الخميس، 13 نوفمبر 2008

سياسة البطالمة الدينية3

البطالمة و الفـــرس:
نجد في وثائق عصر البطالمة وكذلك في وثائق العصر الروماني حتى منتصف القرن "الثاني للميلاد" أشخاصًا كثيرين يدعون "فرسًا" أو "فرس السلالة"، ولكن إذا كان بعض هؤلاء "الفرس" يحملون أسماء إيرانية ، فإن غالبيتهم العظمى أسماء إغريقية أو مصرية أو إسمًا إغريقية ولقبًا مصريًا .

ويستوقف النظر أننا نجد بين كهنة أفروديتي وسوخوس في باثيريس كاهنين يحملان اسمين مصريين، ومع ذلك يدعيان "فرسًا"، وأننا نجد كذلك أشخاصًا يدعون "يهود، فرس السلالة".

وقد كان هؤلاء الفرس يعيشون في مختلف أنحاء البلاد، فسنرى عند الكلام عن الإسكندرية كيف أن فئة كبيرة من "فرس السلالة" كانت تعيش هناك وتؤلف طبقة خاصة من سكان العاصمة تتمتع ببعض الامتيازات. وكان كثير من الفرس يعيشون في مديرية لاتوبوليس بمنطقة طيبة وبوجه خاص في باثيريس وكروكوديلوبوليس ، حيث كانوا يؤلفون حامية لإخضاع الأهالي المعادين للطالمة.

وكان يوجد فرس ك ذلك في طحنا (Akoris) بمديرية هرموبوليس، وفي حيبة (Heibeh) (Hipponon) بمديرية هيراكليوبولس، وفي منف، وفي الفيوم ، حيث ثبت وجودهم في العهد الروماني كذلك. وكان هؤلاء الفرس ، إذا استثنينا لقبهم، لا يختلفون في شيء عن سائر السكان، فنرى أن بيستوس بن ليونتومنس، وكان من فرس السلالة ، قد اشتغل خادمًا عند تراقي لم يعطه أجره فقدم شكوى يلتمس الحصول على استحقاق واسترداد العقد المبرم بينه وبين سيده .

وقد كان بعضهم يفلحون الأرض إما بمثابة أرباب إقطاعات، أو مستأجرين، وكثيرًا ما كانوا يقترضون القمح على أن يردوه عند ظهور المحصول الجديد، فإن وثيقة بردية تحدثنا بأن بترون بن ثيون الفارسي من فرقة الفرسان الخامسة نزل في عام 115، بإذن من الحكومة، عن إقطاعه إلى زميل له في الفرقة نفسها، وكان يدعى ديديمارخوس (Didymarchos) ابن أبولونيوس المقدوني. وتحدثنا وثيقتان أخريان بأن فارسيًا من السلالة، يدعى بطلميوس ولقبه بتمسوخوس (Petesouchos)، استأجر إقطاعًا في عامي 103 و101. وتحدثنا وثائق أخرى بأن فارسيًا من السلالة، يدعى دبونيسيوس بن كفلاس (Keplalas) كان يفترض قمحًا كل عام تقريبًا منذ عام 113/112 إلى عام 103، وبأنه عندما تأخر مرة في سداد دينه إعتدى عليه دائنة، فقدم شكايتين إلى رجال الإدارة بتاريخ 12 و13 أكتوبر عام 109.

ويبدو أن بعض هؤلاء الفرس كانوا يشتغلون بالجندية، في فرق الفرس من الجنود المرتزقة بل إن بعضهم كانوا في فرق الفرسان النظامية، فقد مر بنا مثلاً أن بترون بن ثيون الفارسي كان زميلاً لديديمارخوس المقدوني في فرقة الفرسان الخامسة. ومما يجدر ملاحظته أنه أطلق على ثيوتيموس (Theotimos) ابن فيلياس (Phileas) في وثيقة من حوالي عام 115 ق.م لقب فارسي من السلالة، ثم أطلق عليه بعد ذلك في وثيقة أخرى من عام 104-103 ق.م لقب "ميسي" في فرقة الفرسان الرابعة. ونجد أن بايسي (Paesis) بن كفلاس يوصف في عام 109 بأنه ليبي بينما يوصف عادة أخوه ديوينسيوس الذي يدعى أيضًا بلنيس (Plenis) بأنه فارسي من السلالة، ويوصف مرة بأنه مقدوني من السلالة.

ويبين أن بعض هؤلاء الفرس كانوا لا يتمتعون بشهرة طيبة، ومثل ذلك ديونيسيوس بن كفلاس الذي مر بنا ذكره، فقد كان غارقًا في ديونه وعجز مرتين على الأقل عن سداد هذه الديون في الموعد المحدد. وقد شكا أحد أرباب الإقطاعات من الشماة في قرية يوهمريا (Enhemeria) بالفيوم إلى الملكة كليوبترة والملك بطلميوس سوتر (بطلميوس التاسع) من ثوتيموس بن فيلياس الفارسي من السلالة بسبب ما كان يدين له به من القمح. وعندما ارتقى ثيوتيموس في فرق الفرسان وأصبح ميسيا ومنح مائة أورورة في ثيادلفيا، نجده يشكو من اعتداء رجلين من فرس السلالة عليه.

وتشير الوثائق إلى وجود عدد كبير من الفرس بين الجنود وأبناء الجنود في مصر البطلمية، وإلى استمرار وجود هؤلاء الفرس حتى في العصر الروماني، وإلى أن الغالبية العظمى من هؤلاء الفرس كانوا يحملون منذ القرن الثاني قبل الميلاد أسماء غير إيرانية وإلى وجود كهنة مصريين بينهم، وإلى أن أشخاصًا كانوا يعرفون تارة بالفرس وتارة بجنسية أخرى. فكيف يمكننا تفسير هذه الظواهر؟ يكاد المؤرخون يجمعون على شيئين وهما: (أولاً) كان يوجد في مصر في بداية حكم البطالمة عدد من الفرس الحقيقتين يحتمل أنهم كانوا بقية الحامية الفارسية التي وجدها الإسكندر هناك عندما فتح البلاد وأندمجت في خدمته عندئذ. ويحتمل كذلك أنهم كانوا فرقًا جندها الإسكندر في آسيا وأرسلها إلى مصر، أو أحضرها بطلميوس الأول معه. ويحتمل أيضاً أن يكون بطلميوس الثالث هو الذي أرسل هؤلاء الجنود إلى مصر في خلال حملته في الشرق، فقد كان الإغريق يعتبرون الفرس أكثر الشرقيين شجاعة وحضارة. (وثانيًا) أن جانبًا كبيرًا ممن يدعون "فرساً" في الوثائق لم يكونوا كذلك بسبب أصلهم وإنما نتيجة لاكتسابهم هذه الصفة. وتوجد أدلة قاطعة على تغيير الجنسيات في القرن الثاني قبل الميلاد، ومثل ذلك ما مر بنا من أن ثيوتيموس كان فراسيًا في عام 115 وميسيا في عام 103 ونعرف أن أسكلبيادس (Asklipiades) بن بطلميوس كان مقدونيا ثم أصبح كريتيا حوالي عام 145 ق.م.

ويرجع لونيه تغيير الجنسية إلى سبب عسكري وهو أن بعض الفرق ولاسيما فرق الفيسان كانت فرقًا قومية تميز كل منها بجنسية معينة مثل فرقة النساليين وفرقة التراقيين وفرقة الميسيين وفرقة الفرس. فهل يبعد أن اندماج شخص في إحدى هذه الفرق كان يخلع عليه الجنسية التي تميز بها هذه الفرقة؟

بيد أنه إذا كان يمكن تفسير كثير من حالات هذه الجنسيات المكتسبة على ضوء هذا الرأي فإنه لا يمكن تفسيرها جمعيًا، ومثل ذلك حالة ثيوتيموس الذي مر بنا أنه كان فارسيًا من السلالة حوالي عام 115 ثم أصبح ميسيا في عام 104/103، ففي ذلك العام انخرط في سلك فرقة الفرسان الرابعة، وكانت إحدى فرق الفرسان التي تميز برقمها لا بجنسية أفرادها. ومعنى ذلك أن تغيير جنسية هذا الفارس المغوار لم يكن نتيجة اندماجه في فرقة قومية.

ويرى لكسييه (Lesquier) وجود صلة بين هذه الجنسيات المكتسبة وبين الجمعيات القومية أو الجاليات (Politeumata) التي كونتها بعض الأجناس عندما نزلت بمصر في عهد البطالمة، فإن الأشخاص الذين ينتمون إلى جنس أجنبي واحد كانوا كثيرًا ما يكونون في مصر، من تلقاء أنفسهم، ج اليات خاصة بهم. ويحتمل أنه لم تكن لكل الأجناس الأجنبية جاليات، لكن الوثائق تحدثنا عن جاليات للسكريتيين (Cretans) وللبيوتيين (Boeotians) وللآخيين (Achaeans) وللتراقيين (Thracians) وللكيليكيين (Cilicians) وللميسيين (Mysians) وللأدومايين (Edumaeans) ويرجح لكييه أنه بمضي الزمن اندمج أشخاص من جنسيات أخرى في هذه الجاليات واكتسبوا جنسياتها ما داموا مندمجين فيها. ومن المحتمل أنه كانت توجد جالية للفرس، ترتب على اندماج أشخاص من جنسيات أخرى فيها كثرة عدد "الفرس" الذين تحدثنا الوثائق عنهم.

ويعترض بفان على هذا الرأي بافتقارنا إلى أدلة عن وجود جالية للفرس، وبأنه حتى إذا وجدت فإن هذا لا يمكن أن يفسر هذا الكثرة غير العادية من "الفرس" ويميل إلى ال×ذ برأي تيت (Tait) وبربتنجسهايم (Pringsheim) القائل بأنه لما كان الفارسي المدين لا يتمتع بالضمانات نفسها التي يتمتع بها الأوربي، فإن الشخص المعوز المضطر إلى الاستدانة كان يصف نفسه في عقد القرض بأنه فارسي حتى ولو لم يكن كذلك لكي يؤمن الدائن علىدينه. ويعلل بربنجهايم حرمان الفرس الضمانات التي كان يتمتع بها الأوربيون بالرغبة في تأكيد أن الفرس لم يعودوا سادة البلاد. ويرى البعض أن المدين الفارسي كان عرضة لأن يصبح عبدًا لدائنه، بينما يرى البعض الآخر أنه كان محرمًا عليه الإلتجاء إلى معبد له حق حماية اللاجئين إليه كنتيجة طبيعية لاعتداء الفرس على حرمة المعابد المصرية أيام الحكم الفراسي.

ولاشك في أن كثير ممن يوصفن في الوثائق بأنهم فرس لم يكونوا من أصل فارسي، ولا يبعد أن الرغبة في تأمين الدائنين كانت من أسباب الإقبال على اك تساب الجنسية الفراسية، لكن ونحن نعلم أن البطالمة كانوا يفرضون عقوبات مشددة على الانتقال من إحدى طبقات السكان إلى طبقة أخرى دون الحصول على إذن بذلك من الملك، لا نستطيع أن نقبل أو نتصور أن الناس كانوا ينتحلون الجنسية الفارسية دون أن يكون لذلك سند من القانون أو الواقع ودون وجود جمعية بل جمعيات قومية (Politeumata) فارسية كان يتم اتخاذ هذه الجنسيات عن طريقها.

وإذا كان في ضوء هذا الرأي على نحو ما نتصوره يمكن أن نفسر كيف أصبح بعض المصريين بوجه خاص "فرسًا"، فإننا نعتقد أن هذا الرأي وحده لا يكفي لتفسير هذه الكثرة من الفرس تفسيرًا شافيًا، ونعتقد أنه يجب أن نقرن معه رأي جوجيه القائل بأنه إزاء ازدياد الثورات الوطنية عمل البطالمة على تركيز القوى المناهضة للحركة الوطنية بإدماج جاليات الجنسيات التي لم يبق منها إلا فئات قليلة في الجنسيات التي كانت أوفر منها عددًا، إذ بينما كان يوجد في القرن الثالث عدد كبير من الجنسيات المختلفة، نلاحظ اختفاء الكثير منها في القرن الثاني وازدياد عدد أفراد الجاليات المقدونية والكريتية والميسية والفارسية نتيجة للتجنس بجنسياتها، ويبدو كأن السكان وزعوا بين طبقات أقل عددًا من الماضي، وفقًا لنظام دقيق حدد مرتبة كل طبقة وكانت في مقدمة هذه الطبقات طبقة المقدونيين والكريتين وتأتي بعدها طبقة مواطني المدن الإغريقية والإغريق في الأقاليم، فطبقة الميسيين، فطبقة الفرس من الذين ازداد عددهم في مصر العليا. وهذا جدير بالملاحظة، لأن الوجه القبلي كان أقل أنحاء مصر اصطباغاً بالحضارة الإغريقية. وقد اندمج في طبقة الفرس عناصر غير إيرانية، وبجه خاص عناصر مصرية كان بينها كثير من الكهنة.

ويذهب سجريه إلى حد القول بأن الفرس في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد لم يكونوا سلالة الفرس القدماء، بل كانوا محاربين مصريين (Machimoi) أدمجوا في جلية الفرس نتيجة لانخراطهم في سلك الجيش. لكن إذا كان يمكن التسليم بأن سلالة بعض الجنود المصريين أدمجوا في جالية الفرس، فإنه من المستبعد أن كل هذه الجالية كانت تتألف من سلالة هؤلاء الجنود. ويعتقد البعض أن هؤلاء الفرس كانوا من حيث المبدأ يتألفون من سلالة الفرس القدماء.

وفي ضوء رأي كل من جوجيه ولكييه نستطيع تفسير الكثير من حالات تغيير الجنسية وهذه الكثيرة من الفرس وكذلك اتخاذ الفرس أنفسهم جنسية أخرى نتيجة اندماجهم في جنسية من الجنسيات التي كانت أرفع مكاننة وأوفر من جاليتهم إمتيازات، مثل ثيوتيموس الذي مر بنا أنه كان فارسيًا من السلالة ثم أصبح ميسيا.

ويبدو لنا أنه لم توجد طريقة واحدة فقط لتغيير الجنسية، وأنه لم يؤد إلى ذلك عامل واحد فقط، بل كان يمكن تغيير الجنسية أما عن طريق الإنخراط في إحدى الفرق القومية أو إحدى الجمعيات القومية، بلا لا يبعد أنه من أجل الانخراط في إحدى الفرق تلقزكيو كان يجب أن يسبق ذلك الانخراط في جمعية تلك القومية. وربما كان سبب تغيير الجنسية الرغبة الشخصية في الخدمة بالجيش، أو زيادة تأمين الدائنين على حقوقهم والفوز بمكانة أفضل وامتيازات أوفر، أو رغبة الحكومة في تركيز القوى المناهضة للحركة الوطنية.

ومهما تكن الآراء التي يذهب إليها المؤرخون المختلفون في تفسير كثرة عدد الفرس فلاشك في أن الفرس كانوا يتمتعون في مصر البطلمية بالحرية الدينية. وحسبنا دليلاً على ذلك ما تحدثنا به الوثائق عن وجود معبد للإله الفارسي ميثراس (Mithras) في الفيوم، في القرن الثالث قبل الميلاد.

البطالمة و عناصر أجنبية أخرى:
إن سائر العناصر الأخرى التي نزحت إلى مصر، مثل التراقيين والفريجيين والسوريين والفينيقيين والكاربين والبابلين والهنود والأعراب ، قد أحضرت معها عبادتها وآلهتها ، كما فعل الإغريق واليهود والفرس . فقد وجد في فيلادلفيا بالفيوم نقش من عصر بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني يثبت وجود معبد هناك للإله التراقي هرون (Heron). وعثر أيضاً على نصب أقيم هناك في عصر بطلميوس الرابع عشر، وهو يحمل إهداء لذلك الإله وصورة له تدل دون مجال للشك على أنه إله تراقي، أحضره التراقيون الذين وفدوا على مصر في عهد البطالمة وشيدوا له معبدًا خاصًا بعبادته. وقد أقام كلك أهل فريجيا هيكلاً لمعبودتهم أجديستين (Agdistis) وتحدثنا الوثائق بأن الفينيقيين كانوا يقيمون طقوس إلهيم أدونيس (Adonis).

ويحدثنا هرودوتوس بأن فينيقيين من صور كانوا يعيشون في منف حيث كان يوجد معبد "لأفردودبتي الأجنبية". ويبدو أن هذه الإلهة كانت الإلهة السامية استراتي (Astrate)، ففي خطاب من منتصف القرن الثالث قبل الميلاد موجه إلى زيتون، وكيل أشغال أبولونيوس وزير مالية فيلادلفوس، نجد "كهنة استراتي إلهة الفينيقيين المصريين المقيمين في منف" يطلبون منحة من الزيت لإقامة شعائر طقوسهم مثل التي كانت تمنح لمعابد الكاريين والإغريق المقيمين في منف. وتحدثنا من عام 222 ق.م. بأنه عندما منح جندي يدعى ماخاتاس (Machatas) مسكنًا في بيت رجل يدعى بوؤريس (Pouris) اقتسم البيت مع صابحه وأقام في النصف الذي يخصه هيكلاً "للآلهة السورية وأفرودبتي برينيكي" وقد كان إله كاريازيوس لابراندايوس (Labrancaios) والإلهة البابلية نانا (Nana) يعبدان في مصر ويشبه الأول بزوس الإغريق والثانية بإيزيس.

ويستخلص بترى من التماثيل الهندية التي وجدها في منف أنه كانت تقام في مصر حفلات بوذية (Bnddnist) في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.

وقد قدم إلى مصر بعض الأعراب كذلك، فإن العرب الرحل في الصحراء الشرقية كانوا ينزحون في فئات صغيرة إلى وادي النيل، كما يفعلون اليوم. ومن ثم وددت قرى متناثرة في مصر، كان سكانها يتألفون من العرب الذين استبدلوا بحياتهم الصحراوية حياة الاستقرار الزراعية. ومثل ذلك قرية بوبس (Pois) في مديرية منف، التي وصل إلينا منها خطاب بتاريخ 20 سبتمبر 152 ق.م. كان قد أرسله اثنان من أهلها إلى صديق لهما. وقد كتب هذا الخطاب لهما بالإغريقية شاب مقدوني يدعى أبولونيوس. ويبدو أن هذين الأعرابيين لم يعرفا القراءة ولا الكتابة ولم يستطيعا التوقيع على الخطاب، فوضع أبولونيوس أسميهما على الخطاب وهما ميرولاس (Myrullas) وخالباس (Chalbas). وقد وجد في القرن الثالث بالفيوم أعراب يشتغلون برعي الماشية على ضيعة أبولونيوس وزير المالية. ويستوقف النظر أن هؤلاء الأعراب يحملون أسماء الإغريقية ومصرية.

وإذا كانت كل العناصر الأجنبية الأخرى، التي استقرت في مصر، قد أحضرت معها عيادتها وتمتعت بحريتها الدينية، فما لا شك فيه أن أعراب مصر أيضاً كانوا كغيرهم من الأجانب يقيمون طقوس عبادتهم في ظل التسامح الديني الذي كان إحدى القواعد الأساسية التي أقام ع ليها البطالمة سياستهم الدينية.

الثالوث المقدس:
- سيرابيس


سبب إنشاء الديانة الجديدة:

لما كان بطلميوس الأول يعتقد أن ثروة مصر تتوقف على مساهمة المصريين والإغريق سويًا في العمل على تقدم مرافق البلاد الاقتصادية، فإنه رأى من الضروري أن يؤلف بين قلوب هذين العنصرين، ولا سيما أنه كان يعرف أن للمصريين ديانة موروثة راسخة القدم، وأن الإغريق أحضروا معهم ديانتهم ومذاهبهم.

ولذلك وجه همه إلى التغلب على النفور الديني، الذي كان هرودوتوس قد لاحظه من قبل وكان من المحتم أن يعوق الألفة بينهم، بإنشاء ديانة جديدة يشترك في التعبد إلى آلهتها المصريون والإغريق على النحو الذي درج عليه كل فريق منهما .

أصل سيرابيس:

ويحدثنا بلوتارك بأن بطلميوس الأول كون لجنة من علماء الدين، كان من بين أعضائها الكان المصري مانثو والكاهن الإغريق تيموثيوس (Timotheos) وقد استقر رأي اللجنة على أن يكون محور الديانة الجديدة ثالوثا، يتألف من سيرابيس (Serapis) وإيزيس وهاربوكراتس (Harpocrates)، وقامت اللجنة بتنظيم شئون هذه الديانة. ولم يشك أحد في أن إيزيس وهاربوكراتس (Harpocrates) كانا إلهين مصريين، أما سيرابين، الإله الأكبر في الثالوث، فقد تضاربت الآراء في أصله. ولا جدال في أنه لتقريب شقة الخلاف الديني بين المصريين والإغريق، كان يتعين أن يكون محور الديانة الجديدة مذهبًا مصريًا يمكن إقناع الإريق بالإقبال على اعتناقه، وذلك لأنه بقدر ما أعتور إيمان الإغريق من ضعف، وما ساورهم من شكوك في مقدرة آلهتهم كان المصريون يستمسكون بمعتقداتهم الدينية ويفاخرون بها. وكان يتعين كذلك أن يكون كبير آلهة الديانة الجديدة معروفًأ للجميع، وفي وسعه أن يحتل مكانًا ساميًا في نفوس الناس وعقولهم.

وإذا أجلنا الطرف بين كافة الآلهة المصرية، فإننا لا نجد إلهًا يمكن أن تتوافر فيه هذه الشروط أكثر من أوزيريس، فقد كان المصريون أجمعون يستجدون حمايته، لأن هذا الإله الذي توفي وبعث كان يحمي الموتى في خلال رحلتهم في مجاهل العالم الآخر ويكسبهم جانبًا من خلوده وكان يمكن إقناع الإغريق بأن الههم ديونيسوس تزاجريوس (Dionysos Zagreos)، الذي قتله التيتان (Titans) ونفخ زيوس في صورته، لم يكن إلا صورة مقابلة لأوزيريس. ولذلك كان إله كهذا خير من يصلح لأن تقوم حوله عبادة تجمع بين معتقدات المصريين ومعتقدات الإغريق، ويرى فيها المصريون عبادة أوزيريس، والإغريق عبادة ديونيسوس، وذلك بعد أن يخلع عليه اسم جديد. غير أنه كان يتحتم ألا يكون الاسم جديدًا كل الجدة، و من ثم كان يجب اختيار الاسم من بين أسماء الآلهة المصرية.

وقد كان أوزيريس في الأصل صورة مجدة للنيل، وكان ست إله الشر يمتص ماء الحياء منه، أو يقتله كل عام ثم يبعث على الدوام. ولم يكن أوزيريس إلهًا محليًا ترتبط عيادته بإقليم معين، بل كان إلهًا عامًا في مصر يمكن أن يوجد بأي إله مصري ولذلك فإنه كان يجد مكانًا في القصص المصرية الخاصة بكل مكان ففي الأماكن التي ك ان إله الأحياء فيها رع الشمس المشرقة، كان إله الموتى هو أوزيريس الشمس الغاربة وفي منف حيث كان الإله الأكبر فتاح يتجسد أحيانًا شخصية حابي أو أبيس، أي إله النيل الحي في صورة عجل، كان أوزيريس يمثل أبيس المتوفي ويدعى أسار ـ حابي (Asar - hapi) أو أوسار ـ حالبي (Osar - hapi) ويدعوه الإغريق أوسوروأبيس (Osoroapis) أو أوسيرابيس (Oserapis) وسورابيس (Sorapis) وساربيس (Sarapis) وسيرابيس (Serapis). وعندما فتح الإسكندر مصر، كانت مذاهب منف قد اكتسبت من الأهمية بين الناس ما فقدته مذاهب العاصمة القديمة طيبة، فإذا أريد اتباع رغبات الناس وإقامة الديانة الجديدة على أسس قوية، كان لابد من اختيار معبود هذه الديانة من بين آلهة منف.

وقد كان أوسار ـ حابي أو أوزيريس ـ أبيس يتمتع بمكانة كبيرة بين الإغريق النازلين في مصر قبل ارتقاء بطلميوس عرشها، فإن أقدم وثيقة بردية إغريقية وصلت إلينا، وهي الآن في المكتبة الأهلية بفينا، عبارة عن التماس من إمرأة إغريقية تدعى أرتميسيا إلى الإله أو سيرابيس (Oserapis) لينزل نقمته على رجل أنجبت منه ابنة توفيت ورهن جثتها ولم يف بدينه.

وقد كان فيلكن يميل في أول الأمر إلى أن سيرابيس لم يكن إلا الإله البابلي شار ابسي (shar - apsi) وإلى عدم وجود صالة بني اسم سيرابيس وأوسار حابي الذي كتبته أرتميسيا بالإغريقية أوسيرابيس، لكنه لم يلبث أن عدل عن هذا الرأي وأصبح يرى أن سيرابيس معبود الإسكندرية كان إله العالم الآخر الذي يعبد في المعبد المقام فوق مقابر المجولة المحنطة قرب منف.


سيرابيوم منف:

ويؤيد هذا الرأي أن المعبد المصري القديم، الذي أقيم لأوزيريس ـ أبيس بالقرب من منف، كان الإغريق يطلقون عليه منذ بداية عصر البطالمة اسم السيرابيوم أي معبد سيرابيس. وكان هذا المعبد يقوم على بعد أربعة أميال من منف، بالقرب من سفح التلال التي تحد وادي النيل من الناحية الغربية. وقد أثبت فيلكن خطل الافتراضات التي تناقلها المؤرخون عن ماريت (Mariette)، فإنه لم يوجد سيرابيوم إغريقي وسيرابيوم مصري، بل سيرابيوم واحد يتألف من مجموعة مبان، تقوم على الأرض المرتفعة إلى ما وراء الأراضي الزراعية.

ولعل منشأ هذه الافتراضات أنه وإن كان إله سيرابيوم منف إلهًا مصريًا، إلا أنه في أحد هياكل هذا المعبد كان يوجد تمثال لهذا الإله في شكله الإغريق، أي في الصورة التي قدم بها للإغريق لكي يقلوا على عبادته. وهذا يرينا أن المصريين والإغريق كانوا يعبدون الإله نفسه، وإنما في صورتين مختلفتين تناسب كل صورة منهمام عتقدات كل فريق. وإذا استثنينا الإلهة السورية استراتي (Astrate)، فإن الآلهة التي كانت تشرك مع إلهسيرابيوم منف في العبادة، كانت آلهة مصرية غير أنها شبهت أيضًا بآلهة إغريقية، مثل إمحوتب الذي شبه بأسكلبيوس (Asclepios) "إله الشفاء" عند الإغريق، فكان المعبد الذي شيد فوق مقبرة إمحوتب يدعى معبد أسكلبيوس (Asclepeion). وكانت توجد داخل الأسوار المقدسة، أمام هيكل استرائي فيما يظن، قطع الصخر التي وكانت توجد داخل الأسوار المقدسة، أمام هيكل استرائي فيما يظن، قطع الصخر التي كانت تأتي إليها في يوم معين "القديستان التوأمان" لتقديم القرابين للإله أسكلبيوس. ووفقًا لرواية هكاتايوس (Hecataeos) من أبديرا (Abdra)، كان يوجد بالقرب من باب مقبرة المجول أبيس هيكل لآلهة جنازية، يحتمل أنها كانت أيضًا آلهة مصرية لكنها ألبست ثوبًا إغريقيًا.

وقد احتفظت آلهة مصرية أخرى بأسمائها الأصلية مثل بيس (Bes)، الذي أقبل عليه إغريق مصر، إلى حد أنه يبدو أن تماثيله الصغيرة، التي صبغ طرازها بصبغة إغريقية، وكذلك تماثيل هاربوكراتس، أكثر التماثيل البرونزية والفخارية عددًأ في مجموعاتنا. وكان يقيم هناك ثيرون من الإغريق العكف "سجناء الإله المتصوفين" مثل بطلميوس بن جلاوكياس وأخيه أبولونيوس، كما كان يقيم مفسرون إغريق للأحلام. ويعتقد جروجيه أنه لم يحدث فقط أن خضع الإغريق لمقتضيات الطقوس المصرية، بل حدث أيضًا أن أثرت الأفكار الإغريقية أحيانًا في الديانة المصرية، إذ يبدو أن "الاستخارة" التي كانت تعمل في النامووس الجنازي للعجل أبيس كانت في أثر المعتقدات الإغريقية. وعلى أحد جانبي الطريق المعبد، المؤدي من معبد نكتانبو إلى معبد سيرابيس داخل الأسوار المقدسة، كان يوجد هيكلان صغيران، طراز أحدهما مصري وطراز الآخر إغريقي. ومن المحتمل أن الهيكل الأخير كان المكان المخصص للمصابيح. وفي المنطقة نفسها، كانت توجد قاعة كشوفة بها تماثيل لبينداروس وبروتاجوراس وأفلاطون.

وعلى حافة الصحراء بالقرب من الأراضي الزراعية، كان يوجد معبد أنوبيس. ومن هذا المعبد، كانت تمتد عبر الصحراء إلى السيرابيوم طريق مرصوفة تقوم على جانبيها تماثيل لأبي الهول.

وكان السيرابيوم يتصل بمدافن العجول أبيتس المتوفاة، وكانت أجسادها المحنطة توضع في دهاليز تحت الأرض. أما العجل أبيس الحي، فكان يوضع في هيكل في منف يدعى أبيوم (ِحهثعة)، ويتصل بمعبد فتاح المقام في الأراضي الزراعية. وكان العجل أبيس الحي ـ وهو عجل أسود على جبهته شارة بيضاء ـ يعتبر صورة مجمدة لإله النيل، ويشبه أحيانًا بفتاح. وكما كان كل إله وبشر عند وفاته يصبح أوزيريس، فإن العجل أبيس كان يصبح بوفااته أوزيريس ـ أبيس (أوسار ـ حابي). وكانت كل مصر تشترك في جنازة ويدوم الحداد في كل مكان سبعين يومًا، وهي الفترة التي تستغرقها عملية تحنيط الجنة، وترسل كل المعابد كتانًا للفائف المومياء، وتقوم بالعويل والكباء بالقرب من الجنة في منف كاهنتان، هما توأما منف المشهورتان، اللتان تمثلان الإلهتين الأختين: إيزيس ونفئيس. وعند إتمام كل شيء، كانت المومياء تحمل في موكب يقوده حتى معبد أنوبيس كاهن يحمل قناعًا يمثل الإله تحوت. وهناك كان يحل مكان هذا الكان كاهن آخر يمثل أنوبيس، دليل الموتى، ويقود الموكب بالطريق المرصوفة حتى السيرابيوم، حيث يدفن في غرفة أعدت لهذا الغرض في أحد الدهاليز تحت سطح الأرض.

ويرى فيلكن أنه بينما يقوم العمال ينحت العرفة التي سيدفن فيها العجل أبيس الحي الموجود في منف، كانت الطقوس تقام له في الدهاليز التي تحت الأرض ويشبه في هذه الطقوس بأوزيريس إله الموتى، ولذلك كان العجل أبيس الحي يدعى أبيس أوزيريس، على حين أنه كان يدعى بعد وفاته أوزيريس أبيس. وكانت العبادة في المعبد الذي فوق الأرض توجه إلى أوزيريس أبيس، لكنها كانت لا توجه إلى واحد معين من العجول المقدسة، بل إلى الألوهية المجدة فيها جميعًا. وكان المتعبدون لا يميلون إلى اعتبار أويريس أبيس عجلاً متوفى، بل إله العالم الآخر تحت اسم محل وفي شكل بشرى، لعله كان شكل أوزيريس جالسًا على عرش وله رأس ثور. لكن أوزيريس أبيس أو سيرابيس كان يصور للإغريق في شك يناسب آراءهم. وداخل أسوار معبد سيرابيس في منف، كان يحتشد جمع خليط من لكهنة والمتعبدين، يتعبد كل منهم إلى هذا الإله في صورته المصرية أو الإغريقية وفقًا لجنسيته وإذا كنا نجد في سيرابيوم منف مراقب المعبد ومختلف أنواع الكهنة المصريين الذين تجدهم في المعابد المصرية الأخرى فإننا لا نجد شيئًا في الوثائق عن وجود كهنة إغريق هناك، إلا أنه يجب ألا يتخذ صمت الوثائق دليلاً على عدم وجود كهنة إغريق في سيرابيوم منف، إذ أن وجودهم كان ضروريًا لإقامة طقوس سيرابيس في شكله الإغريقي لزواره الإغريق. وقد استمرت عبادة العجل المقدس في منف حتى العصر الروماني، ونجد اسم أوزيريس أبيس أو أوسورابيس (Osorapis) على الدوام في الوثائق الديموتيقية، وأحيانًا في الوثائق الإغريقية التي عثر عليها هناك.

سيرابيوم الإسكندرية:

وإذا حولنا النظر إلى الإسكندرية، التي كانت في عهد البطالمة المركز الأول لعبادة سيرابيس، فإننا نجد هناك ما يشير بجلاء إلى الصلة بين سيرابيس وأووزيريس أبيس، فقط بقى بين أطلال معبد سيرابيس تمثال للعجل أبيس، أهدى لسيرابيس في عهد الإمبراطور هادريان. ويضاف إلى ذلك أن القرائن تشير إلى أنه كان يعبد إلى كهنة سيرابيوم منف بتولي مناصب دينية في سيرابيوم الإسكندرية.

ويعتقد بعض المحدثين أن هذا المعبد كان تحت سيطرة رجال الدين المصريين الذين كانوا يدعونه معبد أوزيريس أبيس براكوتي ويرى شوبارت أن شعائر العبادة في هذا المعبد كانت تقام وفقًا للطقوس المصرية وأنه لم يطرأ عليها جديد إلا بعض المظاهر الخارجية مثل تقديم سيرابيس للإغريق في شكل إغريقي.

ومما يجدر بالملاحظة أن أبرز مظاهر الشعائر الإغريقية لسيرابيس وإيزيس وأوزيريس هو احتواؤها على طقوس ذات أسرار تختلف عن الطقوس المصرية القديمة. ويذهب "يوتي" إلى حد القول أن كل شعائر سيرابيس سواء في منف أم الإسكندرية كانت إغريقية. ويعتقد فيلكن أن الغالبة كان للعنصر الإغريقي في سيرابيوم الإسكندرية الذي شيد وفقًا لطراز إغريقي ووضع تحت إشراف كهنة إغريق. ويرى كيسلنج أنه لم يوجد في سيرابيوم الإسكندرية إلا تمثال هذا الإله في صورته الإغريقية، لكن شعائر عبادته كانت تقام وفقًا للطقوس المصرية وكذلك وفقًا للطقوس الإغريقية، غير أن الأولى كانت أهم من الثانية وكذلك كان كهنة هذا المعبد المصريون أكثر أهمية من كهنته الإغريق. ومع ذلك فإن كيسلنج يلاحظ أنه حتى العصر الروماني لم يوجد في المعابد التي أقيمت لسيرابيس في الخارج على نمط سيرابيوم الإسكندرية إلا كهنة إغريق، ومرد ذلك في نظر كيسلنج إلى أنه خارج مصر لم يوجد مصريون ولا سيما كهنة مصريون يجب أن يحسب حسابهم.

وعندنا أن أقرب هذه الآراء إلى الصحة هو رأي فيلكن. ولا يفوتنا ما لاحظه كيسلنج من أن المعابد التي شيدت لسيرابيس في خارج مصر لم يوجد فيها في العصر الهلينيسي إلا كهنة إغريق لعدم وجود مصريين هناك. ونحن نرى أنه لما كانت توجد في الإسكندرية عناصر مصرية إلى جانب العناصر الإغريقية وكان الهدف من إنشاء هذه العبادة هو إزالة النفور الديني بين المصريين والإغريق، فقد كان طبيعيًا أن يضم معبد سيرابيس الإغريقي معبدًا أو هيكلاً لسيرابيس المصري، مثل ما كان سيرابيوم منف المصري يضم هيكلاً لسيرابيس الإغريقي، وذلك ليشعر الفريقان أنهما يعبدان الإله نفسه، وكان طبيعيًا كذلك أن تقوم في هذا المعبد أو الهيكل صورة مصرية لهذا الإله. وإذا صح أنه لم توجد في سيرابيوم الإسكندرية إلا صورة واحدة للإله في شكله الإغريقي، فكيف نفسر تقديم الإمبراطور هادريان تمثالاً للعجل أبيس لهذا المعبد؟ و كيف نفسر كذلك تعيين كهنة مصريين في سيرابيوم لإسكندرية؟ وهل يمكن أن نتصور أن الكهنة المصريين كانوا يقيمون طقوس العبادة المصرية حول تمثال إله إغريقي؟ـ وما كانت الفائدة العملية التي ترجي من وراء ذلك؟ لكننا نستطيع أن نتصور أن يقيم الكهنة الإغريق شعائر عبادتهم حول تمثال الإله الإغريقي والكهنة المصريون شعائر عبادتهم حول تمثاله المصري، وأن نتسرب تبعًا لذلك بعض مظاهر الطقوس من ناحية إلى أخرى.

سيرابيس في أبيدوس:

وفي أبيدوس، مقر ثالث المعابد الكبيرة لسيرابيس، لم يكن هذا الإله سوى الترجمة الإغريقية لأوزيريس. ونستدل على ذلك من أنصاب الموتى التي زينت حسب التقاليد المصرية بمنظر يمثل أوزيريس، وهو يستقبل الموتى، ووجهت الأدعية التي على الأنصاب باللغة الهيروغليفية أو بالديموتيقية إلى أوزيريس، أما باللغة الإغريقية فإنها وجهت إلى سيرابيس. وقد وجدت أنصاب مماثلة في مقابر الفيوم وسقارة.

إشراك سيرابيس دائمًا مع آلهة مصرية :

وقد سبق أن ذكرنا أنه أشرك مع سيرابيس إلهان مصريان وهما إيزيس وهاربوكراتس، وأنه هؤلاء الآلهة الثلاثة كونوا معًا ثالوثًا مقدسًا، وهذا دليل آخر على الأثر المصري في هذه العبادة الجديدة. فإن فكرة الثالوث قديمة العهد في الديانة المصرية بل ترجع إلى أقدم العصور، إذ كان يوجد في كل إقليم في مصر ثالوث مقدس يتألف من أب وأم وابن. ففي منف مثلاً، كان الثالوث يتألف من "فتاح" وزوجة "سخميث" وأبنهما "نفرتوم" وفي طيبة كان أعضاء الثالوث "آمون"، وزوجه "موت" وأنهما "خنسو".

وعندما انتشرت عبادة سيرابيس خارج مصر في العالم الإغريقي، بقى أصله المصري واضحًا جليًا بالرغم مما أدخل على هذا الإله من الصفات الهلينية، فإنه كان يشرك دائمًا مع آلهة مصرية صميمة مثل إيزيس وأنوبيس وحورس والعجل أبس. وبما أنه كان في الأصل صورة من أوزيريس، فإنه كان يحل عادة مكان أوزيريس في العالم الإغريقي وتشرك معه إيزيس، هذا وإن كان أوزيريس يضم إليهما في بعض الأحيان. وكان الأوز تقدم قرابين لسيرابيس، وهو ما كان الإغريق لا يفعلونه لأي إله إغريقي صميم.

متى أنشئت عبادة سيرابيس؟

ويرى بعض المؤرخين أن عبادة سيرابين نشأت من تلقاء نفسها بين إغريق مصر لكن الرأي السائد اليوم هو أن بطلميوس الأول هو الذي أنشأ هذه العبادة. ويرجع بلوتارك وتاكيتوس إنشاء هذه العبادة إلى عهد بطلميوس الأول. وبتأييد ذلك بما تتكشف عنه مصادرنا القديمة من إلمام بعض الشخصيات المعاصرة بهذه العبادة، مثل الشاعر منا ندر الذي توفي في عام 291 ق.م، وديمتريوس الفليرى الفليرى الذي عرفنا أن بطلميوس الأول استضافة فترة من الوقت. أما نقش هيالكيارناسوس الذي ورد فيه أن أرسينوي أقامت معبدًا لسيرابيس في تلك المدينة، وكان يستند إليه في إرجاع تاريخ إنشاء هذه العبادة إلى عهد ولاية بطلميوس، فيعتقد الآن أنه لا يمكن إرجاعه إلى تاريخ سابق على عصر بطلميوس الثاني.

ويبدو أن بطلميوس الثاني قد ورث عن أبيه الاهتمام بعبادة سيرابيس، إذ نتبين من "النقش سالف الذكر أن أرسينوي شيدت معبدًا لهذا الإلهة في هاليكارناسوس وتتضمن إحدى الوثائق البردية أمرًا أرسله وزير الماليةأبولونيوس إلى وكيل أشغاله لبيني معبدًا لسيرابيس في الفيوم.

أصل تمثال سيرابيس:

ويروي بلوتارك، نقلاً عن مانثو، أن بطلميوس الأول رأى فيما يرى النائم إلهًا لم يره من قبل بأمره بإحضاره دون إبطاء إلى الإسكندرية، غير أن بطلميوس كان لا يعرف مكان هذا الإله فاستدعى رجلاً من أخصائه يدعى سوسيبيوس، وكان قد جاب أقطار العالم ووقف على أخبارها، وقص عليه الرؤيا، فقال لطبميوس إنه شهد ذلك الإله في مدينة سينوب، وعلى ذلك أحضره ملك مصر إلى الإسكندرية. ويحدثنا تاكيتوس أنه أنشئت عبادة جديدة في عهد بطلميوس الأول، وأن هذا الملك رأى في منامه شاباً يأمره بإرسال رجال يثق بهم إلى ساحل البحر الأسود، ليحضروا من هناك الإله الذي يجب أن تبعده الإسكندرية لكي تنعم إمبراطورية البطالمة بالرخاء والسعادة لكن بطلميوس لم يول هذه المسألة أهمية في بادئ الأمر حتى أتاه الشاب نفسه في منامه مرة أخرى وهذا بخراب ملكه إذا لم يطع ما أمر به، فاستطلع الملك رأى كهنته ونصحفه تميوثيوس بإحضار إله سينوب. وعندما فشلت المفاوضات التي دامت ثلاث سنوات مع حاكم سينوب، اتخذ الإله نفسه سبيله نحو الإسكندرية، حيث أقام له بطلميوس معبدًا عظيمًا فوق أطلال معبد شيد قديمًا لإيزيس وأوزيريس. ويذكر هيرونيموس، نقلا عن بوسيبيوس، أن احضار تمثال سيرابيس إلى الإسكندرية كان في عام 286. ويحدثنا كلمنس الإسكندري بأن تمثال سيربيس كان في الأصل تمثال بلوتو إله سينوب وأن أهل هذه المدينة أهدوه لبطلميوس الثاني اعترافًا بجميله لأنه كان قد أمدهم بالغلال عندما كانوا في مسيس الحاجة إليها، فقبل بطلميوس الهدية شاكرًا وأقام التمثال على تل راكوتيس الحصين. ويضع كيرلس الإسكندري هذا الحادث حوالي عام 280، بينما يضعه النص الأرمني لوراية بوسيبوس في عام 277 ق.م.

ولما كانت العبادة الجديدة قد أنشئت في عهد بطلميوس الأول، فإننا لا نستطيع قبول الروايات التي تقول بأن تمثال سيرابيس إحضار أو صنع بعد عهد مؤسس أسرة البطالمة، ولا سيما أن أكثر المصادر القديمة وخاصة بلوتارك، الذي اعتمد في هذه المسألة على مانثو وكان معاصر البطلميوس الأول وأحد صناع الديانة الحديدة، ويؤكد أن ذلك حدث في عهد بطلميوس الأول.

ويستوقف النظر أن أكثر المصادر القديمة تذكر أن تمثال سيرابيس جاء سينوب. ومن الجائز أن مبعث ذلك كان أن المنطقة الصحرواية التي يقوم فيها سيرابيوم منف كانت تدعى سينوبيون (Sinopion). وإذا كانت عبادة سيرابيس الإسكندرية في الأصل عبادة إله سنوبيون منف، فلا يبعد أن يكون الأمر قد اختلط على المؤرخين القدماء، ولذلك عزوا أصل تمثال سيرابيس إلى مدينة سينوب على البحر الأسود. ومع ذلك يبدو بعيدًا عن الاحتمال أن توجد مصادفة صلة بين سيرابيس وبين مكانين يبعدان عن بعضهما هذه المسافة ويحملان الاسم نفسه. فلعل هذه الصلة لم تكن مصادفة، ولعل تمثال سيرابيس أحضر من سينوب نتيجة لرؤيا، فقد كانت الأحلام توجه الناس في العصور القديمة، في مثل هذه الأمور. ولذلك يحتمل أن عقل صاحب الرؤيا، عندما كان في شغل بالبحث عن الصورة التي يقدم فيها إله سينوبيون منف للإغريق، اتجه نحو سينوب بتأثير التشابه بين الاسمين. ولا جدال في أن الغموض الذي كان يحيط بأصل سيرابيس وتمثال، ويتردد صداه في روايات المرخين القدماء وآراء المرخين الحديثين، لينهض دليلاً على مهارة صناع العبادة الجديدة، الذي تعمدوا دون شك أن يحيطوها بالغموض والأسرار، لكي لا تبدو ديانة مصطنعة، ولكي تستهوي الأفئدة بأسرارها وغموضها.


سيرابيس يقدم الإغريق في صورة إغريقية

وسواء أكانت سينوب مصدر تمثال سيرابيس أم لم تكن، فإن مصدر تمثال الإله يجي ألا يؤثر في أن أصل الإله نفسه مصري. وسواء اصنع التمثال في الأصل لمعبد سينوب أم لمعبد الإسكندرية، وسواء أكان برباكسيس هو الذي صنع التمثال الأصلي لسيرابيس أم لم يكن، فإن الصورة التي قدم بها سيرابيس للإغريق إغريقية بحت. وهي ترينا الإله مرتدياً ملابس إغريقية ـ خيتون (Chiton) طويلاً تعلوه هيماتيون (Hination) فضفاضة ـ وفي شكل يشبه عن قرب الإله زيوس، وقد علت وجهه مسحة من الهدوء والكآبة، فإن لحيته الوقور، وشعر رأسه الكث الذي تظل خصلة الجبهة، ونظرته الساحرة تكسبه منظرًا ينم عن حزن صادر من أعماق قلب كريم. ويحمل الإله فوق رأسه المد، أي السلة المقدسة التي كانت مألوفة كذلك في طقوس ديمتر الإله فوق رأسه المد، أي السلة المقدسة التي كانت مألوفة كذلك في طقوس ديمتر الأليوسية، وتطل سنابل قمح ذهبية من هذه السلة التي تزينها ثلاث أشجار زيتون مصورة في شكل بارز. ويجلس الإله على عرش، وتعتمد يمناه على صولجان، على حين يبدو أن يده اليسرى تهدئ روع الكب كربروس (Carberos) الذي له ثلاث رءوس نابحة، ويلتف ثعبان حول جسمه. ويشير كل ذلك إلى أن سيرابيس صور للإغريق في صورة بلوتو، إله العالم الآخر عندهم، ذلك الإله الذي كان يسيطر على الأموات في المجاهل السفلى، لكنه كان أيضاً الإله الذي يضمن خصوبة التربة، وذلك نتيجة للجمع بين أفكار منتشرة في الديانات القديمة. وإذا لم يوجد لتعريف سيرابيس سوى الشكل الذي نراه في تماثيله، فلاشك في أننا لا نرى فيه إلهًا مصريًا. ومع ذلك فإن شمبليون تعرف في هذا الإله الإغريقي على الإله أو سور حابي، الذي كان يعبد في منف.

تشييد معبد لسيرابيس في الإسكندرية:

وكان طبيعيًا أن يتبع إنشاء العبادة الجديدة تشييد معبد لكبير آلهتها في الإسكندرية وإقامة تمثال له في هذا المعبد. وقد سبق أن أوردنا ما رواه تاكيتوس من أن بطلميوس الأول أحضر تمثال سيرابيس من سينوب، وأقامه في المعبد العظيم الذي سيده في الإسكندرية على أطلال معبد قديم إليزيس وسيرابيس. ولكن على حين أننا نفتقر إلى الأدلة الأثرية التي تؤيد رواية تاكيتوس وتثبت أن بطلميوس الأول أو حتى الثاني شيد معبدًأ لسيرابيس في الإسكندرية، تقطع الأدلة الأثرية، على نحو ما سنرى، بأن بطلميوس الثالث هو الذي شيد المعبد الكبير لهذا الإله. فكيف يمكن إذن تفسير رواية تاكيتوس؟

لما كان من الواضح الآن أن بطلميوس الأول لم يشيد معبدًا لسيرابيس في الإسكندرية، وكان قد عثر في المكان لاذي أقيم عليه فميا بعد معبد سيرابيس على قاعدة تمثال تحمل نقشًا يتضمن إهداء لسيرابيس ومكتوبًا بحروف يدل شكلها على أن النقش يرجع إلى النصف الأول من القرن الثالث أي إلى ماقبل الوقت الذي شيد فيه السيرابيوم، وكان أريانوس يحدثنا بأ، الإسكندر وضع أساس معبد لإيزيس في الإسكندرية، فإننا نعتقد أنه عندما أنشأ بطلميوس الأول العبادة الجديدة وأحضر تمثال سيرابيس أقام هذا التمثال في المعبد الذي شيد لإيزيس منذ عهد قريب يدلا من إقامته في معبد جديد لسيرابيس، وذلك من ناحية لأن إيزيس كانت أحد أعضاء ثالوث العبادة الجديدة، ومن ناحية أخرى بسبب شدة حرص بطلميوس على المال. وبطبيعة الحال أصبح هذا المعبد يعرف منذ ذلك الوقت باسم معبد إيزيس وسيرابيس.

ولما كان من المعروف أن بطلميوس الأول الذي أنشأ العبادة الجديدة واختار تمثال سيرابيس، وكان من المعروف كذلك أنه أقيم لسيرابيس معهد كبير مكان معبد إيزيس وسيرابيس القديم، فلابد من أنه عبد مرور فترة طويلة تصور كثير من القدماء، وتاكيتوس من بينهم أن بطلميوس الأول هو الذي أنشأ المعبد الكبير كذلك.

والحفائر التي قام بها متحف بلدية الإسكندرية قد كشف في 27 من أغسطس سنة 1943 وفي 31 من ديسمبر سنة 1944 وفي 30 من أ:توبر سنة 1945 عن ثلاث مجموعات من اللوحات: الأولى تحت أساس الركن الجنوبي الشرقي لسياج السيرابيوم البلطمي، والثانية تحت أساس الركن الجنوبي الغربي لهذا السياج، والثالثة تحت أساس الركن الجنوبي الشرقي في المعبد نفسه. وتتألف كل من المجموعتين الأولى والثانية من عشر ولحات، خمس منها من الزجاج وواحدة من كل من المواد التالية: الذهب والفضة والبرونز والخزف وطمي النيل. وتتألف المجموعة الثالثة من أربع لوحات: إحداها من الطمي والثلاث الباقية من الزجاج. وكل اللوحات تحمل نقشأ واحدًا مكتوبًا باللغتين الهيروغليفية والإغريقية فحواه أن بطلميوس الثالث شيد لسيرابيس معبدًا وحرمًا مقدساً .

وقد أثبتت الحفائر أن سياج المعبد البطلمي كان يمتد من الشمال إلى الجنوب حوالي 175.70 متراً ومن الشرق إلى الغرب 87 مترًا، وأن هذا السياج كان يتألف من جدار خارجي يمتد في موازنة من الداخل بهو أعمدة يظن أنها كانت أيونية، وأن المعبد ذاته كان يقع في الجزء الشمالي من حرمه حيث توهم بوتي (Botti) أنه كانت توجد بقايا معبد إيزيس. وهكذا يبين أن سيرابيوم الإسكندرية كان يشبه معبدي أدفو ودندره المصريين من حيث تشييده في الجزء الشمالي من حرمه، وكذلك من حيث امتداد محوره من الشمال إلى الجنوب. ومن المؤسف حقًا أنه لم يعثر على شيء من مباني المعبد التي كانت مقامة فوق الأرض وإن كان قد عثر في طرفه الجنوبي على بعض الدهاليز والغرف التي نحتت في الصخر تحت الأرض، وكانت تستخدم لأغراض دينية ولتخزين كتب المكتبة الصغرى، أما طرفه الشمالي فلم يتيسر عمل حفائر فيه بسبب وقوعه تحت جزء من جبانة باب سدره. ويستخلص من المصادر القديمة أن هذا السيرابيوم كان معبدًا عظيمًا يقوم فوق ربوة مرتفعة ولذلك كان يؤدي إلى سياجة المقدس سلم كبير بتألف من مائة درجة، وأنه كانت له مداخل شامخة وأعمدة ضخمة تحيط بجهاته الأربع، وأنه قد وضع في قدس الأقداس تمثال لسيرابيس دقيق الصنع ومرصع بالأحجار الكريمة. فلا عجب أن كان هذا المعبد يعتبر أعظم المعابد في خوض البحر الأبيض المتوسط حتى أنه كان لا يفوقه معبد الكابيتول في روما.

ولما كانت وثيقة بردية من العام الرابع من عهد بطلميوس الثالث تشير إلى احتشاد الزوار في معبد سيرابيس الذي شيده المعماري بارمنيسكوس، فقد يعترض بأنه إذا فرض جدلاً أنه شرع في بناء هذا المعبد بمجرد ارتقاء بطلميوس الثالث العرش، فإنه مع ذلك كان يتعذر إتمام مثل هذا البناء الشامخ في خلال أربع سنوات. وقد كنا نقبل هذا الاعتراض لو كان هناك ما يستدل منه على أن الزوار لم يحتشدوا فعلاً إلا داخل بناء للعبد ذاته، لكن الوثيقة سافة الذكر لم تقل بذلك وليس في مضمونها ما يمنع من أن يكون الزوار قد احتشدوا داخل سياج المعبد وليس داخل مبنى المعبد ذاته.

الصفات التي أغدقت على سيرابيس:

لقد كان سيرابيس إذن أوزيريس المصري وبلوتو الإغريقي، ومثل أوزيريس شبهه الإغريق بديونيسوس، وفقًا لأفكار دينية ترجع على الأقل إلى أيام هرودتوس ولإكساب سترابيتس مكانة عظمى نشر في الناس أن هذا الإله يقوم بمعجزات جليلة لأنه يشفى للرضى، فأصبح معبده الإسكندري كعبة طبية. وكان من بين الذين شفاهم أشخاص عظام، فقد قيل إن د الفليري مستشار بطلميوس الأول أصابه العمى، ولم يسترد بصره إلا بفضل سيرابيس. ولذلك وجدت هناك رابطة بينه وبين إمحوتب، وشبه بالإله أسكابيوس (Asklepios) إله الشفاء عند الإغريق، وفيما نعلم لم ت كن لأوسرجابي في منف هذه الصفة. وقد عثر على خطاب أرسله إلى أبولونيوس، وزير مالية بطلميوس الثاني، أحد المتعبدين الذين شفاهم سيرابيس. وفي هذا الخطاب. التمس كاتبه من أبولونيوس أن يساعده على إنشاء معبد لسيرابيس بالقرب من البحر وبما أن سيرابيس نصب رئيسًا لآلهة الإغريق في الإسكندرية بل في مصر قاطبة، فقد حق له أن يخلف زيوس ويحرز لقب زيوس ـ سيرابيس. ولما كان زيوس يشبه بآمون رع، فقد اكتسب صفات آمون رع، وأصبح يدعى سيرابيس زيوس آمون رع أو زيوس آمون سيرابيس. وحيث أن رع كان إله الشمس المصري، فإن زيوس آمون سيرابيس شبه بإله الشمس الإغريقي هليوس (Helios). ولكي يثبت للناس أن سلطان سيرابيس يمتد فوق السماء والأرض والبحر، فإنه شبه أيضاً بالإله بوسيدون (Poseidon) إله البحر.

الإغريق والديانة الجديدة:

وجملة القول أن سيرابيس قدم إلى الإغريق في صورة إله إغريقي، وخلعت عليه صفات الآلهة الإغريقية. ومع ذلك لما كان الإغريق قد أحضروا معهم ديانتهم ومذاهبهم، وكانت الديانة الجديدة ديانة مصطنعة حديثة العهد، فإن القرائن تشير إلى أنها لم تصادف هوى في نفوسهم أول الأمر.

ولكن يجب ألا ننسى أن كيان أغلبهم ومستقبلهم ورفاهيتهم كانت تتوقف على رضاء الملك عنهم، إذ كان كثيرون منهم يخدمون في الجيش، وكثيرون غيرهم يتولون مناصب حكومية، وكانت ترقيتهم جميعًأ بل كان احتفاظه بمناصبهم رهنًا بمشيئة الملك. فلا عجب أنه عندما ما أدرك الإغريق اهتمام الملك بالديانة الجديدة أخذ الموظفون منهم يقبلون على الديانة الجديدة، والصبح الناس يعتبرون سيرابيس الإله الذي يستطيع رفع شأنهم. وحسبنا أن يزويلوس (Zoilos) من اسبندوس كتب إلى أبولونيوس وزير المالية مذكرًا إياه بأنه في وسع سيرابيس أن يزيده حظوة لدى الملك. وما كاد ينتصف القرن الثالث حتى كان الإغريق بوجه عام قد أقبلوا بحماس على عبادة ثالوث الإسكندرية.

ولم يقف رجال الجيش والموظفون عند حد التعبد إلى هذا الإله بل عملوا على نشر عبادته، ليستمتعوا بالصحة والعافية فضلاً عن الفوز بعطف الطبالمة وما يستتبعه ذلك من الخير العميم.

وترينا وثائق زينون البدرية اهتمام الطبالمة بهذه العبادة في عهد بطلميوس الثاني. ومنذ عهد بطلميوس الثالث كان "القسم الملكي" الذي قضت الحكومة بأن يستخدمه وبسيرابيس وبكل آلهة مصر والآلهات الأخرى. أما القسم الذي كان الإغريق يستخدمونه فقد حذفت منه كلمة مصر.

ولم تلبث عبادة سيرابيس أن انتشرت من الإسكندرية في حوض البحر الأبيض المتوسط، بل وصلت حتى الهند، وأصبحت أهم العبادات الغمضة التي غزت عالم بحر إيجة. فكانت المعابد تقام في مدينة بعد أخرى، إما لبرايس وحده أو ليرابيس وإيزيس والطريقة التي انتشرت بفضلها عبادة سيرابيس في بحر إيجة ×ير دليل على أن الطبقة الحاكمة هي التي قامت بنشر هذه العبادة خارج مصر مثل ما علت داخل. ولا يفوتنا أن شير هنا إلى ما كان لانتشار عبادة سيرابيس من الأثر في دعم مكانة مصر وتأييد سياستها ونحن نتفق مع برادي في أنه بأنتهاء عصر بلطميوس الثالث لم تعد مصر مركز نشر عبادة سيرابيس في العالم الإغريقي. فمن ناحية أخذ نفوذ مصر الخارجي في التقلص منذ عصر بطلميوس الرابع، ومن ناحية أخرى تأثرت مكانة سيرابيس في مصر ذاتها بعاملين: أحدهما، العناية الشيديدة التي أولاها بطلميوس الرابع لعبادة ديونيسوسفأراد أن يجعله الإله الأكبر للإمبراطورية البطلمية. والعامل الآخر، أن ثورات المصريين على البطالمة منذ عهد بطلميوس الرابع حفزت الإغريق إلى الالتفاف حول الطالمة والاهتمام بعبادتهم إلى حد جعل الملك الحاكم يحتل مكانة سيرابيس في العبادة بين الإغريق بوصفه كبير آلهتهم. وليس معنى ذلك بطبيعة الحال نوقف انتشار عبادة سيرابيس خارج مصر أو تلاشيها داخل مصر وإن كنا لانجد أي إهداءات إغريقية لسيربيس من تاريخ لاحق لبداية عهد بطلميوس فيلومتور. وقد وجدت عبادة سيرابيس تأبيد جديد في القرن الأول بعد الميلاد، عندما استخدم أباطرة الرومان نفوذهم منذ عهد الأباطرة الفلافبين لنشر عبادة سيرابيس وإيزيس في روما وفي الإمبراطورية الرومانية.

لقد أصبح سيرابيس أحد الآلهة التي سيطرت على عقول الإغريقي لافي مصر وحدها بل في كل أنحاء العالم الإغريقي أيضاً، إذ أنه أكتسب عند الإغريق من المكانة مثل ما كان للأم العظمى وميثراس (Mithras) في آسيا الصغرى، والشمس في سوريا، وسابتزيوس (Sabatzios) في تراقيا. وليس أدل على مكانة سيرابيس لدى إغريق مصر من أنه كان كبير آلهتهم، وأن معبده في الإسكندرية كان مقر المكتبة الصغرى ومركز محفوظات الدولة. وتحدثنا أوراق البردي الواردة من البهنسة (Oxyrhynchos) عن دعوات إلى ولائم تقام تحت رعايته في السيرابيوم وفي أماكن أخرى. وإذا كانت كل الوثائق التي تحدثنا عن هذه الدعوات من القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، فإننا نسمع أنه بين عام 220 ,166 ق.م. كانت جامعات من اتباع هذا الإله الأوفياء الذين يعيشون في ديلوس يلتقون في أيام معينة كل شهر في معبد سيرابيس. وكثيرًا ما كان الناس يوجهون أدعيتهم إليه في خطاباتهم الخاصة. وإذا كانت صورة كثيرة على الخواتم، فإن تماثيله البرونزية والفخارية قليلة بالرغم من رخص هاتين المادتين، اللتين كانت تصنع منهما التماثيل بكثرة للآلهة الأخرى. وقد استخلص الباحثون من ذلك أن الصفات التي أغدقت على سبرايس رفعته إلى مرتبة أبعدته عن عامة الشعب، فلم يروا فيه سوى الإله الأعظم الرسمي الذي اكتفى الناس بتوجيه الدعوات وتقديم القرابين إليه، ولم يتخذوا منه رفيقًا لهم في حياتهم الخاصة، يقيمون له التماثيل في بيوتهم لكي يكون ملاكهم الحارس. والواقع أن عبادة سيرابيس لم تكتسب ما كان لها من الأهمية، إلا نتيجة للرعاية التي أولتها الحكومة إياها، ومن ثم فإنه لم يكن لإقامة شعائر هذه العبادة في العبادة أثر في حياة الناس الخاصة.

المصريون وسيرابيس:

وإذا كان سيرابيس قد قدم للإغريق في صورة إغريقية وأغدقت عليه صفات إغريقية وكانت تقام له طقوس إغريقية، فإن المصريين لم يروا فيه سوى إلههم القديم أوزيريس أبيس الذي ظل بالنسبة لهم إلهاً مصريًا سميعًأ في شكله وصفاته وطقوسه.


2- إيزيس

أصلها ومكانتها:

لما كانت المعتقدات الدينية بين المصريين والإغريق تقضي بأن يكون لسيرابيس زوجة، فقد استقر رأي صناع الديانة الجديدة على اختيار إيزيس لتقوم بهذا الدور. ويبدو لنا أن هذا الاختيار كان طبيعيًا، فإنه حسب تعاليم الديانة المصرية القديمة كانت إيزيس زوج أوزيريس، وقد عرفنا أن سيرابيس لم يكن إلا صورة من إوزيريس. ويضاف إلى هذا أن إيزيس كانت تتمتع لدى المصريين طوال عهد الأسر بمكانة فاقت ما كان لآلهات مصر الأخرى. ونستدل على ذلك من كثرة الإشارة إليها في النصوص الهيروغليفية، ومن انتشار معابدها في جميع أنحاء البلاد، ومن تقديم كافة الطباقت القرابين والهبات إليها.

ومنشأة هذه المحبة التي فاضت بها قلوب المصريين نحو إيزيس، أنها كانت في نظرهم المثل الأعلى للأم الحنون والزوج الوفية، التي تفانت في حب أبنها حورس وفي الإخلاص لزوجها أوزيريس ، فإنها عندما قتل ست أخاه أوزيريس، أعادته إلى الحياة بفضل قواها السحرية، وكلفت بتربية ابنها حورس بعيدًا عن شرور عمه حتى نما وترعرع وانتقم لأبيه من عمه. وكانت قصة إيزيس وأوزيريس وحورس من أشهر أساطير الديانة المصرية، وكان لها أثر أي أثر في نفوس المصريين الذي اعتقدوا أن إيزيس ستمنحهم حياة ثانية كما منحت زوجها "أوزيريس". وكانت إيزيس تصور للمصريين منذ أيام الفراعنة في شكل إمرأة تحمل على رأسها أحيانًا رمز اسمها ، وهو العرش، وأحيانًا أخرى قرني بقرة يتوسطها قرص الشمس وتمسك بيدها صولجانًا من البردي.

الإغريق وإيزيس:

وكان الإغريق منذ القدم يشبهون إيزيس بديمتر (Demeter)، وفي عهد البطالمة كانوا يشبهونها كذلك بأفرودوبتي وبهيرا (Hera) وبأثينا (Athena) فلا عجب في أن أسينوي الثانية التي تشبهت بأفرودبتي قد تشبهت كذلك بإيزيس، فكانت نقوش الإهداءات تصفها بأنها أرسينوي الإلهة فيلادلفوس، أو أنها إيزيس أرسينوي فيلادلفوس. وكان آنية القرابين التي تحمل إهداء لأرسينوي فيلادلفوس إيزيس شائعة بين نساء الإسكندرية. وترينا الأدلة الأثرية أن الكثيرات من ملكات وأميرات البطالمة قد تشبهن بإيزيس وصورن في شكلها بطراز إغريقي.

وهكذا نتبين أنه كان لتلك الأميرات منذ عهد أرسينوي الثانية شأن يذكر في نشر عبادة إيزيس بين الإغرريق. فلم يأت منتصف القرن الثالث حتى كانت إيزيس قد احتلت مكانًا بارزًا بين الإغريق. ومنذ عهد بطلميوس الرابع، قدر ما تضاءلت مكانة سيرابيس ازدادت مكانة إيزيس، فلم يأت آخر عهد بطلميوس السادس فيلومتور حتى كانت قد أصبحت بدلاً من سيرابيس أهم آلهة ثالوث الإسكندرية.

إيزيس تقدم للإغريق في صورة إغريقية:

ومثل سيرابيس، قدمت إيزيس للإغريق في صورة إغريقية، لكن هذه الألهة تختلف عن سيرابيس في يئين: وأحدهما أنها كانت ت حمل في كل إقليم ألقا[ًا محلية خاصة، والآخر أن الشكل الذي قدمت به للإغريق كان أكثر تمصرًا من شكل سيرابيس لكنه لم يكن دائمًا واحدًا مثل تماثيل هذا الإله، إلا أن الاختلاف بين تماثيل إيزيس لم يكن بيتًا. وكانت إيزيس تصور عادة مرتدية ملابسها، وواقفة أو جالسة على عرش ترعى طفلها هاربوكراتس، وتحمل فوق رأسها تاجًا محلي بقرني بقرة وبقرص الشمس وبغطاء رأس في شكل أحد الطيور المقدسة التي كانت من خواص الآلهات المصريات. وإذا كنا نلمس أحيانًا في ثيابها شيئًا من تأثير بعض الثياب الإغريقية، فإننا برغم ذلك نعتقد أنها لم تكن سوى ثياب مصرية أدخل عليها تعديل طفيف.

المصريون وإيزيس:

وكما كان المصريون لا يرون في سيرابيس غير أوزيريس أبيس إله منف، لم يروا أيضاً في إيزيس إلا زوجة أوزيريس وأم حورس، فلم يعبدوا طوال عصر البطالمة ذلك الطراز من إيزيس الذي ظهر في العصر الهلينيسي وكان الإغريق يعبدونه وإنما استمسكوا بآلهتهمم القديمة فبقيت إيزيس بالنسبة لهم مصرية نحت في شكلها وصفاتها وطقوسها.

مراكز عبادة إيزيس:

وكان أهم مقر لعبادة إيزيس منذ عهد البطالمة هو جزيرة فيلة، حيث شيد البطالمة لها وللآلهة المتصلة بها معابد عظيمة، قدر لها أن تكون آخر معاقل الوثنية في عهد الديانة المسيحية بمصر. ومن المحتمل أن البطالمة أقاموا لإيزيس عدة معابد في الإسكندرية وما يجوارها، حيث عبدها الناس مع سيرابيس وكذلك اعتبارها إلهة فاروس الحامية. وقد كانت لإيزيس معابد في طول مصر وعرضها كذلك، نذكر منها على سبيل المثال المعبد الذي شيده لها أبولونيوس في فيلادلفيا بالفيوم. ومما يجدر بالملاحظة أن وثائق عصر البطالمة والرومان تردد أسمها أكثر من أسماء الآلية الأخرى، كما نلاحظ أن تماثيلها البرونزية والفخارية كانت وفيرة وأن ظهورها على الخواتم غير قليل.

ولم تكن عبادة إيزيس مقصورة على المصريين والإغريق في مصر، بل سرعان ما انتشرت هذه العبادة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وتبوأت إيزيس ذات الأسماء المتعددة مكانة يحتمل أنها بزت مكانة كافة آلهة العصر الهلينيسي. وكان الإغريق يشبهون إيزيس بكل إلهة أخرى وبكل سيدة رفعت إلى مصاف الآلهة، ويعتبرونها: "سيدة الجميع، البصيرة، القهارة، ملكة العالم المأهول، نجم البحر، تاج الحياة، مانحة القانون، المنقذة، منبع الرشاقة والجمال، مصدر الحظ والثراء، ومن الصدق والحب" ، لأنها وهبت العالم فنون الحضارة ووضعتها تحت رعايتها.


3- هاربوكرانس

أصله وصفاته:

ولم يجد صناع الديانة الجديدة صعوبة في استكمال ثالوث الإسكندرية المقدس، بعد أن وقع اختيارهم على أوزيريس أبيس ليكون الإله الأكبر في هذا الثالوث، وعلى إيزيس لتقوم بدور زوج الإله، فإنه لاستكمال هذا الثالوث كان طبيعيًا أن تتجه الأنظار إلى الطفل الذي أنجبته إيزيس من زوجها أوزيريس، وعرفه المصريون باسم حورس الصغير، لكن الإغريق حرفوا اسمه المصري "حاربيخراد" وأطلقوا عليه "هاربوكرانس". وكان هذا الإله إحدى الصور العديدة التي عبد تحتها الإله حورس، الذي عرف في مصر منذ أقدم العصور، قبل اتحاد الوجهين القبلي والبحري. فقد كان للإله حورس صورة متعددة في مختلف أقاليم البلاد، أهمها صورتان تمثل إحداهما حورس الأكبر في شكل رجل له رأس صقر أو أسد ويلبس تاج الوجهين القبلي والبحري، ويمثل الأخرى حورس الصغير في شكل طفل له ذؤابة وقد وضع أصبعه في فمه إشارة إلى حداثة سنة. وقد كان حورس الأكبر أعظم الآلهة التي تحمل اسم حورس، وكان إله أيتوبوليس، أما حورس الطفل فإنه كان إله بوتو (Boto) ولم توجد أية صلة بين هذين الإلهين من حيث النشأة، لكن حورس الطفل استفاد من نفوذ وسلطان. ولما كان آمون رع، عندما أصبح كبير آلهة مصر، قد شبه بآلهة محلية كثيرة وحل مكانها، وكان حورس الأكبر قد خلف آمون رع في كل مكان، فإن هاربوكرانس، باعتباره خليفة حورس، اكتسب صفات الآلهة المحلية التي كان آمون رع قد شبه بها.

هابروكرانس والإغريق والمصريون:

ونتيجة للصفات التي ورثها حورس الطفل عن حورس الأكبر، شبه بالبطل الإغريقي هرقل وبالإله الإغريقي أبولو، وقدم للإغريق في صورة إغريقية، ولم يلبث الإغريق أن أقبلوا على عبادته.

لكنه لا إشراك حورس الطفل في ثالوث الإسكندرية، ولا تشبيهه بالآلهة الإغريقية حرمه في نظر المصريين صبغته المصرية، فإنه بقى بالنسبة لهم مصريًا صميمًا مثل أمه إيزيس.

وتشير كثرة تماثيله الصغيرة وصوره على الخواتم إلى انتشار عبادته ومحبته بين الناس ولا غرو فقد كان يمتاز بما ورث عن حورس الأكبر من العطف الإنساني وبعدم إثقال كاهلة بما كان لسيرابيس من العظمة، وبما كان يحوط عبادة إيزيس من الأسرار. ولذالك كان أقرب آلهة هذا الثالوث إلى قلوب الناس عامة، وأعظمهم شأنًا بين الطبقات الوضيعة خاصة.

قرن عبادته بعبادة آلهة أخرى:

وإلى أن كشفت حفائر متحف بلدية الإسكندرية في 28 من أكتوبر عام 1945 عن الأدلة على أن بطميوس الرابع شيد معبدًا لهذا الإله، لم نعرف أن أي معبد شيد خصيصًا من أجله. وقد ساعد ذلك على الاعتقاد بأن عبادته في المعابد كانت تقرن دائمًا بعبادة آلهة أخرى، إذ نجده في فيلة مقترنًا بإيزيس وسيرابيس، وفي فقط بإيزيس وبان، وفي الفيوم بإيزيس وسيرابيس وسوخوس، إلا أنه كان له كهنة يقومون خاصة بطقوس عبادته، كما أن القرابين كانت تقدم له منفردًا . ولعل إشركاه دائمًا مع أمه إيزيس يرجع إلى أنه كان طفلاً لا يمكن إبعاده عن أمه.


مدى نجاح الديانة الجديدة:

لقد نجحت الديانة الجديدة من حيث فوزها بعدد كبير من الأتباع والأنصار، ولكن نجاحها الحقيقي يجب أن يقاس بمقدار وما أفلحت في تأدية الغرض المنشود من إقامتها، وهو ربط المصريين والإغريق بإزالة الفوارق أو على الأقل تضييق شقة الخلاف بين معتقدات كل من الفريقين. حقًا إن المصريين كانوا يعبدون آلهة ثالوث الإسكندرية ولكن في ثوبها المصري، ولأنها كانت في عداد الآلهة التي ظلوا على ولائهم لها. وكذلك اعتنق الإغريق الديانة الجديدة لأن آلهتها قدمت لهم في ثوب إغريقي، بل على أنها نظائر لآلهتهم، ولم يقفوا عند هذا الحد بل كانوا ـ كما مر بنا آنفًا ـ يعبدون بعض الآلهة المصرية الأخرى تحت أسماء إغريقية وبعضها بأسمائها المصرية. وليس من العسير تعليل احترام الإغريق لآلهة المصريين، فقد أدخل على عقولهم أن تتلك الآلهة لا تختلف في شيء عن آلهتهم. وفضلاً عن ذلك فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ضيوفًا على البلاد، ولذلك كان من إصالة الرأي أن يستجدوا عطف الآلهة التي تشملها بالرعاية. إلا أنه حينما كان الإغريق ينزلون في كثرة، سواء أكان ذلك في المدن الإغريقية أم خارجها، كانوا يقيمون المعابد لآلهتهم القديمة، مثل زيوس وأبولو وديمتر. وبكاد يكون من المحقق أن الديانة الحقيقية للإغريق طوال عصر البطالمة كانت إلى حد عبادة المدن التي أتوا منها، وإلى حد أكبر عبادة المذاهب ذات الأسرار التي كانت معروفة في بلاد الإغريق وبين أغريق آسيا وانتشرت إذ ذاك في كل أنحاء العالم الإغريقي، مثل مذهب ديمتر ومذهب أدونيس ومذهب ديونيسوس تزاجريوس.

ولاشك في أن الديانة الجديدة تمتعت بأهمية عظمى بفضل رعاية الملوك لها، لكنه لم يكن مقدرًا لها أن تنجح في تحقيق الغرض الذي أنشئت من أجله، ولاسيما أن الوسيلة التي اتبعت لتنفيذ الفكرة كفلت لها فشلاً محققًا، إذ أن تقديم الآلهة نفسها للإغريق في صورة إغريقية والمصريين في صورة مصرية كان من شأنه توكيد الخلافات القائمة بين الفريقين وإذا قيل: وهل يعقل أن يكون الاختلاف في الصورة سببًا في اختلاف العقائد؟ وكيف يمكن أن نتبقى هناك خلافات دينية بين الإغريق والمصريين بعد إفهامهم أنهم يعبدون الآلهة نفسها؟ فإنه يمكن الرد بأن الاختلاف في الصورة مرده في الواقع إلى اختلاف جوهري في العقيدة، وبأنه على كل حال لا يجوز الإقلال من أهمية الفوارق الدينية مهما تكن يسيرة ولا من خطورة النتائج المترتية عليها ويجب أن نذكر أن أتباع الديانات السماوية يعبدون جميعًا الله سبحانه وتعالى ومع ذلك تختلف عقائدهم الدينية اختلافًا تسبب يومًا في حروب شعواء.

إنه لم توحد إلا وسيلة واحدة لإزالة النفور الديني بين الفريقين وهي أن يعتنق أحدهما ديانة الآخر. ولما كان ذلك أمراً متعذر عندئذ فإنه لم يوجد إذن سبيل للقضاء على ذلك النفور الذي كان يزيده حدة فوارق الجنس واللغة والعادات فضلاً عن الفارق في المعاملة التي كانت الأسرة الحاكمة تكيلها لكل من الفريقين. ورب معترض بقول: وكيف يتمشى القول بأن الإغريق استمسكوا بديانتهم مع القول بأن الضعف تطرق إلى إيمانهم بآلهتتهم. والرد على ذلك أن الإغريق استمسكوا بديانتهم لأنها كانت مظهرًا من مظاهر حضارتهم التي كانوا يعتزلون بها أشد الاعتزاز ويعتبرونها أسمى الحضارات.

ولا أدل على هذا الإخفاق من الرأي الذي نودي به منذ بضع سنين، وفحواه أن هدف بطلميوس الأول من إنشاء ديانة سيرابيس قد أسيء فهمه، لأنه لم يكن داخليًا أو بعبارة أخرى التأليف بين قلوب إغريق مصر وأهليها الوطنيين بقدر ما كان إقامة إله للإمبراطورية البطلمية يرعاها ويدعم بنيانها؛ إذ أن الإغريق حين حلت بهم الكوارث فضاقوا ذرعًا بشرور الدنيا وتملكتهم رغبة شديدة في اعتناق ديانة تضمن لهم التمتع في العالم الآخر بحياة لا تعتورها نقائص الدنيا، أخذوا ينشدون ضالتهم في الديانات الشرقية. ومعنى ذلك أن بطلميوس أراد أن يدعم إمبراطوريته عن طريق تحقيق رغبة الإغريق بإمدادهم بآله مصري تكفل لهم عبادته ما يبتغونه من السعادة السرمدية. وإذ صح أن هذا قد كان حقًا هدف بطلميوس فإنه أيضاً باء بالفشل، ذلك أن قوة البطالمة وحدها هي التي كانت سند إمبراطوريتهم، ولا أدل على ذلك مما رأيناه من أنه عندما تلاشت قوتهم لم يفقدوا إمبراطوريتهم فحسب بل فقدوا أيضاً ملكهم ودولتهم.

وعلى كل حال فإن صاحب هذا الرأي لم يلبث أن عدل عنه إلى الرأي الشائع عن الهدف من وراء إنشاء عبادة سيرابيس، وقرن ذلك بأن هذه العبادة أخفقت في تحقيق هدفها.



هناك تعليق واحد:

calhaunmabee يقول...

Jammin' Jars Casino - Mandir-Jars Casino and Resort
Jammin' Jars Casino and Resort Get in on the fun in Jammin' 남원 출장안마 Jars Casino and 광주 출장마사지 Resort! The 순천 출장샵 Jammin' Jars Casino & Resort 거제 출장안마 has 구미 출장샵 a new restaurant