الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- بطلميوس الرابع

  • بطلميوس الرابع
طباعة أرسل لصديق

بطليموس الرابع
  • بعد أن بلغت دولة البطالمة أوج مجدها، آل صولجانها فيما بين اليوم الخامس واليوم السادس عشر من فبراير عام 221ق.م إلى شاب عابث في الثانية والعشرين من عمره انحدر بها إلى حال من الضعف والمهانة لم تستطع النهوض منها لتتبوأ ثانية تلك الملكانة التي كانت تنعم بها في عهد البطالمة الأوائل .

وقد اتخذ بطلميوس الرابع لنفسه لقب "فيلوباتور" أي المحب لأبيه، ولعل مرد ذلك إلى أن أباه كان يستمتع بمحبة رعاياه وإلى أنه بمشاركته هؤلاء الرعايا هذه المحبة كان يأمل في استمالة القلوب إليه! وإذا كان يمكن الأغضاء عن بناء هذا الملك سفينة ضخمة فاخرة تعتبر قصرًا عائمًا، وكان الشك لا يخامرنا في أن الاضطرابات الداخلية التي كانت على وشك الانفجار ترجع قبل كل شيء إلى السياسة الداخلية التي اتبعها أسلافه، وخاصة فيلادلفوس، على نحو ما سنرى فيما بعد، فإنه من المؤكد أن فيلوباتور لم يتحل بصفات الرجولة ولا هبات الملك. ذلك أنه كان كلاً متراخيًا في عمله، شديد الاهتمام بمظاهر العظمة، قليل الاكتراث بشئون الدولة إلى حد أنه كان يتعذر على موظفيه الوصول إليه، كلفًا بالمجون فاصطفى من أجله رفاقًا ولو كانوا من حثالة الإسكندرية .

وقد أطلق الإسكندريون على هذه الجماعة "اخوان الأنس" (Geloiastai). وكان أخطر شيء على هذا الشاب، أنه أصبح سريعًا ألعوبة في أيدي أفراد الأسرة تحوم حولهم الشبهات، وهم نديمة أجاثوقلس (Agathocles) وخظيته أجاثوقليا (Agathoclea) وأمهما أوينانثي (Oenanthe). ويقول بوليبيوس أن فيلوباتور كان عبدًا طيعًا لحظيته أجاثوقليا التي قلبت الدولة بأجمعها رأساً على عقب. ويحدثنا يوستينوس بأن هذه الأسرة لم تقنع بالسيطرة على الملك، فتغلغل نفوذها في الدولة إلى حد طغى على نفوذ الملك. ويبين أن المؤرخين القدماء استمدوا معلوماتهم عن خلق فيلوباتور من القصص التي نشرها عنه في ثلاثة أجزاء رجل كان في خدمته يدعى بطلميوس بن أجارخوس.

وكان هذا الملك الفاسق متصوفًا، إذ أنه كثيراً ما يحدث أن تشتطيع أسرار بعض العبادات استهواء أكثر النفوس رفعة وكذلك أكثر الشهوات جموحًا. ولما كان فيلوباتور قد أطلع على أسرار عبادة الآلهة قوبلي (Cybele)، فإنه كان يدعى جالوس (Gallos) على نحو ما كان يدعى كهنة هذه الآلهة. وكان يحمل أيضاً وشم اللبلاب، وهو رمز أبتاع مذهب ديونوسوس إله الاستعمار الآسيوي وكذلك إله الخمر عند الإغريق. ومنذ عهد بطلميوس الثالث، كان البطالمة يدعون أنهم يتحدرون من سلالة هذا الإله، وذهب فيلوباتور في شدة حماسه لديونوسوس إلى حد أنه أراد أن تتمثل فيه بشكل ما شخصية جده الأكبر المقدس. ويعتقد البعض أن فيلوباتور كان مخلصًا في هذا الحماس، بيد أنه بسبب ميله إلى المجون كان أكثر احتفالاً بديونوسوس بوصفه إله الخمر منه بوصفه إله الاستعمار، فاشتط في القيام بأعمال أثارت عليه غضب الكثيرين من رعاياه ونقمتهم. فلا عجب أن أ‘تب رمثل هذا الضرب من الحماس مسئولاً إلى حد عن السمعة السيئة التي لصقت بهذا الملك. وإذا كان لم يتخذ لقبًا رسميًا له "ديونوسوس الجديد" (Neos Dionysos) مثل ما فعل فيما يعد بطلميوس الثاني عشر، فإن الناس ورجال البلاط كثيرًا ما كانوا يدعونه ديونوسوس. ويحتمل أن يكون تمسكه بعبادة ديونوسوس، التي أراد أن يفرضها على رعاياه، هو الذي حدا به إلى اضطهاد اليهود، على نحو ما سيأتي ذكره في سياق الحديث عن سياسة البطالمة الدينية.

ولما كان فيلوباتور تلميذ العالم الكبير أراتوسثنيس والفيلسوف الرواقي سفايروس (Sphaeros) فإنه كان معنيًا بالآداب. وقد طمع في إظهار مواهبه الشعرية، فكتب قصة شعرية تدعى "أدونيس" (Adonis) وكتب أجاثوقلس تعليقًا عليها. ولا نعجب من اختياره هذا الإله بطلاً لقصته، فقد كان أدونيس قريبًا إلى قلب ديونوسوس وحبيب أفردوديتي، على نحو ما تحدثنا به القصص القديمة.

وقد اقتفى فيلوباتور أثر فيلادلفوس وتزوج هو أيضًا، في العام السادس من حكمه، أخته أرسينوي الثالثة. ويرى بعض المؤرخين أن هذا الزواج قد تأخر إلى هذا الوقت، لأن أصفياء الملك كانوا يأملون أن تنجب له أجاثوقليا وريثًا للعرش، لكنه عندما لم تتحقق هذه الآمال زوجوه من أخته. لكن البعض الآخر يرى أن زواج بطلميوس الرابع من أخته قد تأخر إلى هذا الوقت من ناحية لأنه عند ارتقائه العرش لم تكن أرسينوي قد بلغت سن الزواج بعد، ومن ناحية أخرى لخوف بطانة السوء أن يؤدي الزواج بعد، ومن ناحية أخرى لخوف بطانة السوء أن يؤدي الزواج إلى إضعاف نفوذهم وأقصاه أجاثوقليا. وعلى كل حال فإنه عندما تزوج بطلميوس الرابع من أخته أرسينوي عرفا باسم "الإلهين فيلوباتورس" أي المحبين لأبيهما. ولما كان لا يوجد دنيل على أن بطلميوس الرابع تزوج أرسينوي قب لموقعة رفح (22من يونيو عام 217)، وكان قد ورد في القرار الذي اتخذه الكهنة في 15 من نوفمبر عام 217 وحفظه لنا نصب بيثوم "زيادة ما كان يقدم في المعابد من مظاهر التكريم للملك بطلميوس.. ولأخته أرسينوي، الإلهين المحبين لأبيهما."، فلابد من أن بطلميوس الرابع وأرسينوي كانا قد اتخذا لقب الإلهين فيلوباتورس وتبعًا لذلك كانا قد تزوجا قبل هذا التاريخ، أو بعبارة أخرى بعد موقعة رفح بقليل.

وقد أدت أرسينوي الثالثة واجبها نحو الأسرة بإنجاب ولي للعهد (30من مسرى = 9 من أ:توبر عام 209) أشرك وهو في المهد (قبل 6 من يونية عام 208) مع أبهي في الملك. وبرغم ما عرف عن أرسينوي من شجاعة سنلمسها عند الكلام عن معركة رفح، فإنها ثم تستطع مقاومة قوى الشر التي تجمعت حول زوجها، فاعتكفت عن الحياة محاولة أن تجد في مخالطة العظماء عزاء لها عن الهوة التي تردي فيها بينها. وبعد وفاة هذه الملكة التعسة التي قتلت بعد وفاة زوجها، كتب عنها أراتوسثنيس كتابًا يفيض بالشعور.

الوزير سوسيبوس:

وقد بدأ العهد الجديد بارتكاب بعض الجرائم، وهي قتل برنيقي أم الملك وماجاس أخيه ولوسيماخوس عمه. ويصف بوليبيوس هذا الوزير بأ،ه كان شيطانا رجيمًا باشر السلطة أمدا طويلاً وعاث في الدولة فسادًا كثيراً. وتلقى تبعة ارتكاب هذه الجرائم على سوسيبيوس، وزير فيلوباتور، فإنه ليخلو له الجو يستأثر وحده بالسلطة أوغر صدر الملك ضد عمه لنفوذه، وضد أخيه لمحبته بين الجنود، وضد أمه لعطفها على أخيه، فقد أفهم الملك أنه لا يستطيع أن ينعم بحياة هانئة هادئة إلا إذا قضى على هؤلاء الثلاثة. وإذا كنا لا نستبعد على بطلميوس الرابع ارتكاب أي جريمة، فأننا مع ذلك لا نستطيع قبول ما يرويه يوسنتينوس من أنه قتل أباه وأمه إذ أن بوليبيوس يحدثنا بأن يورجتيس توفي بسبب المرض.

ونعرف أن سوسيبيوس قبل أن يصبح حاكم دولة البطالمة الحقيقي في عهد بطلميوس الرابع، كان وزير مالية بطلميوس الثالث منذ عام 241، كما نعرف أنه كان يشغل منصبًا رفيعًا آخر في عام 253 ـ 234، فقد كان عندئذ كاهن عبادة الإسكندر الأ:بر وبالطالمة وكانت عبادة إغريقية رسمية، وإذا صح أن ثيوجنيس (Theogenes) كان وزير المالية منذ العام الخامس في عهد فيلوباتور، فلا يبعد أن يكون سوسيبيوس قد آثر منذ ذلك الوقت الاكتفاء بالقيام بدور مستشار الملك. وعلى كل حال فإنه ليس من شك في أن هذا الرجل الداهلية الطموح لم يلق مشقة في السيطرة على فيلوباتور سيطرة تامة أكسبته سلطات واسعة لأن شخصًا عابثًا مستهترًا ضعيفًا مثل هذا الملك كان لا يمكن أن يقيم العراقيل في سبيله.

لاستمرار في مهادئة مقدونيا:

وبعد وفاة يورجتيس استمر سويبيوس في متابعة سياسته، وهي التي عرفنا أنها كانت تنطوي على مهادنة مقدونيا، فمن ناحية كانت المخاطر تتهدد مصر عندئذ من قبل الملك الشاب النشيط أنطيوخوس الثالث، وكان يتحفز للأنقضاض عليها، ومن ناحية أخرى فإنه إزاء وفاة أنتيجونوس دوسون (شتاء 221/220) كان من العبث اتفاق الأموال على التدخل في شئن بلاد الإغريق بل كان من المحتمل ألا يلقي قليومنيس صعوبة في السيطرة على تلك البلاد فيصبح بدوره خطرًا على مصر.
ولذلك فإنه عندما انعشت وفاة دوسون آمال قليومنيس وألف في مطالبة فيلوباتور بمساعدته أو على الأقل بالسماح له بمغادرة مصر مع رجاله لم يتسجب المالك إلى رجائه. ولما كان استبقاء قليومنيس في مصر بعد تعقيب آماله مع تمتع بمكانة كبيرة بين المرتزقة ينطوي على أخطار كبيرة، فإن سوسيبيوس أقنع فيلوباتور بسجينه في منزل كبير بالإسكندرية. وعندما ضاق قليومنيس ذرعًا بحالة دير وسيلة للفرار من سجنه، وخرج هو ورفاقه يحضون الإسكندرية على الثورة، لكنه لم يكن لصرخة الحرية رجع الصدى في هذه المدينة الملكية التي كانت فخورة بقصرها، وتتيه عجبًا دون شك باستقلالها المحلي، لكنها كانت غريبة عن الروح الجمهوري الذي كان يلهب المشاعر في بلاد الإغريق. وعندما أخفق الأسبرطيون في محاولتهم قتلوا بعضهم بعضًا، وأمر فيلوباتور بقتل نسائهم وأطفالهم (عام 219).

الحرب السورية الرابعة:

وقد أسلفنا أن أنطيوخوس انتهز فرصة وفاة يورجتيس ليغزو جوف سوريا في عام 221، وأن ثيودوتوس الأيتولي، حاكم هذا الإقليم خيب آماله فاتجه شرقًا لوضع أمور ولاياته الشرقية في نصابها. وعندما عاد مظفرًا من هذه الحملة في آخر عام 220 ووقف على مسيرة قيلوباتور، اعتقد أن الوقت قد حان لسلب مصر جوف سوريا، ولذلك فإنه في العام التالي استؤنفت، أو بدأت " الحرب السورية الرابعة". وليس أبلغ في الدلالة على انصراف فيلوباتور عن مهام الدولة وانهماك سوسيبيوس في مؤامرته لدعم مركزه بالقضاء على لوسيماخوس وماجاس وبرنيقي وقليومنيس من أن ولاة الأ/ور في مصر لم ينتهزوا فرصة متاعب أنطيوخوس، التي ترتبت على ثورة مولون والإسكندر وعلى ثورة أخايوس، للثأر من غزوة أنطيوخوس في عام 221 أو الاستعداد لدفع الأعتداء عن ممتلكات مصر السورية إذا ما حدثت أنطيوخوس نفسه بذلك بعد الفراغ من مشاغل إمبراطوريته. بل أنهم بدلاً من اعرابهم لثيودوتوس عن تقديرهم لنجاحه في رد أنطيوخوس على أعقابه في عام 221 أساءوا معاملة هذا الضابط الأجير حتى خشي على حياته. فلا عبج أنه عندما هاجم أنطيوخوس سلوقية بيريه قرب مصب نهر العاصي في ربيع عام 219 واستولى على هذا الميناء الكبير بفضل رشوة بعض الضباط، استحثه ثيودوتوس على القدوم فورًا إلى جوف سوريا وأعرب له عن استعداده لتسليم هذا الإقليم إليه. فلم يكن من أنطيوخوس إلا أنه أجتاز سمرعًا وادي مارسياس وشق طريقه وسط التلال إلى الساحل حيث سلم إليه ثيودوتوس صور وعكا (Ptolemais) وأربعين سفينة حربية ومعدات هائلة وانخرط في سلك خدمته.

وبعد ذلك تابع أنطيوخوس زحفه للاستيلاء على جوف سوريا حتى أوقفت تقدمه جنوبي الكرمل مدينة دورا (Dura)، وكان يشد أزرها نيقولاوس (Nicolaos) القائد البطلمي في سوريا، غير أن هذا القائد كان أضعف من أن يخاطر بخوض معركة حاسمة. ولو أن أنطيوخوس ترك قوة تحاصر هذه القلعة ورحب على بلوزيون لوجد مصر عند موطئ قدميه، لكنه خدع بدعاية سويبيوس التي روجت بين الناس أن الجيش المصري بكامل قوته كانمتجمعًا عند بلوزيون، وكذلك بما ألقى في روعه من أنه يستطيع الحصول على جوف سوريا بمفاوضات سلمية لو أنه عقد هدنة لمدة أربعة شهور. ولما كان الشتاء قد اقترب وكان يخشى التغيب طويلاً عن دولته لقلقة من نشاط أخايوس، فإنه قبل الهدنة وترك ثودوتوس ليحكم ممتلكاته الجديدة، وعاد إلى سلوقية بيريه في انتظار المفاوضات المزعومة لتسليم جوف سوريا.

وحقيقة الأمر انه عندما بدأ أنطيوخوس حملته لم يكن في مصر جيش مستعد للقائه، ولذلك كان الموقف جد خطير، لأن أقدام أنطيوخوس على هذه الحملة بالرغم من موقف أخايوس الغامض يدل على أنه كان مصممًا على الوصول إلى نتيجة حاسمة، فخف فيلوباتور إلى منف ثم إلى بلوزيون، على رأس كل ما أمكن حشده من القوات. وفي الوقت نفسه عنى سوسيبيوس وأجاثوقلس بتجنيد جيش جديد وتدريبه في الإسكندرية، فأحضرا من بلاد الإغريق أفضل من تستطيع النقود ابتياع خدماتهم من الضباط المرتزتين، الذين حابوا تحت قياد دمتريوس الثاني وانتيجونوس دوسون وتشربوا بالتقاليد المقدونية، وكان من أبرز هؤلاء الضباط أندروماخوس من أسيندوس وبروقرانس من أرجوس. وكذلك أحضر عدد من الجنود المرتزقة، ودعى للخدمة العسكرية حوالي 4000 من الجنود الذين استقروا في مصر، نتيجة للاقطاعات التي كان البطالمة قد منحوهم إياها. وأخطر من ذلك وأهم هو أن سوسيبيوس، بإيحاء من فيلوباتور فيما يظن، جند نحوًا من 20.000 مصري، وسلحهم ودربهم على نهج المقدونيين، وكون منهم فيلق المشاة الكاملي العدة (فالانكس). واستدعى من قورينايئة 2300 من الفرسان، على رأسهم ضابط من مدينة برقة (المرج) يدعى أمونيوس. وهكذا تجمع بالقرب من الإسكندرية جيش كبير، عكف القواد الإغريق على تدريبه بعناية في الخفاء. ولاستكمال تدريب هذا الجيش لجأ سوسيبيوس إلى حيلة المفاوضات وأطالها عمدًا لتحقيق هذا الغرض، فقد ناقش سفراء مصر المشكلة السورية بتفصيل طويل وعندما انتهوا من ذلك أثاروا مشكلة معقدة أخرى لكي يتعذر الوصول إلى اتفاق. ذلك أنهم طالبوا بأن تشمل أخايوس معاهدة الصلح التي تعقد بين الطرفين المتحاربين. وعندما أدرك أنطيوخوس أخيرًا عبث الاستمرار في المفاوضات قطعها، وفي ربيع عام 218 استدعى قواته لاستكمال إخضاع جوف سوريا بغزو هذا الإقليم براً وبحراً.

وقد أخذ أنطيوخوس في زحفه الطريق البري الذي يجتاز فينيقيا وسار أسطوله في محاذاته، وعند مسر بلاتانوس (Platanos) شمالي صيدا التقى بنيقولاس، وكان يؤيده أسطول بطلمي، وكان سوسيبيوس يأمل أن يستطيع تأخير تقدم انطيوخوس أطول وقت ممكن، فقد كان كل تأخير في صالح مصر. لكنه بعد معركة برية وبحرية طاحنة استولى أنطيوخوس على الممر وارتد نيقولاوس إلى صيدا وحصنها. ولم يضع الملك المنتصر الوقت في محاصرة صيدا بل أمر الأسطول بالانسحاب إلى صور ويمم هو شطر الداخل، حيث استسلمت له فيلوتريا (Philotereia) وسقوثويوليس (Scythopolis = بيت شان)، ثم استولى على مدينة بعد أخرى في الجليل وساماريا مما أغرى اثنين من ضباط بطلميوس وكذكل بعض القبائل العربية على الانضمام إليه. وبعد الاستيلاء على مدينة فيلادلفيا (عمان) المنيعة ترك قوتين أحداهما لحماية هذه المدينة والأخرى لاحتلال ساماريا، وعاد إلى عكا القضاء الشتاء هناك.. وفي هذا الأثناء كان تدريب الجيش البطلمي الجديد يسير قدمًا، فهو لم شترك في القتال إلا في العام التالي.

موقعة رفح:

وفي عام 217 زحف أنطيوخوس حتى تخطى رفح، حيث التقى بالجيش البطلمي الجديد وكان معسكرًا على بعد تسعة كيلومترات جنوبي هذه المدينة. وقد كان جيش أنطيوخوس يتألف من 62000 راجل و6000 فارس و102 من الفيلة الهندية، وهي أضخم وأقوى من الفيلة الإفريقية. وإذا لم يكن للجنود الخفيفي العدة وزن كبير، فإن فيلقه (الفالاتكس) كان يتألف من 20.000 جندي مقدوني وإغريقي من المقيمين في دولته، ويؤيده 10.000 جندي من حملة الدروع المختارين الذي ينتمون إلى مختلف الجنسيات، وقد كان الجيش البطلمي يتألف من 50.000 راجل و5000 فارس و73 فيلا إفريقيًا. وكان الفالانكس يتألف من 20.000 مصري و5000 فارس إغريقي، فيما يبين، يؤيدهم 8000 من الجنود المرتزقة. وفي هذه الأزمة الخطيرة، نهض فيلوباتور العابث بواجبه كأي ملك شجاع، فدق تولى القيادة الفعلية بنفسه وصبحته إلى مديان القتال شقيقته الصغيرة المحبوبة أرسينوي التي أصبحت فيما بعد زوجته. وإذا كانت فوق أنطيوخوس تمتاز بمهارتها في الحروب ويثير حميتها الانتصارات الانتصارات التي أحرزتها من قبل، فإن الجيش البطلمي أعد أعدادًا كاملاً بعث الثقة في نقوس قواده، حتى أنهم لم يقنعوا بالدفاع عن خط النيل الذي فشل أمامه كثير من الغزاة من قبل، بل تقدموا عبر الصحراء لملاقاة أنطيوخوس.

وجنوبي رفح التقى هذان الجيشان العرمان وجهًا لوجه، وكان فيلق (فالانكس) كل منهما في القلب، يحيط به من الجانبين بقية المشاة الآخرين ثم الفرسان الجناحين، وقد تولى بطلميوس وإلى جانبه أرسينوي قيادة الجناح الأيسر في مواجهة أنطيوخوس، واصطف أمامه أربعون فيلا إفريقيا مقابل ستين من فيلة أنطيوخوس الهندية، وكانت فرق حملة الدروع في الجيشين تحت قيادة الملك الشخصية. وفي الثاني والعشرين من شهر يونية، بعد أن اصطف الجيشان على النحو الذي أوردناه، واستحث كل من الملكين جنوده على التقال بعزم وشدة ـ وقد اشتركت أرسينوي مع أخيها في استهاض همة الجنود ـ أعطيت الإشارة بيده القتال.

وقد هزم النجاح البطلمي الأيمن جناح أنطيوخوس الأيسر، في حين أن فيلة الجناح البطلمي الأيسر عجزت عن مقاومة الفيلة الهندية، التي انقضت على فرق حملة الدروع وحطمتها، ثم أطبق أ،طيوخوس بفرسانه وجنوده المرتزقة على باقي الجناح البطمي الأيسر وأجهزوا عليه، غير أن أنطيوخوس، مثل دمتريوس في موقعة أبسوس، دفعته الحمية إلى الابتعاد أكثر مما يجب في مطاردة الهاربين، في حين أن فيلوباتور استخلص نفسه من فرسانه الفارين، وتقدم لقيادة قلب جيشه الذي لم يكن قد اشترك بعد في منازلة قلب جيش العدو. وعندما التقى قلبًا الجيشين وجناحهما مكشوفين لتقرير مصير المعركة، لم يستطع قلب جيش أنطيوخوس، مع أنه كان يتألف من خيرة جنود العصر، أن صمد أمام قلب جيش فيلوباتور وكان جله من المصريين، الذين أبى البطالمة عليهم من قبل شرف الاشتراك في حروبهم ضد الجنود المقدونيين والإغريق، سادة فنون القتال! ولم يعد أنطيوخوس من مطاردة الجناح البطلمي الأيسر، إلا ليشارك جنوده في الأديار إلى مدينة رفح حيث جمع ما تبقى من جنود وانسحب عائدًا إلى مملكته.

وإذا صدقنا ما ورد عن ذلك في قرار الكهنة المصريين، الذين اجتمعوا في منف بعد عودة فيلوباتور منتصرًا، فإن أنطيوخوس صادف هزيمة فادحة فر بعدها هاربًا في هلع شديد إلى حد أنه ألقى نفسه شارات الملك، بينما فاز بطلميوس بغنائم وفيرة.

وقد انسحب أنطيوخوس مسرعًا إلى أنطاكية، خشية أن يقع بين شقي الرحي: فيلوباتور وأخايوس. وإزاء المخاطر التي كانت تتهدده من هاتين الناحيتين، اضطر إلى طلب عقد الصلح مع فيلوباتور. وبدلاً من أن يدخل ملك مصر في حسابه المتاعب المحيطة بخصمه ويستثمر انتصاره الابهر، دفعه ذلك النصر غير المنتظر ـ الذي استرجع له جوف سوريا ـ وكذلك ميله الطبيعي إلى حياة الدعة والمجون إلى الترحيب بالصلح حتى أنه اكتفى باسترداد جوف سوريا، دون الأضرار على استرداد سلوقية بيريه أيضاً، وكان أ،طيوخوس قد استرجعها في 219 بعد بقائها في قبضة مصر منذ الحب السورية الثالثة. وفي 12 من أكتكوبر عاد فيلوباتور إلى مصر ليطلق لنفسه العنان في متابعة حياة المجون والعبث، بعد أن عين أندروماخوس حاكمًا عامًا على جوف سوريا وقضى أكثر من ثلاثة أشهر في دعم سلطاته هناك وزيارة مدن ذلك الإقليم التي رحبت به أيما ترحيب وكذلك في زيارة المعابد وتقديم القرابين.

ولم يكن انتصار رفح انتصارًا باهرًا لفيلوباتور وسوسيبيوس فحسب، بل كان أيضاً انتصارًا رائعًا للمصريين، الذين كان البطالمة يعامونهم حتى الآن معاملة المغلوبين على أمرهم، ولذلك فإنه كان لهذا النصر نتائج بعيدة المدى سنتناول الكلام عنها فيما بعد. ولاشك في أن بوليبيوس لم يخطئ في اعتبار عهد هذا الملك بداية اضمحلال دولة البطالمة، ولذلك فإننا إذا كنا قد أدمجنا بداية هذا العهد في الشطر الأول من عصر البطالمة، فإننا سندمج بقية عهد فيلوباتور في الشطر الثاني من عصر البطالمة، وهو الذي انتهى بزوال دولتهم.

سياسة البطالمة الخارجية من عام 216 حتى عام 30 ق.م :

بقية عهد بطلميوس الرابع

تعتبر موقعة رفح حدًا فاصلاً بين عهدين: العهد الذي بلغت فيه دولة البطالمة أقصى اتساعها وأوج مجدها، والعهد الذي أخذت فيه تدب إليها عوامل الضعف والإضمحلال حتى سقطت هيبتها وتلاشت سطوتها، فتزعزع سلطانها في الداخل وفقدت أملائكها في الخارج، وأصبحت تنتابها الاضطرابات والغزوات، إلى أن انتهى بها الأمر إلى أقول نجمها وزوال استقلالها.

العوامل التي تأثرت بها سياسة مصر الخارجية في الشطر الثاني عن عصر البطالمة:

ويرجع هذا الاضمحلال إلى سببين رئيسيين: أحدهما داخلي والآخر خارجي. وأما سبب الداخلي فهو ضعف السطلة المركزية واختلال نظام الحكم، ويعزى ذلك إلى ثلاثة عوامل: أولاً، ما كان لاشتراك المصريين في موقعة رفح من الأثر العميق في نفوسهم، إذ أن الدور الذي قاموا به في تلك الموقعة أعاد إليهم الثقة بأنفسهم، إذا أن الدور الذي قاموا به في تلك الموقعة أعاد إليهم الثقة بأنفسهم، فلم يتهيبوا الوقوف في وجه الحكومة ثائرين على ما كانوا يلقونه من صنوف الضغط والإرهاق. وقد تمددت هذه الثورات منذ عام 216 ق.م إلى حد أنها أضعفت قسوة البطالمة، وشلت حركاتهم في الخارج. وثانيًا منذ وفاة بطلميوس الثالث، آل العرش إلى ملوك ضعاف مستهترين أو صبية صغار، وآلت مقاليد الحكم إلى أوصياء أو وزراء عجزوا عن الارتفاع إلى مستوى الأحداث، فكان ذلك خير مشجع لذوي المطامع، الأعداء منهم والحلفاء، للأنقضاض على ممتلكات مصر الخا رجية بل على مصر ذاتها. وثالثاً: ظهور روح التنافس واستحكام النزاع بين أفراد أسرة البطالمة، منذ عهد بطلميوس السادس، ذلك النزاع الذي كانت روما تزكي تاره أحيانًا، وسجل التاريخ صفحة حوادثه بين أقسى وأروع ما سجله، عن أمراء أعمت أبصارهم وأضلت بصائرهم ألوان الترف والنعيم التي شبوا في أحضانها، وأفسدت نفوسهم وألهبت شهواتهم مظاهر السطلة المطلقة التي نشأوا في كنفها وضروب الخلاعة والاستهتار التي عاشوا في ظلها، فكانوا مزيجًا من الرذائل التي تتولد في جو فاسد مسمم، قوامه سلطان لا يحد، وشعب ذليل مستكين يكاد لا يمملك حق التألم، وحاشية فاسقة لا تعني بغير القصف واللهو، وجرثومة عليلة متكرة هي ثمرة تزاوج الأخوة من أخواتهم. فلا عجب أن تكشف هذا كله عن جرائم قد لا تقل بشاعة ووحشية عما ارتكبه تيبريوس ونيرون. وقد كان طبيعيًا أن تسهم هذه الانقسامات الأسرية في أضعاف قوة البطالمة وفي تشجيع أعدائهم على الاعتداء على دولتهم، بل أنها كانت من أكبر ما ساعد روما على التحكم في توجيه سياسة مصر وتغلغل نفوذها فيها.

وأما السبب الخارجي فهو ظهور ثلاث قوى فتية على أفق السياسة الدولية، وهي روما وفيليب الخامس وأنطيوخوس الثالث، فقد أغرت حال مصر الداخلية هذه القوى على تحقيق أطماعها على حساب مصر.

بداية اهتمام روما بشرق البحر المتوسط:

شغلت روما حتى الآن بإخضاع إيطاليا ومحاربة الغال والقرطجنيين عن التدخل في شئون شرق البحر المتوسط السياسية، مع أنه كانت تربطها بالعالم الإغريقي علاقات ثقافية وثيقة. غير أن مقدونيا وبلاد الإغريق أخذت تسترعى اهتمام السياسة الرومانية نتيجة لرغبة روما في حماية سواحل إيطاليا الجنوبية وتجارة الإيطاليين مع بلاد الإغريق من دولة الوريا (Illyria) القوية، وكانت تقوم على الشواطئ الشرقية للبحر الإدرياتي، وتنتظم تحت أمرتها قوة كبيرة من القراصنة. وفي عام 230 أستولت الوريا على عدد من المدن الإغريقية الساحلية وكذلك على جانب كبير من أبيروس وأقارناينا، وبذلك أصبح نفوذ الوريا يمتد إلى خليج قورثة، كما أصبح القراصنة الألوريون يمارسون نشاطهم على نطاق واسع في البحرين الإدرياني والأيوني، ويسطون على شواطئ إيطاليا الجنوبية ويعتدون على الإيطاليين. وإزاء ذلك انتهزت روما فرصة مواتية لها، وأرغمت الوريا على النزول عما استولت عليه، واقتطعت منها إقليمها الساحلي المعروف باسم دلماتيا وكونت من هذا الإقليم ومن جزيرة فاروس المواجهة له إمارة مستقلة. وفضلاً عن ذلك فإن روما بسطت حمايتها على عدد من المدن الإغريقية الساحلية المجاورة لالوريا وكذلك على إقليم ساحلي بجوار هذه المدن (عام 229). وكانت روما تستهدف من وراء هذا العمل السيطرة التامة على بوغاز أوترانتو وكان يعتبر الطريق الرئيسي للمواصلات بين إيطاليا وبلاد الإغريق. بيد أن عمل روما هذا كان اعتداء على حقوق مقدونيا بل خطر داهمًا يتهدد هذه الدولة، فقد كانت لمقدونيا حقوق على المدن الإغريقية في الوريا، وأهم من ذلك أن روما أصبحت جارة لمقدونيا وتستطيع الوصول إليها بسهورة. وأضف إلى ذلك أن روما، قبل وبعد أعمالها الحربية في الوريا، تجاهلت وجود مقدونيا بإنشائها علاقات سياسية مع أعداء مقدونيا وحلفائها على السواء ـ مع أيتوليا وآخايا وقورنثة وأثينا. وقد أدرك أنتيجونوس دوسون وخليفته فيليب الخامس كنه الموقف تمامًا، وتبعًا لذلك أصبحت روما منذ ذلك الوقت شغلهما الشاغل، لأن مقدونيا كانت لا تستطيع الإطمئنان إلى سلامتها، طالما بقى جزء من شاطئ الوريا في قبضة روما.

الحرب المقدونية الأولى:

وعندما ارتقى فيليب الخامس العرش (عام 220)، توهم الأيتوليون أن شباب الملك الجديد وعدم خبرته سيتيجان لهم الفرصة لبسط سيادتهم على بلاد الإغريق، لكن فيليب أذهلهم بخبرته وجرأته، وبعد حرب طاحنة تسمى "حرب الحلفاء" أرغمهم على قبول صلح ناوباقتوس (Nuapactcs) عام 218. وبعد ذلك بدأ الصراع العنيف بين فيليب وروما، من أجل السيطرة على الوريا. وقد أدت هذه المنافسة إلى تحالف فيليب مع هانيبال (عام 215)، أملاً في أن يساعد على انتصار هانبيال ويفوز، على الأقل، يطرد الرومان من شاطئ الوريا، ولو أن الأسطول القرطجني شد أزر فيليب لأحرز فيما يظن انتصارات حاسمة. وعندما تحرج مركز روما ردت على تحالف فيليب مع هانيبال بعقد محالفة هجومية مع الأيتوليين (عام 212) لم يلبث أن انضم إليها أتالوس، لأنه بعد أن حرمه أخايوس إمبراطوريته الآسيوية كان يطمع في بناء إمبراطورية في جزر بحر أيجة والشاطئ الشرقي لشبه جزيرة البلقان. وقد ظن أن الفرصةمواتية لتحقيق هذا الغرض نتيجة لتحالفه مع أنطيوخوس الثالث وانهماك فيليب في المتاعب التي أثارتها عليه روما. وإذا كان أتالوس قد خرج من الصراع مع فيليب منهزمًا، فإنه اكتسب صداقة روما، ووضع يده على جزيرة أيجينة التي اشتراها من الأيتوليين (209)، وقد دامت الحرب التي عرفت باسم "الحرب المقدونية الأولى" ست سنوات (121-206)، إلى أن أعبى الأيتوليين النضال فعقدوا مع فيليب صلحًا منفردًا (عام 206)، لأن روما لم تنشط في تأييدهم إلا البداية فقط. وفي العام التالي عقد الصلح بين فيليب وروما أيضًا.

فيليب الخامس يبني قوته:

وقد خرج فيليب من صراعه مع الأيتوليين الرومان أكثر قوة وأطماعًا منه في أي وقت مضى. وإزاء موقف الإغريق منه في خلال هذا الصراع، قرر أن يعود إلى سياسة قاساندروس في معاملة هؤلاء الحلفاء، فنقموا عليه ونعتوه بالطاغية بعد أن كان محببًا إليهم. وقد أدرك فيليب من هذا الصراع أنه كان يتعذر عليه مكافحة الرومان بنجاح دون أسطول وموارد كافية. ولما كانت بلاد الإغريق أفقر من أن تمده بهذه الحاجات الضرورية. فإنه رأى أن فرصته الوحيدة لتحقيق أغراضه كانت في الوصول إلى الشرق والحصول على سيادة بحر أيجة أو على الأقل استعادة تلك السيادة الأيجية الجزئية التي تمتع بها بعض الوقت كل من دمتريوس الأول وأنتيجونوس جوناتاس. ولما كانت الجزر ومدن آسيا الصغرى لا تزال غنية أو على الأقل من بلاد الإغريق، فإن استيلاءه عليها كان يوفر له الوسائل اللازمة لبناء قوة بحرية كبيرة. لكن أهداف فيليب كانت تتعارض من ناحية مع الأهداف رودس وبرجام، فقد كانتا تطمعان في السيطرة على بحر أيجة، ومن ناحية أخرى مع أهداف أنطيوخوس الثالث، وهو الذي سنرى أنه في أثناء قتال فيليب مع الرومان والأيتوليين كان يقوم بأعمال باهرة في أيا ويستعد للاقنضاض على إمبارطورية البطالمة. وكان سقوط هذه الإمبراطوريةمحط آمال فيليب، بشرط ألا تقع في قبضة أنطيوخوس. ولكي يحقق فيليب أهدافه الأيجية عقد الصلح من الرومان في عام 205، ولما لم يكن لديه ما يلزمه من الأ/وال والسفن لتحقيق هذه الأهداف، وكان مع ذلك عليه أن يقضي بأية وسيلة ممكنة على قوة رودس ومكانتها في بحر أيجة، فإنه لجأ إلى وسيلة تعلمها من الألوريين وهي استخدام القراصنة في تحطيم قوة العدو وسلبه موارده. وقد نجح قراصنته في السطو على عدد من الجزر والمدن الآسيوية وبذلوا جهدًا في تخريب موارد رودس البحرية. وفي الوقت نفسه (عام 205/204) أثار حربًا عنيفة بين كريت ورودس. وهكذا تمكن فيليب من أن ينزل في بحر أيجة أسطولاً كان كفؤاً لأسطولي رودس وبرجام.

أنطيوخوس الثالث يعيد بناء إمبراطوريته:

وحين كان فيليب وروما يشيدان صرح قوتيهما، لم يركن أنطيوخوس الثالث إلى حياة الدعة والخمول، ولم يذعن لهزيمته عند رفح، بل سار قدمًا في إعادة بناء إمبراطورية السلوقيين. ذلك أن أنطيوخوس وجه عنايته أولاً إلى القضاء على ابن عمه أخايوس، فقد أصبح شوكة في جانبه منذ عام 220. ولتحقيق هذا الغرض اضطر أنطيوخوس إلى التحالف مع أتالوس، العدو الطبيعي لأسرة السلوقيين.

وفي عام 216/ 215 حوصر أخايوس في ساردس، ولم يفلح الجنود المرتزقة الأيتوليون الذين أرسلهم سوسيبيوس لمعانة أخايوس في رفع الحصار عن هذه المدينة فوقعت في قبضة العدو في عام 214. بل أن بوليس الكريتي المأجور الذي عهد إليه سوسيبيوس بتدبير وسيلة لهروب أخايوس خان العهد وسلم أخايوس إلى أنطيوخوس، فأمر بأن تنفذ في ابن عمه العادة الأسيوية المتبعة مع الثوار، وتبعًا لذلك قطعت أطارفه وفصلت رأسه وخيطت إلى جلد حمار وصلب جسده (عام 213). وهكذا تخلص أنطيوخوس من متاعب ابن عمه واسترد أغلب الممتلكات عقدها معه، تلك الممتلكات التي كانت في قبضته قبل محاربة هراكس، وهي وادي قايقوس وأقليم طروادة والشاطئ الغربي لآسيا الصغرى من لامباقوس حتى تيوس.

وفي العام التالي يمم أنطيوخوس شطر ولاياته الشرقية في أواسط آسيا، وبفضل حملة تستحق الإعجاب، إلى حد أن العالم الهلينيسي قارنها بحملة الإسكندر الأكبر، أعاد وحدة إمبراطوريته على أساس متين وأظهر قوته أما ولاته الآسيويين وأمام العالم أجمع، فاكتسب مكانة رفيعة في دولته وفي الخارج، واتخذ أنطيوخوس منذ عودته في عام 205 لقب الملك الأكبر مثل الأخمينيين قديمًا، وكان الإغريق يدعونه أ،طيوخوس الأكبر.

ومنذ ذلك الوقت أخذ أنطيوخوس يتأهب للثأر لهزيمته في رفح واسترداد الممتلكات السوقية في سوريا وآسيا الصغرى وتراقيا في الوقت المناسب.

الخمول يسيطر على السياسة البطلمية:

وماذا كان من أمر مصر حين وقعت تلك الأحداث الجسام في البحر المتوسط وفي الشرق، أي حين نشطت في العالم الهلينيسي ثلاث قوى هامة ـ روما وفيليب الخامس وأنطيوخوس الثالث ـ وبدأ ألا مفر من إنهيار التوازن الدولي الذي شهده منتصف القرن الثالث؟

إن علاقة مصر بروما، وهي التي أخذت قوتها تزداد بإطراد حتى آلت إليها سيادة غرب البحر المتوسط نتيجة لانتصارها على قرطجنة في موقعة زاما (عام 202)، ترجع إلى عهد فيلادلفوس عندما عقد معها في عام 273 تلك المعاهدة التي سلفت الإشارة إليها، إلا أن هذه العلاقات كانت مقصورة على التجارة وتبادل المجاملات، دون أن تسمى أحداهما إلى التقرب إلى الأخرى، ولذلك ظلت كل منهما مدة طويلة مستقلة عن الأخرى، فسي سياستها وفي علاقاتها الخارجية. وفي عام 215، رفض البلاط الإسكندري أن تستدرجه سراقوسة (Syracuse) إلى التحالف مع قرطجنة. وتدل هذه المحاولة، من جانب سراقوسة، على أن بعض الأوساط الهلينية كانت تنتظر من الدولة المصرية العظيمة موقفًا آخر، وعلى أنه كانت لا تزال لمصر مكانة عظمى بين الإغريق. ويؤيد ذلك القرارات التي أصدرتها بعض المدن الإغريقية إجلالاً لفيلوباتور وسوسيبيوس، فهي كافية لإثبات أن المدن الإغريقية كانت تسعى إلى الفوز بعطف مصر، لكن مصر، وقد آلت مقاليد الأ/ور فيها إلى فيلوباتور وعصابته وأخذت تنتابها الثورات القومية، لم تعد تعمل حتى على الاحتفاظ بسيادتها البحرية كاملة في شرق البحر المتوسط.

وقد عرفنا أنه كان للسياسة الخارجية التي أتبعها البطالمة الثلاثة الأوائل هدفان ريسيان هوهما استقلال مصر قاما سياسياً واقتصاديًا، والتمتع بأ:بر قسط ممكن من السيطرة على عالم بحر أيجة وقد نجح أولئل البطالمة إلى حد بعيد في تحقيق هذين الهدفين وأما منذ عهد فيلوباتور فإن البطالمة لم يحاولوا ألا تحقيق الهدف الأول، إذ أنهم اضطروا تدريجياً إلى طرح تحقيق الهدف الثاني جانبًا إزاء ضغط القوى الفتية الوثابة التي مر بنا ذكرها، وإزاء الضعف الكامن في أولئك البطالمة الأواخر وفي رجالهم الذين ألقيت إليهم مقاليد الحكم، وإزاء الثورات المصرية الخطيرة التي اندلع لهيبها في البلاد، وأخيراً إزاء الخلافات العنيفة بين أفراد أسرة البطالمة منذ عهد بطلميوس السادس. وقد كان لهذه الظروف الداخلية رجع الصدى في الخارج، ذلك أن مصر فقدت لوسيماخيا للتراقيين، ولم تعد لها في أغلب مدن آسيا الصغرى الخاضعة لها إلا سلطة إسمية. ووسط الأزمات التي أحدقت بفيلوباتور من كل جانب، استمر هذا الملك العابث سادرا في غيه يقضي سنى حياته الأخيرة في المجون واللهو.

مصر تتتقرب إلى مقدونيا:

وعلى الرغم من أنه إزاء تهديدات أنطيوخوس كانت مصر تميل إلى التقرب إلى مقدونيا، فإنها كما احتفظت بحياد دقيق بين روما وقرطجنة، وقفت أيضاً على الحياد في أثناء القتال بين فيليب الأيتوليين، لم تفعل أكثر مما فعلته رودس وخيوس بأن حاولت التوفيق بين الطرفين المتحاربين.

وعندما هجر سقوباس (Scopas) الأيتولى بلاده (204) إلى مصر، وفي رفقته بعض الأتباع، رحب بهم سوسيبيوس لاستخدامهم في القضاء على الثورة المصرية، وفي الاستعداد لمجابهة أنطيوخوس الذي أحست مصر بتهديداته، فلم تدخر مالاً في إعداد جيش جديد. ولما كان هناك حاجة ملحة إلى ضباط ممتازين، وكان سقوباس ضابطًا قديرًا، فإنه عين قائدًا عامًا، وعين رفاقه ضباطًا قديرًا، فإنه عين قائدً ا عامًا، وعين رفاقه ضباطًا في الجيش. وقد مر بنا أن سوسيبيوس كان يتطلع إلى مقدونيا لدرء خطر أنطيوخوس، وتبعًا لذلك دخل سوسيبيوس في مفاوضات مع فيليب لعقد معاهدة بين مصر ومقدونيا، وتقوية هذه الرابطة فيما بعد بخطبة ولي العهد الطفل لإحدى كريمات ملك مقودنيا. وقد رحب فيليب بهذا العرض، لأنه كان يخشى أن يدفع مصر خوفها من أنطيوخوس إلى كسب وده بالتنازل له عما يطلبه من ممتلكاتها. ولكن يثبت فيليب صدقاته لمصر عرض على فيلوباتور أن يساعده على اخماد الثورة الداخلية، لكن هذا العرض رفض لما أنطوى عليه من خطر فتح أبواب مصر لمقدونيا، فلم يظه رفيليب استياءه من ذلك، واكتفى بالترحيب بعرض سوسيبيوس دون أن يعقد معه أي اتفاق، ومن الطريف أن أطيوخوس أيضًا أراد أن يظهر في ثوب صديق فيلوباتور، إذ أنه عرض عليه مساعدته ضد الثوار، لكن هذا العرض أيضاً رفض بدوره. وسرعان ما أيدت الحوادث بعد نظر سوسيبيوس في الاستعداد ضد أنطيوخوس، إذ أنه في عام 203 ذهب على رأس قوة كبيرة إلى قاريا، وأرغم بعض المدن التي كانت "حليفة بطلميوس" على التسليم له. ولاشك في أن هذا العمل لم يسر فيليب فقد كانت له أطماع في قاريا. وهكذا انتهى عام 203 بتجمع العاصفة التي كانت تنذر باقتلاع جذور ممتلكات مصر الخرجية. وإذا كان أنطيوخوس قد كشف القناع عن نواياه، فإن فيليب كان لا يزال يحتفظ بقناعه، ويثير القلق في نفس أنطيوخوس، والأمل في نفس الإسكندريين. وفي 28 من نوفمبر عام 203 عرف العالم أن فيلوباتور وأرسينوي توفيا، وأن عرش الإمبراطورية المصرية آل إلى طفل في السادسة من عمرة تحيط به عصابة وضيعة.

ليست هناك تعليقات: