الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- بطلميوس الثالث

  • بطلميوس الثالث
طباعة أرسل لصديق

بطليموس الثالث
  • يبدو أن انتقال العرش من بطلميوس الثاني إلى ابنه من أرسينوي الأولى تم دون حدوث أي اضطرابات. ويبين من قرار قانوب أن بطلميوس الثالث خلف أباه على العرش في 27 من يناير سنة 246 ق.م.

وقد أشاد الشعراء بوداعة الملك الجديد، وهي صفة يبدو أنه يؤيدها لقبه الإلهي يورجتيس أي الخير، لكن هذه الصفة تبدو مغتصبة إلى حد ما إذا صح ما يعقتده بعض الباحثين من أن بطلميوس الثالث لم يكتف بعزل أبولونيوس وزير مالية أبيه من منصبه بل أمر أيضاً بإعدامه. وعلى كل حال فإنه كانت لدى يورجتيس مثل سلفيه فكرة عالية عن عظمة الملك ومشاغل الحكم. وكان ملكًا مثقفاً مثل أبيه فقد كان تلميذ الشاعر أبولونيوس الرودسي وصديق العالم الفذ أراتوسثنيس (Eratosthenes). ويمكننا أن نرى ميله للعلوم الدقيقة في إصلاح التقويم، الذي فرضه على الكهنة المصريين ثم اتبسه يوليوس قيصر فيما بعد. وكان هذا الإصلاح ينطوي على إضافة يوم كل أربعة أعوام إلى العام المصري وكان يتألف من 365 يومًا. ومن المؤكد أ،ه كان أديبًا، وإذا كان لم يصلنا أمر أملاه، مثل ما وصلنا من فيلادلفوس، نستطيع أن نسمع فيه أصداء صوته، فإنه فيما يبدو هو الذي صنف ذلك البيان الرسمي عن بداية الحرب السورية الثالثة، وهو الذي حفظت لنا بدرية من جوروب بالفيوم جزءًا منه.

الحرب السورية الثالثة:

أدى زواج برنيقي من أنطيوخوس الثاني إلى متاعب مفجعة، عندما توفي هذا الملك في عام 246، إذ أنه عقب ذلك مباشرة احتدم النزاع بين لاوديقي وبرنيقي، فقد كان طبيعيًأ أن تكافح كل منهما من أجل ارتقاء ابنها عرش أبيه.

وقد كان مركز لاوديفي قويًا في آسيا الصغرى، حيث كان أخوها الإسكندر حاكم ولاية لوديا، وفضلاً عن ذلك فإنها في عام 246 أفلحت في إغراء أنطيوخوس على زيارتها في أفسوس حيث مرض فجأة وتوفي ونودي بابن لاوديقي الأكبر ملكًا باسم سلوقس الثاني. فهل كان أنطيوخوس قد نادى قبل وفاته بسلوقس خليفة له؟ أن المصادر القديمة تذكر أن لاوديقي دست السم لزوجها وأحضرت بعد وفاته شبيهًا له مثل دور الملك وهو يعالج سكرات الموت وأوصى أتباعه بالولاء لأبنائه. ولماكانت زيارة أنطيوخوس لزوجة الأولى لاوديقي أمرًا حقيقيًا لا يرقى إليه الشك، فإن ذلك يدل على مصالحة أنطيوخوس للأوديقي. ومن اليسير أن نتصور دون إسراف في الرأي أن هذه السيدة بادرت إلى انتهاز فرصة استعادة حظوتها لدى الملك فظفرت منه باالاعتراف بولاية العرش لابنها الأكبر. بل لا يبعد أن يكون أنطيوخوس، عندما أتاه نبأ وفاة فيلادلفوس، قرر مصالحة لاوديقي بقصد إعادة ولاية العرش لأبنائها لأنه وقد أفاق من غفوته قدر المخاطر التي تتهدد دولته من وصاية طويلة الأمد إذا خلفه على العرش ابنه الطفل من برنيقي، في حين أنه لم يكن هناك مجال لأية وصاية إذا خلفه ابنه الأكبر من لاوديقي فقد كان يناهز عندئذ التاسعة عشرة من عمره. ولا يبعد أن تكون لاوديقي بعد فوزها بأمنيتها قضت على زوجها خوفًا من أن يقع تحت تأثير برنيقي وبغير رأيه مرة أخرى.

ومن ناحية أخرى كان مركز برنيقي قويًا في أنطاكية، حيث كان يؤيدها بعض القواد. هذا إلى أن المدن السورية الأخرى اعتبرت أبنها وريث العرش الشرعي. وفضلاً عن ذلك فإنها كانت على مقربة يسيرة من مصر. وقد أفضى النزاع بين برنيقي ولاوديقي إلى نشوب الحرب السورية الثالثة أو حرب لاوديقي، وهي حرب يخيم حول سيرتها ظلام كثيف يثير الشكوك وتضارب الآراء.

وقد تكشف البحث الحديث عن روايات مختلفة عن سيرة هذه الحرب. وعلى كل فإنه يمكننا أن نتبين وسط الظلام الدامس أن برنيقي بادرت إلى الرد عى مناولة لاوديقي ببيان هاجمت فيه الحق الذي ادعاه سلوقس لنفسه في العرش واتتهمت لاوديقي بدس السم لزوجها وتزييف اعترائه بسلوقس خليفة له، وأن هذا البيان أكسب برنيقي تأييد أنطاكية وباقي المدن السورية، ومع ذلك فإن فئة قوية في انطاكية كانت نؤيد لاوديقي، وأن برنيقي فاشدت مساعدة أخيها ملك مصر فأنقذ أسطولاً إلى سولي في قيليا حيث فاجأ رجاله حاكم هذه المقاطعة وهو يحاول نقل مبلغ كبير من المال إلى لاوديقي فاستولوا على الأموال والولاية وممرات الطوروس، وأن بطلميوس الثالث دخل سلوقية بيريه قرب مصب نهر العاصي ثم أنطاكية حيث استقبل استقبالاً حافلاً أثار دهشته. واعتمادًا على ما يرويه يوستينوس وبولي آينوس، يعتقد بعض المحدثين أن برنيقي وابنها كانا قد قتلا قبل وصول يورجتيس إلى سوريا وفاته أخفيت لأسباب سياسية. لكن بقايا بردية جوروب التي تعطينا النص الرسمي عن هذه الحوادث تقول أن برنيقي كانت لا تزال على قيد الحياة. ولذلك نرجح أن الثورة التي قام بها أنصار لاوديقي في أنطاكية بتأييد فريق من مرتزقة الغال وأفضت إلى خطف طفل برنيقي وقتله ثم خطف برنيقي نفسها وإعدامها لم تحدث إلا بعد ذلك في أثناء الحملة التي قام بها بطلميوس يورجتيس حتى سلوقية على نهر الدجلة (عام 245).

وتحدثنا المصادر القديمة بأن يورجتيس كان في قلب آسيا في عام 246/245. وإذا صدقنا في ذلك نقشا، كان على نصب على البازلت أقيم فوق عرش من المرمر في أدوليس (Adulis) بالحبشة، ونقل نصه راهب كان يعيش في القرن الثامن للمسيح ويدعى قوسماس أنديقوبلستس (Cosmas Indicopieustes)، فإن ملك مصر أخضع كل آسيا حتى باقتريانا (Bactriana). لكنه يكاد يكون مؤكدًا أن يورجتيس قاد جيوشه حتى سلوقية على الدجلة، ثم أنفذ الرسل باسم أخته إلى حكام الولايات الشرقية يطلب منهم الطاعة فأذعنوا، وبعد ذلك عين حاكمًا عامًا على هذه الولايات، وعاد إلى مصر لقيام ثورة فيها. وإذا صح أن برنيقي وابنهاكانا قد قتلا قبل وصول بطلميوس الثالث إلى سوريا، وأن ملك مصر قد تعمد احفاء ذلك، فلماذا زحف شرقًا؟ أكان يطمع في بسط نفوذه على الولايات الشرقية في إمبراطورية السلوقيين؟ وإذاكانت هذه الآمال قد دارت بخلده، فأليس من المعقول أنه كان يترك وراء قوة كبيرة لدعم سلطانه في تلك الأرجاء عندما اضطرته حوادث مصر إلى العودة إليها سريعًا؟ رب معترض يقول أن الظروف التي استدعت يورجتيس إلى مصر حالت دون تركه قسوة كبيرة وراءه للمحافظة على فتوحاته. وإذا صح ذلك فلماذا، فيما بعد، عندما امتد سلطانه امتدادًا واسعًا في بحر أيجة، ولاسيما عندما دخل الانحلال إمبراطورية السلوقيين وتقطعت أوصالها، لم يحاول أن يوسع ممتلكاته على حساب تلك الإمبراطورية مع أن الفرصة كانت مواتية، وليس لهذا سبب سوى أن البطالمة لم يفكروا إلا في إمبراطورية بحرية، ولذلك فستبعد أن برنيقي وابنها كانا قد قتلا قبل وصول يوجنيس إلى سوريا وزحفه شرقًا، وأنه أخفى ذلك لتحقيق أطماعه، إذ أن تدل على أنه لم تكن ليورجتيس أطماع هناك، وأنه لم يقم بحملته إلا لدعم حقوق أخته وابنها، ولذلك أيضاً نعتقد أن برنيقي وابنها لم يقاتلا إلا في عام 245، عندما وقعت فتنة في أنطاكية ذهبًا ضحيتها.

وعندما عاد يورجتيس إلى مصر، ترك حاميات في سوريا، لكن سلوقس بادر إلى دعم مركزه فاكتسب بزواج أختيه يداتس ملك بونتوس وأريارانس (Ariarathes) ملك قابادوفيا بلبقاته السياسية أن يستميل أغلب المدن الإغريقية في آسيا الصغرى. وفي عام 245/ 244 استعاد الولايات الوسطى والشرقية وجانبًا من فيليقيا وكل سوريا السلوقية فيبا عدا سلوقية بيريه. وفي عام 243 حاول استرداد شواطئ فينيقيا وسلوقية وغزو جوف سوريا، لكن العواصف حطمت أسطوله وأنزل به الجيش البطلمي هزيمة فادحة فارتد إلى أنطاكية. وفي عام 242 حاصرت قوة مصرية دمشق ولم يستطع سلوقس انقاذها إلا في العام التالي عندما جاء أخوة أنطيوخوس هراكس لنجدته، لكن كل الشاطئ السوري حتى سلوقية بيريه بقى في قبضة بطلميوس.

جوناتاس يستعيد جزر القوقلاد:

وقد كان لسوقس الثاني حليف طبيعي، وإن لم يكن حليفًا رسميًا، وهو جوناتاس ملك مقودنيا، وكن يتطلع إلى فرصة للثأر من مصر جزاء مساعدتها الإسكندر وأراتوس واستردادها سيادة بحر أيجة، ولذلك فإنه، بعدما استرد في عام 246 قورنثة ويوبويا وتبعًا لذلك كل قوات أسطوله، انتهز فرصة انهماك مصر في شئون الدولة السلوقية وهزم عند أندروس في عام 245 جزءًا من الأسطول البطلمي، وتمكن من استعادة جزر القوقلاد، لكن مصر احتفظت بجزيرة ثيرا وكذلك بكريت فضلاً عن ممتلكاتها في آسيا الصغرى.

اتساعًا نطاق إمبراطورية البطالمة البحرية:

وحدث في عام 243 أن أفلتت قورنثة من قبضة جوناتاس فأضعف ذلك قوته البحرية، وأن العواصف حطمت أسطول سلوقس، فانتهزت مصر الفرصة للقيام بعمليات بحرية واسعة المدى في عام 343 أو عام 242. وإذا كنا لا نعرف تفاصيل هذه العمليات ولا إذا كانت قد تمت ڤـ يحملة واحدة أ:و أكثر، فإننا نعرف أن سوفرون، حاكم أفسوس، سلمها إلى القوات البطلمية، وأنه بينما بقى في قبضة سلوقس قيليقيا الشرقية (عدا سولي وسالوس وسلوقية) وأيونياً الشمالية، استردت مصر قيليقيا الغربية وبامفوليا واحتفظت بممتلكاتها السابقة في لوقيا وقاريا واستولت على أبونيا الجنوبية وعلى جزيرتي لسبوس وساموتراقيا وكذلك على ممتلكات سلوقس في تراقيا حتى مارونية، بما في ذلك شبه جزيرتها (غاليبولي)، وذلك فضلاً عن الشاطئ السوري حتى سلوقية بيريه قرب مصب نهر العاصي.

وفي عام 241 عقد سلوقس مع بطلميوس صلحًا أيد هذه النتائج الباهرة التي جعلت مركز مصر عندئذ على شواطئ بحر أيجة الشمالية والشرقية أقوى من مركزها في عام 272. ومع ذلك فإن مصر لم تتمتع عندئذ بمثل تلك السيادة البحرية التي كانت تتمتع بها قبلاً لأن مقدونيا بسيطرتها على جزر القوقلاد قاسمت مصر سيادة البحر وتبعًا لذلك حرمتها التدخل تدخلاً فعالاً في شئون بلاد الإغريق (وإن كانت ما زالت تحتفظ هناك بمثانًا). و منذ ذلك الوقت اقتصر تدخل مصر في بلاد الإغريق على تقديم المساعدات المالية.

عصبتا أبتوليسا وآخايا:

وبعد هذه البداية الزاهرة ساد السلام في عصر يورجتيس إلى حد يثير الدهشة، إذ أن الصعاب كتنفت ملكي مقدونيا وسوريا، ومع ذلك يبدو أنه لم يبذل جهداً كبيرًا للإفادة من متاعب منافسيه. فمنناحية اشتبك جوناتاس في حرب شعواء مع الجمهوريات الإغريقية، وعندما توفي في عام 239 كان قد فقد كل بلاد الإغريق تقريبًا، ولم تعد مقدونيا تلعب هناك الدور الرئيسي، فقد آل ذلك الدور إلى عصبتي أيتوليا وآخيا. وما كاد دمتريوس الثاني (239-229) يرتقي عرش مقدونيا حتى تصادم مع عصبة أيتوليا، فانقصمت عرى الصداقة القديمة بين دولته وهذه العصبة التي تآلفت مع عصبة آخايا ونشب بين دمتريوس وهاتين العصبتين ما يعرف "بحرب دمتريوس" (238-239). ولم تتدخل مصر في هذه الحرب بل اكتفت بتدقيم اعاانات مالية لأراتوس زعيم العصبة الآخية. وإذا كان دمنريوس قد نجح في اقتطاع بويوتيا وفوقيس من عصبة أيتوليا وانزل بعض الهزائم بعصبة آخايًا، فإن هذه العصبة خرجت من هذه الحرب أقوى بكثير مما دخلتها، فقد ضمت إلى حظيرتها كل إقليم أرجوس (ماعدا مثانًا المصرية) وكل أرقاديا (ماعدا مانتينيا وتجيا تابعتي أيتوليا).

وفي أثناء هذه الحرب أنقض الدرداني (Dardani) على مقدونيا من الشمال وأنزلوا بتدمتريوس هزيمة فادحة (عام 233) قضى بقية حكمه في إصلاح آثارها، مما شغله عن الاشتراك شخصيًا في الحملات الأخيرة في "حرب دمتريوس".

ومن ناحية أخرى ساءت جدًا حال إمبراطورية السلوقيين، وكان الانحلال قد أخذ يدب إليها منذ عهد أنطيوخوس الثاني (261 -246). فقد اسنلخت عنها باقتريا (حوالي عام 250)، ثم بارثيا (PJarthia) على مرحلتين في عام 247 وحوالي 235، وأرمينيا (حوالي عام 230)، بينما استرمت بيثونيا وقابادوقيا وبونتوس تتمتع باستقلالها، ومضت برجام في بناء قوتها في عهد أنالوس الأول (241 ـ197) حتى غدت دولة شديدة اليأس.

حرب الأخوين:

وفي هذه الأثناء قطعت الخلافات أوصال أسرة السلوقيين. وبيان ذلك أنه في عام 245 عندما بارح سلوقس الثاني آسيا الصغرى لاستعادة دولته، ترك في ساردس أخاه الصغير أنطيوخوس هراكس، وكانت أمه تشجعه على أن يصبح حاكمًا مستقلاً. ولذلك فإنه عندما فأشده سلوقس المساعدة في أواخر الحرب السورية الثالثة لم يحصل على هذه المساعدة إلا بشرط الاعتراف به شريكًا في المك، يتمتع بسلطة كاملة في آسيا الصغرى (عام 241).

ولما كان يصعب على سلوقس احترام هذا الاتفاق الذي كان يترتب عليه أقصاؤه عن بحر أيجة، فإنه لم يكن هناك مفر من اصطدام الأخوين، فوقعت بينهما حرب ضروس يطلق عليها "حرب الأخوين". ذلك أن سلوقس غزا آسيا الصغرى في عام 237 وفاز ببعض الانتصارات لكن الغال، حلفاء أخيه، أنزلوا به هزيمة فادحة عند أنقرة اضطرته إلى عقد الصلح والنزول نهائياً عن آسيا الصغرى لأنطيوخوس (عام 236). بيد أنه سرعان ما ثبت عجز أنطيوخوس عن الاحتفاظ بسطوة السلوقيين في آسيا الصغرى حيث قام هنا وهناك حكام مستقلون عنه، بل أنه أطلق العنان لحلفائه الغال فأوسعوا البلاد سلبًا ونهبًا إلى أن أنزل بهم أنالوس ـ خليفه ابن عمه يومنيس في برجام ـ في عام 230 هزيمة ساحقة أرتدوا بعدها إلى مقاطعة جالانيا في وسط فروجيا الكبرى، وبذلك تخلصت آسيا الصغرى من شرورهم طوال حياته، فهلك له المدن الإغريقية باعتباره منقذها.

أنالوس الأول ملك برجام:

وإزاء المكانة التي اكتسبها أنالوس على هذا النحو اتخذ لنفهس لقب ملك وقرر الاستيلاء على الممتلكات السلوقية في آسيا الصغرى.

وقد أفضت ثلاث مواقع حربية بين أنالوس وأنطيوخوس، في فروجيا على الدردنيل وفي لوديا فيو قاريا، إلى طرد أنطيوخوس من آسيا الصغرى حيث أصبح أنالوس في عام 228 سيد كل الولايات السلوقية شمالي الطوروس (ماعدا قيليقيا والأقاليم التي استقل بها الحكام المحليون). وعندما طرد أنطيوخوس من آسيا الصغرى كان سلوقس مشتبكًا في حرب ما بارثيا، فانتهز أنطيوخوس هذه الفرصة لخلع أخيه وحصل على تأييد أنطاكية، بتدبير عمته استراتوفيقي، مطلقة دمتريوس الثاني ملك مقدونيا، كما حصل على قوات من أرمينيا، لكن سلوقس عاد مسرعًا من بارثيا وبدد شمل قوات أنطيوخوس واسترد أنطاكية.

ولما كان في صالح دولة البطالمة أن تكون الدولة السلوقية ـ وهي أخطر منافس لها ـ نهياً لصراع أسرى وبيل يهدد كيانها ويضعف قوتها، فلا شك في أن السياسة والأموال البطلمية كانت تؤيد هراكس ضد أخيه سلوقس، لكن الجيوش البطلمية لم تتدخل في الصراع بين الأخوين.وعندما فر هراكس إلى الإسكندرية، بعد فشله في الاحتفاظ بملكه وفي خلع أخيه، سجنه يورجتيس. وإذا كان قد تركه يهرب فإن ذلك كان دون شك نتيجة الإهمال ولم يكن نتيجة خطة سياسية، لأن هذه المخاطر ذهب للقتال وملاقاة حتفه عبثًا في تراقيا. وإذا كان يورجتيس يطمع حقًا في ضم الولايات الشرقية في الإمبراطورية السلوقية، فلماذا لم ينتهز فرصة حلقات الصراع المرير بين الأخوين وهي التي زعزت أركان تلك الإمبراطورية ويتدخل بجيوشه لتحقيق تلك الأطماع؟

انتيجونوس دوسون:

وفي آخر عهد يورجيتس استعادت مقدونيا سيادة بلاد الإغريق. ذلك أن خليفة دمتريوس الثاني كان طفلاً في التاسعة من عمره فاغتصب الملك منه الوصي عليه: أنتيجونوس دوسون (Doson) ابن دمتريوس الجميل. وقد كان عاهل مقدونيا الجديد جديرًا بشرف الانتساب إلى سلالة الملوك العظام في أسرة أنتيجونوس، فإنه بادر بالاستيلاء على تسالياً وسلب مصر قاريا ثم استغل فرصة المنازعات التي قطعت أوصال بلاد الإغريق ليعيد بسط سيادة مقودنيا عليها. فمن ناحية تقرب إليه الأيتوليون عندما رأوا أن حلفاءهم الآخيين قد جنوا من حرب دمتريوس خير الثمار واتسعت عصبتهم اتساعًا كبيرًا، ومن ناحية أخرى عدل قليومنيس دستور اسبرط’، وأقام نفسه طاغية عليها، وقام بإصلاحات اشتراكية واسعة المدى، واتبع منذ عام 228 سياسة خارجية تستهدف السيطرة على البلوبونيز. ولما كان قليومنيس قد استولى على مدينة بعد أخرى من مدن عصبة آخايا، وكانت ميوله الاشتراكية تتهدد طبقة أصحاب الأملاك في هذه العصبة وهي التي كان الأبنوليون يتربصون بها الدوائر، وكان بطلميوس يورجتيس قد حول إلى قليومنيس المساعدة المالية التي كان فمما مضى يقدمها أرانوس زعيم العصبة الآخية، لأنه كان يريد في بلا الإغريق خصمًا قويًا لدوداً لمقدونيا ولأن اسبرطة بزعامة قليومنيس كان أصلح من يقوم بهذا الدور، فإن عصبة آخايا لم تر مفرًا من التحالف مع عدوتها القدمية مقدونيا (شتاء 225/224). وقد يسر ذلك مهمة دوسون الذي جدد في ربيع 224 محالفة دمتريوس مع بويوتيا واقتحم برزخ قورنثة واستولى على قورنثة وأرجوس. وفي خريف هذا العام أنشأ دوسون بزعامة مقدونيا عصبة هلينية جديدة تتألف من أقارنانيا وآخايا وبويوتيا وأبيروس وبوبويا وفوقيس وتساليا. ومع كل النقائص التي كانت تعتور تكوين هذه العصبة وصلاحيتها للعمل، فإنها كانت على الأقل خطوة في سبيل توحيد بلاد الإغريق وتعاونها مع مقدونيا. وفي عام 223 استولى دوسون على كل مدن أرقاديا.

يورجتيس يعدل عن سياسة معاداة مقدونيا:

وفي الوقت الذي تخرج فيه مركز قليومنيس، ارتقى عرش الدولة السلوقية ملك جم النشاط (أنطيوخوس الثالث)، فقطع يورجتيس امداداته المالية عن قليومنيس ونصحه بالاتفاق مع دوسون، لكن قليومنيس آثر أن يخوض مع خصمه معركة فاصلة عند سلاسيا (Sellasia) في عام 222. وعندما انتصر دوسون في هذه الموقعة ضم اسبرطة إلى العصبة الهلينية وفرقيلومنيس إلى بلاط الإسكندرية يطلب العون بالمال والرجال، فلقى ترحيبًا بمقدمة وأن لم يلق حماسًا لقضيته. وربما كان من الحق ألا يلازم يورجتيس على هذا التحول في سياسته، لأنه إزاء فشل قليوميس في حربه مع مقدونيا، وإزاء نشاط الملك السلوقي الجديد الذي كان يحمل في طياته نذرًا تتبدد مصر، كان من الحكمة ألا ينادي بورجتيس في معاداة مقدونيا، ولاسيما أنه لم يمد هناك أمل في أن يجني من وراء ذلك شيئًا اللهم إلا أن يدفع مقدونيا إلى التعاون مع سوريا ضده، وقد سبق لمصر أن خبرت قوة مثل هذه التعاون.

انطيوخوس الثالث:

عندما ارتقى سلوقس الثالث عرش سوريا في عام 226، عهد إلى أخيه الصغير أنطيوخوس بحكم بابل. واختار رجلا سياسيًا بارعًا من قاريا يدعى هرمياس كبيرًا لوزرائه وأسند إلى عمه أندروماخوس استرداد آسيا الصغرى من أنالوس، إلا أن أنالوس هزم أندروماخوس وأرسله إلى مصر. وهذا ينهض دليلاً على أ، يورجتيس كان يعاون أنالوس مثل ما كان فيلادلفوس يعاون يومنيس.

وعندما عبر سلوقس نفسه الطوروس وقتله اثنان من ضباطه، خشي أن يقع نضال على العرش بين أنطيوخوس وأخايوس (Achaeos)، ابن أنطيوخوس في بابل، لكن أخايوس نادى بأنطيوخوس ملكًا (عام 223) وعاقب قتلة سلوقس. وقد استبقى أنطيوخوس الثالث هرمياس في منصبه كبيرًا للوزراء وعهد إلى أخايوس برد أنالوس على أعقابه، وأسند ولايتي ميديا وفارس إلى حاطمين شبه مستقلين وهما مولون (Molon) وشقيقة الإسكندر. وسرعان ما أثبتت الأحداث بعد نظر يورجتيس أو وزير ماليته سوسيبيوس (Sosibios) ابن ديوسقوريدس (Duiscirudes) عندما قرر مهادنة أنتيجونوس دوسون بدلاً من التمادي في معاداته. إذ أنه عقب وفاة يورجتيس ناصب هرمياس مصر العداء، لكنه لم يكن عداء خطيرًا بسبب المخاطر التي استهدفت لها عندئذ دولة السلوقيين. وذلك أنه في عام 222 ثار مولون وشيقيه على أنطيوخوس، فدعا الملك مجلسه إلى الاجتماع في أنطاكية. وكان من رأي أبيجنيس (Epigenes) القائد الشيخ المحنك، أن يقوم الملك بنفسه بإخماد الثورة، لكن هرمياس خالف هذا الرأي، واقترح إيفاد حملة لإخماد الثورة دون تعريض حياة الملك للمخاطر، كما اقترح انتهاز فرصة وفاة يورجتيس ومحاولة غزو جوف سوريا انتقاماً من مصر، فقد زعم أنه يوجد تفاهم بين أخايوس وبلاط الإسكندرية.. ولذلك تقرر ارسال هائدين لاخضاع مولون وانفاذ حملة لغزو جوف سوريا، لكن مولون هزم القائدين كما أن ثيودوتوس الأيتولي هزم الجيش السلوقي الذي دخل جوف سوريا (عام 221). وعندئذ استقر رأي أنطيوخوس وهرمياس على أن يتوليا بنفسيهما أمر مولون وشقيقه، وفعلاً نجحا في وضع الأمور في نصابها. وفي آخر عام 220 عاد أنطيوخوس مظفرًا، بعد القضاء على مولون والإسكندر. هذا إلى أن هرمياس نفسه، وقد كرهه كل البلاط ولم يعد الملك يحتمل وصايته الوقحة، لقى حتفه في سلوقية على الدجلة في مؤامرة دبرها طبيب أنطيوخوس.

ثورة أخايوس:

ويبدو أن أخايوس بقى وفيًا لابن عمه حتى عام 220 لكنه بعد قيامه بحملة ناجحة (222-221)، استرد فيها من أنالوس كل ما كان قد كسبه منذ الحرب السورية الثالثة (ماعدا بعض المدن في إقليم طروادة)، بدلاً من أن يتابع هذا النجاح بتضييق الخناق على برجام أسكرته نشوة النصر النصر وخيل إليه أن أنطيوخوس قد لا يعود من حملته الشرقية، أو على الأقل أن في وسعه غز سوريا قبل عودة أنطيوخوس، فخرج على رأس جيش كبير لتحقيق أطماعه. بيد أنه عندما فطن جنوده إلى نواياه وفضوا المشاركة في حملة ضد الملك الشرعي، ما اضطره إلى العدول عن عزمه والانصراف إلى محاربة بعض قبائل بيسيديا، وبذلك أتاح لأنالوس الفرصة لاسترداد أكثر المدن الإغريقية التي كان قد فقدها. وعلى الرغم من أن أنطيوخوس علم بغدر أخايوس، فإنه رأى من الحكمة ألا يتعرض لهذا الخصم الذي كانت مصر تحاول استمالته إلى جانبها، مقدرًا أن نشاط أنالوس وعواطف جنود أخايوس لن تتيح له تكرار محاولته السابقة.

استعراض سياسة بطلميوس الثالث الخارجية:

ويتضح بجلاء من استعراض فتوحات بطلميوس الثالث أنه اقتفى في سياسته الخارجية خطوات أبيه وجده، وهي السياسة التي كانت تهدف إلى المحافظة على استقلال مصر والحصول على ما تفتقر إليه من المواد الضرورية. والسيطرة على الطرق البحرية المؤدية إلى نصر، والاستيلاء على أهم منافذ الطرق التجارية الوافدة من أواسط آسيا، أو بعبارة أخرى استقلال مصر، وسيادة بحر أيجة من أجل ضمان سلامة مصر وقوتها وثرائها. لكنه إذا كانت إمبراطورية الطبالمة قد بلغت أقصى مداها في عهد يورجتيس، فإنها لم تشمل عندئذ مصبة القوقلاد، وتبعًا لذلك لم تتمتع مصر عندئذ بسيادة كاملة على بحر أيجة.

ويرى بعض المؤرخين أن حصول البطالمة على ممتلكات على شواطئ آسيا الصغرى من قيليقيا إلى الدردنيل، وفي غايبولي وفي تراقيا، يشير إلى أنهم لم يرموا إلى الإشراف على الطرق التجارية المؤدية إلى الإسكندرية فحسب، بل إلى رغبتهم كذلك في الاستيلاء على كل بحر أيجة من أجل الحصول على سيادة العالم ـ تلك الرغبة التي كانت الدافع وراء مشروعات كافة القوى المتنافسة في العالم الإغريقي منذ بداية القرن الثالث. ونحن نرى أن الأمر لم يقتصر على تلك الممتلكات الواسعة الآنفة الذكر، بل إن نفوذهم امتد كذلك إلى شواطئ بحر مرة وشواطئ البحر الأسود الجنوبية، يفضل تحالفهم مع برجام وصداقتهم مع "العصبة الشمالية" في آسيا الصغرى، وكانت تناصب دولة السلوقيين العداء، ونرى أيضاً أن البطالمة لم يرموا فقط إلى الاكتفاء بالإشراف على الطرق البحرية المؤدية إلى الإسكندرية، بل كانوا يرمون أيضاً إلى الاستيلاء على أهم منافذ الطرق التجارية الآتية من أواسط آسيا، وذلك للتحكم في التجارة الشرقية الهامة ولضمان سيادة بحر أيجة، لا من أجل الحصول على سيادة العالم وأنه من أجل ضمان استقلال مصر وقوتها وثرائها كما سلف القول. ولو أن البطالمة كانوا يرمون حقًا إلى سيادة العالم، لا تنهزوا ما سلح لهم من الفرص التي كانت موانية لمثل هذه الأطماع الجامحة، لكن نشوة النصر لم تسكرهم، فقد عرفوا كيف يكبحون جناح أطماعهم في ساعات انتصارهم، ولذلك عمرت دولتهم من أية دولة هلينيسية أخرى.

وإذا كانت فكرة تكوين إمبراطورية عالمية قد بدت لملوك مقدونيا بسبب ثروتهم العسكرية، وإن كنا نعرف أنها لم تخطر ببال أحد من هؤلاء الملوك بعد دمتريوس "محاضر المدن"، أو إذا كانت هذه الفكرة قد طرأت لمولك آسيا بسبب غناهم بالمال والرجال، فإنها كانت تبدو غريبة وبعيدة التحقيق بل حافلة بالمخاطر لملوك مصر، لأن إخضاع العالم كان يتطلب وجود جيش كبير يمكن تجديده بسهولة، في حين أن البطالمة كانوا يعتمدون في تكوين جيوشهم على التجنيد الخارجي، وكان يكلفهم كثيرًا بل أهم من ذلك أنه كان تحت رحمة الظروف المختلفة وعرضة للنقص بل الانقطاع كلية.

وإذا ألقينا نظرة عاجلة على إمبراطورية البطالمة، فإننا نلاحظ أنها إمبراطورية بحرية، وأن بعض أجزائها كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمركز هذه الإمبراطورية أو بعبارة أخرى بمصر نفسها، وأن بعضها الآخر كان بعيدًا عن ذلك المركز ومشتتاً. ونستبين من تاريخ البطالمة الثلاثة الأوائل أنهم لم يدخروا وسعًا في الاحتفاظ بالبعض الأول (قورينايئة وجوف سوريا وقبرص)، في حين أنهم كانوا يسلمون بضياع البعض الآخر عندما لم يقدروا على مواجهة الظروف الخارجية. والحقيقة هي أن مصر كانت العماد الأول لقوة البطالمة وثروتهم وأهم جزء في إمبراطوريتهم.

وقد رأينا كيف أن يروجتيس لم يثابر على النشاط الذي أبداه في مستهل حكمه، وهذا في ذاته دليل على أنه لم يطمع في الاستيلاء على العالم، بل أن يروجتيس لم يعمل حتى على استرداد عصبة القوقلاد، ولعله لم ير داعيًا لذلك بعد استيلائه على شواطئ بحر أيجة الشمالية والشرقية. وعلى كل حال فإن مصر نعمت بالسلم عشرين عامًا، إذ أن يورجتيس قصر نشاطه الخارجي منذ عام 241 على تقديم إعانات مالية لأراتوس وقليومنيس في بلاد الإغريق، ومن المحتمل أيضاً لأنطيوخوس هراكس وأنالوس في آسيا، لكن هذا السلم، الذي يرجع إلى ما صادف منافسي بورجنيس من المتاعب قد أبرز ضعفًا شديدًا في هذا العاهل، فهو لم ينشط في الإفادة من هذه المتاعب بل ترك أنتيجونوس دوسون ينقض على ممتلكاته في قاريا، وانقض عن تأييد قليومنيس مثل ما انقض أبوه من قبل عن أثينا. وأخطر من ذلك كله أنه ترك جيشه وأسطوله يستغرقان في التراخي والضعف، حتى أنه عندما توفي في عام 221 لم تعد مصر قوة حربية يخشى بأسها.

ليست هناك تعليقات: