الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- بطلميوس الخامس

بطليموس الخامس طباعة أرسل لصديق

بطليموس الخامس بطليموس الخامس


مصر تفقد إمبراطوريتها

أجاثوقلس يفوز بالوصاية على الملك الطفل:

أننا لا نستبعد أن يكون فيلوباتور قد توفي قبل 28 من نوفمبر عام 203 وأن يكون نبأ وفاته قد أخفى ولم يعلن إلا بعد أن قتلت أرسينوي نتيجة لما نشب بينها وبين أجاثوقلس وسوسيبيوس من خلاف على الوصاية على الملك الصبي، غير أننا نستبعد أن يكون هذا الصراع بين فريقين غير متكافئن قد دام حوالي سنة من عام 204 حتى أواخر عام 203 .

ولذلك أرجح أن وفاة فيلوباتور لم يكتم نبؤها عن الناس إلا لفترة قصيرة ارتكبت في أثنائها جريمتان هما قتل أرسينوي وتزييف وصية فحواها أن فيلوباتور عين سيبيوس وأجاثوقلس وصيين على ابنه .

أجاثوقلس لم يأمل كثيرًا في نتيجة هذا المسعى، بل يقال أنه لم يرسل مبعوثه إلى روما الأليقصية عن مصر. ولعل كل آمال أجاثوقلس كانت معقودة على مقدونيا مما يدل على أنه تابع سياسة سوسيبيوس، ولذلك فإنه عهد إلى بطلميوس بن سوسيبيوس بأن يعقد مع فيليب الخامس معاهدة تتضمن زواج ابنته من بطلميوس الخامس، والحصول على مساعدة فيليب ضد أنطيوخوس. ولا يبعد أن يكون فيليب قد وعد لقاء هذه المساعدة بمبالغ كبيرة، وبالنزول له عن بعض ممتلكات مصر. وبعد أن تخلص أجاثوقلس على هذا النحو من الشخصيات التي كان يخشى جانبها، وهدأ من روع الجيش بما قدمه إليه من الأموال، ملأ المناصب الشاغرة بأحط العناصر، وأستأنف حياته الماجنة العابثة.


انطيوخوس وفيليب يستغلان ضعف الحكومة الفاسدة:

ولقد صمم أنطيوخوس وفيليب على استغلال ضعف تلك الحكومة الفاسدة البغيضة إلى الإكندريين، ومن المحتمل أن يكون أنطيوخوس هو الذي خطأ الخطوة الأولى، حوالي الوقت الذي وصلت فيه البعثة البطلمية إلى مقدونيا، فعرض على فيليب اقتسام ممتلكات مصر الخارجية فيما بينهما. وقد كانت المفاوضات سرية، ولذلك لم تعرف بدقة شروط الاتفاق بين أنطيوخوس وفيليب، ولكننا نستبعد ما يذهب إليه ليفيوس ويوستينوس من أن الاتفاق كان يشمل مصر ذاتها، فقد كان يتعذر اقتصامها. ونميل إلى أن الاتفاق اقتصر على اقتسام الممتلكات المصرية بحيث يحصل كل من لملكين على أقرابها إلى مملكته، فيأخذ فيليب ما بقى لمصر من جزر القوقلاد وممتلكاتها في تراقيا والدردنيل، ومن المحتمل أيضًا قورينايئة؛ ويأخذ أنطيوخوس جوف سوريا وما تبقى لمصر من ممتلكات في آسيا الصغرى.

ويبدو أن كلاً من أنطيوخوس وفيليب كان يطمع في أن يكون غرم مصر غنمه وحده، لكن الظروف اضطرتهما إلى أن يقنعا مؤقتًا باقتسام ممتلكات مصر الخارجية. ذلك أن خوف أنطيوخوس من فيليب منعه عندئذ من كشف القناع عن أطماعه كلها، واضطره كارهًا إلى النزول له عن أقاليم تراقية وأسيوية كان يعتبرها من حق الإمبارطورية السلوقية، ولذلك لم يكن مخلصًا في الاتفاق الذي عقده مع مقدونيا. وكان فيليب يدرك ذلك كله، ويخشى ازدياد اتساع الإمبارطورية السلوقية التي أصبحت ثانية شديدة البأس، ولعل أخشى ما كان يخشاه ألا يقنع أنطيوخوس بجوف سوريا، ويستولى على مصر بعد ذلك. وكان فيليب يرى من صالحة الظهور أمام مصر في ثوب المدافع عن ممتلكاتها الخارجية لكي تؤول إليه وحده بعد ذلك هذه الممتلكات جميعًا، لكنه كان يرى كذلك أنه من الخير له ألا يشتبك عندئذ في حرب مع أنطيوخوس، فقد كان يريد تقوية نفسه انتهاز فرصة النضال المحتوم بين أنطيوخوس ومصر ويقوم بفتح الأقاليم التي كان يرى ضرورة ضمها إليه قبل أن يقلب ظهر المجن لأنطيوخوس متذرعًا بحجة الدفاع عن الممتلكات البطلمية. ويبدو لنا أنه إزاء هذه الاعتبارات قبل فيليب عروض أنطيوخوس وعقد معه "معاهدة مخزية"، على نحو ما يصفها بوليبيوس، وفي الوقت نفسه أحسن وفادة سيوسبيوس الصغير، واستبقاه في قصره معززًا مكرمًا م دة تقرب من سنة.

ومن المحتمل أن تكون تلك المعاهدة المحزية، التي لم تكن في نية أنطيوخوس ولا فيليب احترامها، قد عقدت في شتاء عام 203/202. وفي ربيع عام 202 بدأ فيليب وأنطيوخوس تنفيذ أغارضهما دون محاولة تبرير أعتداءاتهما، فغزا أنطيوخوس جوف سوريا، لكنننا لا نعرف شيئًا عما قام به هناك، وإن كان يبدو أنه لم يصادفه توفيق كبير. وأما فيليب فإنه تنفيذاً لخطة التظاهر بالدفاع عن الممتلكات المصرية لم يتعرض لهذه الممتلكات وأنقض على عدة مدن في شبه جزيرة تراقيا وعلى ضفاف الدردنيل والبسفور، فأخضع ولسيماخيا وسستوس وخلقدنيا وقيوس (Ceos) وكانت حليفات عدوته عصبة أيتوليا. ولما كان فيليب قد حالف بروسياس (Prusias) ملك بيثونيا وعدو أنطيوخوس، وكانت بين بروسياس وقيوس عداوة، فإن ملك مقدونيا خربها وباع أهلها في النخاسة وسلمها إلى عدوها، واستولى أيضًا على مورليا (Myrleia)، وكذلك على برينثوس وفي طريق عودته إلى مقدونيا، استولى غدرًا على ثاسوس (Thasos) واستبعد أهلها. وفي هذه الأثناء نفذ ديقيارخوس (Dicaearchos)، أمير البحر عند فيليب، تعليمات مولاه، فقام بأعمال السلب والنهب في عدد من المدن البحرية الواقعة في جزر بحر أيجة وعلى لاشاطئ الآسيوي.

سلوك فيليب يثير الغضب عليه:

وقد أثار غضب العالم الإغريقي اعتداء فيليب على مدن وادعة وبخاصة الفظائع التي ارتكبها في قيوس وثاسوس. واستشاط غضبًا لتعاون فيليب مع بروسياس ولقيامه بتلك الفتوحات. لاستيلائه على لوسيماخيا، وكان يدعى لنفسه حقوقاً عليها. نقمت ابتوليا وبيزنطة على فيليب لاستيلائه على مستعمراتها. وليس آخرًا أهاج رودس تصرفات فيليب ولاسيما مع قيوس في استيلائه على المضايق خطرًأ يهدد تجارتها فاعتبرته عدوها تستعد لمحاربته (صيف عام 202). ولا شك في أنه كان من أن يثير فيليب على نفسه كل هذا العداء، لكنه لم يعبأ بذلك ولاسيما عندما علم من عيونه في روما أنها، وقد قضت على قرطجنة في زاما (عام 202)، كانت لا تميل إلى القيام بأي عمل قرطجنة في زاما (عام 202)، كانت لا تميل إلى القيام بأي عمل عندئذ ضد ولذلك أعتقد فيليب أنه يستطيع متابعة مغامرته الشرقية آمد.

اضطرابات في الإسكندرية:

وفي تلك الأثناء كان أوار الثورة المصرية لا يزال متأجج البلاد من أقصاها إلى أقصاها، على نحو ما سنعرف فيما الإسكندرية مسرحًا لاضطرابات عنيفة. وبيان ذلك أن أجاثوقس أسرف في مجونه وجمع حوله أحط العناصر ووزع بينهم فلا عجب أن تزايدت كراهية الناس له يومًأ بعد يوم. وأثيرت أطماع تلبولموس (Tlepolemos) قائد بلوزيون، فكون وصمم على اقتناص الوصاية على الملك. وقد ظهرت الأمر متواضعة في المقاصف بنشر أقوال فيها كثير من التعريض صريحة على "مزخرف الجدران وعازفة القيثارة ومصففة الخليج الذي كان في شبابه يعبر نفسه لكل طالب بعد
و قد قابل أجاثوقلس ذلك الخطر باتهام تلبولموس بأنه على اتصال وتفاهم مع أنطيوخوس، وبإعدام بعض الشخصيات الكريهة التي كان يخشى جانبها. وأخيراً حاول استثارة عطف جنود القصر بمشهد تمثيلي، تظاهر فيه بأنه يأتمنهم على حماية الملك الصغيرة من أطماع تلبولمس الذي يرنو ببصره إلى اغتصاب العرش، لكن هذا الممثل الردئ لم يفلح في إقناع أحد، فانسحب وسط أصوات الاستهجان. وفي خلال ذلك كان يتدفق على العاصمة رجال من حاميات الوجه القبلي، أخذوا يحرضون أقاربهم وأصدقائهم على التعاون معهم في التخلص من أجاثوقلس وعصابته وبيدو أن تلبولموس عمل عندئذ على قطع المؤنة علن الإسنكندرية ليعجل باندلاع لهيب الثورة، فقابل أجاثوقلس ذلك بإلقاء القبض على حماة خصمه، وجرت هذه السيدة في شوارع الإسكندرية من معبد دمتر (Thesmophoreion) إلى السجن دون أن تعطي فرصة لتستر رأسها، مما أثار غضب الناس إلى حد أنهم لم يعودوا يكتفون بالإعراب عن مقتهم للفئة الحاكمة في اجتماعاتهم الخاصة، فقد أخذ بعضهم يعرب علن ذلك في عبارات يكتبونها على الجدران في أثناء الليل، بينما أجترأ البعض الآخر على عقد اجتماعات عامة في وضح النهار لهذا الغرض. وإزاء ذلك فكر أجاثوقلس في الهرب، لكنه بما أنه لم يكن قد أعد للأمر عدته، فإنه عكف وسط مجونه على وضع قوائم بأسماء الذين يعدمون والذين يلقى القبض عليهم.
ووسط هذه الظروف كان يكفي وقوع حادث صغير لأشغال لهيب الثورة. وقد تمخضت محاكمة موبراجنس (Moeragenes) عن هذا الحادث.

وكان موبراجنس أحد رجال الحرس الملكي، لكنه اتهم بإفشاء الأخبار إلى صديقه تلبولموس وعهد إلى نيقوستراتوس (Nicostratos) رئيس السكرتارية بتحقيق هذه التهمة، لكن المتهم أكد براءته، فنزعت عنه ملابسه لتعذيبه حتى يبوح بالحقيقة. وعندما كان بعض الجلادين يعدون أدوات التعذيب والبعض الآخر يخلعون معاطفهم، دخل مسرعًا أحد الخدم وأسر بيضع كلمات في أذن نيقوستراتوس، ثم خرج جاريًا يتبعه نيقوستراتوس، دون أن يبوح بشيء أو يفعل شيئًا سوى أن يربت على فخذه مراراً. فاستولت الدهشة على الحاضرين، وعندما لم يعد نيقوستراتوس بعد قليل أخذوا ينصرفون، وإذا وحد موريرا جنس نفسه نيقوستراتوس بعد قليل أخذوا ينصرفون، وإذ وجد مويرا جنس نفسه وحيدًا هرب عاريًا إلى خيمة جنود مقدونيين كانو معسكرين على مقربة من القصر يتناولون عندئذ وجبة الصباح، وقص عليهم ما جرى له واستعطفهم أن يحموه وينقذوا الملك، كما أنذرهم بسوء مصير محتوم إذا هم لا ينتهزوا هذه الفرصة التي بلغ فيها غضب الشعب على أجاثوقلس أقصاه، لانقاذ أنفسهم.

وقد كان هذا الحادث حاسمًا، إذ أن النار التي كانت خامدة اشتعلت دفعة واحدة، وفي أقل من أربع ساعات اتفقت كلمة الإسكندريين على الثورة. وقد أذهلت هذه الأحداث أجاثوقلس إلى حد أنه لم يدر ما يفعل سوى التظاهر بعدم المبالاة وكأن شيًا غير عادي لم يحدث. ولذلك استمر في عبثه ولهوه على مألوف عادته، لكن أمه أو ينانثي وقد تملكها الجزع ذهبت إلى معبد دمتر حيث كان الناس يحتفلون تقديم بعض القرابين السنوية. وفي بداية الأمر تقدمت إلى الآلهات بضراعات يائسة، ثم جلست صامتة عند المذبح تبدو عليها سيماء الجزع. وقد شاهد أغلب السيدات هذا الجزع بغبطة وإنما في هدوء إلا أن بعض أقارب بولوقراتس (Polycrates) حاكم قبرص، وبعض سيدات البلاط اللائي كن أقل ثقة بالمستقبل اقتربن منها مواساقتها، فلم يكن من أوينانثي إلا أنها التفتت أليهن في غضب صارخة "لا تقتربن مني أيتها الوحوش، فإني أعرف جيدًا دعواتكن المشئومة وما تضمرته لنا من سوء، لوكن تالله لسوف أجعلكن تأكلن لحم أطفالكن". وبأمرها سارع حملة العصى رافعين عصيهم، فبادرت النساء بالهرب رافعات أكف الضراعة إلى الآلهات ملتمسات منهم أ، ينزلن بأوبنانثي اللعنات التي استمطرتها عليهن. وهكذا انضمت النساء إلى صفوف الثوار، فتضاعفت النقمة ولم يأت الليل حتى كان الاضطراب يعم المدينة. فقد أخذت الجماهير تتصايح وتتجمع في الرحبات الفسيحة المحيطة بالقصر وفي مضمار السباق والمديان الكبير وبهو مسرح ديونوسوس.

وعندما أتى أجاثوقلس نبأ ما حدث، احتمى هو وأقاربه والملك في دهليز بالقصر كانت به ثلاث أبواب، أغلقوها جميعًا ووفقوا مع فئة من الحراس وراء ثالثها، لكن الجنود المقدونيين عرفوا في الصباح مكانهم واقتحموا الباب الأول. وعندئذ بعث إليهم أجاثوقلس رسولاً للتفاهم معهم، فألغهم بأنه مستعد للتنازل عن الوصاية، وعن كل سلطة ونفوذ ومال إذا تركوه ساملًا، وسمحوا له بما يكفي ليعيش منه، لكن الثوار ألحفوا في طلب الملك، واقتحموا الباب الثاني. ومن وراء الباب الثالث مد أجاثوقلس يديه خلل القضبان ملتمساً منهم الرحمة، بينما كشفت أجاثوقليا عن ثدييها اللذين قالت أنهما أرضعا الملك. لكن ذلك كله كان مجهودًا ضائعًا، إذ كان يجب الأذعان وتسليم الملك. وعندما أخذ الملك وسط الحرس إلى مضمار السباق، هتف له جمع صاخب وطالب الناس بعقاب المجرمين، فأوعز له سوسيبيوس الصغير بأن يومئ بالموافقة، ثم أخذه إلى بيته الخاص ليجنبه منظر الفظائع التي توقعها، إذ سرعان ما جر إلى الشارع أجاثوقلس وأجاثوقليا وأمهما وأقاربهما وخدمهما، وقذف بالجميع إلى الجماهير المتعطشة للدماء، فقطعت أجسامهم إربًا إربًا. وهجمت الجماهير على بيت فيلامون ـ قاتل أرسينوي ـ وقتلته هو وابنه الصغير وجرت زوجة عارية إلى المديان الكبير وذبحتها (عام 202/201).

الحرب السورية الخامسة، مصر تفقد جوف سوريا:

وبعد ذلك أقيم تلبولموس وصيًا على الملك، وكان ضابطًا كفؤًا لكنه أثبت سريعًا أنه حاكم ضعيف كل يسكره أحط أنوا المديح. وحين كانت الحرب على أبواب مصر أهمل شئون الدولة، أموالها، تشغل عن مهامها بالمبارزة والشراب، سخط الإسكندريين، وأخذ يتكون ضد حزب بزعامة الصغير، وهو الذي قام بجدارة بأعباء منصب حامل من تلبولموس إلا أنه عزل سوسيبيوس من منصبه. لكنه لم أن عزل هو نفسه، وخلفه في منصبه أريستومنس قيادة الجيوش إلى سقوباس (202/201). وفي ربيع تلك الاضطرابات العنيفة التي وقعت في الإسكندرية على متابعة فتح جوف سوريا "ألحرب السورية الخامسة) الظروف استطاع أنطيوخوس أن يتقدم حتى غزة، لكن لمصر أظهرت مرة أخرى شجاعة جديرة بتقاليدها، إذ أنها مقاومة عنيفة إلى أن أعياها الكفاح فسقطت في يده (شتاء عام 201-200)، بيد أن المقاومة التي أبدتها من جمع جيش واستردادها وطرد أنطيوخوس من نهر الأردن، غير أن أنطيوخوس لم يلبث أن أنزل في موقعة بانيون (Panion) عند المكان الذي يخرج من مؤخرة لبنان الصغير، فانسحب مع من تبقي من فحاصرها أنطيوخوس برًا وبحرًا (صيف عام 200) سقوباس على التسليم (ربيع عام 199)، ثم استرد .. نفوذه على كل فلسطين حتى صحراء سيناء ولم كانت مصر قد فقدت كل جوف سوريا إلى غير رجعة في مركز يسمح له بغزو مصر، لكنه وجه نشاطه ناحية مهام عاجلة.

فيليب يستأنف نشاطه:

وأما فيليب الخامس فإنه في ربيع عام 201 أستأنف نشاطه في بحر أيجة، وعلى شواطئ آسيا الصغرى، إذ يرجح أنه استولى عندئذ على عدد من الجزر المستقلة ثم أخضع ساموس ـ وكانت قاعدة بطلمية هامة ـ وفرض سلطته على تيوس (Teos) وحاصر خيوس، فأفرزع هذا الخطر رودس وأنالوس إلى حد أنهما تآلفا ضد فيليب، مع أنهما كانا إلى ذلك الوقت عدوين. وعند خيوس التقت أساطيل الفريقين في آخر معركة بحرية عظيمة خاضها الأسطول المقدوني، لكنها لم تكن موقفة حاسمة، إذ أن أسطول رودس انتصر على السفن التي كان يتألف منها جناح فيليب الأيسر، في حين أن القتال كان سجالاً بين ميمنة فيليب وأسطول أتالوس. وعندما ابتعد أتالوس عن بقية أسطوله لينقذ إحدى سفنه ويطارد بعض سفن العدو، قطع فيليب عليه خط الرجعة واضطره إلى القرار من المعركة تاركًا سفينته الملكية وبعض سفنه الأخرى غنيمة للعدو. وإذاك ان فيليب قد أحرز هذا النصر الجزئي، فإنه مع ذلك فقد في هذه المعركة عددًا كبيرًا من سفنه ورجاله.

وبعد ذلك بقليل التقى فيليب بأسطول رودس عند لادى (Lade) فانتهز فيليب هذه الفرصة وهزم أسطول عدوته اللدودة، واضطره إلى الانسحاب جنوبًا، واستولى على ميلتوس. وإذ ترك أسطوله يهاجم الجزر التابعة لرودس، انقض على برجام أملاً في مفاجأتها والاستيالء على أتالوس لكن برجام خيبت أمله، فانصرف إلى قاريا حيث استولى على عدة مدن لم تكن ممتلكات مصر هناك من بينها وفي شتاء عام 201-200 عندما أراد العودة إلى مقدونيا، حاصرت برجام ورودس قواته البحرية والبرية في قاربًا. وفي هذه الأثناء استنجدت برجام ورودس بروما ضد هذا العدو المشترك، فقررت روما وقف مقدونيا عند حدها قبل أن يستشري خطرها، وجرت إلى الصراع جانبًا كبيرًا من العالم الإغريقي. وعندما أفلح فيليب، بحيلة ماهرة، في رفع الحصار عن نفسه وقواته في قاربًا (حوالي مارس ـ إبريل عام 200) خف إلىمقدونيا لمواجهة الأخطار التي كانت تحدث بها، فتبعته قوات أتالوس ورودس ووقفت له بالمرصاد في جزيرة أيجينة.

التدخل الروماني:

وقد بدأت من هذا الوقت سلسلة الأحداث الحربية والسياسية، التي تمخضت عن إذلال مقدونيا والدولة السلوقية، أقوى دولتين في العالم الإغريقي عندئذ، وعن إدخالهما أولاً في نطاق نفوذ روما، وبعد ذلك في حظيرة إمبراطوريتها. ويبين أنه لم تمل سياسة روما أول الأمر أية رغبة في بسط رقعة إمبراطوريتها بضم أقاليم في الشرق، وإنما أملاها القلق الذي أثارته فيها سياسة فيليب وأنطيوخوس في الوقت الذي خرجت فيه منتصرة، وإنما منهوكة القوى من الحرب البونية الثانية، فقد كانت روما تخشى ما قد يقدم عليه فيليب وأنطيوخوس بعد تقوية نفسيهما بالاستيلاء على ممتلكات مصر الخارجية.

إذا كان هنيبال قد غزا إيطاليا، فلماذا لا يقدم فيليب (حليف هانيبال السابق) وأنطيوخوس (حليف فيليب الحالي) على غزو روما؟ ألم يعتزم الإسكندر الأكبر ضم الغرب إلى إمبراطوريته العالمية؟ ألم ينضم بوروس بعد ذلك إلى المدن الإغريقية في جنوب إيطاليا ضد روما، فأثبت بذلك أنه يوجد في بلاد الإغريق رجال قادرون على أن يوحدوا ضد روما كل الذين يضيقون بسيادتها في إيطاليا؟ وإلى جانب ذلك كله، فإن قرطجنة خرجت من الحرب اليونية الثانية مهزومة لكنه لم يقتض عليها، وكانت تود دون شك أن تثأر لهزميتها، فهل كان يبعد أن يتحالف معها فيليب؟ لقد كانت كل هذه الأفكار تدور بخلد الرومان، وكانوا لا يأمنون جانب الدول الهلينيسية الشرقية، فقد كانت لها تقاليد حربية جليلة، وكانت مواطن أعظم الاختراعات في فنون القتال، ولم يتخلص الرومان إطلاقًا من هذه المخاوف، إذ أنهم حتى بعد الانتصارات التي أحرزوها على فيليب وأنطيوخوس وبرسيوس كانوا لا يزالون يخشون مقدونيا والدولة السلوقية ويعملون لهما ألف حساب. بل أنه في عهد ميثريداتس الأكبر في القرن الأول، كانت روما لا تزال قلقة على نفسها. ويكفي أن نقرأ أشعار "هورانيوس" لندرك الارتياح العظيم الذي استشعره الرومان عندما انتصروا على كليوبترة في موقعة أقتيوم، ونحس القلق الشديد الذي كان يساورهم من البارثيين، خلفاء الدولة السلوقية في آسيا. لقد كان طبيعيًا إذن أن ينتهز السناتو الفرصة، عقب النصر الروماني في الحرب البونية الثانية، ليشتبك مع فيليب قبل أن يتآلف مع أنطيوخوس ضدها، فقد كانت لدى أنطيوخوس مشاغل أخرى في الشرق عندئذ، في حين أنه كان يؤيد روما ماديًا وأدبيًا جانبًا كبير من العالم الإغريقي وبخاصة رودس ورجام، وكان فيليب قد تحمل خسائر كبيرة في حربه مع رودس وبرجام، وتبعًا لذلك كان لا يجب الانتظار خشية أن يتمكن فيليب من تقوية نفسه.

روما وفيليب، الحرب المقدونية الثانية:

وفي ربيع عام 200 أرسل السناتو بعثة سياسية كانت تتألف من جايوس قلاوديوس نيرون (C. Claudius Nero) ومارقوس أيميليوس لبيدوس (M. Aemilius Lepidus) وجابوس سمبرونيوس نوديتانوس (C. Sempronius Tuditanus). وكانت مهمة هذه البعثة في الظاهر التوفيق بين أنطيوخوس وبطلميوس الخامس استجابة لطلب مصر، لكن غرضها الحقيقي كان إثارة الإضطراب في بلاد الإغريق، وتسليم فيليب انذار روما النهائي، والوقوف على نوايا أنطيوخوس وضمان حياده في النزاع بين فيليب وروما.

وقد وصل الصفراء الرومان إلى بلاد الإغريق عقب عودة فيليب إلى مقدونيا بقليل، وأفلجوا في إثارة عدد كبير من المدن الإغريقية ضده، وأبلغوه الإنذار عن طريق قائده نيقانور، وكان عندئذ في أتيقا على رأس التجريدة التي أرسلها فليليب لشد أزر حلفائه الأقارتانيين في تخريب انتقامًا من الأثينيين لإعدامهم شابين من أقارتانيا لم الخاصة بإقامة الطقوس الأليوسية. ولما كان الإنذار الروماني لا مطالبة فيليب بدفع التعويضات الكافية لبرجام فحسب، محاربة أي شعب إغريقي، وكان السفراء الرومان يبذلون قصارى في الهاب عواطف الإغريق ضده، وكان فيليب قد أثار نفسه لاشتراك قواته في تخريب أتيقا، فإن أثينا أعلنت عليه الحرب. علم فيليب بالإنذار الروماني، لم يرعه أي انتباه وسارع إلى الخطوات اللازمة لمواجهة الحرب مع روما. فقد كان أضعف من بحرًا كما أن مقدونيا كانت مكشوفة من الناحية الشرقية، ولذلك تأمين هذه الجبهة وفي الوقت نفسه المحافظة على خطوط مواصلاته تراقيا والدردنيل مع آسيا الصغرى، حيث ترك قوات لحماية هناك، ومن ثم فإنه قرر الاستيلاء على شاطئ تراقيا وكذلك على الشرقي للدردنيل. وعندما شرع في تنفيذ هذه الخطة رد على أثينا الحرب عليه بإرسال قوات لتخريب أتيقا. وقد استولى فيليب على شاطئ تراقيا (وكان لا يزال ملكًا لمصر) وشبه جزيرتها، وعبر وحاصر أبودوس وهي التي استمات أهلها في الدفاع عنها دون أن في إنقاذها. وقبيل سقوط هذه المدينة قدم إليها لبيدوس لينهي إلى فيليب عن الإنذار الأول واعتدائه على تراقيا وأنيقا استصدر في صيف عام 200 قراراً في قالب أنذار جديد تضمن إلى جانب المطلبين الأولين مطلبين آخرين وهما دفع تعويضات لرودس وعدم المساس بالممتلكات المصرية، وكلفت البعثة الرومانية، وكانت عندئذ في ردوس في طريقها إلى لاشرق، إبلاغ الإنذار شخصيًا إلى فيليب، فأسندت البعثة هذه المهمة إلى لبيدوس، وقد رد فيليبت على لبيدوس بأنه إذا كانت روما مصممة على عدم احترام المعاهدة التي بينهما فإنه سيدفع عن نفسه بحماية الآلهة.

وقد ترتب على ذلك نشوب "الحرب المقدونية الثانية"، وهي التي أحرزت فيها روما انتصاراً سهلاً على فيليب في موقعة قونو سقفالاي (Cynoscephalae) عام 197. واكتسب الرومان تبعًا لذلك مكانة رفيعة في كل أنحاء العالم الهلينيسي، في حين أن فيليب لم يعد في واقع الأمر ملكًا مستقلاً، إذ أن روما استمرت ترقبه بدقة ولا تسمح له باتباع سياسة مستقلة إلا في علاقاته مع الغال والتراقيين والوريا الشمالية. وأما بلاد الإغريق فإن روما أعلنت حريتها واستقلالها في عام 196.

روما وأنطيوخوس:

وبعد تسليم الإنذار النهائي لفيليب أو بعبارة أخرى بعد إعلان الحرب عليه، كان على سفراء روما أن يقوموا بأدق جانب من مهمتهم وهو زيارة أنطيوخوس. ولقد التقوا به بعد بضعة شهور من بدء حصار صيدا، وكان سقوباس قد اعتصم بها بعد هزيمته في موقعة بانيون، على نحو ما مر بنا. وليست لدينا أدلة مباشرة على ما دار بين السفراء الرومان وأنطيوخوس، لكنه يمكن استنتاج ذلك من سير الحوادث التي تبعت تلك المقابلة. ولا جدال في أن قصد السفراء الظاهر كان محاولة التوفيق بين أنطيوخوس وبطلميوس، ولا في أن غرضهم الحقيقي كان التعرف على نواياه إزاء الصراع المقبل بين روما وفيليب، ومحاولة إقناعه بالوقوف على الحياد في هذا الصراع المقبل بين روما وفيليبت و محاولة إقناعه بالوقوف على الحياد في هذا الصراع. وأما التوفيق بين أنطيوخوس وبطلميوس فأغلب الظن أنه لم يدر يخلدهم أن يصروا عليه لا خوفًا من أن يضايق ذلك أنطيوخوس، وأنا لأنه كان في صالح روما استمرار الحرب بينه وبين مصر فلا يجد فرصة للانضمام إلى فيليب. ولذلك يبدو أن السفراء أكدوا لأنطيوخوس حسن نوايا السناتو نحوه، وأفهموه أنه مهما يحزن السناتو استهداف بطلميوس، حليف روما، للمخاطر، فإن السناتو لن يعوق سبيل أنطيوخوس. ويبدو كذلك أن أنطيخوس لم يدخر وسعًا في إظهار صداقته لوما، لأنه أبدى ارتياحه لإنشاء علاقات مع الجمهورية الرومانية ورغبته في إرسال بعثة دبلوماسية إليها، لكنه لم يعد السفر بشيء فيما يتعلق بمسألة الحياد في خلال الحرب بين روما فيليب، وذلك لتقديره أن موقفه الغامض كان يثير قلق روما، وأن هذا القلق كان يضمن له أكثر من كل وعود السفراء حرية العمل في الشرق كما يشاء، فتركه السفراء قلقين غير واثقين من نواياه. وعلى الرغم من دهائهم، يدركوا ارتياحه من أن روما بمحاربة فيليب كانت تعمل على من حليف خطر، ولذلك استمر يقض مضاجع رجال السناتو خوفهم من قدوم أنطيوخوس لمساعدة فيليب.

وبعد ذلك عرج السفراء على الإسكندرية، حيث كان الناس يتهمون على معرفة نتيجة محاولة التوفيق بين مصر وأنطيوخوس. ولعل السفراء تخلصوا من هذا الموقف بالتعبير عن أسفهم لفشلهم في محاولتهم بسبب عناد أنطيوخوس. وقد اخترعت فيما بعد أسرة لبيدوس أسطورة أنه بقى في الإسكندرية ليحمي بطلميوس باسم روما. والحقيقة هي أن روما تركت مصر تلقي مصيرها، لأنها إذا كانت قد أمرت فيليب الممتلكات المصرية، فإنها لم تتخذ أي إجراء لمنع أنطيوخوس من أن يفعل في تلك الممتلكات ما يشاء.

نشاط أنطيوخوس في آسيا الصغرى وتراقيا:

وقد مر بنا أن أنطيوخوس تابع فتوحاته في جوف سوريا فلم 198 حتى كان قد استولى على كل ذلك الإقليم وغدًا في مركز يسمح له بغزو مصر، لكنه وجه نشاطه ناحية أخرى فقد أدرك أن هزيمة فيليب أصبحت محققة، ولذلك كان يجب أن يستعيد ممتلكاته الوراثية في آسيا الصغرى وفي تراقيا وهي الممتلكات التي كا ن بعضه وقع في قبضة مصر والبعض الآخر في قبضة مقدونيا، وكان يجب القيام بذلك قبل أن روما من الحرب المقدونية وتقف في سبيله. وحين كان سفراؤه يؤكدون لوما صداقته نحوها كان يجد في خلال شتاء 198-197 في إعداد حملة كبيرة. وفي الربيع التالي أستولى على الممتلكات البطلمية على شواطئ قيليقيا ولوقيا وقاريا، لكنه عندما كان يحاصر قوراقسيون (Korakesion) في بامفوليا وفدت عليه بعثة من رودس بإيحاء من روما دون شك. ذلك أن أعداء فيليب جميعًا، وفي مقدمتهم روما، كانوا يرقبون بجزع، فقد كانوا يظنون أنه لم يزحف غربًا إلا لمساعدة فيليب، ولذلك أبلغته رودس بكل احترام أنها لا تستطيع السماح له بالزحف فيما وراء ذلك. ولما كانت رودس لا تميل إلى الاشتباك معه بسبب صوالحها الثمينة في إمبراطوريته، وكان هو بدوره لا يود الاشتباك مع رودس لعلمه بأن أساطيل روما وبرجام ستؤيدها دون شك، فإن الطرفين كانا يحرصان على التفاهم ولذلك دخلا في مفاوضات لتسوية الأمر وديًا. وعندما وصلت أنباء هزيمة فيليب، لم تعد رودس ترى داعيًا للوقوف في سبيل أنطيوخوس، ومن ناحية أخرى رأى أنطيوخوس أن من الحكمة إظهار احترامه رودس لكي يستبقى صداقتها، فاتفقا على أن يسترد ممتلكاته بشرط ألا يعتدي على موندوس (Myndos) وهاليقارناسوس وساموس فتركها تحت إشراف رودس، وبشرط أن يحترم أيضاً ممتلكات برجان الوراثية. وبعد الاتفاق مع رودس، استولى على أفسوس وعلى كل المدن تقريبًا فيما بين قاربا والدردنيل، غير أن أزمير ولامباقوس (Lampscos) رفضتا الأذعان له فحاصرهما ولذلك استنجدنا بروما. وقبل الشتاء استولى على مادوتوس (Madytos) وستوس وكل شبه جزيرة غاليبولي وشاطئ تراقيا. وإذا كان هذا في نظر أنطيوخوس آخر فتوحاته غربًا، لأنه بذلك استرد آخر جزء من إرثه، فإن الرومان كانوا يرون في اتسيلائه على تراقيا المرحلة الأولى لطردهم من بلاد الإغريق، وهي التي أصبحوا يعتبرونها منطقة نفوذ ودرع أمان لهم، ولذلك حاولوا إقناعه بالانسحاب ولكن دون جدوى. ولم يكن أنطيوخوس في الأصل يضمن سوءًا للرومان، غير أن رغبته في الاحتفاظ بشاطئ تراقيا وإصرار الرومان على نزوله عن هذا الشاطئ، دفعاه إلى التورط ضد روما بتعاونه مع أبرز العناصر الإغريقية المناهضة لها، أي مع الأيتوليين. وكان الأيتوليون حلفاء روما في الحربين المقدونيتين الأولى والثانية، لكنهم نقموا على روما لإدراكهم أنها بعد انتصارها على فيليب غدت صاحبة الكلمة العليا في بلاد الإغريق.

مصر تفقد ممتلكاتها دون أن تحرك ساكنًا:

وقد كان يتملكنا العجب حقًا من أن مصر لم تحرك ساكنًا إزاء ضياع ممتلكاتها الخارجية، لو لم نعرف أنها كانت فريسة للثورات القومية التي دامت طوال هذه الأحداث الخطيرة. وإلى جانب ذلك يبدو لنا أن مركز الحكومة لم يكن وطيد الدعائم في الإسكندرية نفسها إذ أن سقوباس دبر مؤامرة لقلب الحكومة، لكن أريستومنس الوصي على الملك كان أسرع منه وأعدمه هو وأفراد أسرته وأعوانه. وبعد هذه الأزمة رأى أريستومنس أنه من الحكمة إنهاء الوصاية التي كان يتولاها على الملك، لأنها كانت مصدر متابع دائمة بسبب ما تثيره من الأطماع في الشخصيات الكبيرة. وتبعًا لذلك أعلن أن الملك، وكان إذ ذاك في الثالثة أو لارابعة عشرة من عمره، قد بلغ سن الرشد. ويغلب على الظن أن الملك قد توج في منف عام 197 على نهج الفراعنة القدماء يوم عيد ارتقائه العرش، أي يوم 28 من نوفمبر. وعلى كل حال فإن القرار الذي أصدره الكهنة في العام التالي وحفظه لنا حجر رشيد المشهور قد عنى بتسجيل تتويج الملك وفقًا للتقاليد المصرية القديمة.

مصر تحاول التفاهم مع أنطيوخوس:

ولعل الباعث على حركة سقوباس الفاشلة كان الاستياء من سياسة أرستومنس، إذ يبين أنه إزاء الأخطار التي كانت تتهدد مصر نفسها من ناحية أنطيوخوس بعد استيلائه على جوف سوريا، وإزاء ضياع كل أمل لمصر في تدخل روما بينها وبين أنطيوخوس، رأى أريستومنس أنه لم يعد هناك أمل لإنقاذ مصر نفسها إلا بحسن التفاهم مع أنطيوخوس، فأخذ يسعى منذ عام 198 إلى عقد الصلح معه على أساس زواج بطلميوس الخامس أبيفانس من كليوبترة ابنة أنطيوخوس، وتنازل مصر لأنطيوخوس عن ممتلكاتها الخارجية التي فقدتها لأنطيوخوس وفيليب. لكننا لا نأخذ بما يذهب إليه سان جيروم من أن معاهدة الصلح عقدت في عام 198، لأنه لم يكن في عرض مصر ما يغرى أنطيوخوس عندئذ على المبادرة إلى قبوله، فقد كان العرض ينطوي على تأمين مصر دون مقابل، إذ أنه قبل بدء المفاوضات كان أنطيوخوس قد استولى على جوف سوريا، وفي أثناء المفاوضات كان يستعيد ممتلكاته الوراثية في آسيا الصغرى وتراقيا، وسنرى بعد قليل أنه كان يتحين الفرص للاستيلاء على مصر نفسها. وإذا كنا نرجح أن أنطيوخوس لم يبادر إلى عقد معاهدة الصلح مع مصر في عام 198، فإننا نرجح أيضاً أنه رأى من حسن السياسة ألا يرفض عروض مصر وأن يستمهل أريستومنس حتى يفرغ من استعادة ممتلكاته الوراثية.

وفي تلك الأثناء كانت روما قد تخلصت من فيليب بهزيمته وأخذت فتوحات أطيوخوس تزعجها ولاسيما بعد ووصله إلى أوروبا، فأجمع السناتو رأيه على القضاء على هذا الخطر الجديد، عندما كانت علاقات روما مع الإغريق لا تزال طيبة، وعندما كان فيليب لايزال أضعف من أن يتعاون معه.

روما توجه إنذارًا إلى أنطيوخوس:

وتبعًا لذلك فإن روما أعلنت حرية بلاد الإغريق في عام 196 في خلال الألعاب النيمية، وأبلغت سفرًا أنطيوخوس أنها تطلب إلى مولاهم أن يبتعد عن المدن الإغريقية المستقلة في أوروبا وفي آسيا، وأن يعيد كل ما أخذه من ممتلكات فيليب الخامس وبطلميوس الخامس، وألا يشخص إلى أوروبا على رأس جيش، وأنها متنفذ بعثة د بلوماسية إلى أنطيوخوس. وعندما التقى السفراء الرومان بأنطيوخوس في لوسيماخيا أبلغه لوقيوس قورنليوس لنتولوس المطالب الرومانية السالفة الذكر، فرد عليه أنطيوخوس بجزم قائلاً: أنه لا يفهم معنى لتدخل روما في شئون آسيا فهو لم يتدخل في شئون إيطاليا، وأنه إذا كانت المدن الإغريقية في آسيا تريد الظفر بحريتها فيجب ألا تعتمد على تدخل روما، بل يجب أن تلجأ إلى كرمه وعطفه. وأما عن أوربا فإنه لم يأت إليها إلا ليسترد إرثه في غاليبولي وشاطئ تراقيا، وأنه لا يرى أي خطر على روما في إعادة بناء لوسيماخيا فهو لم يستهدف هناك إلا إعداد مسكن ملكي لابنه الثاني سلوقس. وأما عن الخلافات التي بينه وبين بطلميوس فإنها في طريق التسوية، ثم أذهل الرومان بقوله أن أسرتي البطالمة والسلوقيين على وشك الارتباط برباط المصاهرة.

وقد أوقف هذه المباحثات وصول نبأ كاذب فحواه أن بطلميوس الخامس قد توفي، فأبحر أنطيوخوس في الحال قاصدًا الإسكندرية للاستيلاء على عرشها الشاغرة، لكنه علم في لوقيا أن أبيفانس كان لا يزال حيًا. ويبدو أن هذه الشائعة الكاذبة نشأت عن الاضطراب الذي ترتب على مؤامرة سقوباس. ويقال أن أ،طيوخوس حاول عندئذ الاستيلاء على قبرص، لكن أنواء البحر حطمت جانبًا من أسطوله عند شاطئ قيليقيا وأرغمته على العودة إلى سلوقية. وقد قضى شتاء عام 196/195 في أنطاكية، حيث زوج ابنته لاولاديقي إلى ابنه الأكبر وشريكه في الملك، وهو الذي توفي في عام 192.

أنطيوخوس يعقد معاهدة الصلح مع مصر:

ولما لم يكن في نية أنطيوخوس الأذعان لروما، فإنه قرر تقوية نفسه بكسب ود كل جيرانه، ولذلك وافق أخيراً على عقد معاهدة الصلح مع مصر (عام 195) على الأسس السالفة الذكر ـ وإن كان زواج بطلميوس الخامس من كليوبترة لم يتم إلا فيما بعد ـ وزوج ابنة أخرى إلى أرياراتس الرابع ملك قابادوقيا، وعرض على يومنيس ملك برجام الزواج من ابنة ثالثة، لكن يومنيس رفض هذه المصاهرة خوفًا من اغضاب روما. وفضلاً عن ذلك فإن أنطيوخوس تحالف مع الغال. وفي عام 194 عاد إلى تراقيا حيث تابع فتوحاته بالاستيلاء على أبنوس ومارونية، وكانتا فيما مضى ملكًا لمصر. وفي شتاء عام 194/193 أنفذ بعثة دبلوماسية إلى روما للوقوف على حقيقة نواياها نحوه.

زواج بطلميوس الخامص وكليوبترة الأولى:

وفي هذا الشتا احتفل في رفح بزواج بطلميوس من كليوبترة. ويحدثنا يوسف ,ابيانوس بأن هدية عرس كليوبترة لزوجها كانت "جوف سوريا". ويضيف يوسف إلى ذلك أن الملكين (أنطيوخوس وبطلميوس) كانا يقتسمان دخل ذلك الإقليم، فإننا نرجح أن الهدية لم تكن أكثر من دخل ذلك الإقليم، ولاسيما أن بوليبيوس يحدثنا في وضوح لا لبس فيه ولا غموض بأنه منذ موقعة بانيو حتى عام 172 كان ذلك الإقليم خاضعًا على الدوام لملك سوريا، وأن أنطيوخوس الرابع نفى وجود معاهدة تنص على منح مصر ملكية ذلك الإقليم، ولا يبعد أن المفاوضين البطلميين كانوا يطالبون باسترداد مصر ملكية ذلك الإقليم لقاء تنازلها عن ممتلكاتها الأخرى، لكن نصوص المعاهدة ـ وهي لم تصل إلينا ـ صيغت بحيث كفلت أن تكون هدية كليوبترة لزوجها دخل "جوف سوريا" دون أية إشارة إلى ملكية ذلك الإقليم. ولما كان السلوقيون يحتلون فعلاً ذلك الإقليم، وكان في وسعهم تفسير المعاهدة على نحو ما يرتضون حين يجد الجد، وكانوا يريدون في ذلك الوقت استرضاء مصر للإفادة منها في حالة الاشتباك مع روما في حرب، فلا يبعد أنهم أدخلوا في روع المفاوضين البطلميين أ، حصول مصر على دخل "جوف سوريا" كان يستتبع ضمنًا حصولها على ملكيته أيضاً، وأنه إزاء لهفة أولئلك المفاوضين على عقد الصلح لم يصروا على النص صراحة على نقل ملكية ذلك الإقليم إلى دولة البطالمة.

ولعل أن ما يرويه يوسف وأبيانوس ليس إلا ترديدًا لوجهة النظر التي أعرب عنها الساسة البطلميون عند المطالبة بملكية ذلك الإقليم عقب وفاة كليوبترة وكذلك عند قيام أنخطيوخوس الرابع بغزو مصر، على نحو ما سيجئ ذكره فيما بعد.

مصر تتقرب إلى روما:

وإذا كان أ،طيوخوس يأمل أن تساعده مصر في محاربة روما فإن مصر خيبت آماله، بل أنها بدلاً من الوقوف على الحياد في هذا الصراع انحازت إلى جانب الرومان. وسبب هذا التحول في السياسة البطلمية هو أن أريستومنس الذي كان يوجه السياسة المصرية ويناصر مصادقة أنطيوخوس قد خلفه في منصبه بولوقرانس، وكان قد قام بدور هام في معركة رفح وحكم قبرص مدة طويلة، ويجتح إلى التقرب إلى روما. ويحدثنا ديودوروس بأن أريستومنس أدار دفة البلاد بحكمة، وأنه في البداية كان بطلميوس يحبه كأبيه ولا يفعل شيئًا دون استشارته ولكن الملك لم يلبث أن أفسدت المداهنة وكره أريستومنس إلى حد أنه أرغمه على النتحار. ويروي بلوتاريخ أن أريستومنس لقى حتفه لأنه ذات يوم هز مولاه ليوقظه من سنة من النوم أخذته حينما كانت بعثة ديلوماسية ماثلة أمامه، فقد استغل المتملقون هذا الحادث في إستثارة الملك ضد أريستومنس إلى حد أنه أرسل إليه كأسًا من السم وأمره بتجرعها.

ويلاحظ بولييوس أنه عندما تقدمت السن بيولوقراتس أطلق لشهواته العنان وانغمس في حمأة الرذيلة، فلا عجب أن كان تأثيره سيئًا على الملك الشاب الذي يحدثنا ديودوروس بأنه بعد وفاة أريستومنس ازدادت قسوته باطراد فكرهه المصريون حتى تعرض عرشه للزوال، وبأنه استبدل بسياسة أريستومنس الحكيمة الوقورة سياسة ذليلة مستكينة أملاً في الفوز برضاء روما لتعيد إلى مصر ممتركاتها السابقة.

لكن هذه الآمال جميعًا إنهارت نتيجة للحر التي شنتها روما في العام التالي على أنطيوخوس، وانتهت بهزيمة هذا الملك في موقعة ماجنسيا (Magnesia) عام 189 شر هزيمة، ومن ثم فإن سطوته تلاشت بعد حكم مجيد، وطردت الدولة السلوقية من العالم الإغريقي، في حين أن روما اكتسبت احترام الإغريق في آسيا الصغرى، بل بسطت نوفذها على كل الأناضول بما في ذلك جالاتيا وبيثونيا، وأصبحت بونتوس وقابادوقيا وإلى حد ما أرمينيا مهددة بالخوضع لروما.

ووفقًا لما يرويه المؤرخ الروماني تيتوس ليفيوس (T. Livius)، فإنه عندما غزا أ،طيوخوس بلاد الإغريق في خريف عام 192، عرضت بعثة بطلمية على روما مساعدة مالية كبيرة من أجل متابعة هذه الحرب، لكن روما رفضت هذه المساعدة. وفي عام 191 عندما طرد أنطيوخوس من بلاد الإغريق سارعت بعثة بطلمية أخرى إلى تقديم فروض التهاني إلى السناتو، وحثه على تعقب أنطيوخوس في آسيا، ووضع كل موارد مصر تحت تصرف روما لتحقيق هذا الغرض، لكن روما رفضت مرة ثانية مساعدة مصر.

معاهدة أباميا، روما وسياسة توازن القوى:

ويدل ذلك كله على ثلاثة أمور: أولاً، مقدار سخط السناتو على مصر لتفاهمهما منذ عهد قريب مع أنطيوخوس في الوقت الذي كانت روما تؤاخذه فيه على اعتدائه على الممتلكات المصرية. وثانيًا، تناسى روما أنها لم تنصد لأنطيوخوس قبل فراغها من الحرب المقدونية الثانية، بل أنها قبل هذه الحرب أطلقت يد أنطيوخوس في الممتلكات المصرية مما حمل مصر على التفاهم مع عدوها. وثالثاً، فشل سياسة التقرب إلى روما وهي السياسة التي أتبعها بولوفرانس. ولا أدل على ذلك من أن روما حرمت مصر مممتلكاتها عند تقسيم أسلاب الحرب بعد هزيمة أنطيوخوس في موقعة ماجنسيا. وبيان ذلك أنه بمقتضى معاهدة أباميا (Apamea) في عام 188 حرمت روما أنطيوخوس كل ممتلكاته شمالي وغربي الطوروس وحررت المدن الإغريقية التي كانت خاضعة له، وقسمت باقي ممتلكاته في آسيا الصغرى بين رودس وبرجام. وقد حصلت رودس على لوقيا (ما عدا تلمسوس التي أعطيت لبرجام) وقاريا جنوبي نهر المايندر (Maeander) وحصلت برجام على كل الممتلكات السلوقية شمالي الطوروس ونهر المايندر وكذلك على غاليبولي ولوسيماخيا والمنطقة المجاورة لها. وقد احتفظ أنطيوخوس بالولايتين البحريتين (قيلقيا الغربية وجوف سوريا) اللتين أنتزعهما من بطلميوس. وأما دولة البطالمة فإنها لم تجن من وراء سياستها إلا الخزي والعار، فهي لم تسترد شيئًا من ممتلكاتها المسلوبة ولم تبق لها من إمبراطوريتها إلا قبرص وقورينايئة. وأمام دولة البطالمة الواهنة كونت الدولة السلوقية، بعد أن قلمت أظافرها وغدت دولة آسيوية بحتًا، قوة معادلة. ومما يجدر بالملحاظة هنا أن روما حين أضعفت الدولة السلوقية زادت في قوة دولة برجام ببسط رقعة ممتلكاتها، مضحية في سبيل ذلك بقد ك بير من الحرية الإغريقية مع أنها كانت قد نصبت نفسها للدفاع عنها ضد أنطيوخوس. وليس لمثل هذا الاهتمام بأمر برجام تفسير إلا رغبه روما في أن تجعل من ربجام عميلة قوية شديدة اليأس تقف سدًا منيعًا يفصل الدولة السلوقية عن مقدونيا ويحول دون توحيد جهودهما للإنقضاض على إيطاليا.

ولا شك في أن نجاح السياسة التي اتبعتها روما في كل مكان في الشرق، وانطوت على التوازن بين القوى في التنافس فيما بينها وفي الخضوع لها نفسها، هو الذي مهد لروما فتحوتها هناك. ولقد غيرت المعاهدة أباميا معالم الشرق الهلينيسي وذلك بأن روما أصبحت صاحبة الكلمة العليا في شرق البحر المتوسط، ولم تعد توجد في بلاد الإغريق. دولة واحدة مستقلة استقلالاً تامًا عنها، ومنذ ذلك الوقت كانت روما تتدخل في شئون الشرق باستمرار، إذ أن كل مختصم أضعف من خصمه، وكل شخص وقع به حيف كان يلتجأ إلى روما، فكان مندوبو روما يسافرون شرقًا على الدوام. وفي المدن كانت الديمقراطيات التي تميل إلى الحرية ولو في تصريف شئونها الداخلية تتطلع إلى مقدونيا، في حين أن الارستقراطيات كانت لا تتوانى عن الاستجابة إلى طلبات روما. وعندما أصبحت روما على هذا النحو عاملاً حاسمًا نشيطًا في سياسة العالم الهلينيسي تغير تمامًا مظهر هذا العالم، فلم يعد وحدة سياسية كما كان، لأنه في القرن الثالث، على لارغم من الحروب والأحفاد، كان هذا العالم يكون وحدة واحدة في السياسة وفي الحضارة. وإذا كانت لا تزال توجد علاقات دبلوماسية بين الممالك والمدن المختلفة، وكانت الأسر المالكة لا تزال تتتخذ من المصاهرات وسيلة لتنفيذ مآربها السياسية، فإنه لم يعد لذلك كله إلا أهمية قليلة. وكانت روما تستخدم عملاءها، وبخاصة برجام التي عرفنا كيف استعت اتساعًأ كبيرًا بفضلها، لترقب هذه العلاقات وتمنع كل تقرب حقيقي ممكن وبخاصة بين مقدونيا والدولة السلوقية. وقد أصبح العالم الهلينيسي ينقسم ثلاث مجموعات لا توجد بينها علاقات مباشرة، وهذه المجموعات هي أولاً مقدونيا وبلاد الإغريق، وثانيًا آسيا الصغرى، وثالثًا الدولتان البطلمية والسلوقية.

مصر تحاول اتباع سياسية مستقلة عن روما:

وإذا كان بطلميوس أبيفانس قد شغل بالثورات القومية التي خفضت قواه إلى أن أخضعت هذه الثورات مؤقتًا في عام 183، فإنه مع ذلك عندما علم أن أنطيوخوس المخيف قد توفي في عام 187 وخلفه على العرش ابنه الضعيف سلوقس الرابع، رأى في ذلك فرصة لاسترداد جوف سوريا. ولما كان روما قد خيبت آمال مصر منذ عهد قريب ولا يمكن أن توافق على مثل هذا الشمروع، فإن مصر قررت اتباع سياسة مستقلة عن روما. وتباع لذلك فإنها أرسلت خصيًا يدعى أريستونفوس (Aristoncos) إلى بلاد الإغريق لتجنيد فرق جديدة من المرتزقة. وحاولت في عامي 185 و183 تجديد تحالفها مع العصبة الآخية، وكانت حليفة روما لكنها كانت حليفة غير مطيعة وتشارك كل الإغريق تقريبًأ في العواطف العدائية للرومان التي أصبحت تجيش في صدورهم. وينهض هذا الاتصال بالعصبة الآخية دليلاً على أ، بلاط الإسكندرية كان يحاول أحياء سياسيته التقليدية وكانت تنطوي على القيام بدور نصير الحرية الإغريقية. بيد أن وفاة أبيفانس في عام 180 قضت على المفاوضات مع العصبة الآخية وتبعًا لذلك على مشروعات الإسكندرية على الأقل مؤقتًا، فلم تجد روما ضرورة لإفهام مصر أنها هي وحدها الفيصل في مسألة الحرية الإغريقية.

صفات بطلميوس الخامس:

وترينا تصاوير أبيفانس على نقوده ملامح بها نعومة يشوبها شيء من الضعف، ربما كان سبب موته المبكر في زهرة شبابه، هذا إذا لم يكن سببه السم على نحو ما يزعم البعض، لكن هذه النعومة العليلة لا تتفق مع أوردة بوليبيوس عن مهارته في الصيد وبراعته في ركوب الخيل ودرايته في استخدام الأسلحة، فكل هذا لا يتوافر إلا لمن كان قوي البنية بحيث يتيسر له التدريب على كل هذه الفنون وممارستها بوفرة تمكنه من التبوغ فيها.

وقبل الحرب العالمية الثانية كان يوجد في متحف تابولي تمثال نصفي يعتقد بعض علماء الآثار أنه تمثال هذا الملك، وهذا التمثال أكثر اتفاقاً مع الخلق العنيف الوحشي الذي يعزي إلى هذا الملك المحاتل، الذي تغلب فيه حب الانتقام على كل نزعة شريفة. ذلك أنه عندما سلم إليه زعماء الثورة المصريون، بعد أن أمنهم على حياتهم، شد وثائقهم إلى عجرته الحربية وجرهم وراءه عارين في الشوارع ثم شوههم وأعدمهم، فلا عجب أن قسوته الوحشية أثارت عليه كراهية رعاياه.

تبعة ضياع الإمبراطورية البطيمية:

ومن الذي يجب أن يتحمل تبعة ضياع الإمبراطورية البطلمية في عهد بطلميوس الإله أبيفانس؟ لاشك في أن البطالمة الأوائل يجب أن يتحملوا جانبًا كبيرًأ من هذه التبعة، إذ أن السياسة الداخلية الظالمة التي اتبعوها مع المصريين هي التي حدث بهؤلاء التاعسين إلى انتهاز فرصة ضعف السلطة المركزية للقيام بتلك الثورات الجامحة، التي شغلت الحكومة عن الدفاع عن تلك الإمبراطورية. ويجب أن يتحمل فيلادلفوس نصيب الأسد في هذه السياسة الداخلية البغيضة، فهو صاحب ذلك النظام المالي الكريه الذي كان له أبلغ الأثر في نفوس المصريين، على نحو ما سنرى، وتقع على عاتق بطلميوس الأول تبعة مزدوجة، فهو الذي وضع أساس السياسة الداخلية وهو أيضاً المسئول عن "المشكلة السورية"، التي نجمت عن أنانيته في السياسة الخارجية وتمخضت عنها تلك الحروب الشعواء بين السلوقيين والبطالمة. ويجب أن يتحمل جانبًا من هذه التبعة ذلكالملك العابث بطلميوس الرابع، الذي شغله مجونه فيما شغله عن متابعة سياسة خارجية حازمة، والذي أورث طفله حاشية فاسقة وضيعة لا تعني إلا بإشباع أطماعها. وأخيراً لقد لعبت يد القدر دوراً خطيراً، إذ أنه في الوقت الذي هرت فيه على مسرح السياسة في العالم الهلينيسي ثلاث قوى فتية كانت اثنتان منها تتوثب للانقضاض على ممتلكات مصر الخارجية، توفي بطلميوس الرابع تاركًا ملكه المهدد لطفل صغير، تكالب ذوو الأطماع على الفوز بالوصاية عليه والاستئثار بالسلطة دون غيرهم، ضاربين بالمصلحة العامة عرض الحائط.

ليست هناك تعليقات: