلوحات منحوتة من الرخام والبرونز، وأن المصباح كان يتكون من ثمانية أعمدة تغطيها قبة أقيم عليها تمثال يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار تقريبًا، يرجح أنه كان تمثال بوسايدون إله البحار. وكان النور الذي يستخدم لإرشاد الملاحين ينتج من إحراق أخشاب صلبة في المصباح، الذي يظن أنه كانت به مرايات محدبة، مصنوعة من المعدن، لترسل الضوء إلى مسافة بعيدة.

وكانت المنارة تحمل، على واجهتها الجنوبية، نقشًا هذا نصه: "سوستراتوس بن دكسيفانس (Dexiphanes) من كنيدوس، إلى الإلهين المنقذين (سوترس) باسم الملاحين". لكن من كان المقصود بالإلهين المنقذين؟ أكان يراد بذلك بطلميوس الأول وزوجه برينيكي اللذين عرفا بهذا اللقب بعد تأليهما؟ وهذا طبيعي لأن بطلميوس الأول هو الذي أمر ببناء المنارة. أم كان يراد بذلك الإلهين كاستور (Castor) وبولوكس (Pollux) إلهي الملاحين، اللذين كانا يوصفان عادة على هذا النحو؟ وهذا محتمل أيضًا، ولاسيما إذا كان النقش قد وضع قبل تأليه بطلميوس الأول وزوجه. أم لعل هذا الغموض كان مقصودًا لكي يحوز أن تنصب هذه العبارة على بطلميوس الأول وزوجه، وكذلك على كاستور وبولوكس. وهذا أقرب الاحتمالات جميعًا، لكنه يبدو غريبًا أنه سمح للمهندس بأن يهدي باسمه بناء هامًا مثل هذه المنارة. وقد قيل تفسيرًا لذلك أن سوستراتوس حفر اسمه عميقًا في الصخر بحروف ضخمة ثم غطاه بطبقة رقيقة من الجبس تشبه الصخر في المظهر ونقش عليها اسم بطلميوس، على أمل أن يقع الجبس بعد وفاته فيزول اسم بطلميوس ويبقى اسمه.

وكانت تمد الإسكندرية بمياه الشرب قناة كبيرة تتفرع من النيل عند سخديا (Schedia = قرية النشو البحري بمركز كفر الدوار)، على بعد حوالي 27 ك. م من العاصمة، وتتخذ مجرى يشبه كثيرًا مجرى ترعة المحمودية. ويبين أن هذه القناة أقدم من الإسكندرية ذاتها، إذ تحدثنا "قصة الاسكندر" بأن راكوتيس والقرى المجاورة، التي شيدت الإسكندرية عليها، كانت تستمد مياهها من اثنتي عشرة قناة صغيرة تتفرع من قناة كبيرة، وأنه عندما أسست الإسكندرية سدت هذه القنوات جميعًا فيما عدا اثنتين منها وشيدت فوق الباقي شوارع المدينة وميادينها.

وتدل المصادر القديمة والأبحاث الحديثة على أنه أنشئ تحت سطح أرض المدينة نظام دقيق من القنوات لإمداد المنازل بحاجتها من مياه الشرب التي كانت تأتيها على هذا النحو من القناة الكبيرة. ويعزى إنشاء هذه القنوات إلى هيبونوموس (Hyponomos) الليبي.

وبالقرب من حجر النواتية (Petrae)، كانت القناة الكبيرة تتفرع فرعين يسير أحدهما في محاذاة الشاطئ إلى "أبو قير" بينما يتجه الآخر نحو الإسكندرية. ويرى أغلب العلماء أن هذا الفرع كان يلف حول العاصمة من الجنوب ويصب في ميناء يونوستوس عند "الصندوق"، لكن برتشيا يخالف هذا الرأي ويعتقد أنه كان طبيعيًا أن تصب القناة في "الميناء الكبير" لأنه كان أهم من الميناء الآخر. ونحن لا نستطيع قبول رأي برتشيا لسببين (أحدهما) أن استرابون يحدثنا بأن قناة صالحة للملاحة كانت تصل "الصندوق" ببحيرة مريوط، (والآخر) لو كان رأي برتشيا صحيحًا، لمدت القناة بالمياه الحي الملكي الذي تحصن فيه قيصر خلال "حرب الإسكندرية"، ولما اضطر قيصر إلى أن يعمل على مد تحصيناته جنوبًا نحو البحيرة ليضمن الحصول على مياه الشرب. ولذلك نرجح أن القناة كانت تدور حول العاصمة من الجنوب وتصب في الناحية الشرقية من خليج بحيرة مريوط، الذي شيد عليه ميناء البحيرة وكان يتوغل في داخل العاصمة مسافة كبيرة حتى شارع كانوب بالقرب من منتصفه فيشطر المدينة شطرين، ثم كانت القناة تخرج من ضفة الخليج الغربية وتمتد حتى الصندوق. وبعد إنشاء جسر الهبتاستاديون وميناء البحيرة أصبح للإسكندرية ثلاثة مواني: اثنان منها على البحر الأبيض المتوسط، حيث كانت ترسو المراكب القادمة من هذا البحر، والثالث على بحيرة مريوط حيث كانت تحتشد المراكب القادمة من داخل مصر، وتحمل منتجاتها وكذلك منتجات الشرق الأقصى.

وكانت توجد خارج أسوار الإسكندرية مدينتان للموتى، إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب. وكان يوجد في الشرق أيضًا، على طول القناة، ضاحية إليوسيدس (Eleusis) (بالقرب من بحيرة الحضرة) حيث أنشأ بطلميوس الثاني للإلهة ديمتر عبادة كانت تشبه في بعض مظاهرها عبادة هذه الإلهة في إليوسيس بأتيكا. وكانت توجد كذلك على ضفة هذه القناة، فيما بين الإسكندرية وأبو قير، قصور وحدائق أغنياء الإسكندرية. وقد أصبحت كانوب (أبو قير)، تلك المدينة المصرية القديمة، مكانًا مختارًا لمباهج الإسكندريين. ويصف لنا استرابون المظاهر الصاخبة التي كانت تشاهد على المراكب المتنقلة آناء الليل وأطراف النهار في هذه القناة، بين الإسكندرية وكانوب.

ولما كانت الإسكندرية ثغرًا تجاريًا عظيمًا ومدينة صناعية كبيرة، وذلك فضلاً عن كونها عاصمة دولة كبيرة، فإن سكانها لم يتألفوا منذ نشأتها من الإغريق والمقدونيين وحدهم. بل سرعان ما غدوا خليطًا من مختلف الأمم. فقد عرفنا كيف أنها أنشئت في بقعة كان يشغل جانبًا منها عدد من القرى المصرية أو على الأقل قرية مصرية واحدة تدعى راكوتيس.

ويضاف إلى ذلك أن عدد المصريين هناك ازداد نتيجة لنقل سكان مدينة كانوب إلى الإسكندرية عندما كان كليومنيس الحاكم بأمره في وادي النيل. وإلى جانب أولئك المصريين المستقرين هناك يبين أن الإسكندرية كانت تجتذب إليها الكثيرين من مواطنيهم، مما حدا بفيلادلفوس إلى أن يحظر على المصريين الوافدين عليها من الريف أن يطيلوا إقامتهم في العاصمة.

وتصور لنا أشعار ثيوكريتوس كيف كانت تتجاوب في شوارع الإسكندرية في أثناء حفلات البطوليمايا أصداء مختلف اللهجات الإغريقية، فقد كانت الوفود الرسمية (theores) تحج إلى الإسكندرية في هذه المناسبات من كل أنحاء العالم الإغريقي لأنها كانت تعتبر في مرتبة الألعاب الأوليمبية. وتضم الآنية الجنازية رماد جثث بعض المبعوثين الرسميين الذين توفوا في أثناء تمثيل بلادهم في هذه الحفلات، أو في أثناء القيام بمهام أخرى في الإسكندرية، مثل نيكوستراتوس من خيوس الذي توفي في مارس عام 209. ويرجح جوجيه أن شوارع الإسكندرية كانت لا تطن بكل اللهجات الإغريقية فحسب بل أيضًا بكل اللهجات الإفريقية والآسيوية. ويذهب برتشيا إلى أن سكان الإسكندرية في عصر البطالمة كانوا يتكونون من مثيل العناصر التي كانت تعيش فيها في خلال القرن الرابع للميلاد، إذ يحدثنا خريسوستوموس (Chrysostomos) بأن أفواجًا من "الإغريق والإيطاليين والسوريين والليبيين والكيليكيين والأثيوبيين والعرب والبكتريين والسكيثيين (Scythians) والهنود والفرس كانت تتدفق على هذه المدينة"، التي وصفها استرابون بأنها "خزان عام"، وقال عنها فيلون إنها "عدة مدن داخل مدينة واحدة".

ويقول ديودوروس، استنادًا إلى قوائم السكان الرسمية في عام 60ق.م، إن عدد المواطنين الأحرار في الإسكندرية كان يبلغ 300.000 نسمة. لكن لا شك في أن عدد سكان هذه المدينة كان يزيد كثيرًا على ذلك، لأن المصريين واليهود والعبيد وكذلك كثير من الإغريق وأشباههم كانوا يعتبرون خارج هيئة المواطنين. ويستبعد أنه كان يوجد تزواج بين الإغريق والمصريين في الإسكندرية، إذ يرجح أن هذا التزاوج كان يعتبر غير شرعي في الإسكندرية وبطولبميس مثل ما كان في نقراطيس.

ويصف يوليبيوس وفيلون الإسكندريين بأنهم شعب يسري في عروقه دم خليط (Migades)، لكن لعل المقصود بذلك أن هيئة المواطنين في الإسكندرية كانت تتألف من خليط من كافة الإغريق، أي من الأيونيين والدوريين والأيوليين، ومن الإغريق القادمين من بلاد الإغريق الأصلية، وكذلك من المدن الإغريقية التي أنشئت خارج تلك البلاد.

ويقول بوليبيوس إن سكان الإسكندرية كانوا يتألفون من العناصر التالية:

(1) المصريين، وكانوا حاضري البديهة ولا يميلون إلى الحيارة الرتيبة.
(2) الجنود المرتزقة، وكانوا لا يخضعون لأحد ويميلون إلى فرض إرادتهم على الحكومة.
(3) "الإسكندريين" وقد أظهروا شيئًا من الميل إلى الخروج على قواعد النظام، لكنهم كانوا أهدأ من الجنود لأنهم وإن كانوا عنصرًا خليطًا، إلا أنهم كانوا إغريقًا في الأصل، ولم ينسوا سبل الحياة الإغريقية العامة.

ولا شك في أن هذا التقسيم لم يكن صحيحًا، وليس إلا وليد تصورات زائر إلى تلك المدينة حوالي عام 100ق.م، لأن بوليبيوس لم يذكر شيئًا عن الفرق النظامية ولا اليهود. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن الفرق المرتزقة التي أحضرها البطالمة من الخارج كانت إذ ذاك أبرز العناصر الحربية في مصر. ويحتمل أن مظهر اليهود الإغريقي في لغتهم وزيهم جعل من العسير التفرقة بينهم وبين الإغريق. ويبدو أن بوليبيوس قد أطلق كذلك عبارة "الإسكندريين" على كل سكان المدينة من الإغريق سواء من كان منهم من فئة المواطنين أم لم يكن.

إنه يتعذر علينا اقتفاء أثر التطورات التي مرت بتكوين السكان في الإسكندرية لكننا نستطيع الجزم بأمرين: وأحدهما أنهم كانوا مجموعة جاليات من أجناس مختلفة. وإذا كانت بعض هذه الجاليات تستمتع بقدر من الاستقلال الذاتي ومن ثم يمكن اعتبارها جمعيات قومية (Politeumata)، فإن ذلك لم يكن حال كل الجاليات ولاسيما الجالية المصرية. والآمر الآخر أنهم كانوا دائمًا ينقسمون طبقات كانت أهمها:

أولاً: طبقة المواطنين الكاملين (astoi) أو الإسكندريين (Alexandreis). ويدل قانون الحرية الشخصية الوارد في إحدى البرديات المشهورة على أن كلمة "إسكندري" مرادفة لكلمة مواطن (astos)، وعلى أنه كان يمكن استخدام إحدى هاتين الكلمتين بدلاً من الأخرى. فقد جاء في هذا القانون " لا يجوز أن يكون إسكندري عبدًا لإسكندري آخر، ولا إسكندرية أمة لمواطن أو مواطنة من الإسكندرية". وهذا النص نفسه يدل أيضًا على أنه لا مجال للزعم بوجود فارق بين "مواطنة" (aste) و"إسكندرية" (Alexandris).

وقد كانت هذه الطبقة تتألف من أفراد أقدم الأسر الإغريقية وأعظمها شأنًا، وكانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة، أي بالحقوق الخاصة مثل التزاوج مع المواطنين الإغريق (Epigamia)، وامتلاك الأراضي في المدن الإغريقية (Gesenktesis) وبالحقوق السياسية وببعض الامتيازات الدينية. فقد كان يختار منهم أغلب الموظفين والكهنة، هذا إلى جانب ما كانوا يتمتعون به من الامتيازات الهامة كالإعفاء من بعض الضرائب ومن أعمال السخرة.

ومنذ عهد بطلميوس الأول كان هؤلاء المواطنون، مثل مواطني أثينا وغيرها من المدن الإغريقية، ينقسمون إلى قبائل (Phylai) وأحياء (Demes) وكذلك إلى وحدات (Phratries)، وكانت الوحدات عبارة عن جماعات دينية لإقامة طقوس العبادة الإغريقية. وكان كهنة هذه الوحدات يؤلفون هيئة (Hierothytai) يعقد المواطنون زواجهم أمامها. وكان كل مواطن يضيف إلى اسمه اسم الحي الذي سجل فيه. أما السيدات اللائي ينتمين بمولدهم إلى هذه الطبقة فإنهن كن لا يضفن إلى اسمهن اسم حيهن، لكنهن كن يدعين اسكندريات (Alexandrides) أو مواطنات (Astai). وعند بلوغ المواطن الرابعة عشرة من عمره كان يسجل في أحد الأحياء، ويدمج في جماعات الشبان (Ephebeia)، فقد كانت هذه السن تعتبر سن الرشد السياسي. ونحن لا نعرف شيئًا عن جماعات الشبان في مصر البطلمية، لكنه يحتمل أن الغرض منها كان في الإسكندرية وبطوليميس، مثل ما كان في المدن الإغريقية الأخرى، نوعًا من التدريب العسكري أو على الأقل الرياضي للشبان، عندما يحين وقت تمتعهم بالحقوق السياسية. وينهض هذا إذن دليلاً على أن تسجيل المواطن في أحد الأحياءكان يؤيد تمتعه بحقوق المواطنة، ولاسيما أننا نعرف أن الإمبراطور كلاوديوس أكد لأفراد جماعات "الشبان" الإسكندريين حقوقهم.

وفي وثيقة بردية، عثر عليها في الحيبة (Hibeh)، وترجع إلى القرن الثالث ق.م، نجد أنه في مدينة ما، لابد من أنها كانت الإسكندرية أو بطوليميس، كانت توجد خمس قبائل في كل منها إثنا عشر حيًا. ولا نعرف من أسماء قبائل الإسكندرية سوى اثنين، وهما: قبيلة ديونيسياس (Dionysias)، وقبيلة بطوليميس (Ptolemais). ويحدثنا نص قديم بأن بطلميوس الرابع أعطى مكان الصدارة بين قبائل الإسكندرية جميعًا لقبيلة ديونيسياس.

ونعرف أسماء أحياء كثيرة يبدو أنها اشتقت عادة، إما من اسم أو لقب إله أو بطل من أبطال الأساطير الدينية الإغريقية. ففي قبيلة ديونيسياس. نجد أسماء الأخياء مأخوذة من اسم ألثايا (Althaea) التي أنجب منها ديونيسوس ديانيرا ومن اسم ثستيوس (Thestios) والد الثايا، ومن اسم ديانيرا (Deianira) نفسها، وكذلك من أسماء أريادني (Ariadne) وثواس (Thoas) وستافيلوس (Staphylos)، وإفانثيوس (Evantheos) ومارون (Maron)، وهي كلها أسماء شخصيات تتصل بقصص ديونيسوس. ونعرف كذلك حيًا أخذ اسمه من اسم هرقل، وآخر من اسم أكاكوس (Acacos)، وثالثًا من اسم تمنوس (Temenos) حفيد هرقل. وقد اشتقت أسماء أحياء أخرى من ألقاب ملوك البطالمة، مثل إبيفانس وفيلومتور.

ثانياً: طبقة أنصاف المواطنين، ويتبين من الوثائق أنها كانت تتألف من ثلاث فئات:
1- فئة الذين لم يسجلوا بعد في أحياء بعينها ورد ذكرها مقرونًا بأسمائهم.
2- فئة الذين لم يسجلوا بعد في أحياء دون تحديد هذه الأحياء على الإطلاق (Pepolitographemenoi).
3- فئة اسكندري السلالة الذين لم يسجلوا بعد في أحياء بذاتها ورد ذكرها مقرونًا بأسمائهم.

وترينا البردية المشهورة التي تتضمن قوانين الإسكندرية ونظمها أن أفراد هذه الطبقة كانوا لا يتمتعون إلا بقدر محدود حتى من حقوق المواطنة الخاصة، فقد كانوا لا يتقاضون إلا أمام محاكم الغرباء (Xenikon dekasterion)، وكان لا يستطيع بيع أو شراء العقار إلا المواطنون المسجلون في الأحياء.

ويبدو أن أفراد الطبقتين الأولى والثالثة كانوا يمتازون على أفراد الفئة الثانية بأنهم سيتمتعون على الأقل قبلهم بحقوق المواطنة كاملة، وذلك لأن الأحياء التي سيسجلون فيها قد ذكرت إلى جانب اسم كل منهم مع النص على عدم تسجيلهم فيها بعد. ولعل تأخير هذا التسجيل يرجع إلى أن عدد أفراد كل حي كان محدودًا، ولذلك كان يتعين عليهم انتظار خلو أماكن في كل منها.

ومن كان أفراد هذه الفئات الثلاث؟ وما سر التفرقة بين أفرادها؟ ليست لدينا معلومات تساعدنا على الإدلاء برأي حاسم في هذه المسألة، لكنه يبدو لنا أن أفراد هذه الفئات كانوا جميعًا أحدث عهدًا بالمدينة من أفراد الطبقة الأولى، غير أن أفراد الفئة الأولى كانوا يتألفون من أشخاص أصبحت تتوافر فيهم الشروط التي تسمح بتسجيلهم في أحياء بعينها، إلا أنهم لم يسجلوا بعد لعدم توافر أماكن في تلك الأحياء، على حين أن أفراد الفئة الثانية كانوا يتألفون من مهاجرين جدد لم يستكملوا بعد شروط التسجيل في أحياء المدينة. أما أفراد الفئة الثالثة فيبدو أنهم كانوا سلالة المواطنين الإسكندريين الكاملين لكنهم لم يسجلوا في أحيائهم لظروف تماثل تلك التي عطلت تسجيل أفراد الفئة الأولى.

ثالثاً: طبقة المقدونيين، وكانت طبقة أخرى ممتازة تتمتع بنفوذ كبير في القصر وفي الجيش، ولا غرو فإنها كانت تؤلف الأرستقراطية العسكرية. وقد ورد في المصادر القديمة ذكر نظام مقدوني عمر مدة غير قصيرة في بعض الممالك الهلينسية وبخاصة في مصر، وهو جمعية الجيش، وكانت في الأصل عبارة عن الأمة مدججة بالسلاح ومنتظمة في صفوف الجيش، ومن ثم كانت مصدر السلطات. وفي عهد الملوك الأقوياء كان نفوذ هذه الجمعية محدودًا، لكنها كانت تستخدم سلطاتها عند خلو العرش، فتوافق على وصية الملك الراحل وتبايع الملك الجديد. ولم يأت الشطر الثاني من عصر البطالمة حتى كانت هذه الجمعية قد فقدت أهميتها، إذ يتعذر أن نجد لها ذكرًا في المصادر القديمة منذ عهد بطلميوس الخامس.

ويشار إلى هذه الجمعية في المصادر القديمة إما: بكلمة المقدونيين (hoi Makedones)، أو بعبارة الجمعية العامة (Koine ekklesia) أو بعبارة الجمعية العامة للمقدونيين (koine ton Makedonon ekklesia).

ولا شك في أن المقدونيين كانوا يؤلفون جماعة قومية (Politeuma) كانت هذه الجمعية أحد نظمها؛ لكننا لا نعرف شيئًا أكثر من ذلك عن هذه الجماعة القومية. ومع ذلك لا نستطيع قبول ما يراه البعض من أن مرد ذلك إلى أن هذه الجماعية لم تقم بدور هام في التاريخ.

رابعًا: طبقة فرس السلالة، وكانوا يؤلفون طبقة خاصة لها بعض الامتيازات، لكنها لم ترتفع إلى مصاف الطبقات الثلاث الأولى. وكان عدد هذه الطبقة كبيرًا، ولا شك في أنهم اصطبغوا سريعًا بالحضارة الإغريقية.

خامساً: طبقة عامة الإغريق، وكانت تتألف من فقراء الإغريق الذين كانت جموعهم تفد باستمرار من كافة أنحاء العالم الإغريقي، ولم يحشروا في زمرة المواطنين، ولم يتمتعوا بحقوقهم ولا بامتيازاتهم.

سادسًا: طبقة اليهود، وكانوا يؤلفون جانبًا كبيرًا من سكان المدينة منذ بداية القرن الثالث قبل الميلاد، ويتمتعون بدستور خاص بهم، وكان لهم من الامتيازات ما يعادل الطبقة الثانية وما يزيد على الفرس، لكنهم لم يتمتعوا بحقوق المواطنة.

سابعًا: طبقة المصريين، وكانت تتألف من الصناع والعمال وبعض الجنود، وتسكن في حي راكوتيس وفي جزيرة فاروس. وقد تجرد أفراد هذه الطبقة حتى من مظاهر الحضارة الإغريقية، وكانوا يعتبرون عنصرًا أجنبيًا عن هذه المدينة فلم يدمجوا في هيئة المواطنين. لكنه كانت لبعض المصريين في الإسكندرية مكانة ممتازة مثل كهنة السيرابيوم وأولئك المصريين المتأغرقين الذين عينوا في البلاط على عهد البطالمة الأواخر مثل ديونيسيوس بتوسيرابيس.

وكانت توجد إلى جانب هذه الطبقات جماعات مختلفة من الأجانب والعبيد والمعتوقين.

وإذا كان الكل يتفق على أن إغريق الإسكندرية كانوا إغريقًا في حياتهم الاجتماعية وثقافتهم الأدبية والفنية، فإن قلة الأدلة أفضت إلى تضارب الآراء تضاربًا شديدًا حول حظ الإسكندرية من النظم السياسية التي كانت المدن الإغريقية تتمتع بها عادة. فيرى فريق من الباحثين أن الإسكندرية لم تتمتع بمظاهر الحكم الذاتي، لأن البطالمة وقد خلفوا الفراعنة في حكم البلاد اقتبسوا منهم حق الملوك الإلهي، ولذلك فإنه لم يوجد في مصر مواطنون أحرار بل رعايا خاضعون، ولابد إذن من أن مدن مصر الإغريقية لم تكن إلا صورة مزيفة للمدن الإغريقية ولم تتمتع باستقلالها الذاتي. لكنه قضى على هذا الزعم الكشف عن ثلاثة قرارات أصدرتها الجمعية الشعبية والمجلس في مدينة بطوليميس، فقد ثبت بذلك أن هذه المدينة كانت تتمتع بالنظم السياسية الخليقة بمدينة إغريقية. ومن ثم لا يكون من الإسراف في الرأي القول بأنه لا يعقل أن تكون عاصمة البطالمة بل عاصمة الحضارة الإغريقية في العصر الهلينيسي قد عوملت أسوأ مما عوملت به تلك المدينة الرابضة في قلب الصعيد برغم بعدها عن مقر السلطة المركزية.

ويرى البعض أنه كان طبيعيًا ألا تتمتع الإسكندرية بمجالس دستورية لأنها كانت عاصمة البطالمة ومقرهم، ولأن أهلها كانوا يميلون بطبعهم إلى الثورات، فكان منح هذه المدينة مجالس دستورية يهدد سلطة الملوك على الدوام، ولذلك كان ينبغي الحد من استقلال المدينة الذاتي بعدم السماح بوجود مجالس دستورية فيها. ويمكن الرد على ذلك بأن العامل الأول كان لا يستتبع حرمان الإسكندرية التمتع بمجالس دستورية، بل إنه كان من شأنه أن ييسر للبطالمة كبح جماح هذه المجالس. وقد كانت أنطاكية مقر السلوقيين وعاصمتهم وبرجام مقر الأتاليين وعاصمتهم، ومع ذلك فإنهما كانتا تنعمان بمجالس دستورية. وأما عن العامل الثاني فإنه عند إنشاء الإسكندرية لم يكن في وسع أحد التنبؤ بأن أهلها سيتصفون بعد ما يزيد على قرن بالشغب والميل إلى الثورات. ويمكن القول أيضًا وكيف يحرم البطالمة الإغريق التمتع بمجالس دستورية ويمنحون الجالية اليهودية في الإسكندرية مجلسًا دستوريًا؟ ألم توجد وسيلة أخرى للحد من استقلال المدينة الذاتي سوى حرمانها حق التمتع بمجالس دستورية؟ إن هذه المدينة لا تبدو لنا في صورة جماعة واحدة بل على الأصح في صورة مجموعة جماعات لا يربطها جميعًا سوى قوة السلطة المركزية، فقد كان يوجد إلى جانب هيئة المواطنين الإغريق جاليات عديدة من غير المواطنين. وكانت جالية اليهود أهم جاليات الإسكندرية جميعًا بعد هيئة المواطنين الإغريق. وقد كان في وسع أي حاكم قدير استخدام إحدى هاتين الجماعتين لإخضاع الأخرى. ولا يبعد أنه كان في وسع السلطة التنفيذية أن تجد أيضًا في حامية الإسكندرية ورجال الحرس وموظفي البلاط أداة لتنفيذ إرادتها.

ويستدل بثلاث حجج أخرى على عدم تمتع الإسكندرية باستقلالها الذاتي أو بعبارة أخرى على عدم وجود مجالس دستورية فيها. وإحدى هذه الحجج ما أثبتته الوثائق من وجود قائد للمدينة (Strategos tes Poleos) في الإسكندرية. ويمكن الرد على ذلك بأنه من الجائز أنه كان لسلطة هذا القائد نطاق غير النطاق الذي كان لحكام هيئة المواطنين ومجالسها، فقد كانت في الإسكندرية أعداد كبيرة من غير المواطنين. ويضاف إلى ذلك ما نعرفه من أنه كان يوجد قائد في برجام، ومع ذلك لا شك في أنه كان يوجد بها مجلس دستوري (Boule).

والحجة الثانية هي أنه لو وجدت مجامع دستورية حقًا في الإسكندرية لظهر أثرها وكانت خير معبر عن إرادة الإسكندريين في الثورات التي وقعت في بداية عهد بطلميوس الخامس أبيفانس، والثورات التي أدت إلى خلع بعض البطالمة وارتقاء غيرهم العرش، كما حدث في عهد بطلميوس فيلومتور ويورجتيس وسوتر الثاني وبطلميوس اسكندر الأول وبطلميوس أوليتس. ويرد على ذلك بأن المجالس الدستورية في مدن مصر الإغريقية كانت مجالس محلية فقط لا يحق لها المساهمة في مدن مصر الإغريقية كانت مجالس محلية فقط لا يحق لها المساهمة في أعمال لا تمس مدنها فحسب بل تعني الدولة بأجمعها. ولا شك في أن الملوك لم يعترفوا على الإطلاق لمجلسي الإسكندرية الدستوريين بحق التدخل في مسألة ارتقاء العرش أو الوصاية. على حين يبدو أن الدور الذي قام به "المقدونيون" (أي جمعية الجيش) كان قانونيًا، إذ أنه أمامهم توج الملك الصغير بطلميوس الخامس، وأمامهم قرأ أجاثوكلس الوصية المزيفة التي جعلتها وصيًا، ومنهم ومن الفرق الأخرى طلب أجاثوكلس فيما بعد النجدة ضد تلبولموس، فقد كان ذلك تقليدًا متوارثًا منذ الوقت الذي كان فيه ملوك مقدونيا يحصلون على مبايعة الجيش لهم. وإذا كانت مبايعة الجيش للبطالمة أصبحت في الظروف غير العادية إحدى الشكليات الرسمية، فإنه كانت لها قيمة كبيرة في الظروف غير العادية، مثل التي صاحبت وفاة بطلميوس الرابع وارتقاء ابنه العرش، لأن الموقف العدائي الذي اتخذه الجيش من أجاثوكلس هو الذي أشعل نيران الثورة التي أسهم فيها كل سكان المدينة من الإغريق والمصريين أي المواطنين وغيرهم. ووسط هذه الثورة الجامحة لم يكن لاجتماع هيئة المواطنين أية فائدة، وإذا كان قد حدث فعلاً فلابد من أنه كان قليل الأهمية إلى حد أن بوليبيوس لم يشر إليه في وصفه المفصل لهذه الحوادث. وعلى كل حال فإن عدم وجود مجامع دستورية في الإسكندرية عندئذ لا ينهض دليلاً على أنه لم يوجد بها مجامع دستورية طوال عصر البطالمة.

والحجة الثالثة هي أن اسبارتيانوس (Spartianus) يروى أن الإمبراطور سبتيميوس سفروس هو الذي منح الاسكندر مجلسها (Boule)، ويضيف إلى ذلك أن الإسكندريين كانوا يعيشون حتى ذلك الوقت دون مجلس "مثل ما كانوا يعيشون في عهد الملوك" (ita ut sub regibus). ولما كانت توجد في الممالك الإغريقية مدن بها مجامع دستورية مثل برجام وأنطاكية، فإنه لا سبيل إلى ما يذهب إليه البعض من أن اسبارتيانوس لم يقصد بعبارة "مثل ما كانوا يعيشون في عهد الملوك" أن يقول "مثل ما كان الإسكندريون يعيشون في عهد البطالمة" وإنما "مثل ما يعيش رعايا الملوك". لكنه إذا صح أن الكاتب القديم كان يقصد فعلاً "مثل ما كان الإسكندريون يعيشون في عهد البطالمة"، فإننا سنرى من القرائن ما يشير إلى أن هذه العبارة تنطبق على شطر واحد فقط من عصر البطالمة، مما كان سببًا في اختلاط الأمر على اسبارتيانوس فجاءت عبارته شاملة عامة على نحو ما أسلفنا.

ومن ناحية أخرى يرى فريق آخر من الباحثين أن الإسكندرية كانت مدينة إغريقية، ولذلك لابد من أنها كانت على الأقل في بداية عهدها تتمتع بكل عناصر الحياة العامة في المدينة الإغريقية، أي بجمعية شعبية ومجلس بولي وحكام ومحاكم، لكنه نتيجة للأحداث العنيفة التي شهدتها المدينة حد البطالمة من استقلال المدينة الذاتي ومن ثم فقدت مجلسها.

وإذا ألقينا نظرة سريعة على دستور قورينايئة الذي عثر عليه حديثًا ونرجح أنه يرجع إلى عام 248/247ق.م. فإننا نلاحظ أن هذا الدستور كان يتألف من العناصر الأساسية التالية:
(1) هيئة المواطنين العاملين وكانت كبيرة العدد وتتألف من 10.000 مواطن.
(2) جمعية شعبية يؤمها كل المواطنين.
(3) مجلس مكون من 500 عضو يختارون بالاقتراع.
(4) مجلس شيوع (gerousia) يتألف من 101 عضو تنتخبهم هيئة المواطنين.
(5) كاهن للإله أبولو تؤرخ الوثائق باسمه (eponymous)، وتسعة أوصياء على القوانين (nomophylakes)، وخمسة حكام (ephors)، واثنا عشر قائدًا (strategoi). وكان القواد أكثر الحكام أهمية، فهم الذين كانوا يديرون دفة شئون الدولة، وكانت وظيفتهم سنوية فيما عدا واحدًا منهم فإنه كان يتولى منصبه لمدى الحياة وكان هو الوالي.

ونحن لا نريد أن نعقد مقارنة بين قورينايئة والإسكندرية وإنما نريد أن نتخذ من تمتعها هي وبطوليميس بمجامع دستورية شاهدًا على ميول البطالمة الأوائل وموقفهم تجاه النظم المألوفة في المدن الإغريقية. وإذا قيل إنه لم يكن في وسع البطالمة حرمان جمهورية ذائعة الصيت مثل قورينايئة مجامعها الدستورية، فإنه يمكن القول أيضًا إنه لم يكن في وسع الإغريق في فجر تاريخ الإسكندرية أن يتصوروا مدينة إغريقية ليست لها مجامع دستورية.

وإذا جاز فرضًا – وهو فرض بعيد الاحتمال – أن الاسكندر لم يمنح الإسكندرية المجامع الدستورية الخليقة بمدينة إغريقية، فإن المعقول أن يكون البطالمة الأوائل قد تلافوا هذا النقص بسبب حرصهم على توفير البيئة المناسبة لحياة الإغريق، وذلك تشجيعًا لقدومهم إلى مصر واستقرارهم فيها، ولاسيما أنهم كانوا يمنون أنفسهم بأن تصبح الإسكندرية عاصمة العالم الهلينيسي وأعظم مراكز الحضارة الإغريقية. وكيف كان يتأتى للإسكندرية الفوز بهذه المكانة في نظر الإغريق إذا لم تتوافر فيها العناصر الأساسية التي لم يكن لأي مدينة إغريقية غنى عنها؟

وفي متحف الإسكندرية نقش نشره برتشيا وقام بلاومان بدراسته واستكمال ما فيه من فجوات وخرج من ذلك بأنه قرار أصدره مجلس الإسكندرية والشعب، أي الجمعية الشعبية. ويعتقد جوجيه أنه يصعب استكمال هذا النقش بحيث يعطينا معنى آخر. ومع ذلك فإنه لا يجوز الاكتفاء بهذا النقش المهلهل للاستدلال على وجود جمعية شعبية ومجلس في الإسكندرية، ولاسيما أننا لا نعرف عن يقين المكان الذي وجد فيه.

ويضفي على هذا النقش أهمية ما يتضمنه خطاب الإمبراطور كلاوديوس إلى الإسكندريين ردًا عليهم حين طلبوا إليه منحهم مجلسًا (Boule)، فقد جاء في هذا الخطاب "أما أن المجلس كان مجمعًا مألوفًا بين ظهرانيكم على عهد ملوككم القدماء فهذا ما لا علم لي به، لكنكم تعلمون جيدًا أنه لم يكن لكم مجلس في عهد الأباطرة الذين سبقوني. ومن الواضح أن هذا الطلب الجديد الذي تتقدمون به لأول مرة قد يكون مفيدًا للمدينة ولحكومتي، ولذلك فإني كتبت إلى إيميليوس ركتوس (Aemilius Rectus) لبحث الموضوع وموافاتي بما إذا كان يجب إنشاء هذا المجلس، وبطريقة تكوينه إذا كان ثمة داع لذلك".

ومن اليسير أن نتبين من هذا الرد أن الإسكندريين استندوا في طلبهم إلى أنهم كانوا يتمتعون بمجلس في عهد ملوكهم القدماء. ورب معترض يقول ولماذا نستبعد أن يكون زعم الإسكندريين باطلاً. والرد على هذا يسير وهو أنه لم يكن في وسعهم الكذب على الإمبراطور خشية افتضاح أمرهم وما يلحق بهم من أذى نتيجة لذلك، فقد كان أمرًا شائعًا معروفًا أن الإمبراطور نفسه باحث مؤرخ. وفضلاً عن ذلك فإن أعداءهم اليهود كانوا واقفين لهم بالمرصاد ولن يترددوا عن كشف أباطيلهم. ولعل إمبراطورًا عالمًا مثل كلاوديوس لم يجهل نظم الإسكندرية في عهد ملوكها القدماء، لكنه ادعى الجهل لأنه لم يشأ أن تتخذ تقاليد الملوك القدماء سابقة تلزمه بما يجب إتباعه. ومع ذلك فإنه لكي لا يبدو متعسفًا وعد بالفصل في مطلب الإسكندريين على ضوء المصلحة العامة وعهد في بحث الأمر إلى الحاكم العام أيميليوس ركتوس. والواقع أنه لو كان لدى الإمبراطور أدنى شك في صحة مزاعم الإسكندريين لاتخذ من ذلك ذريعة لرفض مطلبهم رفضًا قاطعًا. ومن ثم نستطيع اعتبار رد كلاوديوس دليلاً على تمتع الإسكندرية بمجلس في عصر البطالمة، وسندًا قويًا يظاهر القراءة التي يقترحها بلاومان للنقش سالف الذكر.

ولما كان كلاوديوس يقتفي أثر سياسة أغسطس بدقة، وكان الكل يسلم بأنه لم يكن للإسكندرية مجلس في العصر الروماني حتى عهد سبتيميوس سفروس، فإنه لو كان أول الأباطرة أغسطس هو الذي ألغى مجلس الإسكندرية – وهو ما يعتقده البعض استنادًا إلى عبارة جاءت فيما كتبه ديون كاسيوس – لكان أمر ذلك معروفًا للإسكندريين وللإمبراطور على السواء، ولاستند الإمبراطور إلى ذلك واختلف رده تمام الاختلاف عما جاء في خطابه المشهور.

وماذا يقول ديون كاسيوس؟ يميل كثيرون إلى تفسير الفقرة التي وردت في ديون كاسيوس بأن أغسطس، وقد أدرك ميل الإسكندريين إلى الثورات وعدم ثباتهم على حال، ألغى مجلسهم. والواقع أن ديون كاسيوس لم يقل فعلاً إن أغسطس أغلى مجلس الإسكندرية وإنما قال بالنص "إن أغسطس أمر الإسكندريين بالتمتع بحقوق المواطنة دون أن يكونوا أعضاء في مجلس" (aneu bouleuton politeusthai ekeleuse). ولما كانت هذه العبارة قد جاءت في أعقاب جملة تحدث فيها ديون كاسيوس عن حرمان الأهالي من عضوية مجلس الشيوخ الروماني فإن هذا قد حدا بشوربات إلى اقتراح تفسير طريف لهذه الفقرة وهو أن أغسطس حرم الإسكندريين من عضوية مجلس الشيوخ الروماني. ولم يلبث هذا التفسير أن وجد أنصارًا يحبذونه لكننا لا نستطيع قبوله لعدم اتساقه مع سياق النص.

فلم يبق إذن إلا التفسير الطبيعي: وهو أن يكون الأسكندريون قد طلبوا إلى أغسطس منهم مجلسًا لكنه أبى عليهم ذلك. ولعلنا نجد صدى ذلك الطلب في وثيقة بردية نشرت منذ عهد غير بعيد. ويرى ناشروا هذه البردية أنها عبارة عن جزء من وصف، منقول من الوثائق الرسمية، لمقابلة بين سفارة للإسكندريين والحاكم العام عقب الفتح الروماني، حين كان أغسطس لا يزال في مصر وإنما خارج الإسكندرية. وإذا كان البعض يعتبر هذه الوثيقة نصًا أدبيًا لا يمت إلى الوثائق الرسمية بصلة، فإن أكثر الباحثين يرون أن هذه الوثيقة مستمدة من الوثائق الرسمية وتسجل مطلبًا للإسكندريين. وبينما يعتقد بعض الباحثين أن الإمبراطور الذي قدم إليه هذا الطلب هو أغسطس، يعتقد البعض الآخر أنه كلاوديوس، لكن الرأي الأول هو الأرجح في نظرنا، ولا سبيل إلى الاعتراض عليه بأن كلاوديوس يصف مطلب الإسكندريين إليه بمنحهم مجلسًا بأنه مطلب جديد يتقدمون به لأول مرة، إذ يمكن الرد على ذلك بأنه لا يبعد أن يكون المقصود بذلك لأول مرة في عهده هو، أو أن يكون مرور فترة تتراوح بين 70 و75 عامًا قد أسدل ستارًا من النسيان على حادث غير ذي بال وقع بعيدًا عن روما.

وهل طلب الإسكندريون الاحتفاظ بمجلس موجود فعلاً؟ أم إنشاء مجلس في مدينة لم يكن بها مجلس من قبل؟ أم إعادة إنشاء مجلس كان موجودًا من قبل لكنه لم يعد له وجود؟ إن نص رد كلاوديوس يستبعد الفرضين الأول والثاني، فقد استخلصنا من ذلك النص أنه كان في الإسكندرية مجلس وأن أغسطس لم يلغ هذا المجلس. وإذا كانت الإسكندرية في الأصل تتمتع بمجلس، وكان أغسطس لم يلغ هذا المجلس، وكانت الإسكندرية لا تتمتع بمجلس في عصر الرومان طوال القرنين الأول والثاني، فلابد إذن من أن يكون أحد البطالمة هو الذي ألغاه.

ومن عساه أن يكون هذا الملك؟ ليست لدينا أدلة قاطعة نستطيع الاستناد إليها للجزم في أي عهد ألغي مجلس الإسكندرية، لكنه لا يبعد أن يكون قد استحدث هذا التغيير إما بطلميوس الرابع فيلوباتور الذي نعرف أنه أعاد تنظيم القبائل والأحياء في الإسكندرية، أو على الأرجح بطلميوس يورجتيس الثاني الذي اضطهد الإسكندريين أشد الاضطهاد لمناصرتهم بطلميوس فيلومتور أول الأمر وزوجه كليوباترا الثانية فيما بعد. ولما كان إلغاء المجلس يعتبر عقابًا صارمًا لهيئة المواطنين فإنه يتفق وسلوك يورجتيس الثاني مع "أرستقراطية الإسكندرية"، التي تشير القرائن إلى أن هذا الملك اضطهدها اضطهادًا شديدًا.

وعلى كل حال فإن ما أسلفناه من قرائن ينهض دليلاً على أن الإسكندرية كانت تتمتع في عهد البطالمة الأوائل بمجلس دستوري. ويؤيد ذلك أيضًا ما تنم عنه بردية مشهورة من أن هذه المدينة كانت تتمتع باستقلالها القضائي، إذ أن الاستقلال القضائي لا يتحقق إلا في ظل الاستقلال السياسي. فهذه البردية التي لا تذكر شيئًا عن المحاكم الملكية تحدثنا عن ثلاثة أنواع من المحاكم تعمل في الإسكندرية مستقلة عن الملك، فلا عجب أن كانت الدعاوى التي تقام أمامها لا توجه ولا ترفع إليه. وكان النوع الأول يتألف من مدع عام (Eisagogeus) ومحلفين (Dikastai) يختار أحدهم للرياسة (Proedros). وكان النوع الثاني يتألف من محكمين (Diaitetai) يعملون تحت إشراف حارس القوانين (Nomophylax). وكان النوع الثالث يتألف من قضاة (Kritai) يبدو أنه كان لهم رئيس (Ho epi tou kriteriou) وكاتب (Grammateus). وإلى جانب محاكم المدينة ومواطنيها كانت محكمة القضاة الإغريق (Chrematistai)، وهي محكمة ملكية متنقلة، تنعقد أيضًا في الإسكندرية، مثل ما كانت تنعقد في مدينة بطوليميس التي كانت لها كذلك محاكمها الخاصة. ويبدو أن المحكمة الملكية المتنقلة كانت تنعقد في المدن الإغريقية للفصل في قضايا غير المواطنين.

وبما أنه لم يعد هناك مجال للشك في أن الإسكندرية كانت تتمتع بمجلس دستوري في بداية عهد البطالمة، فإننا نستطيع في ضوء ذلك تفسصير عبارة "ملوككم القدماء" التي وردت في رد كلاوديوس بأنها تعني البطالمة الأوائل، وكذلك تفسير ما سبقت الإشارة إليه عند مناقشة أقوال اسبارتيانوس من أن عبارته "مثل ما كانوا يعيشون في عهد الملوك" صحيحة ومنطبقة على ذلك الشطر من عصر البطالمة بعد إلغاء المجلس.

وفي رأي بعض الباحثين أنه إذا كانت الإسكندرية قد منحت عند إنشائها مجلسًا فإنها لم تمنح جمعية شعبية لأن ديمقراطيتها كانت ديمقراطية معتدلة، لكن البعض الآخر يرى بحق أن الإسكندرية وقد منحت مجلسًا مثل بطوليميس لابد من أن تكون قد منحت كذلك جمعية شعبية مثلها.

ونحن نميل إلى هذا الرأي ولاسيما أننا نجد له سندًا في نقش بلاومان، لكننا لا نستطيع مسايرة صاحب هذا الرأي فيما يذهب إليه من أنه إذا كان البطالمة الأواخر قد ضاقوا ذرعًا بالمجلس وألغوه فإنهم كانوا أرحب صدرًا إزاء الجمعية الشعبية وأبقوا عليها إلى أن ماتت ميتة طبيعية عند الفتح الروماني. فمن ناحية نرى أنه إذا كان البطالمة قد ضاقوا ذرعًا بالمجلس فلابد من أنهم كانوا أكثر ضيقًا بالجمعية الشعبية، ومن ناحية أخرى لا ندري كيف تموت المجالس الدستورية ميتة طبيعية، ولاسيما مجالس شعوب تتدفق حيوية ونشاطًا مثل شعب الإسكندرية، دون أن يلغيها الحكام. وليس هناك ما يشير إطلاقًا إلى أن أغسطس ألغى الجمعية الشعبية في الإسكندرية. وإذا صح ما يرويه ديون كاسيوس من أن يوليوس قيصر عقد اجتماعًا للجمعية الشعبية وتلا عليها وصية بطلميوس الزمار، ومن أن أنطونيوس قسم الجزء الشرقي من الإمبراطورية الرومانية بين كليوباترا وأبنائها في اجتماع عقده للجمعية الشعبية، فإنه يمكن تفسير ذلك بأنه في تلك المناسبتين دعيت هيئة المواطنين للاجتماع. ووصف هذا الاجتماع بأنه اجتماع الجمعية الشعبية صحيح من حيث أن اجتماع الجمعية الشعبية لا يخرج عن كونه اجتماع هيئة المواطنين، لكنه يصعب أن نتخذ من ذلك دليلاً على وجود الجمعية الشعبية واجتماعها بانتظام في الشطر الثاني من عهد البطالمة، وإن كان تكرار إشارة ديون كاسيوس إلى الجمعية الشعبية يدل على اعتقاد هذا المؤرخ القديم أنه كان للإسكندرية جمعية شعبية، ويمكن اتخاذه دليلاً آخر على أنه لم يكن للإسكندرية مجلس فحسب بل أيضًا جمعية شعبية. ومع ذلك فإن هناك سؤالاً يلح علينا إلحاحًا شديدًا غير أنه يتعذر علينا الرد عليه ردًا مقنعًا يقضي على ما تبقى فينا من شك حول تمتع الإسكندرية بجمعية شعبية، ألا وهو: إذا صح أنه كانت للإسكندرية جمعية شعبية وكانت هذه الجمعية قد ألغيت كما ألغى المجلس، فلماذا يم يطالب الإسكندريون الرومان بأن تكون لهم جمعية شعبية مثل ما طالبوهم بأن يكون لهم مجلس؟

ولو أمكن تصور مدن ليس لها استقلال سياسي ولا استقلال قضائي، أي ليست لها مجالس دستورية تتمثل فيها سيادة جماعة المواطنين، ولا محاكم تستمد سلطتها من تلك السيادة، لما أمكن تصور مدينة لا تتطلب إدارتها حكامًا وواجبات عامة. وقد كان ملء مناصب الحكام والاضطلاع بالواجبات العامة يعتبران من أهم الحقوق والواجبات التي ينطوي عليها التمتع بحقوق المواطنة.

وغني عن البيان أن طابع هذه الحقوق والواجبات يختلف في المدن المستقلة عنه في المدن غير المستقلة، ففي الأول تكون هيئة المواطنين مصدر السلطة وهي التي تختار الحكام، أما في الأخيرة فإن الحكام يكونون بمثابة مندوبي السلطة المركزية، لكنهم يقومون بنفس المهام ويحملون نفس اللقب مثل حكام المدن المستقلة. إلا أن طبيعة سلطتهم من الناحية القانونية مختلفة في الحالتين لاختلاف مصدرها في كل منهما.

ولا شك في أن مدن مصر الإغريقية لم تكن دولاً مستقلة ذات سيادة سواء أكانت تتمتع بمجالس دستورية أم لم تكن، بل كانت مدنًا خاضعة لسلطة الملك التي تتجلى قبل كل شيء في اختيار الحكام. ولعله كان يتبع في اختيارهم إحدى طريقتين: إما أن المواطنين كانوا يرشحون عددًا منهم يختار الملك من بينهم من يشاء، وإما أن المواطنين كانوا يختارون من يريدون من الحكام بشرط أن يوافق الملك عليهم. لكن تدخل السلطة المركزية في إدارة المدن لم ينته عند ذلك، إذ أنه كان لها أيضًا ممثلون في كل مدينة، كما أن بعض الموظفين الملكيين كانوا يشتركون في إدارة المدينة.

وهل كانت سلطة الحكام المحليين مقصورة على هيئة المواطنين أم تشمل كل سكان المدينة؟ لا شك في أنها كان لا تشمل اليهود في الإسكندرية، لكننا لا نستطيع الجزم بأنها لم تمتد إلى باقي السكان الآخرين، وإن كان من المحتمل أن المصريين وغيرهم ممن لم يكونوا مواطنين- فيما عدا الإغريق – كانوا يخضعون مباشرة لممثلي السلطة المركزية.

ونتبين من بردية من عهد بطلميوس الثاني أن حكام الإسكندرية كانوا يدعون أراكنة (archontes) لكنهيصعب أن نتبين أنهم كانوا في عصر البطالمة يؤلفون هيئة (Koinon ton anchoton) على نحو ما هو معروف في العصر الروماني. ونتعرف في هذه البردية على الحكام الآتيين:

أولاً: نوموفيلاكس (Nomophylax)، وكان يشرف على محكمة المحكمين (diaitetai) ويقوم فيها بدور يشبه ما يقوه به المدعى العام (eisagogeus) في محكمة المحلفين، فهو الذي كانت تقدم إليه جميع وثائق القضية وهو الذي كان يعلن الحكم وينفذه.

ثانياً: ثسموفيلاكس (Thesmophylax)، ولا نستطيع أن نتبين شيئًا عن مهام هذا النوع من الحكام أكثر من أنه كانت لهم صلة ما بالصداق. ويظن أنه كان يوجد واحد من هؤلاء الحكام في كل حي من أحياء الإسكندرية، وأن وجودهم لم يكن مقصورًا على الإسكندرية.

ثالثاً: استينوموي (Astynomoi) وكانوا حفظة الأمن في المدينة.

رابعًا: أمناء الخزينة (tamiai) ويبدو مما ترويه البردية المشهورة أنهم كانوا يتسلمون الأموال المستحقة للمدينة.

وفي وثيقة من حوالي 280-250ق.م. ورد ذكر حاكم آخر يدعى (gynaikonomos). ويظن أن هذه الوثيقة المهلهلة كانت تتضمن فقرات من أحد قوانين مدينة من مدن مصر الإغريقية، لعلها الإسكندرية التي يسود الرأي أن قوانينها كانت تماثل قوانين أثينا. وقد كان الحكام الذين يدعون (gynaikonmoi) جزءًا من الجهاز الدستوري في أثينا في خلال حكومة ديمتريوس الفليري (317-307ق.م) بصفتهم أداة تطبيق القوانين التي تحدد قواعد السلوك والإنفاق. ولا يبعد أنه كانت لديمتريوس الفليري يد في استحداث هذا النظام في الإسكندرية عندما دعاه بطلميوس الأول إلى مصر في عام 294ق.م. لإنشاء "دار العلم". وإذا صح أن قوانين الإسكندرية بوجه عام كانت مماثلة لقوانين أثينا فلا يبعد أن ذلك يرجع إلى ما تمتع به ديمتريوس من نفوذ لدى بطلميوس الأول.

ويحدثنا استرابون بأن كبار حكام الإسكندرية في عهد الملوك كانوا: إكسيحيتس (Exegetes) وهيبومنما توجرافوس (Hypomnematographos) وأرخيديكاستس ونوكترينوس ستراتجوس (Nukterinos Strategos). لكن لا شك في أن هذه القائمة غير كاملة، ولا في أن استرابون خلط بين حكام المدينة المحليين وبين موظفي الدولة الملكيين، الذين كان مقرهم في الإسكندرية، وكان الهيبومنماتوجرافوس والأرخيديكاستس من بينهم، لأننا لا نعرف موظفين يطلق عليهم في عهد البطالمة لقب هيبومنمانوجرافوس سوى سكرتيري الملوك وسكرتيري وزراء المالية.

أما وظيفة الأرخيديكاستس فهي إحدى مشاكل تاريخ مصر في عهد البطالمة، لأنه إذا كان البعض يتفق مع استرابون ويرى أن هذا الحاكم كان موظفًا محليًا في الإسكندرية، فإن البعض الآخر يرى غير ذلك. ومما يجدر بالملاحظة أن وثائق العصر الروماني ترينا أن الأرخيديكاستس كان يحمل لقباً ترجمته "المشرف على محاكم القضاة الإغريق والمحاكم الأخرى"، ولما كانت مهام الأرخيديكاستس لا تقتصر في العصر الروماني على مدينة الإسكندرية، وكان أكثر الباحثين يرون أه لم توجد عندئذ محاكم أخرى إلى جانب محكمة الحاكم العام، فلابد إذن من أن هذا اللقب كان أحد بقايا نظام القضاء البطلمي، عندما كانت توجد تلك المحاكم التي كان يشرف عليها، ولابد أيضًا من أن نطاق عمل الأرخيديكاستس كان يشمل في عهد البطالمة أيضًا كل مصر. ويؤيد هذا الرأي ما يرجح من أن وثيقة بردية مشوهة من هرموبوليس بتاريخ 24 يوليو سنة 55ق.م. كانت تحوي هذا اللقب. لكن إذا صح هذا فلماذا لم يرد له ذكر في عصر البطالمة إلا مرة واحدة في نقش يثبت مظاهر التشريف التي أغدقها أهل جزيرة ثيرا على شخص يدعى ديونيسيوس بن تيموناكس (Timonax)، وصف بأنه أرخيديكاستس وبين الأصدقاء الأول للملك بطلميوس والملكة كليوباترا؟ يحتمل أن هذا الشخص كان موظفًا قضائيًا عينته حكومة البطالمة لجزيرة ثيرا، ولم يكن له اختصاص في مصر. ويحاول البعض تفسير صمت الوثائق المصرية عن ذكر هذا الموظف بأنه بالرغم من أن اختصاصه كان يشمل كل مصر، فإن هذا الاختصاص كان مقصورًا على اختيار القضاة الذين كانت تتألف منهم المحاكم المختلفة، ولم تكن له صلة بالمحاكم نفسها ولا باستئناف الأحكام. لكن إذا صح هذا فكيف يمكن إذن تفسير لقب "المشرف على محاكم القضاة الإغريق وعلى المحاكم الأخرى"؟ لعلنا لا نعدو الحقيقة إذ اعتقدنا أن الأرخيديكاستس كان لا يفصل في قضايا الاستئناف وإنما هو الذي كان يعدها للملك عند عرضها على محكمته، ولذلك كان لا يرد له ذكر في الوثائق. وعلى كل حال يبدو مما نعرفه أن استرابون قد أخطأ في وصف الأرخيديكاستس بأنه كان من حكام الإسكندرية المحليين في عهد البطالمة.

لم يبق إذن من الحكام الذين ذكرهم استرابون سوى الإكسيجيتس والنوكترينوس ستراتجوس. ويوجد خلاف كثير حول اختصاصات الأول، وإن كنا نعرف أن اختصاصات الإكسيجيتس في المدن الإغريقية، مثل أثينا وإليوسيس وأوليمبيا وأسبرطة كانت تفسير الوحي وطلائع المستقبل ورعاية التقاليد الدينية أو القوانين التي تستمد سلطتها من الديانة. وقد كان أول من تولى هذا المنصب في الإسكندرية تيموثيوس، الذي أسهم في إنشاء عبادة سيرابيس. وإذا كان اختصاص إكسيجيتس الإسكندرية مشابهًا في الأصل لاختصاص نظرائه في المدن الإغريقية، فلابد من أن يكون اختصاصه قد اتسع كثيرًا بمضي الزمن، إذ يصف استرابون عمله بأنه كان"الإشراف على صوالح المدينة"، وهو وصف غامض. لكنه يبدو أن اختصاصه لم يعد مقصورًا على شئون الديانة ولاسيما أن استرابون يحدثنا بأن هذا الحاكم كان يرتدي رداء قرمزيًا ويتمتع بمظاهر إجلال تقديرية، مما يوحي بأن هذا الحاكم كان رئيس الحكام المحليين. وإذا قورنت أقوال استرابون عن الإكسيجيتس بما يصف به مصدر قديم آخر كاهن الإسكندر والبطالمة المؤهلين من أنه كان "المشرف على المدينة ويرتدي تاجًا ذهبيًا ورداء قرمزيًا"، فإنه يبدو لنا أن الإكسيجيتس كان أيضًا ذلك الكاهن، ولاسيما أن اختصاصات هذين المنصبين كانت قبل كل شيء دينية، وأنه كان لهذين المنصبين مكانة سامية. ويؤكد هذا المصدر أنه كان من اختصاصات كاهن الإسكندر تطهير النهر والإشراف على زراعة أملاك التاج وعلى استخراج الزيت. وقد يكون هذه صحيحًا، إذا اقتصرت هذه المهام على منطقة الإسكندرية، وكان الملوك قد منحوا الإسكندرية أملاك التاج هناك وتنازلوا عن احتكار إنتاج الزيت وبيعه في هذه المنطقة. فإذا صح هذا وصح أن إكسيجيتس الإسكندرية كان أيضًا كاهن الإسكندر، فإننا نجد هنا تفسيرًا لقول استرابون الغامض بأن عمل الأكسيجيتس كان "الإشراف على صوالح المدينة". ويذهب بعض المؤرخين إلى أن الأكسيجيتس كان أيضًا عميد دار العلم (Mouseion). وهذا محتمل لأن نقشًا من عهد بطلميوس السادس يحدثنا بأن شخصًا يدعى خريسرموس كان إكسيجيتس وعميد دار العلم، ولأننا نعرف أن شخصًا يدعى يوليوس فستينوس (L. Julius Vestinus) كان في عهد هادريانوس "رئيس كهنة الإسكندرية ومصر بأجمعها وعميد دار العلم ".

أما عن النوكترينوس ستراتجوس (قائد الليل) فلا نعرف شيئًا، وإن كان من المحتمل أن نرى فيه قائد المدينة (Strategos tes Poleos)، الذي وجد لقبه على لوحة من الجرانيت لا يعرف تاريخها ولا المكان الذي وجدت فيه، لكنه يرجح أنها من عهد البطالمة الأواخر، وأن الإسكندرية هي المدينة المقصودة. ويرى بعض المؤرخين أن هذا الحاكم كان في بادئ الأمر الشخص الذي يحكم المدينة في غيبة الملك، لكنه بمضي الزمن أصبحت وظيفته الدائمة، وأصبح يدعى "المشرف على المدينة"، إلا أنه في أواخر عصر البطالمة وفي عهد الرومان كان يدعى "قائد المدينة". ويظن أن هذا الحاكم كان يشبه "مدير أمن المدينة" (Praefectus Urbis) في روما، ولذلك يرجح أنه لم يكن قائد الإسكندرية العسكري بل رئيس الشرطة فيها. وإذا صح أنه كان يوجد شبه بينه وبين "مدير أمن المدينة" في روما، فإنه من المحتمل أنه كان يعين من قبل الملك للإشراف على المدينة ولم يكن حاكمًا يعينه المواطنون أنفسهم. ومن المحتمل كذلك أنه كان يشرف على سكان المدينة الذين لم يكونوا في عداد هيئة المواطنين. وإذا صح هذا الاحتمال الأخير، فلابد من أنه كان يوجد ممثلون آخرون لسلطة الملك، الذي كان الحاكم الفعلي للمدينة.

ويبدو غريبًا أن استرابون الذي يحدثنا عن الجيمنازيوم لم يذكر رئيس الجيمنازيوم (gymnasiarch)، الذي لابد من أنه كان من أهم الحكام المحليين، لأن الجيمنازيوم كان مقر حياة الإغريق الاجتماعية، ورئيس الجيمنازيوم كان الرئيس الاجتماعي لهيئة المواطنين. وفي العهد الروماني عندما كانت تقع اضطرابات عنيفة ومصادمات بين إغريق الإسكندرية ويهودها، كان رئيس الجيمنازيوم هو الذي يمثل هيئة المواطنين الإغريق ويدافع عن قضيتهم في روما أمام الإمبراطور. فلابد إذن من أنه كان لهذا الشخص مركز هام في عصر البطالمة. وإذا كان استرابون قد أغفل ذكره فإننا نجده في نقوش من الإسكندرية.


* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *

إن جمال الإسكندرية وبهاءها وغناها قد أكسبتها شهرة واسعة، واستمر الكتاب القدماء يشيدون بها حتى بعد أن أخنى الدهر على هذه المدينة العظيمة وعفا الزمان على آثارها. فإن سيرياك من أنكونا (Crriac of Ancona)، وقد تأثر بما شهده فيها، أطلق على أطلالها الباقية في عام 1435 "المدينة المجيدة" (Urbs nobilissima). ويعتقد المقريزي أن الله عز وجل يشير إلى الإسكندرية عندما يذكر في القرآن الكريم المدينة التي ليس لها مثيل. ويقول عنها أحمد بن صالح: "إنها الجعبة التي أودع الله فيها خير سهامه".

وإذا توغلنا بين طيات الماضي، فإننا نجد الكتاب في عصر المسيحية وقبل ذلك في عصر الوثنية، سواء أكانوا إغريقًا أم رومان، يكادون لا يذكرون الإسكندرية دون وصفها بما ينم عن عظمتها ومجدها وثرائها، لأنها كانت في عصر القدماء المدينة التي تحوي كل ما يمكن أن يحصل الإنسان عليه أو يرغب فيه. فيقول هيرونداس (Herondas) على لسان امرأة عجوز، تتحدث إلى زوجة صغيرة رحل عنها زوجها إلى الإسكندرية: "لقد انقضت عشرة شهور منذ سافر ماندريس إلى مصر لكنه لم يرسل إليك كلمة واحدة. ولا شك أنه قد نساك ونهل من منبع سرور آخر! مصر! (يقصد الإسكندرية) هناك حيث يوجد معبد الإلهة (أرسينوي) وكل شيء يمكن وجوده في أي مكان آخر: ثراء وملاعب ومجد وراحة وعظمة ومباهج وفلاسفة وذهب وشبان وملك كريم ودار للعلم وخمر وكل الأشياء الطيبة التي يمكن أن تتوق النفس إليها، ونساء يفقن النجوم في عددهن ويضارعن الآلهات اللائي احتكمن إلى باريس في جمالهن.

وكان أهل الإسكندرية يشتهرون بحبهم للعمل والمال وبميلهم إلى الثورات وكل ما هو جديد وبشغفهم بالسخرية اللاذعة. وقد اشتهرت ألقاب السخرية، التي كانوا يطلقونها على الملوك وفيما بعد على الأباطرة الرومان. ويشير إلى ذلك سنكا (Seneca) فيقول إن أهل الإسكندرية كانوا يحبون اللغو ويبرعون في السخرية. ويقول الإمبراطور هادريانوس عن أهل الإسكندرية، إذا صح أنه مؤلف الكتاب المشهور الذي أرسل إلى أحد أقاربه: "لا يبارى أهل الإسكندرية في الاضطراب والغرور والأذى. ومدينتهم غنية، تفيض بالخيرات، ولا يوجد بها أحد عاطل، فإنهم لا يعبدون سوى إله واحد هو: المال...".

ويؤكد المقريزي أن أهل الإسكندرية كانوا جشعين، ويصفهم كتاب آخرون بأنهم كاذبون وجريئون، وكان يجتذب الأجانب وأهل الأقاليم إلى الإسكندرية مباهج الحياة فيها أكثر مما كان يجتذبهم إليها علماؤها وأدباؤها ومعاهدها. ونستطيع أن نستدل على مفاسد الحياة فيها من أن قيصر كان لا يثق بجنوده الذين ينغمسون فيها. ويشبهها أحد الكتاب الحديثين بفلورنسا في عهد أسرة مديتشي، لأن وجه الشبه قريب جدًا بين هاتين المدينتين في النشاط الفني والأدبي والثروة وحب الحياة البهيجة. ومن العجيب أن نلاحظ أن مطلع إحدى المقطوعات الشهيرة التي كان يترنم بها أهل فلورنسا يكاد يكون ترجمة مطلع إحدى المقطوعات التي كان ينشدها أهل السمر بأعلى أصواتهم في شوارع الإسكندرية ومعناه "فلنأكل اليوم ونشرب لأننا سنموت غدًا".


بطوليميس


كانت بطوليميس المدينة الإغريقية الثانية التي أنشئت في مصر عقب الفتح المقدوني. وقد شيدت هذه المدينة غربي النيل حيث كانت توجد قبلاً مدينة مصرية، تدعى سوى (Sui) أوبسا (P-sa) أو بسوي (Posï) أو بسي (Psi)، ثم أطلق المصريون عليها في عهد البطالمة بسي – بطوليميس (Psi-Ptulmis)، أي بسي التي أنشأها بطلميو. وتشغل اليوم بلدة المنشية – وهي تقع جنوبي سوهاج بحوالي عشرة كيلو مترات – جانبًا من موقع بطوليميس التي اختفت معالمها تمامًا، لكنه من المحتمل جدًا أن مهندسي بطلميوس الأول اتخذوا من الإسكندرية نموذجًا يحتذونه في تشييد هذه المدينة الجديدة، التي لابد من أن يكون بطلميوس قد أرادها أن تكون إسكندرية منطقة طيبة. ويحدثنا بطلميوس الجغرافي بأن هذه المدينة كانت عاصمة المديرية الطينية (Thinite Nome). وهل نفهم من ذلك أن هذه المديرية كانت تكون إقليم بطوليميس، أم أن حاكم المديرية كان يقطن هذه المدينة فحسب ولم يكن له سلطان عليها؟ لكن يجب أن نتساءل أيضًا: هل ما يرويه هذا الكاتب، الذي كان يعيش في القرن الثاني للميلاد، ينطبق على عصر البطالمة؟ كل هذه أسئلة نستطيع أن نوجهها دون أن نستطيع الإجابة عنها.

ولا شك في أن سكان بطوليميس لم يتألفوا من نفس المزيج الذي كان سكان الإسكندرية يتألفون منه. لكنه لا شك في أنه كان يوجد بينهم عنصر مصري، كما كان يوجد في الإسكندرية ونقراطيس، لأن بطوليميس أنشئت كما أسلفنا على مكان مدينة مصرية. ولا يبعد أن يكون عدد المصريين هناك قد زيد بنقل بعض السكان إليها من المدن المجاورة مثل طيبة وأبيدوس، كما حدث في الإسكندرية، لكنه لا شك في أن العنصر المصري لم يدمج هنا أيضًا في هيئة المواطنين.

وإذا كان يمكن الجزم بأن المدن الإغريقية في مصر كانت تشابه بعضها بعضًا من حيث وجود هيئة مواطنين في كل منها، فإننا ع ذلك لا نستطيع الجزم بأن حقوق المواطنة كان تنطوي على الحقوق والواجبات نفسها في كل هذه المدن. ونجد في الوثائق أن بعض مواطني بطوليميس كانوا لا يضيفون إلى أسمائهم سوى لقب بطوليميسي (Ptolemaieus) مثل أريستوبوليس (Aristopolis) ابن أريستوديموس البطوليميسي وأرخاجاثاس (Archagathas) ابن هرميوس (Hermios) البطوليميسي وأسثلاداس (Asthladas) ابن دريتون (Dryton) البطوليميسي، على حين أن البعض الآخر كانوا يضيفون إلى أسمائهم أسماء أحيائهم، مثل دريتون والد أسثلاداس فقد كان من حي فيلوتريوس (Philotereios) بل إن سارابياس (Sarapias) زوجة دريتون الأولى ووالدة أسثلاداس تدعى مواطنة Aste. فكيف اتفق أن أسثلاداس لم يضف إلى اسمه اسم حي أبيه أو بعبارة أخرى كيف أنه لم يسجل في هذا الحي؟ قد يجوز أن اسثلاداس ولد قبل أن يصبح أبوه مواطنًا يتمتع بكل حقوق المواطنة. وكيف كان دريتون يوصف أحيانًأ بأنه كريتي وأحيانًا أخرى بأنه من حي فيلوتريوس ببطوليميس؟ لعله كان أحد أفراد جالية كريتية تنزل بالقرب من بطوليميس، وكان الإغريق الذين يعيشون في جاليات قومية (Politeumata) خاصة بهم خارج المدن الإغريقية في مصر ينبغي عليهم أو يباح لهم الاندماج في هيئة المواطنين في إحدى مدن مصر الإغريقية. ويرى بعض المؤرخين أن مواطني بطوليميس كانوا طبقتين: الأولى طبقة المواطنين، وكانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة ولا يضيفون إلى أسمائهم إلا لقب بطوليميسي. لكن البعض الآخر من المؤرخين يرى أن الأدلة التي وصلت إلينا لا تبرر هذه التفرقة، غير أنه لا شك في أن مواطني بطوليميس المتمتعين بحقوق المواطنة كاملة كانوا ينقسمون إلى قبائل وأحياء ووحدات مثل ما كانت عليه الحال في الإسكندرية وأثينا. ويطلق في أحد النقوش على جانب من مواطني بطوليميس لقب نيوتروي (Neoteroi). ويبدو للبعض أنه كان يقصد بهذا اللقب المواطنين الشبان، على نحو ما كانت عليه الحال في جيلا (Gela) وجورتين (Gortyn). لكن أيبعد أن هذا اللقب كان يطلق على المواطنين الجدد الذين كانوا يدمجون في هيئة المواطنين بعد إنشاء مدينة بطوليميس وتكوين هيئة مواطنيها؟

ومن المرجح أن أسماء الأحياء في الإسكندرية وفي بطوليميس قد اختيريت بحيث لا تتكرر في المدينتين، لكن الحال لم تكن كذلك فيما يتعلق بالقبائل، فقد وجدت في كل من هاتين المدينتين قبيلة تدعى بطوليميس. ويظن أن هذه القبيلة أخذت اسمها في مدينة بطوليميس من اسم مؤسس المدينة بطلميوس الأول. وهذه القبيلة هي الوحيدة من قبائل بطوليميس التي نعرف اسمها. ويبدو أن أسماء الأحياء في هذه المدينة كانت مشتقة إما من أسماء أفراد أسرة البطالمة أو من أسماء أبطال القصص الإغريقية. ونستدل على ذلك من أسماء الأحياء التالية: أندانيوس (Andaneos)، وبربنيكيوس (Berenikeus)، ودانايوس (Danaeus)، وكارانيوس (Karaneus)، وكليوبتريوس (Kleopatrios)، ومجيستيوس (Megisteus)، وسوستراتيوس (Sostrateus)، وهيليوس (Hylleus)، وفيلوتريوس (Philotereios).

وإذا كان الشك يخالجنا في أن الإسكندرية كانت تتمتع بنظم مدينة إغريقية حرة فليس هناك أي سبيل للشك في أنه كان يوجد في بطوليميس مجلس (Boule) وجمعية شعبية (Ekklesia). وإذا كانت الوثائق التي تحدثنا عن هذين المجمعين الدستوريين ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، فلا شك في أنهما كانا يوجدان هناك منذ إنشاء هذه المدينة في عهد بطلميوس الأول. لكننا نرجح أن يكون ما أصاب مجامع الإسكندرية الدستورية من الإلغاء قد أصاب أيضًا مجلس بطوليميس وجمعيتها الشعبية. وعلى كل حال فإننا لا نعرف شيئًا عن كيفية تكوين هذين الممعين. ووجود جمعية شعبية إلى جانب مجلس يوحي بأن دستور بطوليميس كان ديمقراطية في المظهر على الأقل، وبأن كل المواطنين الذين يتمتعون بحقوقهم كاملة كانوا يشتركون في أعمال الجمعية الشعبية. لكننا لا نعرف الشروط التي كان يجب توافرها للتسجيل في أحد الأحياء، لكي يتمتع المواطن تبعًا لذلك بحقوقه كاملة ويستطيع دخول الجمعية الشعبية. إن كل ما نعرفه عن هذين المجمعين هو أنهما كانا ينعقدان ويصدران قرارات وصلت إلينا محفورة على لوحات من الصخر ومصوغة في قالب العبارات المألوفة في الأساليب السياسية الإغريقية. ومثل ذلك القرار التالي الذي صدر في عام 278/277 أو على الأرجح 240/239: "يروق للمجلس (Boule) والشعب (Demos) أن يقرر بناء على اقتراح هرماس (Hermas) ابن دوركون (Dorkon) من حي مجيستيوس (Megisteus)، عندما كان الرؤساء (Prytaneis) زملاء ديونيسيوس (Dionysios) ابن موسايوس (Musaeus) في العالم الثامن هم: ديونيسيوس بن موسايوس من حي هيليوس، وهيبياس بن ديون من حي مجيستيوس، وكراتيوس بن بروكريتوس (Prokritos) من حي مجيستيوس، وكيسوس (Kissos) ابن نيارخوس من حي أندانيوس، وهليودورس بن نيكوماخوس (Nikomachos) من حي دانايوس، ونيوبتولموس بن ثيودوروس من حي كارانيوس.

ونستخلص من هذا القرار الذي يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد شيئين: وأحدهما أنه كان يوجد ستة رؤساء (Prytaneis) يبدو أنهم كانوا يختارون بمعدل واحد من كل قبيلة لمدة عام واحد. والآخر أن هؤلاء الرؤساء كانوا يكونون هيئة يرأسها أحدهم، إذ يقول القرار "عندما كان الرؤساء زملاء ديونيسيوس بن موسايوس.."، ويحتمل أن سكرتير المجلس (Grammateus tes Boules) كان أحد هؤلاء الرؤساء الستة. ونجد في نقش آخر نقابة الممثلين في بطوليميس تكرم ديونيسيوس هذا بوصفه رئيسًا لمدى الحياة (Prytanis dia Biou)، لكنه يحتمل أن عبارة "مدى الحياة" لم تكن إلا صفة فخرية يراد منها التكريم فقط. ويحتمل أيضًا أن اختصاصات الرئيس لمدى الحياة كانت نفس اختصاصات الرؤساء الذين كانوا ينتخبون كل عام. وقد كانوا يتولون رئاسة الجمعية الشعبية والمجلس، مثل ما كانت هيئة الخمسة عشر تتولى رئاسة مجلس التيموخوي في ماسيليا.

وكانوا يقدمون إلى الجمعية تقرير المجلس عما يعرض عليه من الموضوعات لدراستها قبل تقديمها إلى الجمعية لاتخاذ قرار فيها. وكان يحق لهم تقديم الاقتراحات في الجمعية، غير أن هذا الحق لم يكن مقصورًا عليهم وحدهم. ولا نعرف يقينًا إذا كانت هيئة الستة في بطوليميس هيئة برلمانية فحسب أم كانت أيضًا هيئة تنفيذية مثل هيئة الخمسة عشر في ماسيليا، ولا إذا كان كبير هيئة الستة في بطوليميس يضارع هيئة الثلاثة أو رئيسهم في ماسيليا، غير أن قيام هيئة الستة بمهام أخرى بجانب التي ذكرناها، مثل تسجيل المواطنين الجدد، والمركز السامي الذي كان يحتله هؤلاء الرؤساء في المدينة، وعدم ذكر حكام آخرين في الوثائق التي وصلت إليها – إن كل ذلك يشير إلى أن مهام هؤلاء الرؤساء لم تكن مقصورة على الشئون البرلمانية فحسب، بل كانت تنفيذية أيضًا، أي أنهم كانوا رؤساء الجمعية والمجلس وكذلك من حكام المدينة المحليين.

ولقد ذكرنا آنفًا أن الاستقلال السياسي يستتبع بطبيعة الحال وجود استقلال قضائي، ولذلك يجب أن تكون للمدينة الحرة محاكمها الخاصة. ونستطيع أن نؤكد أنه كانت لبطوليميس محاكمها في بداية القرن الثالث قبل الميلاد، فإن قرار المجلس والشعب الذي سلفت الإشارة إليه، يذكر محكمة (Dikasterion) كان ينبغي اختيار أعضائها منذ ذلك الوقت من بين نخبة المواطنين (ex epilekton andron). لكننا نكرر ثانية أنه ليس في وسعنا أن نجزم بأن مواطني المدن الإغريقية في مصر كانوا لا يتمتعون بحق الاستئناف إلى الملك، ولا أن السلطة المركزية نزلت كلية عن حق تصريف العدالة إلى محاكم المدن. وعلى كل حال فإننا نجد في القرن الثاني قبل الميلاد القضاة الملكيين الإغريق (Chrematistai) يعقدون محكمتهم في بطوليميس، حيث كان لهم صندوق (angeion) يودعه المتحاجون شكاويهم، وذلك غالبًا قبل وصول هذه الهيئة القضائية المتنقلة. أيجب أن نستخلص من ذلك إلغاء القضاء المحلي إذ ذاك، أم الحد منه فقط، أم أن المدينة لم تكن على الإطلاق خارج اختصاص القضاة الملكيين، وأن هؤلاء القضاة كانوا يعقدون محكمتهم في المدينة في الوقتنفسه مع القضاة المحليين؟ وإذا صح ذلك فماذا كان اختصاص كل من هاتين الهيئتين القضائيتين؟ أم الأصح أن القضاة الملكيين كانوا يعقدون محكمتهم دائمًا في بطوليميس – عاصمة الإغريق في مصر العليا – للنظر في نوعين من القضايا: وأحدهما قضايا الإغريق الذين كانوا يعيشون في منطقة طيبة ولم يكونوا من مواطني بطوليميس، ولاسيما أن الوثيقة التي تحدثنا عن وجود صندوق للشكاوي في بطوليميس ترينا أن طرفي الخصومة كانا يعيشان خارج هذه المدينة؛ والنوع الآخر هو القضايا التي يكون أحد الطرفين فيها من الإغريق والآخر من المصريين وتكون وثائق القضية بالإغريقية؟ إن معلوماتنا الراهنة لا تسمح لنا بالإدلاء برأي حاسم في هذا الموضوع، وإن كان الاحتمال الأخير يبدو لنا أدنى إلى الحقيقة.

وإذا استثنينا ما يقال من أن بطوليميس لم يكن لها حق سك النقود، فإننا نجد أنها كانت تتمتع بكافة مظاهر نظم المدن الإغريقية الحرة، لكن إلى أي حد كانت مدينة إغريقية حرة؟ لقد وصلت إلينا قرارات (Psephismata) أصدرها المجلس والشعب، وفي هذه القرارات إشارة إلى قوانين خاصة بالمدينة. ويستخلص من ذلك أن المدينة كانت تستطيع تعديل دستورها، غير أننا لا نعرف عن يقين مدى حق هذه المدينة في التشريع، وإن كان من المحتمل أن ذلك لم يتعد تنظيم شئونها المحلية. ولا شك في أنه كان ينبغي ألا يتعارض ما تصدره من القوانين واللوائح مع رغبة الملك.

ولسنا ندري كيف كان يتم التوفيق بين رغبة الملك ورغبة المدينة، لكن النصوص القليلة التي وصلت إلينا تسمح لنا بأن نتخيل طريقة تنفيذ رغبات الملك في المدينة. ويحتمل أن الملك كان يوافق على اختيار حكام المدينة، وعلى كل حال فإنه توجد أمثلة متعددة لتولي موظفين ملكيين مناصب في هذه المدينة إلى جانب مناصبهم في الدولة، إذ يحدثنا نقش من القرن الثالث قبل الميلاد (267-243) بأن ليسيماخوس بن بطلميوس من حي سوستراتيوس كان قائدًا للفرسان – ولعله كان قائد حامية بطوليميس – كما كان رئيسًا (Prytanis) لمدى الحياة. ويحدثناا نقش آخر من القرن الثالث (276-275 أو 238-237) بأن هذا الشخص نفسه كان سكرتير المجلس. ونجد أيضًا أن شخصًأ يدعى كاليماخوس كان حاكم منطقة طيبة وفي الوقت نفسه رئيس الجيمنازيوم (Gymnasiarch) في بطوليميس.

وإلى جانب ذلك كان الملك ينفذ رغباته في المدينة عن طريق سفرائه أيضًا، إذ يحدثنا أحد قرارات المدينة عن احتفائها برجل يدعى أنتيفيلوس (Antiphilos) كان مبعوث بطلميوس الثالث، وعما أقامه هذا السفير من حفلات كانت خليفة بالملوك. لكن النص غير كامل فلا نعرف غرض السفير من هذ الزيارة، وإن كان لابد من أنه قد استقدمته إلى المدينة أمور هامة. ولم يكن أنتيفيلوس السفير الوحيد الذي قدم إلى بطوليميس، فإن هذا النص نفسه يحدثنا عن اهتمام المدينة بالاستعداد لاستقبال السفراء الملكيين استقبالاً رائعًا. ويحتمل كذلك أن بعض شئون الإدارة كانت في قبضة موظفي الدولة، لأن نقشًا من بطوليميس يذكر موظفًا يدعى ديويكيتس، وهو لقب من الجائز أنه كان يحمله ممثل دائم من قبل الملك، كما يجوز أنه كان لقب أحد حكام المدينة، لكن النص الذي ينبئنا عنه مشوه. وعلى كل حال يبدو محتملاً أن استقلال الإدارة المحلية كان محترمًا في الشكل في هذه المدينة المستقلة، وأنه لم يكن من العسير على الملك تنفيذ رغباته فيها عن طريق مبعوثيه. ولا شك في أن الحامية التي وضعها الملوك هناك كانت تضمن خضوع المدينة لهم، ذلك الخضوع الذي كان يتمثل في مظهر آخر هو عبادة الملوك هناك عبادة رسمية محلية، كان الملك هو الذي يعين كاهنها.


كيفية التوفيق بين استقلال المدن الإغريقية وسلطة الملك المطلقة


وكيف أمكن التوفيق بين استقلال هذه المدن الإغريقية – هذه الجمهوريات الصغيرة – وسلطة الملك المطلقة؟ يرى البعض أنه كانت توجد بين المدن والملك "محالفات" أنشأت بين الفريقين صلات اتحادية. لكنه إذا جاز هذا الرأي فيما يخص دولة السلوقيين حيث وردت في وثائقها كلمة محالفة (Symmachia)، فإنه لا يمكن قبوله فيما يخص دولة البطالمة، إذ أنه لم يرد في وثائقها ذكر للمحالفات، ولا يمكن انطباق هذا الوصف على العلاقات بين الملك البطلمي ومدن مصر الإغريقية. فهي شديدة الخضوع لسلطة الملك بحيث لا يمكن الزعم بأنه كان بين الفريقين محالفة، لأن التحالف يفترض وجود نوع من المساواة في القانون إن لم يكن في الواقع. ولا ريب في أن استقلال هذه المدن كان مقصورًا على إدارتها الداخلية دون أن يكون له أي أثر في سياسة الملك. وإذا كانت هذه المدن تتمتع بأحد حقوق السيادة وهو سك النقود فينبغي ألا ننسى أن هذه النقود كانت تحمل صورة الملك وتؤرخ بسني حكمه. وإذا كان الملك لا يعامل مواطني المدن الإغريقية معاملة رعاياه الوطنيين، وكان يحترم حريتهم ويسمح لهم بالمناقشة في جمعياتهم بل بتعديل بعض قوانينهم، فإنه مع ذلك كان راعيهم وسيدهم، ولم تكن مدنهم على الإطلاق دولاً ذات سيادة بالمعنى الصحيح وإن كانت مدنًا إغريقية في دستورها وتقاليدها وحكامها وفي أن الجيمنازيوم كان مركز التعليم الإغريقي فيها. ومن المؤكد أن الإسكندرية، برغم سكانها الخليطين وبرغم مظاهرها المختلفة التي تميزها عن المدن الإغريقية الأخرى، ما كانت لتستطيع القيام بالدور الذي قامت به لو لم تكن قبل كل شيء مدينة إغريقية. وقد كان خضوع هذه المدن للملك يتمثل بجلاء في عبادة الملوك، إلى جانب عبادتهم العامة، عبادة محلية رسمية، على الأقل في بطوليميس. وكان الملك يفرض سلطانه على المدن عن طريق مبعوثيه الملكيين الذين كان يوفدهم إليها، وعن طريق حكام هذه المدن، فقد كان في وسع الملك تعيين أشخاص موالين له أو الإيحاء بتعيينهم. ولذلك يبدو أن كلمة "حماية" التي يقترحها أرانجيو رويز لوصف العلاقات بين الملك والمدن أدنى إلى الدقة في التعبير عن حقيقة هذه العلاقات، وإن كنا لا نجد لها مقابلاً إغريقيا في وثائق مصر البطلمية.


2- المدن الإغريقية في ممتلكات مصر الخارجية

ولقد عرفنا كيف أن البطالمة بسطوا سلطانهم على أقاليم كثيرة، في خلال القرن الذي أعقب موت الإسكندر، أي في عهد البطالمة الثلاثة الأوائل، ذلك العهد الذي بلغوا فيه أوج مجدهم وعظمتهم. وكانت أهم تلك الأقاليم وأطولها بقاء تحت سيطرتهم هي قبرص وقورينايئة وجوف سوريا وفينيقيا وفلسطين. وقد بقيت كذلك سنين طويلة جزءًا من إمبراطورية البطالمة: ليكيا المشهورة بغاباتها القيمة، وكاريا المعروفة بتجارتها وصناعتها، وجانب من أيونيا يشمل مليتوس وإفيسوس، وعصبة جزر بحر إيجة، وكانت جزيرة ثيرا من أشدها وفاء للبطالمة؛ وبعض أنحاء كريت. وفضلاً عن ذلك فإن مصر حكمت مدة وجيزة جزءًا من تراقيا وغاليبولي (Chersonesos) وساموتراقيا، بل تسنى لها أن تبسط نفوذها بعض الوقت على جزء من البلوبونيز.

نظام الحكم في قبرص:

إن أكثر المعلومات التي لدينا تتناول نظام الحكم في قبرص، وكان على رأسه حاكم عسكري (Strategos) تحت إمرته قوات كبيرة أخذت من جيش الملك النظامي، فيما يبدو، ووضعت في مدن الجزيرة المختلفة. وفي القرن الثاني قبل الميلاد كان حاكم الجزيرة يحمل كذلك لقب أميرال (Nauarchos)، فقد كان لديه عندئذ أسطول كبير يحتمل أن مدن قبرص الساحلية هي التي كانت تساهم في بنائه وإعداده للقتال. ومنذ عهد بطلميوس الخامس كان الحاكم يحمل كذلك لقب رئيس كهنة (Archiereus) المعابد في قبرص، وذلك بسبب الدور الذي كانت تقوم به معابد قبرص الكبيرة الغنية في حياة الجزيرة الاقتصادية والسياسية.

وكانت المناجم الهامة في قبرص ملكًا للدولة، وتستغل بواسطتها فيما يظن. وكان يعهد بالإشراف عليها في بعض الأحيان، بل يحتمل على الدوام، إلى حاكم خاص (Antistrategos)، لا يبد أنه كان يتمتع بسلطة حربية. ولم تتمتع مدن قبرص إطلاقًا باستقلالها، ولذلك فإن مسألة علاقات المدن بالسلطة المركزية لمتثر هناك أية مشكلة. وقد كان السادة الحقيقيون لهذه المدن قواد الحاميات، وكانوا يوجهون بأوامرهم الحكام الذين ينتخبهم الأهالي. ولا شك في أن موارد البطالمة من قبرص كانت كبيرة، فمنها كان يأتي النحاس الذي كانت مصر في حاجة قصوى إليه، ويحتمل أنه كانت تبنى فيها سفن كثيرة لأسطولي مصر الحربي والتجاري.

نظم الحكم في قورينايئة:

وقد كانت معلوماتنا عن نظام الحكم في قورينايئة في عصر البطالمة طفيفة، إلى أن كشف عن تلك الوثيقة التي أعطتنا دستورها ومر بنا ذكرها.

وترينا هذه الوثيقة كيف حاول ملك مصر تنظيم العلاقات بين قورينايئة وبين السلطة المركزية، فإن الملك أبقى دستور قورينايئة القديم في جوهره، لكنه أدخل عليه بعض التعديلات التي تضمن له السيطرة على شئون قورينايئة. فقد احتفظ لنفسه بالحقوق والامتيازات التالية:

(1) الحق في أن يدمج في القبائل بعض المواطنين الجدد، ويحتمل أنهم كانوا من أرباب الإقطاعات العسكرية في الجيش البطلمي.
(2) الحق في أن يعيد إلى المنفيين من أنصاره حقوقهم.
(3) الحق في اختيار أعضاء مجلس الشيوخ.
(4) الحق في تولي منصب الحاكم العسكري (Strategos).
(5) الحق في التدخل في قضايا المنفيين.
(6) الحق في منح حقوق المواطنة.

ويبدو أن بعض هذه الامتيازات كانت مؤقتة مثل الامتيازات المتعلقة بمعاملة المنفيين، على حين أن بعضها الآخر كانت دائمة، مثل حق تعيين أعضاء مجلس الشيوخ وحق تولي منصب الحاكم العسكري وحق منح حقوق المواطنة. وفي ضوء ذلك لا يستبعد أن يكون الملك قد احتفظ لنفسه بحقوق مماثلة في مدن مصر الإغريقية، ولاسيما أن هناك أوجه للشبه بين هذه الحقوق والحقوق التي كان ملوك برجام يتمتعون بها في هذه المدينة.

ويوجد شبه قريب بين الحالة الاجتماعية في قورينايئة، على نحو ما يصفها إسترابون، والحالة الاجتماعية في الإسكندرية ومصر. فقد كان ينزل في قورينايئة أيضًا إلى جانب الإغريق عدد كبير من غير الإغريق، ومعنى ذلك أنه إلى جانب المواطنين الذين كانوا يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة والذين كانوا يتمتعون بجانب من هذه الحقوق كانت توجد أعداد كبيرة ممن لم يكونوا مواطنين، كان أغلبهم من اليهود وبعضهم، فيما يحتمل، من الليبيين. وكان سكان الأقاليم يتالقون من مزارعين (Georgoi) يفلحون أراضي، كانت ملكًا للمدينة أو الملك. وأغلب الظن أن هؤلاء كانوا جنودًا أسكنوا هناك بمثابة أرباب إقطاعات (Klerouchoi).

قلة اكتراث البطالمة باستقلال المدن الخاضعة لهم:

إن المشكلة الرئيسية التي واجهت البطالمة في قورينايئة قد واجهتهم كذلك في كل ممتلكاتهم التي كانت المدن الإغريقية تقوم بالدور الرئيسي في حياتها، مثل عصبة الجزر والجزر الأخرى وكاريا وأيونيا وليكيا، وإلى حد ما في تراقيا. وإذا استبحنا لأنفسنا أن نستند إلى الوثائق القليلة التي لدينا في الحكم على موقف البطالمة من رعاياهام الإغريق بوجه عام، فإننا نرى أن البطالمة لم يعبأوا كثيرًا باستقلال المدن الخاضعة لهم، لأن سيطرتهم على هذه المدن تبدو بجلاء في وثائقها الرسمية، فديباجة هذه الوثائق لا تستهل عادة باسم المدينة وشعبها ومجلسها وحكامها بل باسم الملك. لكن البطالمة كانوا أكثر حذرًا في معاملة عصبة الجزر، فقد كانت منظمة تنظيمًا دقيقًا وعلى جانب كبير من القوة، مما أجبرهم على احترام نظمها. غير أنه حتى في عصبة الجزر كان الحاكم البطلمي (Nesiarch) هو ديكتاتور العصبة، فإنه هو الذي كان يدعو ممثلي الجزر إلى الاجتماع، وينفذ قرارات مثل هذه الاجتماعات، ويتولى قيادة قوات العصبة الحربية، ويطهر البحار من القراصنة، ويجمع المبالغ التي يدفعها أعضاء العصبة، ويعين المحكمين لفض الخلافات. لكن البطالمة، في خلال سيطرتهم القصيرة على هذه العصبة، كانوا حريصين على ألا يتدخلوا في شئونها الداخلية.

أما في المدن الإغريقية الأخرى، فإن البطالمة كانوا يتدخلون في كافة شئونها، إذ أنه بالرغم من أن هذه المدن احتفظت بنظمها مثل الجمعية الشعبية والمجلس والحكام، فإنها كانت لا تستطيع الفصل في أية مسألة هامة دون موافقة الملك أو بعبارة أخرى موافقة ممثله. وتشير القرائن إلى أن السلطة المركزية في الإمبراطورية كانت تتدخل باستمرار حتى في الشئون الداخلية البسيطة، إما بطريقة مباشرة بواسطة الأوامر أو بطريقة غير مباشرة بواسطة الرسائل الشخصية. ومثل ذلك أن هاليكارناسوس لم تستطع بناء جيمنازيوم دون موافقة الملك. وفي سامو تراقيا كان السماح باستيراد القمح أو عدم السماح به من اختصاص الملك أو ممثله، وهو أيضًا الذي كان صاحب الرأي الفاصل في مسألة تقسيم الأراضي بين المواطنين. وفي مليتوس نرى الملك يقسم الأراضي حسب مشيئته. وكان يفرض على الأهالي إيواء الحاميات البطلمية في المدن الخاضعة له، كما كان يفرض على بعض أصحاب الأراضي إمداد بعض الفرسان بعلف خيولهم. ولم يكن في وسع الأهالي الاحتجاج ضد تعسف البطالمة وتدخلهم في شئونهم، لأن مدنهم كانت تحت رحمة الحامية البطلمية وقائدها، فقد كان للبطالمة في كل ممتلكاتهم حاميات وقواد. وجملة القول أن البطالمة ادعوا أنهم أتوا لتحرير هذه المدن، لكنهم في الواقع كانوا أقل رحمة وشفقة برعاياهم من أسرة سلوقس أو أسرة أنتيجونوس.


3- إغريق مصر في الأقاليم

الجماعات القومية:

وإلى أي حد كان الإغريق المقيمون خارج مدن مصر الإغريقية يتمتعون بحق حكم أنفسهم؟ وماذا كان يقصد على وجه التحديد بالجاليات أو الجماعات القومية المختلفة (Politeumata ومفردها Politeuma) التي تكونت في أنحاء مصر؟

إن قلة المعلومات التي لدينا تجعل من العسير الإجابة عن كل ذلك، وإن كنا نعتقد أن الميل إلى التضافر والاحتفاظ بطابع الحياة في الوطن الأصلي قد دفع الإغريق وغيرهم من الأجناس النازلة في مصر إلى تأليف جماعات قومية خاصة بهم حيثما وجد عدد كاف منهم.

وقد لاحظ فيلكن أولاً أن الانتماء إلى جماعة قومية كان يكتفى في التعبير عنه بلقب قومي فقط دون إضافة ما يفيد كون الشخص "من السلالة" (tes epigones)، وثانيًا: أنه لا يقابل وجود لقب قومي مثل "ميسي" مصحوب بعبارة "من السلالة" وجود جماعة قومية ميسية. لكن لعل الأصح أن يقال إننا لا نجد في الوثائق دائمًا تطابقًا بين قوميات الجماعات وقوميات "السلالة"، فالوثائق تذكر جماعة قومية بيوتية وبيوتين من السلالة وجماعة قومية كريتية وكريتيين من السلالة. ومن ناحية أخرى تذكر الوثائق جماعة قومية كيليكية وجماعة قومية أدومية لكنها لا تذكر كيليكيين ولا أدوميين من السلالة. وبالعكس تذكر الوثائق ميسيين وكاريين وليكيين وبافلاجونيين من السلالة فضلاً عن أعداد كثيرة من المقدونيين والتراقيين والفرس "من السلالة" دون ذكر جماعات قومية مماثلة. والواقع أننا لا نعرف إذا كان يبدو محتملاً أن الأبناء كانوا ينتمون إلى جماعات آبائهم أو على الأقل إلى الطبقات الممتازة نفسها. وعلى كل حال من الثابت أن مركز كل فرد من السكان كان محددًا بدقة ومسجلاً لدى الحكومة. وثالثًا أن الأساس الذي كانت تقوم عليه الجماعة القومية في مصر هو تكوين وحدة قومية تستمد اسمها من أمة أو جنس أو شعب وليس من مدينة.

ولا يمكن الجزم إذا كانت الجماعات القومية قد نشأت من تلقاء نفسها أم أن الدولة هي التي أنشأتها، وحتى في الحالة الأولى لابد من أن يكون الملوك قد اعترفوا بها وكلاؤها سريعًا برعايتهم. ويحتمل أنه كانت هناك صلة قوية بين بعض هذه الجماعات ومدن مصر الإغريقية بمعنى أنه كان يباح لأفرادها أن يصبحوا جزءًا من هيئة مواطني هذه المدن، فإنه على هذا النحو يمكننا تفسير غموض مسألة دريتون (Dryton) الذي يوصف أحيانًا بأنه كريتي وأحيانًا بأنه من حي فيلوتريوس في بطوليميس. ولا يبعد أن أولئك الذين لم يكونوا من مواطني إحدى مدن مصر الإغريقية كان يتحتم عليهم الاندماج في إحدى هذه الجماعات إذا كانوا يريدون الحصول على الحقوق المدنية الإغريقية وبذلك يستطيعون الانخراط في سلك الجيش النظامي. فإنه وفقًا للمبادئ العامة السائدة حتى أواخر القرن الثالث على الأقل كان المواطنون المقدونيون والإغريق وحدهم هم الذين يستطيعون الخدمة في ذلك الجيش. ومعنى ذلك أن البطالمة اتخذوا من الاندماج في هذه الجماعات القومية وسيلة لمنح أولئك الذين يريدون تجنيدهم الحقوق المدنية الإغريقية التي كانت تؤهلهم للخدمة العسكرية. ويرى لونيه أن هناك صلة وثيقة بين هذه الجماعات والجيش، وأن منشأ هذه الصلة هو أن هذه الجماعات كانت تستمد من الجيش جل أعضائها إن لم يكن كلهم. ويرى هايشلهايم أن هذه الجماعات كانت عسكرية بحتًا، لكنه إذا كان لا سبيل إلى الشك في أن طابعها كان عسكريًا في أغلب الحالات، فإنه من المؤكد أن نظامها لم يكن عسكريًا بحتاً.

وتوجد أدلة على وجود جماعات قومية: لليهود في الإسكندرية وللفريجيين وللبيوتيين في جزويس (Xois) (سخا) وللكيليكيين وللكريتيين في الفيوم وللادوميين في منف. ولا يبعد أنه كان للفرس والمقدونيين والتراقيين وغيرهم جماعات قومية مماثلة. وإذا كانت أسماء هذه الجماعات تدل على أن أغلبها لم تكن إغريقية، فلعل ذلك لا يرجع إلا إلى الصدفة التي لم تحفظ أو تكشف حتى الآن إلا جانبًا من الوثائق الخاصة بهذه الجماعات التي كنا نتوقع أن تكون الجماعات الإغريقية أوفرها عددًا وأكثرها أهمية.

ونستخلص من وثائقها: أولاً أن الجماعات التي لدينا أدلة على وجودها لا نعرف عنها شيئًا قبل عصر فيلومتور على الأكثر، ولذلك لا نستطيع الجزم إذا كانت توجد جماعات قومية في القرن الثالث قبل الميلاد، وإن كنا نرجح ذلك. وثانيًا أن هذه الجماعات كانت تتألف من أشخاص ينتمون إلى جنس واحد، لكنه كان يمكن أن يضم إليهم عدد من الأغراب ربما كان من حقهم التمتع بكل حقوق أعضاء الجماعة إلا أنه لسبب أو لآخر كان يميز بينهم وبين الأعضاء الأصليين بلقب (Sympoliteuomenos) يدل على أنهم كانوا شركاؤهم فقط. وثالثًا أنه كان لكل جماعة مقر في مكان معين، وأنه كان لهذه الجماعات نوعان من النشاط: أحدهما سياسي، بمعنى أنها كانت تصدر قرارات تشريف وتنتخب كهنتها ورؤساءها والأشخاص الذين يديرون شئونها. والنشاط الآخر ديني، فقد كان لكل جماعة آلهتها القومية وهيكلها وطقوسها الدينية وكهنتها. وقد كان لهذا النشاط الديني أهمية كبيرة باعتباره صورة للحياة في الوطن الأصلي ودعامة الرابطة الروحية بين أعضاء الجماعة. وهكذا يتبين أن هذه الجماعات كانت منظمة على نمط المدن الإغريقية وتتمتع بقدر من الحكم الذاتي. ولعل اللقب الذي كان أفرادها يحملونه لم يكن إلا لضمان تمتعهم بالامتيازات الممنوحة لهذه الجماعات.

ومن العسير أن نتصور أن كل جماعة من هذه الجماعات القومية المتعددة كانت تعيش في كنف قوانين البلاد التي وفد منها أفراد تلك الجمعيات، اللهم إلا إذا استثنينا جماعة يهود الإسكندرية بسبب كثرة أفرادها، ودون شك أيضًأ الجماعات الإغريقية. ومن أجل التنسيق بين قوانين المدن الإغريقية ومختلف قوانين الجماعات الإغريقية وكذلك من أجل تنظيم معاملات الإغريق الذين لم ينتموا إلى تلك المدن والجماعات كان البطالمة يصدرون أوامر ملكية مختلفة الأنواع.

وقد كان في وسع الإغريق الاحتفاظ بتقاليدهم في هذه الجماعات، فإنهم أنشأوا معاهدهم العلمية الإغريقية في كل أنحاء مصر، فنجد البالايستري (Palaestrae) والجيمنازيا حتى في القرى. وإذا كان البطالمة لم ينشئوا هذه المعاهد فإنهم كلاؤها برعايتهم واعترفوا بجمعيات رجال الجيمنازيوم وكذلك بحقها في امتلاك المباني والأثاث والأراضي. وكان لكل جماعة رئيس تنتخبه ويدعى الجيمنسيار خوس. أما شئون التعليم فإنها كانت في قبضة عدد من المدرسين وشخص يدعى "كوسميتس". فهل كان الجيمنسيار خوس والكوسميتس من بين هيئة الحكام التي تدير شئون الجماعات الإغريقية في عواصم المديريات، كما كانت الحال فيما بعد في العصر الروماني؟ إننا لا نعرف شيئًا عن هذه العواصم في عهد البطالمة، ويبدو أن تركيز المعاهد الإغريقية في هذه المدن كان نتيجة لإصلاح قام به أغسطس. ولعل الرأي الأكثر احتمالاً أن الجيمنازيا في مصر كانت منشآت أهلية تعتمد على الجماعات الإغريقية، وإنما كانت الدولة تشرف عليها، أي أن مركزها كان شبيهًا بمركز مصانع النسيج الخاصة أو الهياكل التي يشيدها الأفراد. وبما أن النسيج كان احتكارًا حكوميًا والملك رأس الديانة، فإن المناسج والهياكل كانت تحت إشراف الملك. ولذلك يبدو أن الملك لم يكن حاكم البلاد فحسب بل كان كذلك راعي (Patronus) إغريق مصر، الذي يشرف على جماعاتهم وما فيها من الجيمنازيا.

4 - نظام الإدارة في مصر خارج المدن الإغريقية

أقسام مصر الإدارية التقليدية:


كانت مصر تشمل منذ عهد مينا قسمين مختلفين، من الناحية الجغرافية، وكذلك من ناحية التقاليد الفرعونية التي ترمز لها بالتاج المزدوج. أما هذان القسمان: فأحدهما وادي النيل من الشلال الأول حتى بداية الدلتا ويسمى مصر العليا أو مملكة الجنوب، والآخر هو الدلتا ويسمى مصر السفلى أو مملكة الشمال. وكانت مصر العليا ومصر السفلى تنقسمان إلى عدد من الأقاليم، أطلق الإغريق عليها منذ عهد هرودوتوس اسم نوموي (Nomoi ومفردها Nomos). ويقال إن مصر كانت تشمل 20.000 مدينة في عهد أماسيس، و33.333 مدينة في عهد بطلميوس الثاني. وإذا كان الاصطناع يبدو جليا في هذا الرقم، فإنه مع ذلك لا يبعد عما يرويه ديودوروس من أنه كان يوجد في مصر في عهد بطلميوس بن لاجوس أكثر من 30.000 مدينة، ويقول إن مصر كانت لا تزال أكثر بلاد العالم ازدحامًا بالسكان وإن عددهم قديمًا كان يبلغ نحوًا من سبعة ملايين ولا يقل عددهم الآن (حوالي 30ق.م) عن ثلاثة ملايين.


البطالمة يحتفظون بالنظام الإداري التقليدي:


وقد احتفظ البطالمة بهذا النظام التقليدي، نظام تقسيم البلاد إلى مصر العليا ومصر السفلى وتقسيم كل من هذين القسمين إلى أقاليم أو مديريات. وكانت لكل مديرية رابطة وحدة، تتمثل بوجه خاص في عبادة إلهها الأكبر أو ثالوثها المقدس. وكانت العبادة المحلية تختلف من مديرية إلى أخرى، بل كانت تنشأ مصادمات عنيفة بين المديريات المتجاورة بسبب الديانة. ويحدثنا بعض المؤرخين عن وجود أحقاد دينية قديمة العهد بين قفط (Koptos) ودندرة (Tentyris)، وبين مديريتي كينوبوليس (Kynopolis) وأوكسيرينخوس (Oxyrhynchos).


وتختلف أسماء المديريات وعددها في المصادر المختلفة، فإن "وثيقة الدخل" - وهي تشمل القوانين المالية التي أصدرها بطلميوس الثاني وترجع إلى العام السابع والعشرين من حكم هذا الملك – تتضمن قائمتين بأسماء المديريات لا تختلفان فيما بينهما فحسب، بل تختلفان كذلك عما يذكره هرودوتوس، الذي زار مصر قبل ذلك بمائة وثمانين عامًا، وعما يرويه استرابون، الذي زار مصر بعد ذلك بمائتي وأربعين عامًا، وعما كتبه بلينيوس في العصر الروماني، وعما تدل عليه نقود المديريات في ذلك العصر. لكن قائمتي وثيقة الدخل تتفق مع هرودوتوس واسترابون في إطلاق اسم منطقة طيبة على مديريات الوجه القبلي، كما تتفق قائمتا وثيقة الدخل واسترابون في ذكر ست وعشرين مديرية إلى جانب منطقة طيبة التي يقول استرابون إنها كانت تضم عشر مديريات. ويحدثنا استرابون وديودوروس بأنه كانت توجد قديمًا في مصر ست وثلاثون مديرية دون أن يذكرا عدد المديريات في عهديهما. وتشير بعض الوثائق المصرية القديمة إلى وجود أربعين مديرية، بل ترينا بعض الخرائط الحديثة أنه كانت توجد في مصر في عهد الفراعنة خمسون مديرية.


ويبين مما يرويه استرابون أنه كان يوجد في كل من الدلتا ومصر العليا عشر مديريات، لكن هذه المساواة في عدد المديريات بين الدلتا ومصر العليا لم يكن لها وجود في عصر البطالمة ولا عصر الرومان، إذا صح أن عدد المديريات في مصر كلها كان لا يقل عن ست وثلاثين مديرية، وذلك لأنه لم يوجد عندئذ في مصر الوسطى إلا سبع أو ثماني مديريات، ولأنه وفقًا للقائمتين اللتين تتضمنهما وثيقة الدخل كانت توجد أكثر من عشر مديريات في الدلتا في عهد بطلميوس الثاني على الأقل، إذ تذكر إحدى القائمتين ثماني عشرة مديرية والقائمة الأخرى ثلاث عشرة مديرية في الدلتا.


ويمضي استرابون فيذكر بالاسم سبع عشرة مديرية بوصفها في الدلتا أو بجوارها. وبمقارنة أسماء المديريات التي يذكرها استرابون بقائمتي وثيقة الدخل وقائمة بلينيوس، نلاحظ أن كل هذه المراجع تتفق في ذكر اثنتي عشرة عاصمة من عواصم المديريات في الدلتا، وهي:

الإسم الإغريقي لعاصمة المديرية

اسمها المصري القديم

الاسم الحديث لمدينة تقع في مكان المدينة القديمة أو بالقرب منه

سايس

Sais

ساي

Saï

صا الحجر

بوسيريس

Busiris

بوسيري

Pusiri

أبوصير بانا

سبنيتوس

Sebennytos

زاب – نوتير

Zab-nutir

سمنود

مندس

Mendes

بي-بينيبديدي

Pi-binibdidi

تل الربع قرب السنبلاوين

تانيس

Tanis

زاني

Zani

صا

ليونتوبوليس

Leontopolis



تل اليهودية بالقرب من شبين القناطر

فاربايثوس

Pharbeithos

شوندو

Shndu

حوربيت

بوباستيس

Bubastis

بو-باستيت

Pu-bastit

تل بسطة بالقرب من الزقازيق

أثريبيس

Athribis

هاثيريبي

Hathiribi

تل أتريب قرب بننها

بروسوبيس

Prosopis

زاك-أي

Zak-ai

؟

ليتوبوليس

Letopolis

سوخميس

Sokhmis

أوسيم

هليوبوليس

Heliopolis

أونو

Onu

المطرية

= مديريةدلتا في وثيقة الدخل (Col.31.1.6)




ويضيف استرابون إلى ذلك المديريات التالية باعتبارها في الدلتا أو بالقرب منها:


(1) مديرية منلايتس (Menelaites)، التي اشتق اسمها من اسم منلاوس (Menelaos) أخي بطلميوس الأول، وكانت في الجزء الشمالي الغربي من الدلتا بالقرب من كانوب، وذكرت في إحدى قائمتي وثيقة الدخل.


(2) مديرية جينايكوبوليتس (Gynaecopolites)، وعاصمتها جينايكوبوليس (Gynaecopolis) (مدينة النساء)، ويبدو أنها كانت إلى الجنوب الشرقي من دمنهور، بين نقراطيس وسايس، وقد ورد جزء من اسمها في إحدى قائمتي وثيقة الدخل.


(3) مديرية موممفيتس (Momemphites)، وعاصمتها موممفيس (Momemphis) بجوار المديرية السابقة.


(4) مديرية فاجروريوبوليتس (Phagroriopolites) وعاصمتها فاجروريوبوليس شرقي الدلتا بالقرب من بيثوم (Pithom) والبحيرات المرة. ويظن أنه يقابل هاتين المديريتين في وثيقة الدخل المديريتان الليبية والعربية، اللتان يذكرهما بلينيوس على هذا النحو.


(5) مديرية نيتريوتس (Nitriotes) وكانت تشمل وادي النطرون وورد ذكرها في إحدى قائمتي وثيقة الدخل ومن المحتمل أنه يقابل اسمها في القائمة الأخرى أحد الاسمين المشوهين في هذه القائمة. ويذكر بلينيوس كذلك مديرية سثرويتس (Sethroites)، التي ذكرت في قائمتي وثيقة الدخل، ويظن أنها كانت تقع بين تانيس وبلوزيون.


أما في وادي النيل، بين الدلتا ومنطقة طيبة، فإننا نجد في كل المصادر أسماء العواصم الست التالية:

الإسم الإغريقي

اسمها المصري

الاسم الحديث

ممفيس

Memphis

مينوفيرو

Minnofiru

البدرشين

أفروديتوبوليس

Aphroditopolis

بنبتباهي

Pnebtepahe

أطفيح

كروكوديلوبوليس

Crocodilopolis

شتت

Shetet

مدينة الفيوم

هيراكليوبوليس

Heracleopolis

هينينسوتون

Hininsuton

أهناسية

أوكسيرينخوس

Oxyrhynchos

بيمازيت

Pimazit

البهنسة

كينوبوليس

Cynopolis

كايسا

Kaisa

القيس

ولا نستبين مما يرويه استرابون إذا كانت الأسماء التي يذكرها بعد كينوبوليس (Cynopolis) أسماء عواصم مديريات أم لا، لكننا إذا اعتبرنا عواصم مديريات تلك المدن التي تقابل عواصم المديريات المذكورة في الوثائق المصرية القديمة وفي بلينيوس والتي تشمل عاصمة مديرية طينة (Thinis) الواردة فيما كتبه أجثارخيدس (Agatharchides) فإننا نحصل على عواصم المديريات التالية:

الإسم الإغريقي

اسمها المصري

الاسم الحديث

هرموبوليس ماجنا

Hermopolis Magna

خمونو

Khmunu

أشمونين

ليكوبوليس (مدينة الذئاب)

Lycopolis

سيلوط

Siaut

أسيوط

أفروديتوبوليس

Aphroditopolis

زوبوي

Zobui

إدفا

بانوبوليس

Panopolis

خيمي

Khimme

أخميم

ثينيس

Thinis

ثيني

Thini

جرجا

ديوسبوليس بارفا

Diospolis Parva

هايت

Hait

هو

تنتيريس

Tentyris

تانتوريريت

Tantoririt

دندرة

كوبتوس

Coptos

كوبتي

Qubti

قفط

منطقة طيبة:


وإذا استثنينا، فيما يظن، الأقاليم التي خصصت للمدن الإغريقية الثلاث – الإسكندرية ونقراطيس وبطوليميس – فإننا نلاحظ أن كل مصر كانت مقسمة في عهد البطالمة أيضًا إلى مديريات. لكنه يبدو من "وثيقة الدخل" أن مديريات مصر العليا كانت تؤلف منذ أوائل عهد البطالمة منطقة منفصلة يطلق عليها منطقة طيبة، تحدها شمالاً الحدود الجنوبية لمديرية هرموبوليس، وتنتهي جنوبًا عند الشلال الأول. ويظن البعض أن هذه المنطقة كانت تعتبر منذ أوائل عهد البطالمة من الناحية الإدارية بمثابة مديرية واحدة خاضعة للحاكم المقيم في طيبة. ولكن خطأ هذا الرأي يتضح لنا متى علمنا أنه قد ورد في بردية الفنتين اسم إحدى مديريات طيبة، وهي مديرية أبولونوبوليس (Apollonpolis) وعاصمتها إدفو، وأنه وفقًا لرواية استرابون كانت توجد عشر مديريات في هذه المنطقة في بداية العصر الروماني، وأن بلينيوس يذكر أسماء إحدى عشرة مديرية في هذه المنطقة، مما يدل على أن هذه المنطقة كانت مقسمة إلى مديريات كباقي أنحاء مصر. ويضاف إلى ذلك أنه يتضح مما يذكره هرودوتوس أن تسمية مديريات مصر العليا بمنطقة طيبة لم يكن أمرًأ استحدثه البطالمة. وتشير الوثائق إلى أن مركزي بريثيبس وباثيريتس كانا يكونا في أول الأمر مديرية واحدة ثم انفصلا عن بعضهما حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وأصبحا يؤلفان مديريتين. وفي القرن الأول قبل الميلاد أصبحت المديرية الأخيرة تعرف باسم مديرية هرمونثيس. ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن الاضطرابات التي وقعت في منطقة طيبة منذ عهد بطلميوس الخامس هي التي جعلت البطالمة يقيمون حاكمًا على كل هذه المنطقة، يدعى أحيانًأ قائدًا عامًا (Epistrategos) وأحيانًا قائدًا (Strategos)، وكانت مهامه تشمل الإشراف على الصحراء العربية كذلك. ويبدو أيضًا أن هذه الاضطرابات هي التي أفضت إلى إقامة هيبالوس حاكمًا عامًا على أقاليم مصر بأجمعها (Chora) على الأقل منذ إبريل عام 185 حتى ديسمبر عام 169. ونسمع أيضًا عن أشخاص كانوا يتولون منصب الأبيستراتيجوس فضلاً عن أداء مهام إدارية أخرى في الإسكندرية مثل أبولودوروس (في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد) وبطلميوس (95/94ق.م).


أسماء جديدة للمديريات:


وإذا كان البطالمة قد احتفظوا بنظام تقسيم مصر إلى مديريات، فإنهم لم يحتفظوا بأسمائها القديمة، وإن احتفظوا بوجه عام بالقاعدة التي كانت متبعة في العصر الصاوي وتقضي بأخذ اسم المديرية من اسم عاصمتها. ففي بعض الحالات حرف البطالمة أسماء هذهالعواصم بحيث تتلاءم مع الذوق الإغريقي، وفي البعض الآخر أطلقوا عليها أسماء جديدة نتيجة لتشبيه آلهتها المحلية بآلهة إغريقية، فمثلاً حيث كان الإله المحلي رع أو نحوت أو حورس أصبح اسم العاصمة هليوبوليس أو هرموبوليس أو أبولونوبوليس. وفي بعض الأحيان اشتقوا أسماء المدن من الترجمة الإغريقية لأسماء آلهتها أو طواطمها فغدت أسماء المدن كروكوديلوبوليس وكينوبوليس وليكوبوليس ولاتوبوليس وأوكسيرينخوس الخ... والاسم الأول معناه مدينة التماسح والثاني مدينة الكلاب والثالث مدينة الذئاب والاسمان الرابع والخامس اسما نوعين من الأسماك.


قائد المديرية ومديرها:


وعندما فتح الاسكندر مصر، كان يحكم كل مديرية مدير (nomarches). وقد أبقى الاسكندر المديرين المصريين في مناصبهم. ويرجح بعض المؤرخين أن بطلميوس الأول استبقى هذا النظام، لكن بطلميوس الثاني استن نظامًا آخر يشير بجلاء إلى احتلال البلاد بسلطة عسكرية أجنبية بوضع موظف يدعى "القائد" (strategos) على رأس المديرية، على حين أن البعض الآخر يعزو هذا التغيير إلى بطلميوس الأول منذ قدومه إلى مصر بصفة كونه واليًا عليها. والواقع أن اللقب العسكري الذي يحمله الحاكم الجديد للمديرية يذكرنا ببداية عهد السيطرة المقدونية عندما كان ضباط جيش الاحتلال يشرفون على حكام المديريات. وعلى كل حال فإن الكل يتفق على أنه منذ أوائل عصر البطالمة أصبحت كل مديرية منطقة عسكرية، أقيم عليها إلى جانب المدير قائد إغريقي. ولم يكتف البطالمة بإقامة حكام عسكريين أجانب على رأس المديريات بل أخذوا منذ البداية يسندون منصب المدير كذلك إلى إغريقي أو مقدوني دون حرمان المصريين كلية، فمن بين تسعة عشر مديرًا نعرف أنهم كانوا يباشرون مهامهم في الشطر الأول من عهد البطالمة أربعة على الأقل كانوا مصريين. وهذا يشير إلى أن المدير أصبح عادة إغريقيًا أو مقدونيًا وليس مصريًا. وبمضي الزمن أصبح المدير يحتل المكان الثاني وأصبحت اختصاصاته مالية قبل كل شيء، على حين أصبح القائد حاكم المديرية المدني والعسكري، ويمتد سلطانه على كل فروع الإدارة. ولكنه يجب أن يلاحظ أنه في خلال القرن الثالث كانت الصفة العسكرية للقائد لا تزال هي الغالبة. أما في القرن الثاني قبل الميلاد فإنه لم يعد للمدير نصيب في الإدارة وأصبح القائد قبل كل شيء حاكمًا مدنيًا، لكنه كان لا يزال يحتفظ بالإشراف على مستعمرات الجنود وعلى رجال الشرطة في المديرية، ولذلك فإنه في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد كان من بين كل حكام الأقاليم حاكم منطقة طيبة وحده هو الذي يتمتع بسلطة عسكرية. ويبدو لأول وهلة مما تذكره الوثائق أنه كان يوجد في مديرية الفيوم في عهد بطلميوس الثالث أكثر من قائد واحد، لكن دراسة هذه الوثائق بعناية ترينا أنه في الحقيقة لم يكن لهذه المديرية سوى قائد واحد، أما الآخرون فإن لقيهم (Kathestamenos Strategos أو Tetagmenos) يشير إلى أنهم كانوا قوادًا مساعدين، أي مساعدي القائد الأصلي وأقل منه مرتبة. ويرى "جيرو" أن هؤلاء المساعدين لم يوجدوا على الدوام، وإنما كانوا يعينون فيما يبدو بصفة مؤقتة لأغراض خاصة، مثل القيام بأعمال القائد الأصلي في أثناء تغيبه عن عمله أو تخفيف عبء العمل عنه في بعض الأحيان. ويرى "داك" أن فريقًا من هؤلاء المساعدين كانوا ممثلي القائد في إدارة أقسام (merides) المديرية. وقد كان للقائد مساعدان، يدعى أحدهما مراقب المديرية (epistates tou nomon أو ho epi tou nomou) وكان يختص بالشئون القضائية، أما الآخر فكان رئيس الشرطة (epistates tou phylakiton). وكان يوجد أيضًا عدد من كبار الموظفين، لكن بما أن اختصاصاتهم كانت مالية، فإننا نرجئ الكلام عنهم إلى أن نتناول الكلام عن الإدارة المالية.

نظام منطقة طيبة:


وحين أقيم حاكم عام على منطقة طيبة، بقيت المنطقة مقسم إلى مديريات أسندت إدارة كل عدد منها إلى قائد نعتقد أنه كان له نائب على رأس كل مديرية تقع في دائرة اختصاصه. ومن ثم أصبح يوجد في منطقة طيبة ثلاثة أنواع من الحكام الرئيسيين وهم:


(1) الحاكم العام، وكان يسيطر على المنطقة بأسرها، ومثل ذلك نومنس (Noumenes) (171-169)، وهيرونيموس (Hïeronymos) (فيما بين 169-163)، وديمتريوس (حوالي 117ق.م).


(2) القواد الذين كان كل منهم يشرف على عدد من المديريات، ومثل ذلك ثيومنستوس (Theomnestos)، وكان اختصاصه يمتد على الأقل على ليكوبوليس وبطوليميس هرميو (Ptolemais Hermion) وبريثيبس (Perithebes)، والقائد هرمياس وكان اختصاصه يمتد على لاتوبوليس وأمنووبريثيبس. ولكي ننفي مظنة أن ثيومنستوس وهرمياس كانا حاكمين عامين على منطقة طيبة يجب أن نذكر أنه حين كان الأول يتولى منصبه (171-169ق.م) كان نومنس هو الحاكم العام، وحين كان هرمياس يشغل منصبه (عام 118/117ق.م) كان ديمتريوس هو الحاكم العام.


(3) الحكام الذين كان كل منهم يحكم مديرية واحدة بصفتهم نواب حكام الفئة الثانية. ومثل ذلك تيمارخوس وكان يحكم مديرية ليكوبوليس حين كان ثيومنستوس المشرف على منطقة تدخل هذه المديرية في نطاقها. وكان بعض هؤلاء الحكام يحمل لقب قائد وبعضهم لقبًا يشير إلى أن حامله نائب القائد، ومثل ذلك تيمارخوس فقد ذكر أحيانًا بوصفه قائدًا، وأحيانًا أخرى بوصفه إبيستانس.


ويبين أن اللقب الأخير كان أكثر شيوعًا بين حكام الفئة الثالثة. وعلى كل حال كان يفرق بين هذه الفئات الثلاث من الحكام مكانتهم وكذلك ألقاب الشرف التي كانت تذكر دائمًا قرين اسم كل منهم ومنصبه. ومما يجدر بالملاحظة أنه كان يميز حاكم منطقة طيبة عن حكام المديريات: أولاً لقب أبيستراتيجوس الذي كثيرًا ما كان يحمله، وثانيًا احتفاظه بسلطته العسكرية طوال عصر البطالمة، وثالثًا عدم تدخله إطلاقًا في الشئون المالية.


الأقسام الإدارية في المديرية:


ويبين أنه في منطقة طيبة كانت المديرية تنقسم قسمين متوازيين أحدهما أعلى مجرى النهر والآخر أسفله، وأن كل قسم من هذين القسمين كان يتألف من مركز (toparchia، topos) واحد أو أكثر بحسب اتساع القسم، وأنه كان يضاف إلى مراكز كل قسم ما يشير إلى وجودها أسفل (kato) المجرى أو أعلاه (ano). أما في مصر الوسطى فيبدو أن المديرية كانت تنقسم إلى مراكز يضاف إلى اسم كل منها ما يشير إلى وقوعه في شمال المديرية أو جنوبها أو وسطها أو غربها. ولا نستبعد أن تلك كانت أيضًا الحال في الدلتا.


وكما كان لكل مديرية عاصمتها، كان كذلك لكل مركز عاصمته أو مقره حيث كانت تتركز إدارته فيقيم حاكم المركز الإداري (وكان يدعى عادة أبيستانس، أما في مديريتي هيراكليوبوليس ومنف فكان يدعى هيبوستراتيجوس) والعمدة (topach) ورئيس الشرطة وكاتب المركز وموظفو الإدارة المالية. ومما يجدر بالملاحظة أنه على عهد الدولة الحديثة (1580-1090ق.م) كانت لكل عاصمة من عواصم المديريات إدارتها الخاصة، وأنه في العصر الصاوي (663-525ق.م) ازدادت مكانة هذه العواصم إ لى حد أن المديريات كانت تعرف بأسماء عواصمها. وقد مر بنا أن هذه القاعدة كانت سارية بوجه عام في العصر البطلمي. وكذلك كانت المراكز تستمد أسماءها عادة من أسماء عواصمها فيما عدا بعض الحالات. وكان كل مركز يضم عددًا من القرى (komai) كان لكل منها حاكمها الإداري (epistates) وعمدتها (komarch) ورئيس شرطتها، وكان يساعد الحاكم جماعة من شيوخ القرية. وفي الفيوم كان هؤلاء الشيوخ يعرفون في خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد باسم شيوخ المزارعين (presbyteroi georgon) أو شيوخ مزارعي الملك (Presbyteroi basilikon georgon).



ونرجح أن اللقب الثاني كان يطلق على شيوخ القرى إذا كان كل إقليمها يتألف من أراضي الملك، لأن أغلب الأهالي كانوا عندئذ يشتغلون بفلاحة هذه الأراضي، على نحو ما كانت الحال في قرية كركيوسيريس (Kerkeosiris). ونجد في مديرية منف رجلاً يدعى "شيخ القرية" (presbyteros komes). ويرجح أن لقب "شيوخ القرية" قد خلف بمضي الزمن لقب "شيوخ المزارعين" كلما ازدادت الملكية الخاصة، فأصبح الشيوخ لا يمثلون المزارعين وحدهم بل كذلك ملاك الأرضي. وعلى كل حال لم يكن الشيوخ موظفين بل كانوا يؤدون مهامهم دون أجر (leitourgountes)، لكننا لا نعرف كيف كانوا يختارون، ولا المدة التي كان يطلب إليهم القيام بالعمل في خلالها، وهذا يتفق مع روح النظام الاستبدادي الذي كان متبعًا في عهد البطالمة. وتشير الوثائق إلى أنه في حالات كثيرة في مديرية الفيوم كان البطالمة يضمون قريتين قليلتي السكان إلى بعضهم ويجعلون منهما وحدة إدارية واحدة.


وفي بعض الأحيان كانت إحدى قرى المركز تقوم بدور عاصمته، وعندئذ كان يوجد فيها فريقان من الموظفين يختص أحدهما بشئون المركز ويختص الآخر بشئون القرية. وتشير القرائن إلى أنه كان يباشر العمل في كروكديلوبوليس (أرسينوي) فريقان من الموظفين كان أحدهما موظفي مديرية أرسينوي (الفيوم) والآخر موظفي إحدى نومارخيات تلك المديرية. وكانت فيلادلفيا عاصمة أحد أقسام مديرية الفيوم وفي الوقت ذاته عاصمة إحدى النومارخيات وكذلك عاصمة أحد مراكز تلك النومارخية.


نظام تقسيم مديرية الفيوم:


ومما تجدر ملاحظته أن نظام تقسيم مديرية الفيوم كان يختلف عن النظام الذي اتبع في المديريات الأخرى، فقد قسمت تلك المديرية إلى أقسام (Merides والمفرد Meris) بلغ عددها أربعة في خلال جانب من القرن الثالث قبل الميلاد وهي: قسم هيراكلايدس (Herakleides) في الشمال، وقسم بولمون (Polemon) في الجنوب الشرقي، وقسم ثميستوس (Themistos) في الجنوب الغربي، وقسم البحيرة الصغرى (Mikra Limne) شمالي قسم هيراكلايدس، لكنه يبين أن القسم الرابع اختفى في النصف الثاني من القرن الثالث. لأننا لا نجد له ذكرًا في الوثائق منذ حوالي 235ق.م. ولا نستطيع قبول الرأي القائل بأنه في خلال الربع الأخير من القرن الثاني قبل الميلاد أصبحت الفيوم تنقسم إلى قسمين اثنين فقط وهما: قسم هيراكلايدس وباقي المديرية، إذ أن وثيقة من 119/118ق.م. تذكر قسمي ثميستوس وبولمون. وقد كان لكل قسم من أقسام مديرية الفيوم حاكمه الإداري (epistates) وعمدته (Meridarch) ورئيس شرطته (Archiphylakites). وحوالي منتصف القرن الثالث قسمت الأقسام إلى نومارخيات كانت تعرف بأسماء حكامها. وكانت النومارخيات تنقسم إلى مراكز والمراكز إلى قرى.


ومما يستوقف النظر أن كلمة مريس (Meris = قسم) لم يقصر استخدامها دائمًا للدلالة على واحد من الأقسام الرئيسية التي كانت الفيوم تنقسم إليها بل كانت تستخدم أحيانًا للدلالة على جزء أو نومارخية في أحد هذه الأقسام.


وإذا كان البطالمة قد استحدثوا في الفيوم وحدتين إداريتين جديدتين لم تعرفهما مصر من قبل، وهما القسم (Meris) والنومارخية (Nomarchia)، فإن مصر الوسطى شهدت في النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد وحدة إدارية جديدة ثالثة وهي الديويكيسيس (Dioikesis). ويبدو أن مصادرنا القديمة تذكر سبعًا من هذه الوحدات لكنه يتعذر تحديد نطاق كل منها. ومع ذلك فإننا نستخلص من هذه المصادر أن إحدى هذه الوحدات، وهي ديويكيسيس سيمارستوس (Simarestos)، كانت تشتمل على الأقل التوبارخية الجنوبية في مديرية أوكسيرينخوس، وأن هذه الوحدة ذاتها كانت تتألف من إقطاعات عسكرية، وأن الديويكيسيس كانت وحدة إدارية يقطنها إغريق. ويبدو أن هذه الوحدة الإدارية الجديدة قد اختفت قبل عام 259/258ق.م. لتخلفها الوحدات الإدارية التقليدية.


ونستطيع أن نستخلص مما أسلفناه أنه لم يطبق على كل أنحاء مصر نظام إداري موحد، وأنه كان يحكم المديرية في مصر السفلى ومصر الوسطى قائد (Strategos)، بينما كان يحكم كل جزء من أجزاء المديرية سواء أكان قسمًا (Meris) أم مركزًا (Topos) أم قرية مندوب عن القائد يدعى أبيستانس. أما في العصر العليا فكان يوجد على الأقل منذ عهد بطلميوس الخامس حاكم عام يليه في المرتبة قواد، يمتد اختصاص كل منهم عادة على عدد من المديريات، ثم يأتي في المؤخرة الأبيستانس، وكان كل منهم يحكم مديرية واحدة. ومثل ما كان حكام المديريات يخضعون للسلطة المركزية ويستمدون منها سلطتهم، كذلك كان وضع حكام أجزاء المديرية بالنسبة لحاكم المديرية ووضع موظفي كل وحدة إدارية بالنسبة لحاكم الوحدة الأكبر التي كانت تشتملها.


عواصم المديريات:


ولسنا نعرف شيئًا عن إدارة عواصم المديريات لكنه يحتمل أنه كان يدير شئونها حكام يمثلون السلطة المركزية، إذ أنه كان يوجد في طيبة في القرن الثاني قبل الميلاد موظف يدعى حاكم طيبة (Thebarches). ونعرف من وثيقة من القرن الأول قبل الميلاد أن كاليماخوس، الذي كان حاكم عام منطقة طيبة وقائد البحر الأحمر والمحيط الهندي، كان كذلك حاكم طيبة. وتذكر وثيقة من القرن الأول للميلاد حاكم المدينة (Politarches). وإذا كان من المحتمل أنه كان لحاكم مدينة طيبة صفة عسكرية، لأن هذه العاصمة المصرية القديمة عوملت معاملة استثنائية بسبب الدور الذي قامت به في الثورات المصرية، فإنه من المرجح أن "حاكم المدينة" كان عادة حاكمًا مدنيًا، ولاسيما أن هذا اللقب كان موجودًا في المدن المقدونية ويطلق على جماعة الحكام المحللين الذين كانوا يديرون شئون المدينة. ولعل "حاكم المدينة" في مصر كان شبيهًا بالمشرفين "إبيستانس" الذين نجدهم في نقوش كثيرة، ولعل هذا الاصطلاح كان ترجمة لكلمة مصرية قديمة. ويبدو إذن أن عواصم المديريات كانت كالقرى تحت إشراف رجال السلطة المحلية الذين كانوا يمثلون السلطة المركزية. ولما كنا نسمع عن وجود "شيوخ" في منف، فإنه من المحتمل أنه كان يوجد في عواصم المديريات "شيوخ" على نحو ما كان يوجد في القرى. ويلاحظ أن كل أسماء "شيوخ" منف إغريقية. ويرجح أن عواصم المديريات كانت في عصر البطالمة، مثل ما كانت في عصر الرومان، تنقسم إلى أحياء (amphoda)، على رأس كل حي منها حاكم (amphodarches)، إذ يبدو محتملاً أن هذا النظام، الذي كان معروفًا في عهد الرومان، يرجع على الأقل إلى عهد البطالمة.


وبالرغم من قلة المعلومات التي لدينا عن نظام الإدارة في عهد البطالمة، فإنه يمكننا أن نقرر أن إدارة مصر كانت منظمة تنظيمًا دقيقًا. وبما أنه يتبين من الوثائق أنه كان يوجد نظام دقيق للبريد يشمل كل أنحاء البلاد، فقد كان من اليسير إبلاغ رغبات السلطة المركزية وتنفيذها في طول البلاد وعرضها.


مصدر سلطة رجال الإدارة:


وجدير بالملاحظة أن رجال الإدارة في الأقاليم كانوا، من الناحية القانونية، يستمدون سلطتهم مباشرة من الملك. أما من الناحية العملية، فإن كبار رجال السلطة المركزية هم الذين كانوا يعينونهم. ومن العسير أن نفرق على وجه اليقين بين سلطة كل موظف وآخر. ولا يرجع هذا إلى قلة معلوماتنا وصعوبة تتبع أدوار تطور كل منصب فحسب، بل أيضًا إلى ما يبدو محتملاً من أنه لم يوجد إطلاقًا تفرقة واضحة دقيقة بين اختصاصات الموظفين المختلفين. فقد كانوا وكلاء الملك ويعملون وفقًا للتقاليد القديمة التي ترجع إلى ما قبل عهد البطالمة، وكذلك وفقًا للإرشادات والتعليمات التي كانت تصل مختلف أنواع الموظفين من رؤسائهم أو من الملك متضمنة في منشورات (entolai) كانت تصدر فيما يظن تباعًا دون أي نظام ثابت، ولا شك في أنها كانت تناقض بعضها بعضًا في كثير من الأحيان.


والواقع أنه قد كان من مظاهر الإدارة المصرية سواء في عصر البطالمة أم الفراعنة إصدار قرارات للعفو وتعليمات للمرءوسين. وكان الغرض من قرارات العفو تحسين الحال وإزالة المساوئ القائمة، والغرض من التعليمات حسن تصريف العدالة والعناية بجمع الضرائب ورفع التقارير للملك والموظفين المختصين. ويمكن مقارنة التعليمات التي نقرأها على جدران مقبرة رك مي رع (Rekmire)، وزير الجنوب في عهد تحتمس الثالث، بالتعليمات التي أصدرها وزير مالية أحد بطالمة القرن الثالث إلى مرءوسيه المحليين، وكذلك بتعليمات هرودس وزير مالية بطلميوس السادس إلى مرءوسيه المحليين. وقرار العفو الذي أصدره حر محب أول فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، يذكرنا بقرارات العفو التي أصدرها بطلميوس يورجتيس الثاني.


وإذا كان كل ذلك ينهض دليلاً على رغبة الفراعنة وكذلك البطالمة في حماية رعاياهم، فإن الوثائق البطلمية ترينا فارقًا هامًا يميز البطالمة عن الفراعنة، وهو أن يبعث رغبتهم لم يكن حب الخير لذاته وإنما المحافظة على مصالحهم المادية.


ولكي نتبين إلى أي حد كان نظام الإدارة في مصر البطلمية معقدًا، يكفي أن نشير إلى قصة الجندي الصغير أبولونيوس (Apollonios) الذي أذن له في عهد بطلميوس السادس بالانتقال إلى منف، فإنه لكي يستطيع أبولونيوس إثبات مركزه والحصول على أجره، نراه مضطرًأ إلى الجري من هيئة إلى أخرى، ومن وزارة الحربية إلى المالية إلى الإدارة المحلية، بالرغم من أنه كان في يده إذن من الملك.


ويجب أن ندرك أن تكوين هيئة موظفي المديريات واختصاصاتهم لم تكن ثابتة على الدوام، إذ نلمس فيها تغييرات كثيرة دون أن نستطيع معرفة سبب ذلك. ويجب أن نذكر أيضًا أن موظفي البطالمة لم يكونوا طبقة منفصلة تلقى أفرادها نوعًا معينًا من التعليم، لكن أغلبهم كانوا من الإغريق فيما عدا صغار الموظفين مثل رجال الشرطة وحكام القرى.

تعديلات في نظام الإدارة:


ويبدو أنه في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد وفي خلال القرن الثاني، أدخلت على نظام الإدارة تغييرات كثيرة لا نعرف عنها إلى النزر اليسير، لكنه يمكن القول بأن الاتجاه العام كان نحو تركيز السلطة المحلية في يدي القائد، الذي نجد أحيانًا في قبضته اختصاصات المشرف على الإدارة المالية (Ho epi ton prosodon). ونرى ظاهرة جديدة في خلال القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، وهي السماح تدريجيًا لأغنى المصريين، الذين اصطبغوا بطلاء ظاهري من الحضارة الإغريقية، بتولي المناصب الإدارية. وقد أدت هاتان الظاهرتان إلى ظهور حكام مصريين (strategoi) في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، أحيوا في شخصهم ثانية الحكام القدماء (Nomarches)، الذين كانوا يشبهون أمراء الإقطاعات في العصور التي سبقت عصر البطالمة. ولعل ازدياد منح الوظائف لأغنى العناصر بين السكان يرجع إلى أن الموظفين كانوا مسئولين أمام الملك بأشخاصهم وممتلكاتهم، فكان من مصلحة الدولة أن تختار موظفيها وجباة الضرائب من بين الأغنياء دون نظر إلى جنسيتهم. ومعنى ذلك أن الباعث على تعيين المصريين في هذه المناصب لم يكن إرضاء الكرامة المصرية بقدر ما كان مصلحة الملك.

أوجة الشبه بين المدن الأغريقية و المدن المصرية:

وقد كانت الشوارع المنظمة والمباني الفخمة والبيوت المشيدة من الأحجار تغطي الإسكندرية وبطوليميس، وفيما يبدو نقراطيس أيضًا، مظهرًا مختلفًا عن عواصم المديريات، أو بعبارة أخرى عن المدن المصرية القديمة، التي كانت تزدحم بالبيوت المبنية من اللبن على جوانب شوارع أو أزقة ضيقة. وعلى كل حال كانت المدن الإغريقية تشابه المدن والقرى المصرية، من حيث أنها كانت جميعًا تنقسم إلى أحياء، وأنه كان يحيط بكل منها سور، توجد وراءه الضواحي بما يتبعها من العرب والكفور التي كانت تتألف من أكواخ وحقول.


ومهما تشابهت المدن الإغريقية والمدن والقرى المصرية من حيث المظهر، ولو عن بعد، فإنها كانت تختلف اختلافًا بينًا من الناحية السياسية، إذ أن كل مدينة إغريقية كانت تكون وحدة كاملة، لها قوانينها الخاصة وكيان مستقل، وتستطيع أن تحيا حياتها الخاصة. وبالرغم من أن حكامها كانوا دون شك يعترفون بسلطة الملك عليهم، فإن المدن الإغريقية لم تدخل في نطاق النظام الإداري الذي كان متبعًا في كافة أقاليم مصر، ولذلك لم تخضع لسلطة موظفي المديريات. أما المدن والقرى المصرية فلا يمكن اعتبار أية واحدة منها وحدة كاملة، إذ أن كلاً منها كانت جزءًا لا يتجزأ من المديرية التي تتبع لها، وتخضع جميعًا لسلطة الموظفين الملكيين في المديرية. فكأن المديرية هي التي كانت تقابل المدينة الإغريقية من حيث كون كل منهما وحدة، لكن المديرية كانت تختلف عن المدن الإغريقية من حيث خضوعها مباشرة لسلطة الموظفين الملكيين، ومن حيث أن أهليها لم يكونوا مواطنين لهم حقوق سياسية يمكن أن تحد من استبداد السلطة المركزية وممثليها. ولعل هذا الفارق هو أهم ما كان يميز حياة الإغريق السياسية عن الحياة التي درج عليها الشرقيون.


وإذا كان غير مستبعد أنه كان يوجد على رأس المدن، مثل ما كان يوجد على رأس القرى، "شيوخ" يمثلون الأهالي إلى جانب رجال الحكومة المحليين، فإن ذلك لا يرجع إلى رغبة البطالمة في إعطاء المدن والقرى المصرية شخصية معنوية بارزة بل إلى رغبتهم في ضمان استتباب الأمن وجمع الضرائب، وهو ما يبدو الغرض الأول الذي كانت الحكومة ترمي إليه في ذلك العصر، لأن وجود جماعة محددة تمثل جموع دافعي الضرائب ومسئولة عن تقديم كافة المعلومات اللازمة لرجال الحكومة المحليين كان يسهل عمل هؤلاء الموظفين

.
طبقات السكان في المديريات:


ولم يكن سكان المديرية طبقة واحدة، فإن النصوص تفرق أولاً بين الإغريق (Helkues) والوطنيين (Laoi)، وثانيًا، بين السكان الأصليين في القرى (ek komes) أو المدن (ek poleos) وبين المستوطنين فيها (katoikountes) وبين المارين بها (Paredidemonntes)، وكانت النقوش والوثائق البردية تدعوهم غرباء أو ضيوفًا (Xenoi). لكن المصادر المصرية لا ترينا بجلاء العلاقة القانونية التي كانت تربط المصري بمديريته أو قريته، ولا هل كان يوجد في القانون الفرعوني مبدأ يقابل مبدأ الموطن (origo) في القانون الإغريقي. وقد يظن أن الإغريق عندما جاءوا إلى مصر طبقوا القواعد التي كانت سائدة في مدنهم، لكن ما الذي كان يكتسبه البطالمة من وراء تغيير قوانين البلاد في هذه الناحية؟ وقد يظن أن هذه التفرقة بين السكان الأصليين والمستوطنين في المديريات ترجع إلى وقت قديم جدًا بل إلى نشأة المديريات نفسها، ولاسيما إذا صح أن المديرية، كما يرى بعض علماء الدراسات المصرية، كانت أساسًا جماعة من الأشخاص الذين يجري في عروقهم دم واحد. لكن كيف يفسر وجود إغريق ووطنيين بين من تطلق الوثائق عليهم السكان الأصليين، وكذلك بين السكان المستوطنين بل بين الغرباء في القرى والمدن؟ إن من العسير الإدلاء برأي حاسم في هذه المسألة بسبب قلة المعلومات التي لدينا.


وبما أنه لا توجد لدينا أدلة كافية للإدلاء برأي حاسم في تعريف مختلف طبقات السكان، فإن المسألة تصبح ترجيح رأي على آخر. ونحن نرجح أن المصريين وكذلك الإغريق القاطنين في المكان الذي ولدوا فيه كانوا يعتبرون سكانًا أصليين. وأما الذين كانوا ينتقلون إلى مكان آخر، وكذلك الذين كانوا يفدون حديثًا على البلاد ويستقرون في مكان ما فإنهم كانوا يعتبرون مستوطنين إذا أصبحت لهم مصالح دائمة في مقرهم الجديد، على حين أنهم كانوا يعتبرون ضيوفًا أو نزلاء عابرين إذا لم تصبح لهم أو تعد لهم مصالح دائمة في مقرهم الجديد، على نحو ما حدث لزينون وياسون وكيلي أشغال أيولونيوس وزير مالية فيلادلفوس، عندما صودرت ضيعة أبولونيوس وفقدا منصبيهما تبعًا لذلك. أما أفراد الجيل الأول من الإغريق، أي أولئك الذين وفدوا على مصر حتى تاريخ معين في بداية عصر البطالمة، فلا يبعد أنهم بوصفهم من مؤسسي الدولة الجديدة اعتبروا كأنهم ولدوا في مصر وطبقت عليهم القواعد الخاصة بهذا الفريق من سكان البلاد.


وماذا كانت حال الجنود الذين أنزلهم البطالمة في أنحاء البلاد ومنحوهم إقطاعات يستغلونها؟ لقد كانوا يعرفون كغيرهم من الجنود برجال الجيش (Strateuomenoi) ولا تطلق الوثائق عليهم بوجه عام إلا الألقاب التي تعبر عن رتبهم في الجيش وبين أرباب الإقطاعات. فهل كانت صفتهم بمثابة أرباب إقطاعات تحدد مركزهم بين السكان الأصليين أو المستوطنين أو الضيوف؟ أو بعبارة أخرى هل كان ينظم علاقات الجنود بالمدن والقرى قواعد مختلفة عن تلك التي كانت تنظم علاقات السكان الآخرين بها؟ هذا ما لا نعرفه وإن كنا نعرف مثلاً أن شخصين مقدونيين من السلالة يوصفان بأنهما من السكان الأصليين في قرية بالفيوم تدعى فاربايثوس (Pharbaithos). ونعرف كذلك أن كثيرين من الجنود كانوا يعتبرون ضيوفًا دون أن نعرف وجود فارق بينهم وبين غيرهم ممن يطلق عليهم لقب مستوطنين. فمثلاً نرى أن فارسًا من السلالة يعيش في إحدى قرى الفيوم ويصف نفسه بأنه ضيف Xenos، ومعنى ذلك أنه كان يعتبر نفسه أقل اتصالاً بالقرية التي يعيش فيها من غيره من المستوطنين. وعلى كل حال فإنه من الثابت أن الجنود الإغريق أرباب الإقطاعات كانوا يعرفون عادة منذ القرن الثاني قبل الميلاد "بالمستوطنين" (Katoikoi)، ولا يبعد أن مركزهم إذ ذاك كان يشبه مركز الأجانب المستوطنين في المدن الإغريقية (Metoikoi, Paroikoi).

ليست هناك تعليقات: