الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- بكلميوس 6،7،8

بطليموس السادس
والسابع والثامن
طباعة أرسل لصديق
مصر بلا مبراطورية

العالم الهلينيسي بعد أباميا:

برجام ورودس:

ولنلق الآن نظرة عابرة على حالة العالم الهلينيسي منذ معاهدة أباميا (عام 188) لتتيسر لنا متابعة تاريخ مصر في خلال هذه الفترة، لأن هذه المعاهدة غيرت حال عالم الحوض الشرقي للبحر المتوسط بوجه خاص، وذلك نتيجة لما قضت به من أضعاف قوة دولتي البطالمة والسلوقيين وزيادة قوة دولتي برجام ورودس .

وكان يو منيس الثاني ـ خليفة أتالوس على عرش برجام منذ عام 197 ـ أكثر حلفاء روما تحريضًا لها على محاربة أنطيوخوس الثالث فقد كان طبيعيًا أن تخشى برجام إعادة بناء الإمبراطورية السلوقية على النحو الذي كان يحلم به أنطيوخوس الثالث، فلا عجب أن روما كافأت حليفها على نشاطه ضد خصمها بتوطيد دعائم قوته بمقتضى معاهدة أباميا على نحو ما مر بنا. لكنه كان يحد من سلطة يومنيس قبل كل شيء تلك الترتيبات التي نظمت بها روما عندئذ مصير المدن الإغريفية في آسيا الصغرى، إذ أن كل المدن التي كانت في الماضي تدفع الجزية لأنطيوخوس لكنها بقيت وفية لروما أعفيت من دفع الجزية ليومنيس، وأما المدن التي خرجت على المحالفة الرومانية وانضمت إلى أنطيوخوس في الحرب، فإنه كان عليها أن تدفع لومنيس ما كانت تدفعه لأنطيوخوس. وقضت روما أيضاً بأن كل المدن التي كانت تدفع الجزية لأنالوس يجب أن تدفع الجزية نفسها ليومنيس. ومن ناحية أخرى كانت توازن قوة مملكة برجام قوة الممالك المنافسة لها، وهي المملكة السلوقية نفسها وقابادوقيا وبونتوس وبيثونيا في آسيا، ومقدونيا في أوربا.

وقد كانت برجام، بوصفها عميلة روما، مكلفة، في السنين الأولى وقابادوقيا ووضع حد لأطماعها، لكن برجام لم تلبث أن فقدت مكانتها باعتبارها الفيصل في منازعات آسيا الصغرى.


وإذا كانت برجام قد ارتضت لنفسها أن تقوم بدور عميل روما، فإن رودس برغم ما أفادته من معاهدة أباميا بفضل لوما، اتخذت بوجه عام إزاء روما موقف الصديق المستقل وحرصت على عدم توريط نفسها أو أصدقائها في مشاكل تستوجب تدخل روما.

وقد كانت نقطة التحول في علاقة روما بحليفتيها المخلصتين في بحر أيجة وآسيا الصغرى (وهما رودس وبرجام) "الحرب المقدونية الثالثة"، (171-168) وهي التي أظهر فيها الإغريق قاطبة عطفهم على برسيوس ملك مقدونيا في صراعه ضد روما، مع أن الإغريق قاطبة عطفهم على برسيوس ملك مقدونيا في صراعه ضد روما، مع أن الإغريق كانوا يتعاونو رسميًا مع روما ضد مقدونيا، وتبعًا لذلك غيرت روما علاقتها مع حلفائها وسائر الإغريق.

وكانت بعض تصرفات رودس وبرجام في أثناء هذه الحرب قد أثارت شكوك روما في نواياهما، ولا سيما أنهما توسطتا لإنهاء الحرب لا حين كانت قوات روما تقف عاجزة أمام برسيوس وإنما حين كانت روما على وشك أن تسحق غريمها. وإزاء ذلك ما أن فرغت روما من أمر مقدونيا حتى حرمت رودس ممتلكاتها في آسيا الصغرى وجعلت ديلوس ميناء حرًا. وقد ترتب على ذلك أن رودس تحملت خسائر مادية فادحة، وفقدت سيادتها التجارية في بحر أيجة، مما أفضى إلى ترك هذا البحر تحت رحمة القراصنة. ولم تعد روما تسمح لبرجام بلعب الدور الأول الذي اعتادته في سياسة آسيا الصغرى. وحين اشتبك يومني الثاني مع الغال أصحاب جالانيا، لم تكتف روما بالامتناع عن مساعدته، بل أنها كانت تشجع الغال ضده. وفي عام 133 طرأ تغير هام على الحالة السياسية في آسيا الصغرى، عندما توفي أتالوس الثالث ملك برجام وأورث روما مملكته. ومع ذلك فإن كيان الدول القليلة، التي كانت مستقلة ولم تتدخل فيها روما بقوة السلاح، لم يطرأ عليه في خلال مدة طويلة إلا تغير طفيف، وذلك لأن روما شغلت عن ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد بأعدائها في إفريقيا وأسبانيا، ولأن الأزمات الاجتماعية قطعت أوصالها منذ عهد الأخوين جراكوس (Gracchus) حتى صلا (133-88). وبعد ذلك تهددتها قسوة ميشريداتس السادس ملك بونتوس (89-62) الذي ناصبها العداء فجأة. وإزاء هذه المشاكل التي انهمكت فيها روما، كان في وسع مصر وسوريا متابعة تنافسهما القديم إلى أن حل الوقت الذي وضع فيه بعض زعماء الأحزاب الرومانية ضم الشرق إلى الإمبراطورية الرومانية في برامج سياستهم الداخلية. وقد أتت هذه اللحظة لمصر عند وفاة بطلميوس التاسع فيلومتور سوتر (عام 80).

مقـــدونيا:

وقد قدم فيليب الخامس لروما خدمات تعادل خدمات يومنيس الثاني في أهميتها الحاسمة، إذ أنه لو اتحد مع أنطيوخوس والأيتوليين لكان هناك خطر تحول الحرب في بلاد الإغريق إلى نكبة على روما. هذا إلى أنه عندما انسحب أنطيوخوس إلى آسيا الصغرى، وصمم الرومان على تأديبه وأرسلوا إليه جيشًا اجتاز سريعًا شبه جيزرة البلقان، زود فيليب هذا الجيش بالمؤنة والأدلاء. وتبعًا لذلك كله فإن روما كانت تدين لفيليب مثل ما كانت تدين ليومنيس بجانب كبير من نجاحها، ومع ذلك فإنه في حين أن برجام جنت جزاء خدماتها الخير العميم، لم تجن مقدونيا شيئًا بل فقدت إلى الأبد بلاد الإغريق، فكان طبيعيًا أن يشعر فيليب بمرارة نحو الرومان وكذلك نحو يومنيس. ولا يعرف إذا كان فيليب الخامس قد أعد العدة للانتقام غداة الحرب بين روما وأنطيوخوس. لكنه على كل حال لم يكن لسياسته غرض آخر سوى التحرر من ربقة الرومان. وإعادة بناء دولته وقوته الحربية. غير أن عداءه للرومان لم يشخص عنه إلا ازدياد حتفهم عليه وأقدامه على إعدام ابنه دمتريوس، وكان قد أرسله إلى إيطاليا بمثابة رهينة. وعاد من هناك يفيض عطفًا نحو روما. وأما برسيوس الذي رفعه هذا الحادث إلى العرش (عام 178)، فكان يشار آباه كراهية روما مما أدى إلى الحرب المقدونية الثالثة، التي انتهت بانتصار روما في موقعة بودنا (Pydna) (عام 168) وتقسيم مقدونيا إلى أربع جمهوريات تتمتع كل منها باستقلال ذاتي، مع حرمانها حقي التزاوج والتعامل مع بعضها بعضًا. وفرض الرومان على كل جمهورية من هذه الجمهوريات أداء جزية سنوية مائة تالنت. وفضلاً عن ذلك فإن الرومان منعوا استغلال المناجم وأملاك التاج. وعلى هذا النحو لم يبق لمقدونيا سوى ظل الاستقلال. وعندما أحس مغامر يدعى أندريسقوس (Andriscus) بمشاعر الإغريق المعادية للرومان، صمم على استغلال هذه المشاعر لفائدته الخاصة، فجمع قوات في تراقيا وزعم أنه ابن برسيوس وصاحب الحق في عرش أبيه، وأقتحم طريقه إلى مقدونيا في عام 149 وأعاد توحيدها ثانية. وقد ترتب على ذلك نشوب الحرب المقدونية الرابعة التي أحرزت فيها روما نصر ساحقًا قامت بعده بتحويل مقدونيا إلى ولاية رومانية (عام 147).

بلاد الإغريق:

عرفنا كيف أن روما نصبت نفسها حامية حمى الإغريق، وكيف أنها بهذا الوصف حاربت فيليب الخامس وأنطيوخوس الثالث. غير أنها بعدما اكتسبت تهليل أغلب الإغريق أول الأمر، أثارت شكوكهم في نواياهم بانفرادها بتسوية مشاكلهم وبتدخلها في شئون أغلب الدول الإغريقية حيث أسندت مقاليد الحكم إلى أرستقراطيات اختارتها بعناية، وقد كا نت كل من العصبة الأبتولية والعصبة الآخية تعمل على إدماج كل بلاد الإغريق في عصبتها، في حين أن اسبرطة كانت تحاول عبئًا استعادة سيادتها في بلاد البلوبونيز. وأما الأيتوليون فإنهم هزموا مرتين، أحداهما مع أنطيوخوس الثالث، حين استعدوه إلى بلاد الإغريق في عام 192 ولم يقدموا له المساعدة الكافية، والأخرى وحدهم، حين حاولوا مقاومة الرومان بعد هزيمة أنطيوخوس فأنزلوا إلى مصاف اتباع روما (عام 189)، وأما الأخوان فإنهم تابعوا سياستهم الم ستقلة المناهضة للنفوذ الروماني. وكانت عصبتهم قد نجحت بزعامة فيلوبوبمن (Philopoemen) في توحيد دول البلوبونيز تحت لوائها، ولكن بعض هذه الدول كانت ترغب في الانفصال عن هذه العصبة واستعادة حريتها، ومثل ذلك اسبرطة، وكانت قد أرغمت قسراً على الانضمام إلى العصبة. وعندما احتدم الخلاف بين أسبرطة والعصبة وناشدت اسبرطة مساعدة روما وتدخلت روما في المشكلة (189-184)، لم يؤد هذا التدخل إلا إلى ازدياد العلاقات توترًا بين العصبة والرومان، فقد أغضب العصبة تدخل الرومان ورفضت التسوية التي وضعوها، وأغضب الرومان إهمال شأنهم. وبوفاقة فيلوبويمن في عام 128 نشأ في العصبة فريقان، أحدهما مشايع لروما وعلى استعداد لتنفيذ أوامرها، والآخر مناهض لروما ومصمم على الدفاع عن حقوق العصبة وعلى التمتع بحرية التصرف.

وعندما فرغت روما من الحرب المقدونية الثالثة، استدارت لبلاد الإغريق لكي تكافئ أصداءها وتعاقب أعداءها الذين عاونوا برسيوس في هذه الحرب أو أظهروا عطفًا عليه. ذلك أنه في الوريا أعفت روما من الضرائب مدن الوريا التي بقيت على ولائها لها، وأما إمارة جنثيوس (Gentinus) فإن روما قسمتها إلى ثلاث جمهوريات منفصلة عن بعها بعضًا وفرضت عليها الجزية وفضلاً عن ذلك فإن روما استولت على شاطئ دلمانيا حتى نهر نارنتا (Narenta) شمالاً. وإذا كانت روما قد عرفت عندئذ عن إدخال تعديلات جوهرية على وضع المدن في بلاد الإغريق، فإنها صممت على تلقينها درسًا قاسيًا بتطهير هذه المدن من كل خصوم الرومان، أما بإعدامهم وأما بنفيهم وأما ببيعهم في سوق النخاسة، فقد عرفت روما أسماء الكثيرين من خصومها بإستيلائها على أوراق برسيوس، وأطلق السناتو يد البعثة التي أنقذها إلى البلاد الإغريق لوضع الأمور في نصابها بالاشتراك مع باولوس، قاهر برسيوس. وقد أسهم في انتقام روما الرهيب من خصومها تلك العناصر المؤيدة لها، وهي التي استولت على مقاليد الأمور في كل مكان. ونتيجة لما أقدم عليه الرومان وذيولهم إعدم 500 مواطن في أيتوليا بعد محاكمة صورية، ونفي كثيرون من الأيتولين وصودرت أملاكهم. وفي أقارنانيا وأبيروس وبويوتيا وضعت أساء أبرز المواطنين على القائمة السوداء، وأمروا بالذهاب إلى روما لمحاكمتهم. ولم تقف نكبة أبيروس عند هذا الحد، ذلك أنه في عام 167 ـ بناء على أمر السناتو بنهب ممتلكات مواطني أبيروس غير الموالين لروما ـ اجتاح باولوس هذا الإقليم وأوسعه سلبًا ونهبًا وألقى القبض على 15000 مواطن وأرسلهم إلى روما ليباعوا في سوق النخاسة.

وبرغم أن الآخيين لم يظهروا في أثناء الحرب مع برسيوس أي عداء سافر، وأنه لم يرد ذكر اسم أحد من زعمائهم في أوراق هذا الملك، فإن فاليقراتس (Callicrates) ـ زعيم العصبة الغادر ـ أفهم البعثة الرومانية أن الكثيرين من مواطنيه يضمرون سوءًا لروما. وتبعًا لذلك نقلت البعثة ألفًا من صفوة الإغريق إلى إيطاليا بحجة أعطائهم الفرصة لإثبات براءتهم أمام السناتو، ولكن في الواقع بقصد استبقائهم رهائن ضمانًا لحسن سلوك العصبة سمتقبلاً. وقد كان من بين هؤلاء الرهائن المؤرخ الشهير بوليبوس، ولحسن الحظ أنه لقى معاملة طيبة بفضل الصلات التي أنشأها مع بعض الأسر ذات الشأن في روما. ولكن 700 من رفاقه قضوا نحبهم هناك من جراء أسرهم، ولم يعد باقي الرهائن إلى بلاد الإغريق إلا بعد ستة عشر عامًا.

وقد كان طبيعيًا أن ارتكاب روما هذه الفظائع البشعة جللها بالعار في نظر الكثيرين من الإغريق وملأ قلوبهم كراهية لها ونقمة عليها، وجعلهم يتوقون إلى التخلص من سيطرتها. وقد بلغت مشاعر الإغريق المعادية للرومان ذروتها في العصبة الآخية. ولم يكن من شأن الإفراج عمن بقوا على قيد الحياة من الرهائن والسماح لهم بالعودة إلى وطنهم في عام 151 أنه خفف من شعور الآخيين بالمرارة، وكانوا تحت رحمة الحزب المشايع لروما بزعامة فليقراتس البغيض إليهم بغضًا شديدًا. وعندما توفي فاليقرانس في عام 150 وبذلك زال أكبر قيد كان يكبل أعداء الرومان، انفجر مرجل غضب الآخيين ورأوا في انشغال روما بحروبها في أسبانيا وإفريقيا ومقدونيا فرصة للانتقام من اسبرطة جراء انفصالها عن العصبة الأخية بإرغامها عنوة في عام 149 على العودة إلى حظيرة العبة وتجاهلت العصبة ما أمرها به السناتو عام 148 من أن تحرر اسبرطة وكذلك قورنثة وأرجوس. مع أن هاتين المدينتين لم تنشدا ذلك، وأخذت تستعد للحرب مدركة تمامًا أنها لن تلقى أية شفقة أو رحمة من الرومان. وفي قورنثة، حيث كان الشعور العدائي للرومان جارفًا جدًا، وقع اعتداء على المبعوثين الرومان الذين ذهبوا إلى هذه المدينة لإبلاغها قرار السناتو بفصلها عن العصبة الآخية.

وفي عام 146 مضت العصبة الآخية في تحديها سلطة الرومان إلى حد أنها اجترأت على اجتياح بلاد الإغريق الوسطى، حيث انضمت إلى جيشها قوات من برويوتيا ويوبويا، ولكن الرومان لم يلبثوا أن أنزلوا بالإغريق هزيمة فصالة بعد استبسالهم في القتال ضد قوات تفوقهم عدة وعددًا (عام 146).

وعندئذ قرر السناتو أن يعاقب قورنثة على اعتداها على السفراء الرومان، وأن يجعل منها عظة وعبرة لبلاد الإغريق جميعًا، فأمر بنقل كنوزها إلى روما، وتسوية مبانيها بالأرض واشعال النار فيها، وبيع من بقى على قيد الحياة من مواطنيها عبيدًا في سوق النخاسة. ويحيط الغموض بتفاصيل التسوية التي قضى بها السناتو عندئذ، غير انه يبدو أنه إذا كا ن الرومان لم يحولوا بلاد الإغريق إذ ذاك إلى ولاية رومانية يتولون إدارة حكمها مباشرة، فإنهم اتخذوا من الإجراءات ما يكفل استتباب الأمر لهم في أرجائها. ذلك أنهم وضعوا بلاد الإغريق تحت إشراف حاكم ولاية مقدونيا وخوله الصلاحيات للفصل في المنازعات، والحفاظ على النظام والأمن، ومعاقبة المناهضين للرومان عقاباً شديدًا لا هوادة فيه. وفضلاً عن ذلك فإن الرومان حلوا عصبات الآخيين والبوبوتين والفوقابين، وفرضوا لجزية على المدن التي أسهمت في مناصبتهم العداء، وأسندوا الحكم إلى الطبقات الثرية في أغلب المدن، وحظروا التعامل بين مختلف المدن. بيد أنه لم تنقض بضع سنين حتى أزيل الحظر على تبادل التجارة بين المدن الإغريقية، وأعيد تكوين العصابات وإنما على أساس اجتماعي وديني فقط. وأما استقلال الإغريق وحريتهم ودورهم في السياسة الدولية، فإن ذلك كله غدا من سمات عهد ولي وأنقضى إلى غير رجعة.

الدولة السلوقية:

وعقب معاهدة أباميا مباشرة، وجهت روما قدراً كبيراً من اهتمامها إلى بلاد الإغريق ومقدونيا وبحر أيجة وآسيا الصغرى من أجل ضمان سلامتها والحصول على موارد طائلة. وفي تلك الأثناء يبدو أن روما كانت أقل اهتمامًا بشئون الدولتين السلوقية والبطلمية لاعتقادها أنهما كلتيهما وقد أقصيت عن العالم الإغريقي لم تعودا تقلقان بالها، ومن ثم فإنها رأت أن تدعها لمشاغلهما ومنازعاتها. لكن روما لم تلبث أن استبدلت بهذه السياسة سياسة نشيطة تنطوي على التدخل باستمرار في شئونهما، وإثارة الاضطرابات بين ظهرانيهما تمهيدًا لانحلالهما. ولعل سبب هذا التغير في سياسة روما كان العداء الذي أظهره الإغريق في خلال الحرب المقدونية الثالثة فتملك روما الفزع من احتمال انتعاش الشرق الهلينيسي ثانية، مع أنه بعد موقعة ماجنسيا كانت الدولة السلوقية أضعف من أن تبدأ سياسة انتقامية ضد روما. هذا إلى أن أنطيوخوس الثالث في آخر عهده، وخليفته سلوقس الرابع (187-175)، ومن بعده أنطيوخوس الرابع، (185-163)، كانوا مصممين على أن يقصروا نشاطهم على الشرق، وكذلك على أن يحترموا شروط معاهدة أباميا. وكان كل ما يرجو أنطيوخوس الثالث وخلفاؤه أن يقوموا به في الشرق هو دعم إمبراطوريتتهم، بحيث تكون لديها قوة كافية لمقاومة أي أعتداء من جانب الرومان على شروط المعاهدة، أو بعبارة أخرى لمقاومة أية محاولة من جانب ربوما للتدخل في شئونهم وشئون مصر الداخلية. بيد أن تحقيق هذا الهدف كان يتطلب جهدًا كبيرًا، في حين أن عدة عوامل داخلية وخارجية كانت قد أخذت تتهدد وحدة الدولة السلوقية وتحد من قواتها.

وكانت في مقدمة العوامل الداخلية الهامة ظروف ارتقاء أنطيوخوس الرابع العر. فقد كانت لها نتائج خطيرة على نحو ما سنرى فيما بعد، ذلك أنه عندما قتل سلوقس الرابع في عام 175 ترك وراءه ابنين وهما: دمتريوس، وأخوه الأصغر أطيوخوس. ولما كان دمتريوس رهينة في روما (حيث أرسله أبوه ليحل مكان عممه أنطيوخوس الرابع، بعد أن قضى ثلاثة عشر عامًا في روما رهينة لديها منذ معاهدة أباميا)، فإن الوزير قضى ثلاثة عشر عامًا في روما رهينة لديها منذ معاهدة أباميا)، فإن الوزير هليودوروس (Helidoioros) ، الذي دبر مقتل سلوقس، أقام أنطيوخوس الصغير ملكًا تحت وصايته. وبعد أن غادر أنطيوخوس الرابع روما ذهب إلى أثينا، حيث أتاه نبأ مصرع أخيه، فخف إلى سوريا، وقضى على هليودوروس وأقام نفسه على العرش وأشرك معه ابن أخيه الأصغر (أنطيوخوس الخامس). وقد شعر دمتريوس، الابن الأكبر والوريث الشرعي، بأنه سلب حقوقه، لكنه لم ينزل عنها بالرغم من أنه لم تهكن لديه إذ ذاك وسيلة لاستردادها.

ومن العوامل الداخلية أيضاً انتعاش الروح القومي بين الرعاية الشرقيين لدولة السلوقيين، وهم العرب والإيرانيون واليهود. وقد كان اليهود بنوع خاص مصدر جانب كبير من متاعب أنطيوخوس الرابع أبيفانس، فهم لم يغتفروا له رغبته في صبغهم بالصبغة الإغريقية. غير أنه كانت من بينهم فئة تميل إلى هذه الحضارة ويتزعمهما الكان الأكبر يأسون (Jason)، لكن هيئة الكهنوت العليا كانت تعج بالدساسين الذين يناهضون الكاهن الأكبر فامتزج بهذه المنازعات الشخصية صراع ديني عنيف بين دعاة الحضارة الإغريقية ودعاة التمسك الدقيق بالتقاليد باليهودية. وبطبيعة الحال كان الملك يؤيد الفريق الأول، ولذلك لعب اليهود دورًا هامًا في النضال الذي شتت شمل دولة السلوقيين. وأما الأخطار الخارجية فإنها كانت كثيرة، وكان في مقدمتها الخطر الروماني الذي نفث سمومه لاستغلال كافة متاعب هذه الدولة، إلى أن تمكن آخر الأمر من القضاء عليها. وإلى جانب ذلك كانت بارئيا وأرمينيًا في الشمال، وقبائل النبط في الجنوب تزداد قوة باطراد، وتنحين الفرص للانقضاض على الدولة السلوقية التي كانت سيدتها في الماضي.

دولة البطالمة:

بطليموس السادس

بطليموس السادس


وللمرة الثانية من خلال رابع قرن ارتقى عرش مصر صبي صغير. ذلك أن بطلميوس الخامس ترك وراءه ولدين وبنتًا، كان أكبرهم جميعًا بطلميوس السادس فيلومنور، وكان عندئذ في حوالي السابعة من عمره. فتوات الوصاية عليه أمه كليوبترة الأولى، وبفضلها بقيت علاقات مصر مع الدولة سلوقية ودية في خلال مدة وصايتها. ومع ذلك فإنها رفضت أن تدع أخاها سلوقس الرابع بجرها إلى محالفة ضد يومنيس الثاني صديق الرومان. ولم تعمر وصاية كليوبترة طويلاً، إذ يرجح أنها توفيت بين 8 من إبريل و27 من نوفمبر عام 176. وعندئذ وقع الملك الصغير تحت وصاية شرعية أو غير شرعية تولاها شخصان من ذوي الحظوة كانا في خدمة البلاط، وهما مربية الخصي يولايوس (Eulaeos) والعبد السوري لنايوُس (Lanaeos). ويقال أن هذين الشخصين أظهرا أبعد درجات الرعونة حين كان يجب على العكس اتباع سياسة متزنة حكيمة.

وقد كان في بلاط الإسكندرية منذ عهد بطلميوس الخامس حزب يريد الحرب مع الدولة السلوقية، لأنه لم يستطع تعزية نفسه عن فقد جوف سوريا. وبتأثير هذا الحزب بدأت المفاوضات مع العصبة الآخية في عامي 185 و183 للحصول على مساعدتها لتحقيق هذا الشمروع، لكن هذه المفاوضات لم تنته إلى شيء على نحو ما عرفنا. وعندما آلت الوصاياة إلى يلالايوس ولنايوس، اعتنقا سياسة حزب الحرب مع الدولة السلوقية لاسترداد جوف سوريا. وذلك لأنه بعد وفاة كليوبترة الأولى بدد أخوها أنطونيوس الرابع كل فرص السلام برفضه الاستمرار في دفع دخل هذا الإقليم لمصر (وكان هذا الدخل صداق كليوبترة على نحو ما مر بنا)، وبنية وجود أية معاهدة تعطى مصر ملكية هذا الإقليم. وقد وجدت مناورات الوصيين الدبلوماسية الحالة ملائمة لها لدى يهود "أرض الميعاد" أو "يهوذا" (Judaea)، حيث أظهر البعض أسفهم على ضياع سيطرة البطالمة.

ولما كان دعاه الحضارة الإغريقية في "يهوذا" يعتمدون على تأييد أنطيوخوس الرابع، فإنه كان يتعين على الإسكندرية تأييد الفريق الآخر وكان يدعي "حرب القديسيين". وفي الواقع كانت هناك علاقات بين بين المقدس ويهود الإسكندرية، وكان يجب أن تتفق سياسة البطالمة في سوريا مع السياسة التي يتبعونها إزاء اليهود في مصر. ومن ناحية أخرى كان أنطيوخوس الرابع يريد توطيد دعائم دولته ليصبح في وسعه أن يصمد حتى أمام الرومان، ولعله أراد أن يستغل مشاغل روما في مقدونيا، وما عرف عن بلاط الإسكندرية من العجز ليستولى على مصر ويضع السناتو أمام الأمر الواقع قبل أن يفرغ من مقدونيا وينم عن نوايا أنطيوخوس العدوانية الموقف الذي اتخذه حيال حقوق مصر على جوف سوريا، والجيش الكبير الذي أعده وغزا به مصر. وإزاء ذلك لا يمكن لوم الوصيين على تسلحهما لاستعادة جوف سوريا. وكان أهم جزء في الإمبراطورية البطلمية.
يبدو إذن أن الطرفين كانا يرغبان في الحرب، لكن القدماء أنفسهم لم تفقوا على أي الطرفين تسبب فيها، إذ بينما تعتقد المصادر الإغريقية أن الوصيين هما اللذان أثارا الحرب، فإن المصادر اليهودية المعروفة بعدائها لأنطيوخوس تحمله تعبة هذه الحرب، ولذلك يميل المؤرخون الحديثون إلى الرأي الأول. لكننا لا نستطيع قبول هذا الرأي لأنتم حتى إذا سلمنا جدلاً بأن الوصيين هما اللذان بدأ الاستعداد للحرب. وبأن قيام أنطيوخوس ببناء قواته لم يكن إلا لدرء خطر هجوم بطئ على سرويا، فإنه لابد من التسليم بأن موقف أنطيوخوس حيال حقوق مصر على جوف سوريا هو الذي حفز الوصيين على التسلح، ومجرى الحرب يقطع بأن هذا التسلح كان قاصراً لا يبرر سواء بناء أنطيوخوس ذلك الجيش الكبير الذي غزا به مصر أم قيامه بهذا الغزو لو لم تكن لديه نية مبيتة على الاستيلاء على مصر. ومعنى ذلك أن قرائن الأحوال فضلاً عن اتفاق رواية المؤرخ الروماني ليفيوس مع الرواية اليهويدة تجعل الرأي الثاني أدنى إلى الصواب، ولعل أن الرأي الأول ليس إلا رجع الصدى للدعاية التي روجها أنطيوخوس تبريرًا لعدوانه.

ويحدثنا الكتاب الثاني من تاريخ المكايين بأن أنطيوخوس الرابع أرسل أبولونيوس إلى مصر بمناسبة بروتوقليسيا (Protoklesia) بطلميوس السادس. ولما كانت كلمة بروتوقليسيا مرادفة في المعنى لكلمة أناقليتيريا (Anakleteria) وهي التي تستعمل للتعبير عن الاحتفال ببلوغ الملوك سن الرشد، فإن المرجح أن أنطيوخوس، وقد أراد الوقوف على مدى استعدادات مصر الحربية ونواياها نحوه، أنقذ إليها أبولونيوس لجمع المعلومات اللازمة بحجة تمثيله في حفل بلوغ ابن أخته سن الرشد.

ويحدثنا بوليبيوس بأنه عندما علمت العصبة الآخية (عام 170) بالاحتفال "ببلوغ الملك بطلميوس سن الرشد" أرسلت مبعوثين لتجديد أواصر الصداقة بين العصبةومصر. وبأن هذين المبعوثين كانا في الإسكندرية حين غزا أنطيوخوس الرابع مصر وتدخلا مع غيرهما من سفراء الدول الإغريقية لحسم النزاع بين مصر وأنطيوخوس.

ومتى كان الاحتفال ببلوغ بطلميوس السادس فيلومتور سن الرشد؟ أننا (أولاً) نتبين من وثيقتين من عام 174/173 أن أخت الملك كليوبترة الثانية قد أشركت معه في العبادة، وأن الأثنين أصبحا يعرفان سويًا باسم الإلهين فيلومتورس، مما يدل دلالة قاطعة على أنهما كان قد تزوجا قبل ذلك.

وبديهي ألا يتزوج الملك قبل بولغه سن الرشد، بل المعقول أن يأتي الزواج بعد ذلك لكن هذا لا يستتبع حتمًا مرور وقت طويل بين بلوغ الملك رشده وزواجه والواقع أن القرائن توحي بأنه لم ينقض وقت طويل بين هذين الحدثين. وأننا (ثانيًا) نلاحظ أنه في ذلك العام ذاته بلغ الملك الثالثة أو الرابعة عشرة من عمره. وقد سبق إعلان بلوغ أبيه سن الرشد في مثل هذه السن. وفضلاً عن ذلك فإن الرابعة عشرة كانت السن التي تعتبرها قوانين البطالمة سن بلوغ الرشد السياسي. وإننا (ثالثًا) نعرف أنه في عام 173 أرسل السناتو بعثة إلى الإسكندرية لتجديد عهود الصداقة مع مصر. ويبدو من المرجح أن ذلك كان بمناسبة إقامة حفل بلوغ الملك سن الرشد حوالي ذلك الوقت. وإزاء هذه الاعتبارات جميعًا نرجح أن ذلك الحفل وكذلك حفل زواج الملك من أخته أقيما في عام 174/173، ونرى أنه لا يمكن قبول رواية بوليبيوس سالفة الذكر إلا إذا كانت الصعبة الآخية قد تمهلت طويلاً قبل إرسال بعثتها السياسية إلى الإسكندرية، وهذا احتمال بعيد، أو إذا كان الحفل المشار إليه خاصًا ببطلميوس الصغير، الأخ الأصغر لفيلومتور الذي نادى به الإسكندريون ملكًا في اثناء الحرب على نحو ما سنرى، وليس حفل بطلميوس فيلومتور.

الحرب السورية السادسة:

ويبدو أنه بعد الاحتفال ببلوغ فيلومتور سن الرشد وبزواجه من أخته كيلوبترة الثانية احتفل برسامته في منف فرعونا. ولما كانت روما على وشك الدخول في الحرب المقدونية الثالثة، فإنها أوفدت في عام 172 بعثة إلى فيلومتور وأ،طبوخوس للاطمئنان إلى موقفها في أثناء هذه الحرب. وقد أكد الملكان للسفراء الرومان أنهما سيبقيان على وفائهما لروما.

وعندما اصبحت الحرب السورية السادسة وشيكة الوقوع أو كانت قد بدات فعلاً. أوفد كل من الطرفين المتنازعين بعثة دبلوماسية إلى روما لإلقاء تبعة الحرب على الطرف الآخر، فعهد السناتو إلى كوينتوس ماقيوس فيليبوس (Marcius Philipus) يبحث هذه المسألة، والفصل في النزاع بين الطرفين. لكن الدلائل تشير إلى أنه لم تكن في نية روما تسوية هذا النزاع، فقد رأينا كيف أنها قبل اشتباكها مع مقدونيا كانت تخشى فوز غريمتها بمساعدة مصر وسوريا، فعنيت بتوكيد صداقتها لهاتين الدولتين وضمان وفائهما لها عندما تقع الحرب بينها وبين مقدونيا. وعندما نشبت في عام 171 "الحرب المقدونية الثالثة" التي لم تنته في عام 168 إلا بعد أن ساورت روما الشكوك من أمر انتصارها، لابد من أن تكون روما قد استخدمت كل دهائها السياسي في تغذية الحرب مصر وسوريا لنفس على هذا النحو عدم تدخلها في الحرب المقدونية.

أنطيوخوس الرابع ينجح في غزو مصر:

وعندما ترك يولايوس "مشمطه وزجاجات عطوره" وهجر لنايوس "دفتر حسابه" وذهبا إلى القتال، كان أنطيوخوس قد زحف بدوره، والتقى بالجيش البطلمي، قبل أن يعبر الصحراء التي تفصل بين مصر وفلسطين، وهزمه عند تل قاسيون (Casion) واستولى على بلوزيون ث تقدم إلى منف. وهكذا نجح فيما أخفق فيه برديقاس وأنتيجونوس الأعور وأنطيوخوس الأكبر، إذ أنه لم يفلح أي قائد وافد من سوريا في غزو مصر منذ الإسكندر الأكبر، أي منذ مدة تزيد على قرن ونصف قرن. ونوحي عبارات يوليبيوس وديودوروس بأن أنطيوخوس الرابع استولى على بلوزيون بالخديعة. ويبدو أنه عقب الهزيمة التي حلت بالجيش البطلمي بادر يولايوس ولنايوس بالهرب إلى الإسكندرية. ويحدثنا يوليبيوس بأن الخصى بولايوس حرض فليومتور على أخذ كنوزه وهجر مملكته والفرار إلى ساموتراقيا. وإزاء ما أثبته فيلومتور فيما يعد من الشجاعة، فإن يوليبيوس يلقى تبعة هذا التصرف الذي يتسم بالجبن على يولاويوس دون أن يتهمه بالخيانة أو التآمر مع أنطيوخوس. وعلى كل حال لا شك في أن هذا التصرف كان في صالح أنطيوخوس سواء أكان بينه وبين بولايوس اتفاق سابق أم لا. ولا نسمع شيئًا بعد ذلك عن يولايوس ولنايوس، ولعل الإسكندريين عندما علموا بكل ما حدث أجهزوا عليهما وأقاموا فومانوس (Comanos) وقينياس (Cineas) وصيين مكانهما.

وإذا كان أكثر المؤرخين يرون أنه عندما كان فيلومتور يحاول الهرب إلى ساموتراقيا. ألقى القبض عليه وأعيد أسيراً إلى بلوزيون. فإن الأبحاث التي قام بها أوتو (Otto) تدعو إلى التشكك في صحة هذا الرأي. ويرى هذا المؤرخ أن فيلومتور لم يؤخذ أسيرًا، وإنما استدعى من ساموتراقيا لعقد معاهدة مع أنطيوخوس، لكنه في أثناء مفاوضته مع خاله خدعه هذا الرجل الطموح وإبقاء في منف، وأرغمه على قبول شروط الصلح، وكانت تتضمن الاعتراف بحماية أنطيوخوس. ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن مصر لم تكن البادئة بالعدوان ما توصل إليه أوتو من أن الوصيين نصحًا فيلومتور بالهرب قبل بداية الحرب، وما مر بنا من أن أول لقاء بين الج يشين السلوقي والبطلمي كان عند تل قاسيون.

الإسكندريوس ينادون باخ فيلومتور الأصغر ملكًا:

إزاء ذلك نادى الإسكندريون بأخ فيلومتور الأصغر ملكًا، وهو الذي عرف فيما بعد باسم بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني.

ولم يعد اليوم مجال للشك في أن أنطيوخوي توج نفسه فرعونًا في منف، لكنه لا يعرف عن يقين إذا كان ذلك قد حدث في خلال حملتته الأولى أو الثانية، وإن كان الأرجح أنه توج في خلال الحملة الثانية.

أنطيوخوس يحاصر الإسكندرية:

ومن منف زحف أنطيوخوس على العاصمة، زاعمًا أنه يؤيد حقوق الملك الشرعي فيلومتور، لكن قومانوس (Comanos) وقينياس (Cineas) أعدا العدة للدفاع عن العاصمة، حيث تصادف عندئذ وجود عدد من السفراء والبعوث الدينية من المدن الإغريقية. ذلك أن العصبة الآخية كانت قد أرسلت إلى الإسكندرية بعض سفرائها لتجديد محالفتها مع مصر، ودعوتها للاشتراك في الحفلات التي ستقام في سيقوون. وكانت أثينا قد أرسلت بعض سفائها لتقديم بعض الهدايا لملك مصر، وإعلان موعد الحفلات الأثينية الجامعة، ودعوة مصر إلى حفلات الطقوس الأليوسية. وكان يوجد هناك أيضاً سفراء من قبل ميلتوس وقلاتزومني (Claromnnae) واستقر الرأي على إيفاد كل أولئك السفراء ومعهم تلبولموس وبطلميوس وأرسل أسطولاً للإستيلاء على قبرص. وما كاد الإخوان يعرفان أن أنطيوخوس صمم على غزو مصر ثانية حتى أنقذا في شتاء عام 169 بعثة تنشد دون طائل مساعدة من سيقوون والعصبة الآخية. وإزاء فشل هذا المسعى التجأ الأخوان إلى روما، إذ بدا أن كل شيء كان ينذر بأن مصر ستغلب على أمرها، ولا سيما أن بطلميوس ما قرون (Mecron) حاكم قبرص، بعد مقاومة ضعيفة، سمح لقوات أنطيوخوس بدخول هذه الجزيرة، وكانت مفتاح مصر الشمالي. وحين كان أ،طيوخوس في طريقه إلى بلوزيون، التقى بالسفراء الذين أوفدهم إليه فيلومتور لشكره على استعادته عرشه بفضله، والاستفسار عما يطلبه لقاء خدماته بدلاً من فرض ذلك بالقوة. فأجاب أنطيوخوس بأنه لن يسحب أسطوله أو جيشه إلا إذا أعطى قبرص وبلوزيون والإقليم المجاور لفرع النيل البلوزي، وحدد مهلة للاستجابة إلى مثل هذه المطالب، فإن جيش أنطيوخوس زحف للمرة الثانية من الحدود إلى منف ومنها إلى الإسكندرية. وتحدثنا المصادر القديمة بأنه في أثناء هذه الحملة وكذلك في الحملة السابقة ارتكب الغزاة الكثير من أعمال السلب والنهب والتخريب.

روما ترغم أنطيوخوس على الانسحاب:

وحين استصرخت مصر روما، قرر السناتو إيفاد بعثة تتألف من جايوس يوبيليوس لإيناس (Laenas) وجابوس دقيميوس (Decimius) وجابوس هو ستيليوس لننهي إلى أنطيوخوس والأخوين أن الاستمرار في الحرب سيفضي إلى الاشتباك مع روما. ولما كانت روما لا تعتزم الاشتباك في مخاطرة جديدة قبل الفراغ من "الحرب المقدونية الثالثة"، فإن البعثة الرومانية تمهلت في الوصول إلى مصر حتى أتاها نبأ إنتهاء تلك الحرب. وفي ضاحية اليوسيس (Eleusis) خارج أسوار العاصمة، حدثت المقابلة الم شهورة بين أنطيوخوس وجابوس بوبيليوس لإيناس السفير الروماني. ولما كانت روما قد خرجت منتصرة من "الحرب المقدونية الثالثة" منذ برهة وجيزة (22 من يونية عام 168)، فإنه أصبح في وسعها أن تتفرغ لأنطيوخوس حياهم الملك ومد يده لمصافحة بوبيليوس، لكن هذا السفير بدلاً من أن يضع يده في يد الملك وضع الرسالة التي حوت قرار السناتو وطلب إليه أن يقرأها قبل كلش يء، فاطلع عليها الملك وأبلغه بأنه سيتدبر الأمر مع رفاقه. فلم يكن من السفير الروماني، وكان يمسك عصا قدت من غصن كرمه، إلا أنه خط بهذه العصا دائرة حول موطئ قدمي أ،طيوخوس، وطلب إليه أن يفصح عما يريد قبل أن يخطو خارج تلك الدائرة. فأخذ الملك بهذا المسلك الغرب الجرئ، وتردد لحظة، ثم أعلن أنه سيلبي طلب الرومان. وعندئذ هز بوبيليوس ورفيقاه يد الملك وحيوه تحية ودية. وقد كانت رسالة السناتو تنطوي على أمر أنطيوخوس بالانسحاب من مصر وقبرص، وصدع أنطيوخوس للأمر وانسحب من مصر فورًا. وبعد أن استحث بوبيليوس فيلومتور وأخاه الصغير على استمرار الوفاق بينهما وأمرهما بإرسال بولواراتوس (Polyaratos) إلى روما، أبحر إلى قبرص لطرد قوات أنطيوخوس منها.

وقد أقدمت روما على اتخاذ هذا الإجراء إزاء أنطيوخوس لأنه لم يكن في وسعها السماح لإمبراطورية السلوقيين بالاتساع بحيث تضم مصر بين جوانحها، فقد كان ذلك الاتساع يهدد مركز روما في شرق البحر المتوسط، ويقضي على سياسة توازن القوى التي كانت روما قد اتبعتها هناك. وفي الواقع لم تقض روما على أنطيوخوس الثالث لكي تسمح الآن لأبنه بالاستيلاء على دولة البطالمة، ولذلك فإنه يتضح جليًا أن روما لم تنقذ مصر حيًا في هذه الحليفة، وإنما إشفاقًا على نفسها من قوة أنطيوخوس.

وأما أنطيوخوس، وقد أضاع فرصة مساعدة مقدونيا على قهر روما في الوقت المناسب، فإنه لميسعه إلا أن يحتمل الإهانة ويذعن صاغرًا لأوامر روما، لأنه كان من الحق أن يشتبك مع روما بعد انتصارها في مقدونيا وقبل استطاعته ضم مصر إليه.

ويبدو أن هذه اللطمة العنيفة قد أذهلت أنطيوخوس إلى حد أنه استباح ما تبقى له من كرامة، فقد أرسل بعثة إلى روما لإبلاغها بأنه أطاع أوامر سفرائها كما لو كانت صادرة من الآلهة، وبأنه كان يرحب بمساعدتها على قهر مقدونيا لو أنها طلبت إليه ذلك. ويحدثنا ليفيوس بأن هذه البعثة التقت في روما بالبعثة التي أرسلها ملوك مصر للإعراب عن شكرهم على الخدمة التي أسدتها إليهم. وينوه بوشيه لكلرك بالفارق بين خلق كل من أنطيوخوس وفيلومتور، إذ أنه بينما أطاع الأول أوامر روما ثم شفع ذلك بالتبرع بامتهان كرامته عند أعتابها، ترى أن الثاني عندما أمره بوبيليوس بتسليم بولواراتوس الرودسي ـ وكان يناصر مقدونيا ومحتميًا في مصر ـ لم يذعن لهذا الطلب واكتفى بإعادة بولواراتوس إلى وطنه.

هدف أنطيوخوس من محاولة فتح مصر:

ويذكر الكتاب الأول من تاريخ المكابيين أن أنطيوخوس الرابع كان يريد الاستيلاء على مصر لضمها إلى مملكته. لكن بوشيه لكلرك يستبعد ذلك لأن الرومان كانوا لا يسمحون به، ويرى أن هدف أنطيوخوس كان وضع مصر تحت حمايته، واستنزاف مواردها، والقيام بدور الوصي على ملكها الصبي وحكمها باسمه، وتصفية الخلافات القائمة بين أسرتي البطالمة والسلوقيين، ولاسيما فيما يخص جوف سوريا لصالحه.

ونحن نرى أنه إذا كانت روما لا توافق على ضم مصر إلى الدولة السلوقية، فإنها كانت لا توافق أيضاً على وضعها تحت حماية تلك الدولة ولا على وضع فيلومتور تحت وصاية أنطيوخوس. وإذا كان أنطيوخوس لم يستهدف الاستيلاء على مصر وضمها إلى مملكته فيم نفسر أنه غزاها مرتين وتوج نفسه فرعونًا في منف، وسك عملة جديدة في مصر وفي قبرص تحمل اسمه وصرته؟

ويجب أن نلاحظ أولاً أنه في أثناء الحملتين اللتين قادهما أنطيوخوس ضد مصر كان الرومان مشتبكين في الحرب المقدونية الثالثة، وكان من الجائز أن يخرجوا منها مقهورين. وثانياً أنه في أثناء الحرب المقودونية الثالثة عرضت مقدونيا على أنطيوخوس محالفتها، لكنه رفض التورط في مثل هذه المحالفة، ولعله كان يتوقع جزاء هذا الوفاء لروما أن تغض الطرف عن استيلائه على مصر، ولاسيما أنه كان يأمل في أن يحقق ذلك ويواجهها بالأمر الواقع قبل فراغها من الحرب المقدونية الثالثة. ولولا الاضطرابات التي وقعت في فلسطين واضطرته إلى الانسحاب من مصر في عام 170 والبقاء بعيدًا عنها حتى عام 168 لتحقق له ما يريد.

ولابد من أن تكون روما قد رحبت بوجود ملكين على عرش دولة البطالمة، إذ أن ذلك كان نذيرًا بوقوع منازعات بينهما تقطع أوصال هذه الدولة. وقد تجنبت دولة البطالمة حتى وفاة أبيفانس هذا الداء الذي كان شائعاً في الممالك الشرقية، وأضنى الإمبراطورية السلوقية منذ القرن الثالث. وسنرى الآن أن هذا الداء سيحالف الثورات القومية طوال القرن الثاني، ويتكاتف معها في القضاء على سطوة الدولة البطلمية ونضوب معين البلاد. ويم تستفد إلا روما من تلك المنازعات الأسرية، التي لعبت فيها الأميرات دورًا كبيرًا. ولو أن فيلومتور اقتفى أثر فلادلفوس وفيلو باتور وقتل أخاه، لاستبقى وحدة أسرته مدة أطول من ذلك، لكن فيلومتور، في رأي معاصره المؤرخ بويبيوس وكذلك في رأي مؤرخين كثيرين، كان يتمتع بأخلاق كريمة لم ينعم بمثلها أحد غيره من أفراد أسرة البطالمة. وقد محت شجاعته في ميادين القتال ذكرى هروبه إلى ساموتراقيا، الذي لم يوح به ضعفه الشخصي، وإنما دفعته إليه على الأصح نصيحة وصي باطل. وأما الأخ "بطلميوس الصغير"، الذي اتخذ فيما بعد لقب الإله يورجتيس أي الخير، فإنه كان يتمتع بهبات الملك، لكنه كان عنيفًا دمويًا لم يعرف وخز الضمير، ولم يكن حكمه سوى سلسلة من الجرائم التي أعطاها أحيانًا مسحة من رقة الأديب المتهتك. وقد أصبح شكله قبيحًا بمرور الزمن، فقد صور لنا ثقيل الوزن من الشحم وتلك البدانة، التي كانت منذ فيلادلفوس وماجاس أحد عيوب أسرة البطالمة. وإذا كان في عام 168 لا يزال صغيرًا، وصاحب المكانة الأولى في قلوب الإسكندريين، فإنه أصبح فيما بعد في نظرهم "فوسقون" (Physcon) أي البطين، وقاقرجتيس (Kakergetes) أي "الشرير".

ثورة ديونوسيوس بتوسرابيس:

وقد اشترك في الملك نحوًا من خمسة أعوام ثلاثة ملوك هم: الأخوان، والملكة كليوبترة الثانية زوجة أكبرهما وشقيقة الاثنين، وحمل الثلاثة سويًا لقب "الآلهة فيلومتورس". ولم تتصف هذه الفترة بالهدوء والسكينة، ذلك أنه حوالي عام 162/164 أزعج الملوك الثلاثة ثورة اشعل لهيبها ديونوسيوس بتوسراييس (Dionysios Petoserapis) وكان مصريًا من أفراد الحاشية الملكية يشتهر بشجاعته. وقد تظاهر ديونوسيوس بتأييد بطلميوس الصغير، لكنه في الحقيقة عزم على التخلص من الأخ الأكبر باستغلال محبة الأصغر في الإسكندرية، ثم على التخلص من الأصغر باستنفار وطنية المصريين ضده. وتبعًا لذلك ادعى أن الأكبر حرض على قتل أخيه، ونشر بين عامة الإسكندريين شائعة فحواها أن مؤامرة دبرت لاغتيال بطلميوس الصغير، فتجمعت الجماهير في مضمار السباق، ووصل هيجانها إلى حد أنها قررت قتل الأخ الأكبر ليستقل الأصغر بالملك.

وبلغ خبر الفتنة إلى القصر، فاستدعى أكبر الملكين أخاه، ودافع عن نفسه وهو يذرف الدمع، ورجاه ألا يصدق الشخص الذي كان يزدري شبابهما، ويريد اغتصاب الملك لنفسه، وطلب إليه أن يستولى على الملك والسطلة بمفرده، إذا كانت لا تزال في نفسه الحائرة بقية من الخوف. وهكذا أزال الأخ الأكبر مخاوف أخيه، واتخذ كلاهما شارات الملك، وظهرا أمام الجماهير ليثبتا على هذا النحو ما بينهما من وئام ووفاق.

وعندما فشل ديونوسيوس فيما دبره، أخذ يستحث الجنود المصريين على الاشتراك في الثورة ثم انسحب إلى ضاحية اليوسيس حيث جمع حوالي 4000 منهم، لكن فيلومتور زحف ضدهم وأنزل بهم هزيمة بددت شملهم. غير أن ديونوسيوس أفلت سابحًا عبر النيل واحتمى لدى المصريين، وبسبب مكانته بينهم أفلح في اتثارة الجماهير، وسرعان ما تجمع حوله عدد كبير من الأتباع. ولما كانت تلك الشذرة من كتاب ديودوروس تنتهي عند هذا الحد، فإننا لا نعرف مصير ديونوسيوس وأعوانه، لكن شذرة أخرى من هذا الكتاب تحدثنا عن "ثورة جديدة في إقليم طيبة"، قد تكون متصلة بالثورة التي بدأها ديونوسيوس وعلى كل حال فإن فيلومتور قمع ذلك الإقليم بسهولة فيما عدا مدينة بانوبوليس (أخميم) الحصينة التي تجمع فيها أنشط عناصر الثوار، إذ أنها لا تخضع إلا بعد حصار شاق، ثم عاد فيلومتور مظرفرًا إلى الإسكندرية.

بطلميوس الصغير يثير الإسكندريين ضد أخيه:

وإذا كان بطلميوس الصغير بريئًا من الإسهام في الاضطراب الذي أثاره ديونوسيوس، فإنه لم يلبث أن آثار الإسكندريين ضد أخيه إلى حد أنهم أرغموه على القرار من الإسكندرية في أواخر عام 164. وهكذا انتهت فترة الحكم المشترك، وولى فيلومتور وجهه إلى روما، وكانت ملاذ الملوك المخلوعين. ويحدثنا ديودوروس بأن فيلومتور ذهب إلى روما سيرًا على الأقدام من الميناء الذي نزل فيه، مرتديًا ملابس مسافر عادي، ولا يتبعه إلا خصى واحد وثلاثة عبيد.

وعندما ذهب للقائه على بعد عشرين ميلاً من روما دمستريوس بن سلوقس (وقد مر بنا أنه كان رهينة في روما) وعرض عليهملابس ملكية وفرسًا مطهمة رفض ذلك، وذهب للإقامة في مسكن حقير عند رسام كان قد عرفه في الإسكندرية. ولاشك في أن هذا التواضع قد صادف هوى من أعضاء السناتو، فأحسنواوفادة فيلومتور. لكنهم وقد وجدوا في هذا النزاع فرصة مواتية لتنفيذ سياسة روما الأنانية، سياسة فرق تسد، بتقسيمهم دولة البطالمة ذاتها بدلاً من مجرد تقسيم السلطة الملكية، لم يفصحوا له عن نواياهم وإنما يبدو أنهم نصحوه بالذهاب إلى قبرص وانتظار ما تسفر عنه جهود البعثة التي قرروا إرسالها إلى الإسكندرية لحل المشكلة. ويبدو أن التعليمات التي أعطيت للبعثة لم تكن تقضي حتمًا بأن يكون الحل على أساس التقسيم وإنما وفقًا للظروف التي تصادفها هناك، إذ أنه لم يكن ثمة ما يقتضي روما استخدام القوة في حل هذه المشكلة. ولم يدم انتظار فيلومتور في قبرص طويلاً، ذلك أن الإسكندريين وقد خبروا حكم بطلميوس الصغير وحده بضعة شهور، ضاقوا ذرعًا بطغيانه وحبه لسفك الدماء، فتحولت محبتهم له إلى كراهية شديدة، واستدعوا فيلومتور من قبرص بين أول إبريل و29 من مايو سنة 163.

روما تتدخل تقسم الدولة بين الأخوين:

وعندئذ تدخلت البعثة الرومانية لا لمساعدة فيولمتور وإنما لمنعه من حتى ثمار انتصاره كاملة ولحماية بطلميوس الصغير. وينهض دليلاً على ذلك أن البعثة أفضت إلى السناتو فيما بعد أن بطلميوس الصغير يدين لها بقورينايئة بل بحياته، إذ بلغ إذ ذاك عداء الشعب وكرايهته له أقصى حد، وبأنه لم يتوقع ولم يطلب أن يمنح عرش قورينايئة، ولذلك فإنه عندما منحه تهلل وجهه وتبادل القسم مع أخيه على احترام هذا التفاق. فقد عقد اتفاق بين الأخوين في عام 163 تقرر بمقتضاه تقسيم المملكة بينهما بحيث تكون مصر وقبرص نصيب فليومتور، وقورينايئة نصيب بطلميوس الصغير. وهكذا تحت ستار التوفيق بين الأخوين، أفضت سياسة روما إلى تفكيك عري دولة البطالمة ونسخ نتائج أعمال البطالمة الأوائل.

بطلميوس الصغير يستصرخ روما ليحصل على قبرص:

ولم يكن فيلومتور يرجو أكثر من أن يحكم في هدوء. ولتسكين خواطر الشعب أصدر في 27 من أغسطس عام 163 قراراً بالعفو عن كل الجرائم التي ارتكبت منذ ارتقائه العرش حتى هذا التاريخ. بيد أن أطماع أخيه في الحصول على قبرص لم تنقطع عن إقلاق باله منذ عام 154.

ولو أن روما كانت مستعدة لاحترام اتفاقية عام 163، التي أمرت هي بها، مثل استعداد فيلومتور لاحترامها، لما كان هناك مجال لهذه المتاعب. غير أن الرومان لم يقصدوا بتلك الاتفاقية إلا استمرار النزاع، فتسنح الفرصة أو الفرص لتدخل روما، وقيامها في مصر بدور الحكم الذي كانت تقوم به في غير ذلك من أنحاء العالم الإغريقي، وذلك بفضل سياستها التي أحبكت مناوراتها. وفي عام 162 حج بطلميوس الصغير إلى روما يطالب بضم قبرص إلى قورينايئة، وبرغم دفاع رسول فيلومتور، فإن روما، لتضعف مصر وتسجيب كعادتها إلىطلب المستجير بها، قررت ضم قبرص إلى قورينايئة، وعدت إلى اثنين من أعضاء السناتو بالتوفيق بين الأخوين وإقامة بطلميوس الصغير ملكًا على قبرص دون استخدام القوة.

ويبدو أن السناتو لم يمل إلى استخدام القوة لتنفيذ هذا القرار أملاً في أذعان فيلومتور وديًا، غير أن فيلومتور أحسن استقبال البعثة الرومانية واستبقاها في ضيافته وقتًا طويلاً إلا أنه تمسك باتفاقية عام 163. وفي تلك الأثناء كان بطلميوس الصغير قد وصل إلى أبيس، غربي مرسى مطروح، ومعه قوة تتألف من حوالي 2000 جندي استأجرهم في كريت، وحين كان ينتظر نتيجة مسعى البعثة الرومانية لدى أخيه تألبت عليه قورينايئة في ثورة جامحة، فبدلاً من أن يضم قبرص شغل باستعادة مملكته في قورينايئة.

وهكذا استبقى فيلومتور قرص، لكنه فقد عطف روما، بدليل أنها قررت إبلاغه بأنه لم يعد حليف الشعب الروماني. ولا نعرف مجرى الحوادث في خلال السنواتت الثماني التي أعقبت ذلك، وإن كان من المحتمل أن الشقاق بين الأخوين لم ينقطع. وفي عام 156/155 أوشكت قبرص أن تقع في قبضة دمتريوس الأول وهو الذي عرفنا أنه كان رهينة في روما لكنه فر منها وأصبح ملك سوريا في عام 163، إذ أن أرخياس (Archias) حاكم قبرص البطلمي اتفق على تسلميها إلى دمتريوس، لكن فيلومتور تحرك في الوقت المناسب فلم سع أرخياس إلا أن ينتحر.

وإذاكان هذا الحادث قد أثار يقظة فيلومتور، فإنه أيضًا حرك أطماع بطلميوس الصغير، فحج ثانية إلى روما في عام 154، واتهم أخاه بمحاولة اغتياله. وعبثًا حاول سفيرًا فيلومتور تفنيد هذه التهمة الباطلة، إذ أن السناتو رفض الاستماع إلى دفاعهما وأمرهما بمغادرة روما فورًا وقبل مزاعم بطلميوس الصغير، وعهد إلى لجنة خماسية من أعضائه ـ على رأسها جنايوس مرولا ولوقيوس ثرموس ـ بموافقة بطلميوس الصغير وإقامته ملكًا على قبرص، وأذن لحلفاء روما في شرق البحر المتوسط بمساعدة ملك قورينايئة في فتح قبرص.

ويمكننا أن نفهم بجلاء سر تعجل السناتو في تصديق مزاعم بطمليوس الصغير من نقش على نصب من المرمر عثر عليه حديثًا في قوريني ذلك أن هذا النقش عبارة عن وصية لبطلميوس الصغير يرجع تاريخها إلى عام 155، أي قبل رحيله إلى روما للمرة الثانية. ويتحدث الملك في النقش عن "المؤامرة الفاحشة" التي كان مقرراً أن يذهب ضحيتها، ويوصى، إذا لم يعقبه وارث ذكر، بقورينايئة للرومان "الذين لم يكف ويوصى، إذا لم يعقبه وارث ذكر، بقورينايئة للرومان "الذين لم يكف عن الاحتفاظ بصداقتهم ومحالفتهم" ويضعها بين أيديهم كما لو كانت في حرز أمين. وشهود هذه الوصية الغريبة، التي يصعب إدخال نصوصها في نطاق النظم القانونية المعروفة، هم الإله الروماني الأكبر "يوبيتر قابيتولينوس" (Jupiter Capitolinus) والآلهة العظمى وهليوس وأبولو مؤسس قوريني". وهكذا ضرب بطلميوس الصغير مثلاً احتذى حذوه في عام 133 أثالوس الثالث ملك برجام، وفي عام 96 بطلميوس أبيرن (Apion) صاحب قورينايئة، وفي عام 75/74 نيقومدس الرابع ملك بيثونيا.

فيلومتور يهزم أخاه الصغير في قبرص:

وقد حدث أن حلفاء روما في شرقي البحر المتوسط لم يتحركوا لتأييد أطماع بطلميوس الصغير، وأن أهل قبرص لم يعطفوا على طاغية قورينايئة تابع روما، بل أن روما نفسها لم تقدم له مساعدة فعالة، في حين أن فيلومتور استطاع تنظيم الدفاع عن قبرص، ولذلك اضطر بطلميوس الصغير إلى العتماد على موارده فقط. وعندما نزل إلى قبرص بادره فيلومتور بضربات خاطفة واصطره إلى التسليم، لكنه كان كريمًا إذ أنه عفا عنه وسمح له بالعودة إلى قورينايئة وأغدق عليه الكثير من الهدايا ووعدهبتزويج ابنته (عام 154). وكان هذا الزواج يتيح الفرصة لأبطال نتائج الوصية المشئومة، دون إيجاد سبيل لروما للاحتجاج على ذلك. وكيف كانت روما تنوي التصرف إزاء ذلك؟ لقد كانت فكرة إرسال حملة ضدفيلومتور من العسير تنفيذها، بسبب ثورة لوسيتانيا (Lusitania) وقلتيبريا (Celtiberia) على روما، والحرب البونية الثالثة التي كانت وشيكة الوقوع، وبوادر الحرب مع الآخيين. ويضاف إلى ذلك أنه لم يسكن لبطلميوس الصغير أصدقاء فقط في السناتو، بل كان له فيه أيضاً أعداء شديد والمراس مثل مارقوس بورقيوس قاتو (M. Poreius Cato). وإزاء مشاغل روما الخارجية الكثيرة، نجح قاتو في إقناع السناتو بعدم اتخاذ أي إجراء ضد فيلومتور، فقد دافع عن الملك "الممتاز المحسن الكريم"، وهاجم بعنف أصدقاء ملك قورينايئة وبخاصة ثرموس (عام 153). وهكذا تمت الغلبة لفيلومتور، ولم يعد أخوه يطالبه بقبرص ثانية.

وإزاء ما عرفناه من تصرفات فيلومتور الكريمة، وما وصفه به بوليبيوس من الرقة والطيبة، نعتقد أن بوشيه لكلرك على حق في أن بطلميوس السادس كان ذلك "الملك بطلميوس" الذي وصفه أحد النقوش بأنه رجل فاضل صالح يفوق الرجال جميعًا في رقة حاشيته وأهدى رفاقه الذين حاروا معه في قبرص تاجاً من الذهب باسمه في معبد ديلوس.

فيلومتور يشرك معه ابنه الأكبر بوباتور:

وفي عام 153/152 أشرك فيلومتور معه في الملك ابنه الأكبر يوباتور (Eupator) وهو الذي يبدو أنه كان يقيم في قبرص بوصفه نائب الملك هناك، لكنه لم يلبث أن توفي في شرخ الشباب (حوالي عام 150)، ومع ذلك فإن اسمه مثبت في القوائم المتأخرة التي تحتوي على أسماء البطالمة المؤلهين الذين قرنوا مع الإسكندر في العبادة الرسمية.

متاعب الدولة السلوقية:

ولم يلبث مجرى الحوادث في سوريا أن أعطى فيلومتور فرصة الانتقام للاهانات التي لحقت به في بداية حكمه، إذ أن الدولة السلوقية ضعفت ضعفًا شديدًا منذ الوقت الذي كانت فيه جيوشهم تهدد الإسكندرية. ومن اليسير أن نفسر كيف أن أنطيوخوس الرابع لم يحاول الإفادة من العداء الذي استعر بين فيلومتور وبطلميوس الصغير، فمن ناحية كانت روما لا يمكن أن تسمح له بذلك، ومن ناحية أخرى كان هو نفسه منهمكًا عندئذ في اضطهاد اليهود ومحاربة البارثيين. وبيان ذلك أنه عند عودته من مصر ظن أنه كان في وسعه الانتهاء من مشكلة اليهود بصبغهم عنوة بالصبغة الإغريقية، وبالقضاء على نفوذ اليهود المتعصبين ولاسيما أنهم كانوا يمالئون أسرة البطالمة، وبإسناد مقاليد الأمور في "يهودا" إلى دعاة الهلينية منهم. فألغى إقامة الطقوس الدينية اليهودية في بيت المقدس واستبدل الإله زيوس أولومبيوس (Zeus Ogympios) بالإله "يهوه" في معبده هناك، وأقام مذبحًا إغريقيًا "وزر الأوزار" على المذبح المقدسي في فناء ذلك المعبد، وحول معبد يهوه على جبل الطور (Gerizim) ـ وكان معبد السامريين ـ إلى معبد للإله زيوس جزنيوس (Zeus Xenios) وحرم الختان، والامتناع عن أكل لحم الخنزير. لكن سياسة أنطيوخوس التي كانت تستهدف جعل الحضارة الإغريقية رابطة للوحدة بين أجزاء دولته المتنافرة صادفت مقاومة عنيفة من آليهود، إذ أن الأعمال التي ارتكبها ضدهم أثارت ثائرة فريق كبير منهم بزعامة المكايين متاتيا وأبنائه من أسرة هاسمونايوس (Hasmonaeos). وحين كان أطيوخوس يزحفه شرقًا ضد البارثيين، هزم يهوذا المسكابي (Judas Maccabaeos) جيشًا ملكياً مما حدا بلوسياس (Lysias)، وكان أنطيوخوس قد أقامه وصيًا ليرعى شئون الدولة في أثناء غيبته، إلى القيام بحملة استطلاعية في "يهوذا" أقنعته بحكمة اتباع سياسة وسط أساسها: وقف اضطهاد القديسين، والسماح لهم بالمعيشة في بيت المقدس جنبًا إلى جنب دعاة الهلينية، وإعادة معبد بيت المقدس إلى يهوه، ولكن مع إبقاء منلاوس، زعيم اليهود المتأغرقين، كاهنًا أكبر (عام 164).

وفي العام التالي توفي أنطيوخوس في أصفهان (جاباي Gabae) فخلفه ابنه الصبي أنطيوخوس الخامس. وعندئذ تنازع على السلطان الوصي وسياس ورجل من حاشية الملك المتوفي يدعى فيليب، كان الملك الراحل قد أتمنه على ابنه وهو طريح فراش الموت، لكن الغلبة كانت للوسياس ففر فيليب إلى مصر. وفي خلال ذلك كانت الحرب مستمرة في "يهوذا" بين دعاة الهلينية وحزب القديسين، فاضطر لوسياس إلى التدخل فيها (عام 162)، لكنه بعد انتصاره عند "بيت زكريا" لم يمس حرية اليهود الدينية واكتفى بهدم القلعة، التي أقامها القديسون لمجابهة المعقل الملكي، وكان مأوى دعاة الهلينية. وبعد عزل منلاوس عين في منصبه رجل آخر من دعاة الهلينية يدعى الياقيم (Alkimos).

وقد صادفت هذه الفوضى هوى من روما لتصطاد كعادتها في الماء العكر، وكانت لا تزال محتفظة لديها بدمتريوس الابن الأكبر لسلوقس الرابع، الذي استمع لمشورة بوليبيوس واجرأ على الهرب من روما في عام 163، وجاء ليحكم سوريا برغم أنف الجمهورية الرومانية. إذ أنه سرعان ما أوعز بقتل أنطيوخوس الخامس واسترد في عام 162 العرش الذي كان عمه أنطيوخوس الرابع (175-173) قد حرمه أياه، وبذلك آل إليه إرثه بعد ثلاثة عشر عامًا، لكن روما عملت على مضايقته باعترافها باستقلال تيمارخوس، حاكم ميديا الذي ثار عليه، وكذلك باستقلال اليهود، وإن كانت روما لم تعتز تأييد أحد من هؤلاء الأصدقاء الجدد بقوة السلاح. وفي "يهوذا" خلع الياقيم لكن جيشًا ملكيًا أعاده إلى منصبه ثانية. غير أن النزاع لم يلبث أن تجد بين فريقي اليهود مما اضطر الحكومة السلوقية آخر الأمر إلي إيفاد جيش بقيادة باكخيديس (Bacchides) الذي أحرز في إبريل عام 160 انتصاراً حاسمًا على يهوذا المكابي. ومع ذلك فإن حرية اليهود الدينية احترست، إلا أنه في الوقت نفسه استبقى الياقيم في منصبه.

وعندما فشل باكخيديس في مطاردة السمونيين عبر الأردن في عام 157/156، قرر التفاهم معهم والسماح ليوناتان (Jonathan)، الذي غدا رأس هذه الأسرة منذ مقتل يهوذا في عام 160، بالإقامة في إمارة اليهود (يهوذا) حيث أخذ نفوذه يزداد رويدًا رويدًا إلى أن أصبحت هذه الإمارة إمارة مستقلة استقلالاً فعليًا تحت أمرته بوصفه الكان الأكبر.
وكانت مصر في خلال ذلك نرحب بكل الناقمين على ملك سوريا، فقد أوى إليها فيليب كما ذكرنا، وأوى إليها أيضاً في عام 160 أونياس الرابع (Onias)، وكان كاهنًا أكبر قبل ياسون وزعم أ،ه ظلم بإقامة الياقيم في هذا المنصب، فمنحه فيلومتور في إقليم ليونتوبوليس (Leontopolis) أرضًا ليقيم علها معبدًا يهوديًا يكون "نموذجًا صغيرًا" لمعبد بيت المقدس، وفي عام 155 رأينا كيف أن دمتريوس حاول الاستيلاء على قبرص. لكنه أصبح غير محبوب بين رعاياه أو على الأقل في عاصمته، فقد أخذوا عليه عزلته في قبرص، لكنه أصبح غير محبوب بين رعاياه أو على الأقل في عاصمته. فقد أخذوا عليه عزلته في قصره وميله إلى ادمان الشراب. وهنالك خلقت برجام شخصًا يطالب بعرش سوريا، كان يدعى بالاس (Balas) لكنه اتخذ اسم الإسكندر، وقيل أنه كان ابن أ،طيوخوس الرابع. وقد رحبت روما بهذا المناوئ لدمترويوس واعترفت به في شتاء عام 153/152 ملكًا شرعيًا لسوريا، وبادر فيلومتور إلى التحالف معه.

فيلومتور يحاول الثائر لنفسه من السلوقيين:

ولا أدل على المكانة التي اكتسبتها أسرة هاسونايوس من التنافس في المداهنة بين دمتريوس وبالاس للتقرب إلى يوناتان، وهو الذي اكتسبه بالاس إلى جانبه بصفة قاطعة بالمناداة به كاهنًا أكبر في بيت المقدس في أكتوبر عام 152. وقد أسهم في انتصار بالاس على دمتريوس جيش بطلمي بقيادة جالايستيس (Galaestes) ولقى دمتريوس حتفه في مديان القتال (صيف عام 150)، وبذلك آل إلى بالاس عرش الدولة السلوقية (سوريا وبابل). وفي عكا (بطلوميس) تزوج بالاس من كليوبترا ثيا (Thea) ابنة فيلومتور (عام 150-149)، وظهر يوناتان في حفل الزواج بالرداء القرمزي ، وكان رداء "الأصدقاء من المرتبة الأولى"، ونصب قائدًا وحاكم إمارة اليهود، فكان ذلك انتصاراً لليهود المناهضين للهلينية بوجه عام وأسرة هاسمونايوس بوجه خاص.

وسرعان ما أثبت بالاس أنه لم يكن جديرًا بالعرش الذي وقع في قبضته، فقد كان رجلاً تافهًا انصرف إلى العبث، وترك تصريف شئون الدولة في قبضة وزيره أمونيوس (Ammonis). فلا عجب أن رأينا الدولة تنحل رويدًا رويدًا، ورأينا مدنها الإغريقية تتصرف كما لو كانت دولاً مستقلة. وفي ربيع عام 147 عرف أن دمتريوس بن دمتريوس الأول نزل في شمال سوريا أو قيليقيا مع جيش من مرتزقة كريت على رأسه لاسثنيس (Lasthenes)، غير أنه لما كان دمتيوس الصغير صبيًا لا تزيد سنه على الرابعة عشرة، فلابد من أن لاسثنيس هو الذي كان القائد الحقيقي لهذه الحملة. وحين كان بالاس يولى وجهه شطر الشمال للدفاع عن أنطاكية ضد الملك الشرعي، انتصر يوناتان على أبولونيوس حاكم جوف سوريا، وكان قد أعلن تأييده لدمتريوس الثاني، واستولى يوناتان على يافا وأشدود (Azotos) وعقلان. وعندما علم بالاس بما أصابه يوناتان من النجاح، رفعه إلى مرتبة "قريب الملك" وكانت أرفع مراتب الدولة، ومنحه مدينة عكير (أكرون، Ekron) ملكًا خاصًا له.

وقد خف فيلومتور إلى سوريا على رأس جيش وأسطول، واستقبلته مدن فلسطين وفينيقيا استقبالاً رائعًا أزعج أنطاكيا. وتختلف المصادر القديمة حول نوايا فيلومتور وغرضه من هذه الحملة، فيذكر ديودوروس أن نيته كانت في الأصل مساعدة بالاس زوج ابنته ضد دمتريوس الثاني. ويروي الكتاب الأول من تاريخ المكابيين أن فيومتور جاء بحجة مساعدة بالاس لكنه خانه وانضم إلى دمتريوس. أما لامؤرخ يوس فيحدثنا بأن فيلومتور كان صادق الرغبة في مساعدة بالاس لكنه أغضبه عدم معاقبة أمونيوس على تدبيره محاولة لإغتياله، فانحاز إلى جانب دمتريوس. وإزاء ما نعرفه عن خلق فيلومتور يصعب علينا اتهامه بالخداع واختلاق المزاعم ونعتقد أنه جاء لمساعدة بالاس، ولعله كان يأمل في الفوز نظير ذلك بجوف سوريا.

ويبدو أن حسن استقبال المدن السورية لفيلومتور أفزع أمونيوس وبالاس، وكانا رجلين مخاطرين لا خلق ولا مبادئ لهما، فتصورا أن فيلومتور على شاكلتهما وأنه قد ينتهز الفرصة ويستولى على سوريا كلها ولذلك دبرا اغتياله. وأما فيلومتور فإنه، بحكم ما فطر عليه من الطيبة، لم يدر بخلده اشتراك بالاس في هذا التدبير وعزاه إلى أمونيوس وطلب إلى بالاس تسليمه إليه. وعندما رفض بالاس هذا الطلب، اعتبر فيلومتور ذلك دليلاً على اشتراكه هو أيضاً في المؤامرة. ولذلك فإنه عندما قتل الأنطاكيون أمونيوس لم ير فيلومتر في ذلك ترضية كافية ونقض يده من محالفة بالاس، وانضم إلى ج ابن دمتريوس الثاني وأعداء إياه بعرش سوريا وبابل ويد ابنته كليوبترا ثيا، زوجة بالاس، لقاء النزول لمصر عن جوف سوريا.

وعندما عرض أطاكية العرش على فيلومتور، رفض أن يضم الدولة السلوقية إلى مصر خشية الاشتباك مع روما بسبب ذلك، وأقنع الأهالي بقبول دمتيوس الثاني ملكًا. وفي تلك الأثناء كان بالاس قد هرب إلى قليقيا حيث جمع جيشاً وزحف على شمال سوريا، وهناك التقى بقوات فيلومتور ودمتريوس على ضفاف نهر أوينوباراس (Oemoparas). قد هزم بالاس في هذه المعركة وفر للاحتماء عند أحد شيوخ العرب في الإقليم المجاور، وأصيب فيلومتور بجرح مميت في ميدان القتال (صيف عام 145).

ويروي المؤرخ يوسف أن جواد فيلومتور، وقد أخافته زمزمة قيل، ألقاه على الأرض حيث أحاط به أعداؤه وأصابوه بطعناتهم، وقضى أربعة أيام وهو في النزع الأخير، ولم يسترد وعليه في اليوم الرابع إلا "ليمتع نفسه برؤية رأس عدوه بالاس"، وكان محتميًا بين الأعراب، إذ أن الشيخ زبيل (Zabeil) أرسل هذه الغنيمة المروعة إلى فيلومتور ولا شك في أن الإغريق كانوا يحبون الانتقام، لكنه يصعب علينا أن نصدق أن فيلومتور أحس ذلك الإحساس الوحشي، الذي بدا طبيعيًا للكاتب اليهودي. وقد سبق أن أشرنا إلى ما كتبه بوليبيوس عن خلق فيلومتور من أنه "كان أكثر كافة الملوك الذين عاشوا قبله وداعة وطيبة. وإليك دليلاً بينًا: ذلك أنه لم يقض بموت أحد من أصدقائه بسبب تهمة وجهت إليه. وأعتقد تمامًا أنه لم يمت بأمر منه أي إسكندري".

وقد كانت النتيجة المباشرة لوفاة فيلومتور أن دمتريوس اعتبر نزوله لمصر عن جوف سوريا كأنه لم يكن، وأنه لم تعد تحت أمره مصر عندئذ قوات كافية، إذ أن فيلومتور كان قد أخذ معه إلى سوريا الجانب الأكبر من القوات البطلمية، وانتهز دمتريوس فرصة مقتله وأرغم هذه القوات على الانضمام إلى جيشه أو الانسحاب إلى مصر كيفما اتفق.

ومن سخرية القدر أن عهد أكثر ملوك البطالمة وداعة وطيبة كان طامة كبى على دولة البطالمة. ذلك أنه في عهد فيلومتور نكبت دولة البطالمة بغزوتي أنطيوخوس الرابع، مما أفضى إلى بداية النزاع الأسرى في دولة البطالمة، وإلى إتاحة الفرصة أمام روما لتقوم بدور حامية مصر وكذلك بدور الفيصل في النزاع الأسرى، واستغلال ذلك لتحقيق أهدافها. وسنرى بعد قليل أن تبديد قوات مصر في مغامرة فيلومتور السورية ترك أرملته كليوبترا الثانية ووليى عهده الطفل أضعف من الوقوف في وجه بطلميوس ملك قورينايئة، عميل روما وربيبها، مما أفضى مآس هزت كيان الدولة وأسهمت إلى حد كبير في انحلالها وفي تغلغل النفوذ الروماني في مصر.

نيوس فيلوباتور سابع البطالمة:

ويبدو أن يلومتور أنجب ابنين كان أكبرهما يوباتور (Eupator) وقد عرفنا أنه أشرك مع أبيه في الحكم منذ عام 153/152 إلى حين وفاته في عام 150. وأما أصغرهما فيرجح أ،ه كان نيوس فيلوباتور (Neos Phitoator)، ويدل نقش عثر عليه في الفيوم على أنه أشرك مع أبيه في الحكم قبل وفاة الأب بوقت قصير، إذ أن هذا النقش مؤرخ بهذه العبارة "28 من شهر أبيب في العام 36 الذي هو أيضًا العام الأول" (=21 من أغسطس عام 145). وإذا كنا نرتب على ذلك اعتبار نيوس فيلوباتور سابع البطالمة، فإنه يصعب أن نستخلص من هذا النقش أن فيلومتور كان لا يزال على قيد الحياة في هذا التاريخ، فقد عرفنا أنه توفي في سوريا في صيف عام 145، ومن الجائز أنه عند إعداد هذا النقش توفي في سوريا في صيف عام 145، ومن الجائز أنه عند إعداد هذا النقش كان قد توفي لكن نبأ وفاته لم يكن قد وصل بعد إلى الفيوم.

وعندما توفي فيلومتور، ترك أبنه نيوس فيلوباتور تحت وصاية كليوبترة الثانية. ولم يكن هناك أمل في بقاء هذا الطفل على عرش مصر، إذ أن بطلميوس ملك قورينايئة، عنه وخاله في الوقت نفسه، كان يتطلع بفارغ الصبر إلى الفرصة التي يستطيع فيها ارتقاء عرش مصر، ولاسيما أنه كان له أشياع في الإسكندرية وأصدقاء في روما، وأما ك ليوبترا الثانية، أرملة فيلومتور وشقيقته بطلميوس ملك قورينايئة، فإنها كانت فيما يبدو تعتمد على تأييد أرستقراطية الإسكندرية، وكذلك على يهودها، وقد ازداد نفوذهم في مصر منذ أن فاز يهود فلسطين بحكم أنفسهم، واكتسبوا أهمية كبيرة في السياسة لاسورية. فلا عجب أن عرفنا أنه كان يقود ما تحت أمرة كليوباترا من الجنود قائدان يهوديان هما أونياس ودوسيثيوس (Dositheos) لكن هذا التصرف من ناحية كليوباترا أفقدها عطف الكثيرين في الإسكندرية. وقد زاد مركز كليوباترا حرجًا أنه لم يكن لديها عندئذ قوات كافية لشد أزرها، بسبب ما حدث في سوريا عقب وفاة فيلومتور على نحو ما عرفنا.

بطلميوس ملك قورينايئة يرتقى عرش مصر:

وإذا كنا نعرف أن الإسكندرية كانت منقسمة إذ ذاك فريقين: أحدهما يتألف من الأرستقراطية واليهود ويناصر كليوبترة وابنها، والآخر يتألف من عامة الشعب ويناصر بطلميوس ملك قورينايئة، بسبب كراهية هذا الفريق للاستقراطية واليهود، وكذلك بسبب رغبته في إعادة توحيد الدولة، فإنه يتعذر علينا، نتيجة لما لدينا من المعلومات الطفيفة، أن تبين بوضوح مجرى الحوادث التي أفضت إلى ارتقاء بطلميوس ملك قورينايئة عرش مصر. ويتحدث المؤرخ يوسف عن نشوب حرب أهلية في الإسكندرية، وعن وصول النبيل الروماني لوقيوس مينوقيوس ثرموس إلى العصامة البطلمية في اللحظة التي أحضر فيها أونياس إلى تلك المدينة جيشًا صغيرًا لمقاومة بطلميوس ملك قورينايئة، وهو الذي عندما علم بوفاة فيلومتور زحف على مصر لعزل كليوبترا وابنها واغتصاب العرش. وأما يوستينوس فإنه يتحدث عن ذهاب بعثة من الإسكندرية إلى قورينايئة لتعرض تاج مصر ويد كليوبترا على بطلميوس. فتربع على عرش مصر دون قتال. وما الذي يمكن استخلاصه من ذلك كله؟ يبدو أن عقب وفاة فيلومتور انقسمت الإسكندرية فريقين على نحو ما أسلفنا، وأن الخلاف بين هذين الفريقين أفضى إلى تطاحنهما، وأنه في أثناء هذا التطاحن وصل ثرموس المعروف بمناصرته لبطلميوس ملك قورينايئة منذ خلافه مع فيلومتور. ولما كنا نستبعد مجئ ثرموس إلى الإسكندرية عندئذ صدفة، فإننا نرجح أنه ما كادت روما تعلم بما في الإسكندرية من خلاف حول ولاية العرش حتى اعتزمت أمراً أنفذت مبعوثها لتنفيذه تحت ستار التوفيق بين الأخوين، كليوبترا وبطلميوس، ففي تلك اللحظة كان في وسع الرومان، وقد تخلصوا من كل ما كان يمكن أن يقلق بالهم من ناحية قرطجنة أو الآخيين، أن يوجهو عنايتهم إلى شئون مصر.

ويبدو أن ثرموس جسم لكليوبترا خطورة مركزها يسبب افتقارها إلى وقات كافية في الوقت الذي يناوئها فيه عامة الشعب ويزحف ضدها ملك قورينايئة، وأوضح لها أنه ق د يترتب على ذلك أن تفقد هي وابنها كل شيء، واقترح حلاً وسطًا لحسم النزاع وهو أن تتزوج أخاها ملك قورينايئة وأن يحكما سويًا بالاشتراك مع ابنها من فيلومتور. وإزاء موافقة كليوبترة والفريقين المتطاحنين على هذا الحل، ذهبت بعثة لإبلاغه إلى ملك قورينايئة فرحب به وارتقى عرش مصر دون قتال.

وقد يثير الشك في صحة الدور الذي رجحنا قيام روما به في هذه الأزمة أن حلها على هذا النحو أفضى إلى إعادة توحيد دولة البطالمة، وهو حل يجافى السياسة (سياسة فرق تسد) التي دأبت روما على اتباعها لخدمة صوالحها، وسبق أن نفذتها في دولة الطبالمة باتفاقية عام 163، وهو الاتفاقية التي أمرت بها روما وقضت بتقسيم دولة البطالمة. ونحن نرى أولاًن أن الهدف الأساسي لهذه السياسة كانت تهيئة الأسباب لنشر نفوذ روما وتغلغله، مما كان يتتبع تنوع الأساليب وفقًا لما تقتضيه الظروف. ونرى ثانيًا أنه من الوجهة النظرية كانت حقًا سياسة فرق تسد تقضي بوجوب استمرار فصل قورينايئة عن مصر، بيد أنه من الوجهة العملية لم يكن في توحيد مصر وقورينايئة وإقامة ملك قورينايئة على الاثنتين معا أي على هذه السياسة. ذلك أن الملك الطفل ابن بطلميوس السادس كان الوريث الشرعي لعرش مصر، وإذا سارت الأمور في مجراها الطبيعي واحتفظ بالعرش بعد أبيه فإنه لن يدين بأي فضل لروما، وقد يثبت أنه يشابه أبااه وهو الذي تحدى روما واجترأ على عدم الإذعان لمشيئتها. في حين أن حصول ملك قورينايئة على عرش مصر، وهو الذي لم يكن له حق فيه سيجعله مدينًا لروما ما بقى عليه. هذا إلى أنه وقد أثبت فعلاً سواء في مصر أم في قورينايئة أنه ملك متعسف شديد البطش أثارت تصرفاته نقمة رعاياه عليه، فإنه كان لا يمكن أن تنعم الدولة الموحدة في عهده بالهدوء والاستقرار، ولاسيما أن الاتفاق بين هذا الملك وكليوبترا الثانية على إعادة توحيد دولة البطالمة كان يحمل في طياته بذور الخلاف. ذلك أنه لم يكن هناك مفر من وقوع اضطرابات شديدة في الدولة الموحدة نتيجة لأحد أمرين: وأحدهما هو أن يبادر ملك قورينايئة إلى التخلص من الملك الطفل وعندئذ لن ينجو من نقمة أمه. والأمر الآخر هو أن الملك الطفل عندما يكبر لن يغفل ما حدث من الإفتئات على حقوقه. وهكذا لم يكن من شأن إعادة توحيد دولة البطالمة في مثل هذه الظروف أن تتهيأ لها أسباب النهوض والقوة، بل على العكس أسباب الضعف والاضطراب والأذعان لروما.

وعندما ارتقى بطلميوس ملك قورينايئة عرش مصر في شهر سبتمبر عام 45 اتخذ اللقب الإلهي الذي كان يحمله ذلك الملك المحبوب بطلميوس الثالث، وهكذا أصبح ثامن البطالمة يعرف باسم يورجتيس الثاني. ولم يعتبر هذا الملك عام 145 أول سنى حكمه وإنما اعتبره عامه الخامس والعشرين على أساس أن حكمه بدأ منذ المناداة به ملكًا على مصر للمرة الأولى في عام 170.

مآسي العهد الجديد:

ويحدثنا يوستينوس بأن يورجتس قتل ابن أخيه نيوس فيلوباتور ويضفي على هذه الجريمة صبغة مسرحية، فهو يروي أن هذا الطفل قتل في أحضان أمه ليلة الزفاف، على نحو ما روى من قبل أن بطلميوس الصاعقة قتل ابني أرسينوى الثانية وهما في أحضانها ليلة زفافه إليها. وإذا كان الشك يرقى إلى ملابسات هذه الجريمة، نفسها. وهكذا بدأت سلسلة من المآسي لطخت هذا الحكم المخيف بالدماء. وقد يبدو غريبًا أن تقبل كليوبترا بعد ذلك معاشرة قاتل ابنها، فهل دفعها إلى ذلك الخوف أم على الأرجح رغبتها في البقاء ملكة بأي ثمن؟ وإذا ما عرفنا ما كان من أمر ابنتها كليوبترا ثيا ملكة سوريا وهي التي تغلب حب السلطة فيها على كل عاطفة إنسانية، إذ أنها دبرت مقتل أحد أبنائها وحاولت قتل ابنها الآخر، عندما وفقا في سبيل أطماعها ـ إذا عرفنا ما كان من أمر الابنة فإننا لا ندهش لماكان من أمر الأم، فهي على الأقل لم تقتل ابنها ولم تفعل أكثر من معاشرة قاتل هذا الابن، وهو أمر أهون بكثير من أمر ابنتها. وعلى كل حال فإنه لم يكن من شأن هذه الجريمة المروعة دعم العلاقات بين الكليوبترا الثانية وزوجها السفاح.

وقد كانت المأساة الثانية اضطهاد اليهود، جزاء مساعدتهم فيلومتور وكليوبترا الثانية ضده. ويحدثنا المؤرخ اليهودي يوسف بأن يورجتيس الثاني أراد أن تطأ الفيلة بأقدامها جمعًا حاشدًا من اليهود، لكن الفيلة ارتدت بدلاً من ذلك على رجال الملك، إلا أنه ينقص من قيمة هذه القصة أن الكتاب الثالث من تاريخ المكابيين يعزوها إلى بطلميوس الرابع. ويقول المؤرخ يوسف أن يروجتيس الثاني عدل عن رغبته في الانتقام من اليهود خوفًا من عقاب السماء واستجابة إلى توسلات حظيته ـ ويطلق عليها البعض اسم أثاقي (Ithake) والبعض الآخر اسم أيريني (Eirene) ـ وأن هذا هو منشأ الحفل المشهور الذي كان يهود الإسكندرية يقيمونه كل عام احتفالاً بذكرى نجاتهم من الهلاك. وهنا أيضاً إذا كان الشك يرقى إلى ملابسات اضطهاد يورجتيس الثاني لليهود اضطهادًا بشعاً بمجرد استعادته عرش مصر فإنه لاشك في وقوع مثل هذا الاضطهاد. ذلك أن يوستينوس يحدثنا بأن هذا الملك بادر إلى صب جام غضبه على مناصري ابن أخيه وأخته، وأننا عرفنا أن ارستقراطية الإسكندرية واليهود كانوا يناصرون كليوبترا الثانية وابنها. ولما كان عامة الإسكندرية يكرهون اليهود كراهية شديدة، فإنه كان طبيعياً أن يبدأ الملك السفاح بالانتقام من اليهود انتقاماً مروعًا.

ولم تقف أعمال يورجتيس الثاني عند حد اضطهاد اليهود، إذ أنه أطلق لنفسه الشريرة العنان في قتل كل الذين كان يتشكك في إخلاصهم له، ويبدو أنه قسا بوجه خاص على علماء الإسكندرية وفنانيها، لأن الكثيرين منهم كانوا يعطفون على فيلومتور فاعتبرهم يورجتيس أعداءه. ويحدثنا أثينايوس بأنه نتيجة لذلك تشرد في أنحاء العالم الإغريقي الكثيرون من علماء معهد الإسكندرية وفناني هذه العاصمة، فبعثوا نهضة علمية في كل الأماكن التي فروا إليها. وليس معنى ذلك أن يورجيتس الثاني كان معاديًا للثقافة الإغريقية، فقد كان هو نفسه يطمع في مكانه بين المؤلفين الإغريق، وخلف كتاباً لذركيات مختلفة ذكر فيها، بين أشياء أخرى، الصفات الغريبة في خاله أنطيوخوس الرابع.

وبهذه المجازر والاضطهادات خيل إلى يورجتيس الثاني أنه قد دعم مركزه في الإسكندرية، لكنه لعل الأصح أنه ملأ قلوب الناس كراهية له وحقدًا عليه وكذلك فزعًا منه. وفي عام 144 رسم يورجتيس الثاني فرعونًا في منف، وأنجبت له كليوبترة الثانية في خلال حفلات التتويج المصرية ابنًا سمى ممفيتيس (Memphites). ولما كانت لا تقل عن أمها طموحًا وقسوة، وأشركها معهما في الملك، إذ أنه منذ عام 141 على الأقل كانت تذكر في ديباجة الوثائق عبارة "الملك والملكة الأخت والملكة الزوجة".

وهذا معناه أنه إذا كان يورجتيس قد اجترأ على اتخاذ زوجة جديدة، فإن الجراءة لم تبلغ به إلى طلاق كليوبترا الثانية، لأن طلاقها كان يستتبع عزلها. فهل كان أحجامه عن ذلك يرجع إلى الخوف من إثارة أنصار كليوبترا لأنهم كانوا كثرة، أم إلى أن روما كانت تصر على اشتراكها في الحكم ضمانًا لعدم الاستقرار في الدولة؟ لعل أن الاحتمال الثاني كان الدافع، لأ،ه لو صح أن الاحتمال الأول كان الدافع لما سكتت كليوبترا على الضيم والإهانة. وأنه لمن المحتمل أن أنصار كليوبترا إذا لم يكونوا أصحاب الكثرة فإنهم لم يكونوا كذلك قلة قليلة، ومع ذلك فإن الخوف من بطش الملك وقوته شل حركتهم وإن لم يحل دون ازدياد كراهيتهم له واشمئزازهم منه لجرائمه وتزوجه كليوبترا الثالثة. وقد دفع هذا الحادث المنفيين إلى الالتفاف حول جالايستيس (قائد الجيش في عهد فيلومتور) وكان بعد أن حرمه يورجتيس ألقابه ومنصبه قد التجأ إلى بلاد الإغريق حيث أدعى أن فيلومتور كان قد عهد إليه برعاية أمير صغير كان ابنًا شرعيًا لكليوبترا الثانية من فيلومتور. وقد استغل جالايستيس زواج بورجتيس من كليوبترا الثانية من فيلومتور. وقد استغل جالايستيس زواج بورجتيس من كيلوبترا الثالثة ليشير عواطف الإسكندريين ضده. وحين شعر الجنود المرتزقة بأنهم قد غدوا أهم سند ليورجتيس، ازدادوا وقاحة وجشعًا، وعندما عجزت الخزانة الملكية ذات مرة عن دفع مرتباتهم هددوا بالانضمام إلى جالايستيس، ولم ينقذ الموقف إلا أن القائد هيراكس دفع رواتب الجنود من جيبه الخاص (عام 140). ولا نسمع شيئًا بعد ذلك عن جالايستيس ولا عن الأمير المزعوم.

سقيبيو أيميليانوس في مصر :

وقد استمر الوفاق على الأقل في الظاهرة بين يورجتيس الثاني وكليوبترا الثانية. وكانت هذه هي الحال التي وجدها سفيبيو أيميليانوس (Scipio Aemilianus) في الإسكندرية في عام 136، عندما جاءها على رأس بعثة أنفذها السناتو لدراسة أحوال الدول الحليفة في الشرق. وقد استقبل سقيبيو ورفاقه بحفاوة بالغة، واستمتع الإسكندريون أيما استمتاع برؤية ملكهم الضخم في ملابسه الشفافة يتصبب عرقًا وتنتفخ أوداجه وهو يحاول اللحاق بضيوفه الرومان الذين تملكتهم رغبة خبيثة في المشي من الميناء إلى القصر. ويروي أن سقيبيو مال نحو الفيلسوف بانايتيوس وأسر في أذنه: "سرعان ما أفاد الإسكندريون من رحلتنا، فهم يدينون لنا برؤثة ملكه يمشي على قدميه".

ويحدثنا ديودوريوس بأن يورجتيس أقام للسفراء الرومان مآدب فاخرة، وبأنه عند طوافهم بالقصر عرض أمامهم كنوز الخزانة الملكية، لكنه لم يأكلوا إلا ما يسد رمقهم وأغضوا الطرف عن الكنوز، لاحتقارهم مظاهر الترف بوصفها مفسدة للجسم ولاروح معًا. وقد أولى السفراء عناية كبيرة إلى ما كان يستحق منهم ذلك، إذ أنه درسوا عن كتب موقع الإسكندرية وأ÷ميتها وخصائص فنارها، وركبوا النيل مصعدين حتى منف، فلمسوا خصوبة التربة وعرفوا فائدة فيضان النيل، وشهدوا آلاف البلاد التي تزدحم بأعداد غفيرة من الأهالي، ووقفوا على قوة مركز مصر وما توافر لها من أسباب المنعة والسؤدد، واستخلصوا من ذلك كله أنه من الممكن أن تصبح مصر دولة عظمى لو أتيح لها حاكم جدير بها. وبعد أن أتموا زيارتهم برحوا مصر إلى قبرص ومنها إلى سوريا.

وإذا كان يورجتيس قد عمل على كسب ود المصريين بما أظهره لرجال الدين المصريين من عطف ورعاية، فإن كراهية الإسنكدرية له قد ازدادت لأن زيارة البعثة الرومانية للإسكندرية أشعرت تلك المدينة الفخورة بأن ملكها لاكريه يعتمد على التأييد الأجنبي للاحتفاظ بعرضه، ولأنه ما كادت تلك البعثة تبرح الإسكندرية حتى استأنف يورجتيس حياته العباثة.

نشوب الثورة وفرار الملك:

وأخيراً اندلع لهيب تلك الثورة التي كانت متوقعة منذ أمد طويل. ويحدثنا ديودوروس بأن هذه الثورة نشبت بعد انقضاء خمسة عشر عامًا على وفاة فيلومتور (131ق.م.)، بينما يروي ليفيوس وأوروسيوس أن الثورة وقعت في أثناء قنصلية مارقوس بربرنا (عام 130 ق.م). ويؤيد رواية ديودوروس أن بردية من الفيوم من عام 131 تتحدث عن دعوة اثنين من المزارعين المصريين للخدمة في الجيش وقت المحصول، مما يوحى بأنه في 131 نشبت الثورة وفر الملك من مصر ثم عاد لاسترداد عرشه بالقوة. وفضلاً عن ذلك فإنه جاء في بردية من قرقيوسيريس من عام 114/113 نشبت الثورة وفر الملك من مصر ثم عاد لاسترداد عرشه بالقوة. وفضلاً عن ذلك فإنه جاء في بردية من قرقيوسيريس من عام 114/113 العبارة التالية: "حتى العام التاسع والثلاثين (من حكم يورجتيس الثاني = عام 131) قبل زمن الثورة". وإذا كنا نجد قطعتين من الأوستراقا من طيبة مؤرختين بسنى حكم يورجتيس وأحداهما من مايو عام 131 والأ×رى من 3 يونية عام 131، فإنه لا يبعد أن يكون قد حدث قبل ذلك بقليل نشوب الثورة وهروب الملك من الإسكندرية إلى قبرص، إذ يجب أن ندخل في حسابنا المدة اللازمة لوصول نبأ الحادث إلى طيبة.

وإزاء ذلك كله لا نستطيع الأخذ بما تذهب إليه الآنسة بريو، ونؤيد الرأي الذي نادى به لاكير (Laqueur) وبوشيه لكلرك منذ أمد طويل ويدعو إليه اليوم أوتو وبنجتسون، وفحواه نشوب الثورة وهروب يورجتيس في عام 131.

ويبدو أن يورجتيس أراد أخماد الثورة في مهدها بعمل يلقي الرعب في قلوب الإسكندريين، غذ يروي أنه في أحد الأيام حاصر جنوده الجو منازيوم وكان غاصًا بالشبان، وأشعلوا النار في المبنى وقتلوا كل من حاول الفرار من ذلك الأتون الملتهب. وكان لهذه الجريمة المنكرة أبلغ الأثر في نفوس الإسكندريين، فقد بلغ هياجهم إلى حد أنهم فرروا أحراق ذلك الوحش في وكره، غير أنه كان أفطن من أن ينتظر حتى يلقى جزاءه. إذ أنه عندما علم بما اعتزمه الإسكندريون فر سرًا، وتبعنا لذلك فإنه عندما أشعلت النار في القصر الملكي كان الملك في طريقه إلى قبرص ومعه كليوبترا الثالثة وأولاده منها وكذلك ممفيتيس، وكان ابنه من كليوباترا الثانية.

وإزاء ذلك اعتبر الإسكندريون الملك الهارب متنازلاً عن عرشه ونادوا بكليوبترا ملكة. وتمشيًا مع العرف والتقاليد كان يجب أن يشرك مع كليوبترا الثانية شخص من نسل البطالمة يصلح لأن يكون زوجًا لها ولو من الناحية الشكلية، ليستوى على العرش زوج من ملوك البطالمة المؤلهين. وبعد استبعاد يورجتيس وابنتيه من كليوبترا الثالثة، لم يبق إلا ابنه الأكبر من حظيته أيريني، ويظن أنه كان نائب الملك في قورينايئة، لكن يورجتيس خيب على الإسكندريين تدبيرهم بالمبادرة إلى استدعائه إلى قبرص والإجهاز عليه. وقد أحفظت هذه الجريمة الجديدة قلوب الإسكندريين، فقلبوا تماثيل يروجتيس. وتحدثنا مصادرنا الفقيرة بأن استشاط غضبًا من هذا العمل، وقتل ممفيتيس في سورة من الجنون، بل قطعة أربا، وأرسل أشلاءه إلى أمه كليوبترا الثانية هدية في يوم عيد ميلادها، رغبة منه في الانتقام منها لاعتقاده أنها هي التي دفعت الأهالي على ما أقدموا عليه.

وعندما فر يوجتيس وكليوبترا الثالثة إلى قبرص وانفردت كبيوبترا الثانية بالملك، اعبترت ذلك العام بداية لحكمها على انفراد. ويبدوا أن هذا الحكم دام عامين حملت الملكة أثناءهما لقب "الألهة فيلومتور سوتيرا" (Soteira) وقد اعتبر لاكير عام 133/131 العام الأول من حكم كليوبترا الثانية استنادًا إلى وثيقتين أحداهما من طيبة والأخرى من قرقيوسيريس. ويؤيد فيلكن هذا الرأي بما جاء ببردية في اللوفر وبأحدى قطع الأوستراقا من الفنتين، فهو يجد في بردية اللوفر أن العام التاسع والثلاثين من حكم يوجتيس يوافق العام الأول من حكم كليوبترا الثانية، ويرى في قطعة الأوستراقا تأييدًا لذلك فقد جاء فيها أن العام الأربعين يوافق العام الثاني. وفي ضوء ما نعرفه وسيأتي ذكره من كليوبترا الثانية فرت من مصر في عام 129، لعل الأرجح أن العام الأول لحكمها بممفردها كان عام 131/130 والعام الثاني عام 130/129.

عودة يورجتيس إلى مصر:

وقد مر بنا أن بردية الفيوم التي ترجع إلى عام 131 وتتحدث عن دعوة اثنين من المزارعين للخدمة العسكرية توحي بأنه في ذلك العام نشبت الثورة وهرب الملك ثم عاد لاستعادة عرشه بالقوة. ويؤيد أن غيبة يوجتيس في قبرص لم تطل عقد زواج ديموتيقي، مسجل في معبد أنوبيس بمنف بتاريخ 30 من أكتوبر عام 131. ذلك أن هذا العقد مؤرخ يسنى حكم يوجتيس ويظهر فيه لأول مرة كاهن جديد يدعى المهر المقدس (Hieros Polos) كاهن الآلهة العظمى إيزيس أم الآلهة. والرأي السائد اليوم هو أن الآلهة العظمى إيزيس أم الآلهة كانت كليوبترا الثالثة، وأن يوجتيس أنشأ لها هذه العبادة الجديدة ردًا اللقب الإلهي الذي اتخذته كليوبترا الثانية. ولا يمكن أن تكون العبادة الجديدة قد أنشئت في أثناء غيبة الملك عن البلاد، ولذلك فإن إنشاء هذه العبادة والتاريخ بمعنى حكم بورجتيس بعد قراره إلى قبرص ينهضان دليلاً على عودته إلى مصر وسيطرته على منف. وذلك في حين أن كليوبترا الثانية كانت لا تزال تسيطر على الإسكندرية وأنحاء كثيرة في مصر، مما يفسر تأريخ بعض الوثائق بسنى حكمها المنفرد وتأريخ البعض الآخر بسنى حكم يورجتيس، واستمرار هذين التأريخين حتى قرار كليوبترا الثانية من مصر.

وقد صحب النضال بين بوجتيس وكليوبترا اضطرابات كانت مزيجًا من النزاع الأسري والثورة القومية، وقد أطلق الإغريق على هذه الاضطرابات وصفًا (Amixia) فهم منه أنه في ههذ الظروف تقطعت أوصال البلاد وشاعت الفرقة والقطيعة بين مختلف أجزائها ولا سيما في الوجه القبلي، حيث كانت المدن والقرى تحارب بعضها بعضًا. وقد كان يؤيد كليوبترا الثانية الإسكندرية أو على الأقل الإغريق واليهود وجانب من الجيش، في حين أنه كان يناصر يورجتيس بقية الجيش وكثيرًا من المصريين بزعامة بعض رجال الجيش.

وفي شهر كيهك عام 40 (25 من يناير 130) كتب جندي إغريقي يدعى استلاداس (Esthladas) إلى والديه في مدينة باثوريس (Pathyris قرب الجبلين بين أرمن وأسنا) وكانت موالية ليورجتيس الثاني، يقول أنه كان على وشك الزحف مع بعض الفرق الموالية للملك ضد هرمونثيس (أرمنت)، وكانت تناصر كليوبترا الثانية؛ وأن أنباء قد وصلت فحواها أن باوس (Paos) حاكم منطقة طيبة سيأتي في الشهر القادم (شهر طوبة) "على رأس قوات كافية للقضاء على أهل هرمونثيس ومعاملتهم معاملة الثوار". ومع ذلك فإنه يبدو أنه في أكتوبر عام 130 كانت هرمونثيس لا تزال في قبضة أنصار الم لكة. وقد كانت كوم أومبو وكذلك طيبة من بين المدن التي شقت عصا الطاعة على يورجتس، لكن القرائن تشير إلى أن يورجتيس استرد في أثناء العامين 130 و129 أكثر أنحاء الوجه القبلي، فقد وصلت إلينا من جهات متعددة في مصر العليا وثائق كثيرة من هذين العامين مؤرخة سنى حكم يورجتيس. ولما كان قد وصلنا من محافظة الفيوم نقش ديموتيقي (من عام 130/129) وبردية ديموتيقية (من عام 129/128) مؤرخان بسنى حكم يوجتيس. وكانت بردية إغريقية تحدثنا بأن الملك منح اقطاعات لجنود م صريين هناك في هذين العامين، فإن هذا كله يدل على أن الملك كان قد بسط سيطرته عندئذ على هذه المحافظة أيضًا.

ومع كل الأماكن التي استردها الملك، يبدو أن الإسكندرية، بوصفها أقوى معاقل كليوبترا الثانية فضلاً عن شدة خوف سكانها من انتقام الملك وبطشه بسبب تأييدهم للملكة، قاومت يوجتيس على الأقل حتى عام 127 ق.م. ودليلنا على ذلك أن وثيقة من قروقوديلو بوليس بتار× 9 من يناير عام 127 مؤرخة فعلاً بسنى حكم يورجتيس، لكنه بدلاً من أن ينص فيها على أن كهنة العبادة الرسمية كانوا يقيمون في الإسكندرية، قيل أنهم كانوا في معسكر الملك. ولو أن الملك كان قد استرد عاصمته لكانت قد غدت ثانية بطبيعة الحال مقر كهنة العبادة الرسمية الذين كانت الوثائق تؤرخ بأسمائهم، ولما كان هناك مبرر لأن يكون معسكر الملك مقر أولئك الكهنة على نحو ما نص عليه في هذه الوثيقة. وبالرغم من أن الصيغة المألوفة لم تظهر ثانية في الوثائق التي وصلت إلينا حتى الآن إلا منذ شهر أغسطس عام 126، فإنه يرجح أن الإسكندرية سقطت في يد الملك قبل 8 من أغسطس عام 127، وذلك استنادًا إلى أنه جاء في وثيقة من هذا التاريخ أن كهنة العبادة الرسمية يقيمون في مقرهم المألوف.

وقد جاء في إحدى شذرات كتاب ديودوروس أن بطلميوس الكبير (Presbyteros) أنفذ قائده هجلوخوس (Hegelochos) ضد الإسكندريين وكان على رأسهم مارزواس، وأنه بعد إحراز نصر حاسم عليهم أظهر نحو مارزواس تسامحًا غير منتظر. ثم يمضي ديودوروس فيقول أن الملك بدأ أخيراً يغير سلوكه محاولاً الإقلال من غضب الجماهير عليه بالتصرف تصرفًا إنسانيًا رحيمًا. ويبدو أن الجزء الأخير من شذرة ديودوروس ينطبق على سيرة يورجتيس الثاني أكثر من انطباقه على أي ملك آخر. بيد أنه لما كان الملك الذي تتحدث عنه هذه الفقرة قد وصف بالكبير، وكان ذلك يوحي بأنه لم يوصف على هذا النحو عفوًا وإنما للتفرقة بينه وبين بطلميوس صغير، وكان لا يوجد مبرر لوصف بطليموس يوجتيس الثاني بالكبير على نحو ما جاء في تلك الشذرة، فإن بعض المؤرخين يرى أن بطلميوس الكبير المقصود هنا هو بطلميوس التاسع فيلومتور سوتر.

وإذا كنا نسلم بأنه لا يوجد مبرر لوصف بطلميوس يوجتيس الثاني بالكبير، وبأن هذا الوصف قد يكون أكثر انطباقًا على بطلميوس فيلومتور سوتر، فإننا مع ذلك نرى أن الفقرة كلها لا يمكن أن تنطبق على بطلميوس التاسع، وذلك لأنه إذا كان قد استعاد الإسكندرية بعد أن فقدها لأخيه الأصغر بطلميوس إسكندر الأول، فإنه لم يستعدها نتيجة لانتصار حربي مثل ما فعل يورجتيس الثاني. وفضلاً عن ذلك فإن الملك الأخير هو الذي اتصف بالقسوة المتناهية في معاملة رعيته إلى حد أنها خلعت عليه لقب الشرير وكانت سببًا في طرده. ولعل مرد وصفه بالكبير إلى أن ديودوروس أو أحد المعلقين كان يتكلم في الجزء المفقود الذي يسبق هذه الشذرة عن أحد أبناء الملك ثم عاود الكلام عن الملك نفسه فاقتضى التمييز بينهما إضافة هذه الصفة.

ولا نجد ذكراً آخر لهجلوخوس في الوثائق البطلمية بينما يحدثنا نقش بأن التجار الرومان بالإسكندرية أقاموا في ديلوس تمثالاً لقائد بطلمي يدعى لوخوس (Lochos) ابن قاليميديس (Callimides) "قريب الملك بطلميوس والملكة كليوبترا"، تقديرًا لحسن صنيعه نحوهم عند سقوط الإسكندرية في قبضة يوجتيس. وتحدثنا نقوش أخرى عن لوخوس "قريب" الملك" و"أخيه" الذي يوصف أحيانًا بأنه حاكم منطقة طيبة وأحيانًا بأنه هو يومنياتو جرافوس والحاكم المطلق لمنطقة طيبة. وإزاء ذلك لا نستبعد ما يذهب إليه بوشيه لكلرك من أن هجلوخوس كان لوخوس.
وإذا كانت الإسكندرية لم تسقط في يد يورجتيس الثاني إلا في عام 127، فإنه ليس معنى ذلك أن كليوبترا الثانية كانت لا تزال في الإسكندرية حتى ذلك الوقت. ويبدو أن مركزها أخذ يضعف باطراد منذ عودة يورجتيس إلى مصر، فانتهزت فرصة عودة دمتريوس الثاني، زوج انتها، من بارثيا في عام 129 وأغرته على غزو مصر.

ويحدثنا يوستينوس بأن كليوبترا الثانية عرضت على دمتريوس السيطرة على مصر لقاء تدخله العسكري. ويصعب أن تتصور حدوث هذا التفاهم بين كليوبترا الثانية ودمتريوس لو لم يكن قد تصالح قبل ذلك مع زوجته كليوبترا ثيا واستأنفا الحكم سويًا. ويؤيد ذلك رواية يوستينوس ويوسف ونقود دمتريوس. ومن ثم فإنه يبدو أن كليوبترا ثيا لم تختلف ثانية مع زوجها دمتريوس وتنفصل عنه إلا في عام 126 بعد أن عزمه إسكندر زابيناس.
وقد خف دمتريوس إلى نجدة كليوبترا الثانية ظنا منه أن الفرصة قد سنحن أخيراً لتحقيق الأطماع التي طالما رادوت انطيوخوس الثالث والرابع لكنهما فشلا في تحقيقها. غير أنه لم يستطع التقدم وراء بلوزيون حيث وجد يورجتيس في انتظاره، ورفض جيشه الاشتباك في القتال مما اضطره إلى الانسحاب. ود استغل يورجتيس في انتظاره، ورفض جيشه الاشتباك في القتال مما اضطره إلى الانسحاب. وقد استغل يورجتيس كراهية الجيش لدمتريوس وعمل بنشاط على تأليب رعيته عليه.

وإزاء الفشل الذي منى به دمتريوس تحطمت آمال كليوبترا فولت هاربة في عام 129 إلى سرويا حاملة معها كنوز الدولة معللة نفسها بتكوين جيش يساعدها على استعادة عرشها. ويحدثنا يوستينوس بأن يورجتيس واجه هذا الخطر بإقامة منافس لدمتريوس كان شاباً ابن تارج مصري يدعى بروتارخوس، لكنه زعم أنه ابن اسكندر بالاس واتخذ فعلاً اسم الإسكندر. وقد رحب به أهل أنطاكية وأطلقوا عليه لقب زابيناس (Zabinas) ومعناه العبد المشترى.

وبالرغم من تأييد مصر لزابيناس، فإنه استغرق ثلاثة أعوام ليفوز بالعرش، فقد كان نشاط دمتريوس خارقًا للعادة، لكن الأمر انتهى بهزيمته عند دمشق فحاول الالتجاء إلى عكا، غير أن كليوبترا ثيا أوصت دونه أبواب هذه المدينة، ففر إلى صور حيث لقى حتفه بأمر زوجه السباقة (126 ق.م.). وتزينا نقود زابيناس أن العام الأول من حكمه كان العام الرابع والثمانين بعد المائة (184) من عهد السلوقيين أي الموافق لأكتوبر 129 ـ أكتوبر 128 ق.م.

ويبدو أن يوجتيس صالح كليوبترا الثانية فيما بين 30 من يناير ومن يولية عام 124، إذ أنه لدينا من التاريخ الأول وثيقة مؤرخة بيورجتيس وكليوبترا الثالثة فقط، ولدينا من التاريخ الثاني برديات دبموتيقية نرى فيها لأول مرة منذ عهد الاضطرابات ظهور اسم كليوباترا الثانية في التاريخ جنبًا إلى جنب أسمى يورجتيس وكليوبترا الثالثة.

ولماذا صالح يورجتيس كليوبترا الثانية برغم استتباب الأمر له؟ ربما كان الباعث على ذلك أمرين وأحدهما هو أ، كليوبترا حملت معها كنوز الدولة حين فرت إلى سوريا فاراد استعادة هذه الكنوز. والأمر الآخر هو أنه كان لا يزال لكليوبترا أنصار كثيرون كانت تقع بينهم وبين أنصاره منازعات عنيفة أراد القضاء عليها ونشر الهدوء والسكينة في البلاد. لكن الصلح بين يورجتيس وكليوبترا الثانية لم يقض على العداء بين أنصارهما، لأنه لم يكن من اليسير وضع حد في الحال للصراع الذي كان قائمًا بين الفريقين في أماكن متعددة، وأفضى إلى كثير من العنف والاضطرابات. وتحدثنا وثيقة بردية عن وقوع حرب محلية في عام 123 ق.م. بين مدينة فرقوديلوبوليس (بالقربمن الجبلين) ومدينة هرمونثيس، كما تحدثنا وثيقة بردية أخرى عن وقوع اضطرابات في مديرية طينة في عام 123/121، وعن حدوث فلافل خطيرة في بانويوليس (أخميم) يعد ذلك، بدليل أن هذه المدينة استثنيت من قرار العفو العام، الذي أصدره الملوك الثلاثة في عا م 118 لوضع الأمور في نصابها في كل أنحاء المملكة. ويرى البعض أن هذا القرار يمثل ما اتفق عليه بطلميوس الثامن وكليوبترا الثانية من أجل استتباب الأمن والسلام في البلاد. ذلك أن الإضطراب القائم كان يرجع إلى حد كبير إلى أنه في أثناء فترة النزاع بينهما أعطى كل منها لأنصاره منحًا، وإلى أن كلاً منهما كان لا يعترف بما منحه الآخر، ولذلك فإنه كان هناك كثيرون ممن يشعرون بأ، ملكية الأرض التي في حوزتهم مهددة. وقد كان ذلك أيضاً حال المعابد التي ناصرت أحد الفريقين وحصلت على أرض أو امتيازات من بطلميوس أو كليوبترا. فكان غرض قرار عام 118 محو آثار الخلاف والاعتراف للجميع بحقهم في الاحتفاظ بما يملكون. وهكذا اعتبرف كل ما بطلميوس وكليوبترا بما كان الآخر قد منحه لأنصاره، ليطمئن الناس جميعًا على ممتلكاتهم وتهدأ نفوسهم ويخلدون جميعًا إلى السكينة.

وعندما تصالحت كليوبترا الثانية مع يورجتيس، واستردت مكانتها في الإسكندرية، وبقيت ابنتها كليوبترا ثيا للحفاظ على حقوق أسرة السلوقيين ضد زابيناس، كان طبيعياً بعد القضاء على دمتريوس أن يؤيد يورجتيس ابنة أ×ويه (فيلومتور وكليوبترا الثانية). وبعد أن دبرت كليوبترا ثيا مقتل ابنها الأ:بر سلوقس الخامس، لأنه اتخذ لقب ملك دون استئذانها، أشركت معها في الملك ابنها الآخر أنطيوخوس الثامن جروبوس (Grypos) وهو الذي وعد بأن يسلس لها القياد. ولم يكن من يوؤجتيس الثاني إلا أنه أمد أنطيوخوس بجيش وزوجة كليوبترا تروفاينا (Trypinaena)، وكانت ابنته من كليوبترا الثالثة. وفي عام 123 أستولى أنطيوخوس الثامن على زابيناس وأعدمه. ولا نعرف أن يورجتيس قام بأي عمل في سوريا بعد القضاء علىزابيناس، ولعله قنع بتنصيب ابنته ملكة هناك. وبعد عامين لقيت كليوبترا ثيا حتفها، إذ أنها كانت تريد أن تحركم تحت ستار اسم ابنها، لكنه لم يسلس لها القياد كما وعد، فصميت على أن تدس له السم، إلا أنه كشف عن المكيدة في الوقت المناسب وأرغمها على تجرع السم الذي أعدته له.

سلوك يورجتيس في شيخوخته:

ويبدو أن الشعور الكريم الذي أظهره يورجتيس نحو مارزواس لم يكن نزوة طارئة بل بداية سياسة علمته التجارب المريرة أن يحرص على اتباعها منذ استعادته الإسكندرية في عام 127. فلا عجب أن هيبدو لنا في شيخوخته في ضوء يختلف عما عهدناه فيه، فقد أصبح حاكمًا شديد الحدب على رعيبته، يحرص على تخفيف أعبائهم ويسهر على حمايتهم من جور الموظفين. ولا أدل على ذلك من سلسلة قرارات العفو التي أصدرها في عامي 118 و117. وإذا كان قد اضطهد علماء الإسكندرية في شبابه فإنه كان يعدق عليهم في هولته مرتبات باهظة، ومثل ذلك الفليسوف باتارتوس (Pannretos) وهو الذي حدثنا أثنايوس بأن مرتبه كان أثنى عشر تانتا سنويًا. ويوي استرابون أن يورجتيس تحمل نفقات بعثة خرجت لاستكشاف الهند تحت إشراف الجغرافي يودوكسوس، لكنه عند عودة البعثة استولى على كل ما أحضرته معها من عطور وجواهر.

ونتبين من نقش على أحد جدران معبد أ>فو أنه في 28 من يونية عام 116 ق.م. توفي يورجتيس في الخامسة والسنين تقريبًا، بعد أن خلع عليه جنونه الدموي أسوأ سمعة لصقت بأي ملك من ملوك البطالمة ولم يفلح في محو أثر ذلك ما أنصفت به شيخوخته من المحاسن في سياق الحديث عن السياسة الداخلية كيف أنه يوجد تباين كبير الأثر الذي تتركه فينا حياته، في ضوء ما تصورها النصوص الأدبية القليلة المشوهة التي نعتمد عليها في استخلاص سيرته، والأثر الذي ت تركه فينا الوثائق الإدارية التي وصلت إلينا من عصره. وقد أعقب وفاة بطلميوس الثامن صراع عنيف على السلطة. وإذا كانت كليوبترا الثانية قد نجحت في الاحتفاظ بسلطتها حتى أواخر عام 116 فإنه لم يرد لها ذكر في الوثائق بعد 27 من نوفمبر عام 116، ولا يبعد أن تكون قد ماتت ميتة غير طبيعية حوالي هذا التاريخ. وعلى كل حال فإنه لا سبيل إلى الشك في أنها لم تكن على قيد الحياة بعد عام 116 ق.م.

يورجتيس يورث ابنيه المتاعب:

وقد ختم يورجتيس الثاني حياته المليئة بالأخطاء السياسية بخطأ سياسي جسيم، قد يكون مرده إلى الرغبة في إرضاء زوجة الطموح كليوبترا الثالثة أو في إظهار استمساكه بالمذهب الذي ورثه عن بطلميوس الأول وعمل به طوال حياته وهو المذهب القائل بأن العرش حق لأجدر الناس به وليس لأكبر الأبناء سناء وعلى كل حال فإنه ترك لكيلوبترا الثالثة العرش وكذلك اختيار من تشركه معها من ابنيه الشرعيين. ولم يكتف يورجتيس بأن يوجد على هذا النحو أسباب الفرقة والتنافس بين أبنيه الشرعيين، فقد تسبب ثانية في تقسيم دولة البطالمة بأن أوصى بقورينائية لابنه غير الشرعي بطلميوس أبيون.

بيد أنه لما كانت قد وصلت إلينا من قورينايئة نفوذ تحمل اسم بطلميوس التاسع فيلومتور سوتر وترجع إلى فترة تمتد من عام 116 حتى عام 107، فإنه يبدو أن الإسكندريين ـ وقد كانوا يكرهون تقسيم الدولة ـ رفضوا الاعتراف بحق أبيون في قورينائية بوصفه ابنًا غير شرعي ليورجتيس الثاني، وأنه لم تكن لدى أبيون القوة اللازمة ولا الفرصة المناسبة لتأييد حقه طبقًأ للويلة. ولذلك استقر الرأي أن يحكم أبيون قورينائية على أن يعترف لبطلميوس التاسع بالسيادة.

وهكذا يبدو كان يورجتيس الثاني، الذي أشفاه النزاع الأسري طويلاً ولم يفز بحكم دولة البطالمة الموحدة إلا بعد كفاح مرير، عز عليه أن يهنأ وريثه بحكم دولة موحدة لا يضنيها الانقسام ولا تزعجها الخلافات الأسرية. وسنرى تواً كيف أنه بعد وفاة يورجتيس الثاني وكليوبترا الثانية كان حاكم مصر الحقيقي كليوبترا الثالثة، وهي التي أطلق عليها الإسكندريون لقب قوق (Kokke)، أي الحمراء، وكيف أن أطماعها الجامحة وقسوتها المتناهية تمخضت عن منازعات أسرية مستمرة أسهمت فيها أحداث سوريا.

ليست هناك تعليقات: