الأربعاء، 12 نوفمبر 2008

النحت في العصر البطلمي 3


طباعة أرسل لصديق
  • قطع النحت التي يمتزج فيها الطرازان الإغريقي والمصري

يتمثل امتزاج الطراز الإغريقي والمصري في عدد قليل جدًا من قطع النحت ، ويأتي في مقدمتها تمثال من الجرانيت للإسكندر الرابع ، يصوره واقفًا وإلى ورائه عامود على النحو المألوف في التماثيل المصرية ، ومرتديًا غطاء الرأس وغطاء الجذع التقليديين ، وتبدو السرة والساقان في الشكل الشائع في الفن المصري .

وعند هذا الحد ينتهي أثر الطراز المصري، إذ أن طراز الشعر وملامح الوجه وعضلات الجسم إغريقي بحت. وهذا التمثال ينهض دليلاً واضحًا على المدى المحدود الذي يمكن أن يصل إليه امتزاج الطرازين المصري والإغريقي.

رأس ضخم لبطلميوس الرابع نحت على الأسلوب المصري يصور الملك فرعون

ونرى مثلاً آخرًا لهذا الامتزاج في رأس مصنوعة من الجرانيت الوردي اللون، يظن أنها رأس بطلميوس الرابع. وتحمل الرأس تاج الوجهين فوق غطاء الرأس التقليدي، ويبدو أنها كانت تستند إلى عامود وإذا كان طراز الشعر ليس مصريًا، فإن طراز الأذنين والعينين والشفتين مصري بحت. وفي الواقع طراز هذا الرأس مصري بحت فيما عدا الشعر.


وكانت توجد في روما رأس مصنوعة من الرخام يظن أنها من القرن الثاني قبل الميلاد، ولا يبعد أنها صورة لإحدى ملكات البطالمة، وهي ترينا شعر وغطاء رأس مصريين. ولا شك مع ذلك في أن هذه الرأس من عمل مثال إغريقي، حاول أن يخلع عليها مسحة مصرية برفع موضع الأذنين وبالتبسط في تصوير الوجه بصفة عامة والعينين بصفة خاصة.

ولعلنا نجد أقصى محاولة لمزج الطرازين في رأس من الرخام يحتمل أنها تصور كليوبترة الثالثة في شكل إيزيس. إن قمة الرأس وظهرها مستويان، لكنه تبدو على الجبهة والجنبين آثار لتصفيف الشعر. ونلتفت الرأس التفاتة خفيفة نحو الكشف الأيسر، مما استتبع إنقاص حجم الجانب الأيسر من الوجه قليلاً، على نحو ما نرى آيات الفن الإغريقي وقد رفع موضع الأذنين، اللتين تبرزان من الجانبين بشكل واضع وتتحليان تبقرطين مستديري الشكل. والعينان نصف مفتوحتين ويسراهما أعلى قليلاً من بمناهما، والآنف بارز، والفم والذقن صغيران. أن طراز غطاء الرأس مصري، أما طراز ملامح الوجه فيما عدا الأذنين فإنه إغريقي بحت، أما التعبير الذي يرتسم على الوجه فليس مصريًا ولا إغريقيًا إذ يبدو أن الفنان حاول أن يمزج فيه النظرة الطبيعية التي تتمثل في الفن المصري فأنتج تعبيرًا غريبًا ممجوجًا، لعله كان سببًا في ندرة هذا النوع من الفن.

ونجد مثلاً طريقًا لهذا النوع من الفن في قطعة من الساردونيكس تصور منظرًا جانبيًا لرأس إحدى ملكات البطالمة. ويبدو أن تصميم شكل الرأس والعين والأذن كان وافقًا لنموذج مصري، أما الفم والذقن فإنهما إغريقيان. ولاشك في أنها قطعة جميلة، لكنها تبعث فينا إحساسًا قلقًا لهذا المزج بين طرازين غريبين عن بعضهما، وإن كان لكل منهما على حدة قيمة فنية جليلة الشأن.

ولنلق الآن نظرة على زخرفة مقبرة بتوسيريس تاركين جانبًا زخرفة الواجهة التي سبق الكلام عنها. تزين الجدار الشمالي في الغرفة الأمامية مناظر صناعية، والجدارين الشرقي والغربي مناظر ريفية، والجدار الجنوبي مناظر تمثل بتوسيريس وزوجه وسلالتهما. ولا ريب في أن الفنان قد حاول أن يمزج في هذه المناظر الطرازين المصري والإغريقي، لكنه لم يصف في ذلك أي نجاح. أن تصوير المناظر الجانبية للأفراد يختلف عن الفن الفرعوني، لكنه لا هو إغريقي ولا هو مصري، إذ نرى شكل الجسم صحيحًا حين يغطيه رداء كامل، لكنه إذا كان مغطى بغطاء الجذع فقط فإننا نرى شكل السرة كاملاً. وأحيانًا نرى منظرًا جانبيًا صحيحًا للرأس (فما عدا العين) والساقين كل خصائص الطراز المصري. ولم يوفق الفنان كذلك في تجميع الشخصيات سويًا، إذ أنها حقًا تكون عدة مناظر مختلفة، لكنه ينقص شخصيات كل منظر الانسجام الذي يكون منها وحدة واحدة. ونجد في أسفل الجدار الجنوبي زخرفة ترينا في جانبها الشرقي مناظر رجال ونساء يحملون قرابين مختلفة، وهي مصورة بطراز تبدوا فيه لك المميزات التي أوردناها. أما في الجانب أشرقي فنرى مناظر استعدادات لتقديم القرابين، تمتاز بطابع وطراز إغريقيين، فيما عدا بعض التفاصيل التي يبدو فيها الأثر المصري.

وزخرفة هيكل هذه المقبرة، فيما بعدا الجزء الأسفل من الجدران، مصرية بحت ولذلك نتركها جانبًا. أما الجزء الأسفل من الجدارين الشمالي والجنوبي، فإنهما مزينان بصفحات من الماء بها زهور ونباتات مائية وطيور وحيوانات ومزارعون. ويزين الجزء الأسفل من الجدارين الشرقي ولاغربي مناظر رجال ونساء يحملون مختلف أنواع القرابين. وتبدو في كل هذه الماظر مميزات الطراز المختلط الذي شاهدناه في زخرفة الغرفة الأمامية.

وتقرب في الشبه من زخرفة مقبرة بتوسيريس لوحة مزينة بالنقش البارز، كانت موجودة في متحف برلين. وتمثل هذه اللوحة رجلاً يرتدي غطاء الجذع، ويحمل عجلاً صغيرًا على كتفيه. وتتدلى سلة من ذراعه الأيسر. وتقف إلى جانب الرجل بقرة ترضع صغيرها. وأمام الرجل سيدة ترتدي ثوبًا من نوع ثياب إيزيس. التي انتشرت في عصر البطالمة،وتحمل على كنفها الأيمن طفلاً وعلى كنفها الأيسر عصاة تتدلى منها فواكه وأزهار، ويسير إلى جانبها عجل يقوده صبي، وعلى الرغم من أن هذا المنظر مألوف في زخرفة المقابر الفرعونية ويرينا كل مميزات النقوش البارزة المصرية التي تصور مناظر جانبية، فإننا نرى فيه بعض التأثيرات الإغريقية، التي تبدو في تصوير ثياب السيدة وطفلها وعضلات الحيوانات وحركات العجل الذي يقوده الصبي.

إن قلة عدد قطع النحت التي حاول الفنانون أن يمزجوا فيها الطرازين المصري والإغريقي لتتنهض دليلاً على أن غرائزهم الفنية كانت تبغض هذا المزج وتعافه. وتدل مقارنة هذه القطع بالقطع الأخرى التي كان طرازها مصريًا بحتًا وإغريقيًا بحتًا على أن الأخيرة لا تفوق الأولى في العدد فحسب بل كذلك في القمية الفنية. أنه لا توجد إلا طريقة واحدة ناجحخة لمزج مثل هذين الفنين، اللذين يختلفان عن بعضهما اختلافًأ بعيدً المدى. أما هذه الطريقة فتتلخص في أن يتغلب أحدهما على الآخر فيقضي عليه قضاء مبرمًا. لكن كلاً من المصريين والإغريق كانوا يعتزون بحضارتهم ويستمسكون بها إلى حد كان يتعذر معه أن يفني فن أحد الفريقين في فن الفريق الآخر.

ولما كانت النقود ترينا أنها بقيت إغريقية خالصة في طرازها حتى نهاية عصر البطالمة، وكانت لوحات المعابد والأنصاب قد بقيت كذلك مصرية خالصة في طرازها حتى آخر هذا العصر، فإننا على حق في قولنا بأن كلاً من الفنانين المصري والإغريقي قد احتفظ بوجه عام، أبان ازدهاره وأبان تدهور، بطابعه خالصًا نقيًا من أثر الفن الآخر طالما بقى هذان الفنان منتعشين في مصر البطلمية، إذ يبدو أن الناس كانوا يدركون إدراكًا صحيحًا به تفصل بين هذين الفنين فوارق لا يمكن تخطيها.

ولا ريب في أن الفن البطلمي يعطينا صورة صحيحة عن الحياة الاجتماعية مصر البطلمية. لقد شهدنا أن غالبية الفن الإغريقي وغالبية الفن المصري كانت إغريقية خالصة أو مصرية خالصة. ولذلك لابد من أن أغلب الإغريق وأغلب المصريين قد بقوا خالصين في جوهرهم. وترينا بعض الآثار عناصر خليطة لم يكن لها أثر في طابعها الجوهري، وهذا يدل على أن الجنسين قد التقيا واختلطا. لكن لم ينقل أحدهما عن الآخر إلا بعض المظاهر الشكلية فقط. والآثار ترينا محاولات فعلية لمزج الطرازين المصري والإغريقي. كانت قليلة في عددها متواضعة في قيمتها الفنية. وهذا يشير إلى أن محاولة مزج النسين كانت محدودة وغير موفقة بوما أنه يبدو أن تدهور الفن الإغريقي قد حدث في أعقاب انقطاع وفود الإغريق على مصر، فإنه يمكننا أن نقول أن ضعف الروح الإغريقي في مصر لم يبدأ قبل القرن الثاني قبل الميلاد، ولم يكن نتيجة لاختلاط الإغريق بالمصريين. وكما بقى الفن الإغريقي إغريقيًا حتى نهاية عصر البطالمة مهما انحط مستواه، فلا بد من أن الروح الإغريقي قد بقى إغريقيًا مهما أعتوره من الضعف. ويبدو إذن من كل ما مر بنا أن الأدلة الأثرية نؤيد النتائج التاريخية التي استخلصناها من أكادس الوثائق التي درسناها.

ليست هناك تعليقات: