الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي- الشرطة

  • الشرطــة
طباعة أرسل لصديق
وسنتناول هنا الكلام عن رجال الشرطة ، لأنهم كانوا يكونون جزءًا من قوات البطالمة ، ولأنهم يتصلون بالجيش اتصالاً وثيقًا ، إذ أنه منذ القرن الثالث كان يوجد بين رجال الشرطة محاربون مصريون ، ومنذ القرن الثاني كان رجال الشرطة يسهمون في تكوين القوات المحاربة . ومع ذلك فإن نظام رجال الشرطة، وهو نظام ليست لدينا عنه إلا معلومات طفيفة، كان يختلف عن نظام الجيش .

وقد ييسر فهم ما سنعرضه أن نشير بادئ ذي بدء إلى ما توحي به القرائن من أنه إلى عهد فيلوباتور كانت أجور رجال الشرطة عبارة عن مرتبات شهرية (opsonion)، وأنه لم يستثن من ذلك إلا المحاربون المصريون الذين انخرطوا في سلك رجال الشرطة، فقد كانت أجورهم إقطاعات زراعية. ويبدو أن مرد هذا الاستثناء كان إلى أن أفراد هذا الصنف من رجال الشرطة كانوا أرباب إقطاعيات قبل دخولهم سلك عملهم الجديد. ويؤيد ذلك أن رجال الشرطة المصريين الذين لم يكونوا أصلاً من فئة المحاربين كانوا يحصلون على مرتبات شأنهم في ذلك شأن زملائهم الأجانب. وإذا كان نظام منح إقطاعات لرجال الشرطة قد اتسع باطراد منذ عهد فيلوباتور حتى شملهم جميعًا، فإننا لا نعرف حتى الآن أنه قبل هذا العهد كانت تمنح إقطاعات لرجال الشرطة من غير المحاربين المصريين.

ولعل أن هذا التطور في نوعية أجور رجال الشرطة يرجع إلى عاملين: وأحدهما هو ما سبق ذكره من أنه منذ القرن الثاني كان رجال للشرطة يسهمون في تكوين القوات المحاربة، مما كان يقتضي مساواتهم برجال الجيش من حيث نوعية الأجر. والعامل الآخر، ولعله الأهم، هو أنه إزاء تدهور الزراعة منذ أواخر القرن الثالث وترك المزارعين مساحات واسعة من الأرض دون فلاحتها وما ترتب على ذلك من حرمان الحكومة الضرائب المفروضة على هذه الأرض فضلاً عن دخلها إذا كانت أرضًا ملكية، ربما كانت إحدى المحاولات للتغلب على هذه المشكلة هي منح إقطاعات من هذه الأرض المراح لرجال الشرطة بدلاً من إعطائهم مرتبات. وعلى هذا النحو كانت الحكومة تصيب برمية واحدة هدفين هما توفير مرتبات رجال الشرطة والحصول على الضرائب المفروضة على إقطاعاتهم. وقد يؤيد هذا الرأي ما نعرفه – وهو ما سيأتي ذكره في الجزء الثالث – من أنه تقرر في القرن الثاني أن الأراضي المنزرعة وتدر دخلاً على الدولة يجب ألا تستخدم في منح الإقطاعات، وتبعًا لذلك فإنه كان لا يستخدم عادة لهذا الغرض إلا الأراضي الجافة.

وفي ضوء ما لدينا من المعلومات يمكن تقسيم رجال الشرطة بوجه عام ثلاث فئات رئيسية وهي: أولاً، أولئك الذين كانت مهمتهم ضمان الاحترام اللازم لكبار الموظفين والدفاع عنهم إذا اقتضى الأمر. وكان أفراد هذه الفئة يعرفون بأسماء مشتقة مما كانوا يحملونه من السلاح الذي يرمز إلى سلطتهم، وتبعًا لذلك فإنهم كانوا يدعون: أما حملة اعصى (rhabdophoroi)، وأما حملة السياط (mastigophoroi) وأما حملة السيوف (machairophoroi). وبديهي أن الأخيرين كانوا أرفعهم شأناً، فهم وحدهم الذين كانوا يحمون سلاحًا جديرًا بهذا الاسم. ومما يجدر ملاحظته أن المصريين الذين كانوا ضمن هذه الفئة كانوا لا يحملون لقبًا من هذه الألقاب، إذ أنه كان يكتفي في وصفهم بأنهم من أتباع هذا أو ذاك من الموظفين، الذين كانوا ينفذون أوامره ويسهرون على سلامته. ولا نعرف شيئًا عن أجور هذه الفئة من رجال الشرطة سواء قبل عهد فيلوباتور أم بعده.

وكانت الفئة الثانية تشمل رجال الشرطة (Phylakitai) بأدق معاني الكلمة، وكان أرفعهم مقامًا رئيس الشرطة (epistates phylakiton) في كل مديرية، وكان تحت إمرته رجال الشرطة في المديرية بأجمعها، ويليه في الرتبة رؤساء الشرطة في "المراكز" التي تنقسم إليها المديرية. وكانوا يدعون رؤساء شرطة (archiphylakites) المراكز. وكانت المراكز تنقسم إلى قرى، وفي القرى الهامة كان يشرف على الشرطة ضابط يدعى رئيس الشرطة (archiphylakites)، وأما في القرى الصغيرة، فإن الشرطة في كل منها كانوا تحت إمرة صف ضابط يدعى رئيس العشرة (dekanos).

وإذا كنا نعرف أن معدل أجر أفراد هذه الفئة كان عشر أروروات، فإننا لا نعرف معدل أجر رؤسائهم، لكنه لابد من أن هذا المعدل كان يزيد على عشر أرورات زيادة تصاعدية تبعًا لمرتبة كل منهم. وقد كانت مهمة هؤلاء الشرطة، الذين نظموا على هذا النحو، حفظ الأمن والسكينة، ومساعدة الموظفين وخاصة عمال المالية في أداء مهامهم، واحترام الملكية، والبحث عن مخالفي القانون والمجرمين وتقديمهم للمحكمة المختصة أو تحقيق القضايا وإرغام المجرمين على رد المسروقات أو دفع قيمتها لأصحابها، وضبط ملاحي الملك الهاربين من سفنه التجارية الليلية. وكان يحظر إيواء أي لاح ملكي هارب أو أي شخص ارتكب أية جريمة، ويعتبر رجال الشرطة الذين يثبت فشلهم في ضبط المجرمين والملاحين الملكيين الهاربين وكذلك كل من يتسلم أشياء مسروقة أو يأوى أحدًا ممن كان إيواؤهم محظورًا شركاء في الجريمة وتوقع عليهم العقوبة نفسها التي توقع على الفاعل الأصلي. وفي حالة رجال الشرطة الذين يثبت فشلهم في ضبط الملاحين الملكيين الهاربين فإنه كان يتعين إرسالهم إلى السفن الملكية، ليحلوا فيما يبدو محل الهاربين في تأدية مهامهم. ولتأمين سلامة الملاحة في النيل، حظر بطلميوس الثاني الملاحة ليلاً إلا على رسل الملك المكلفين بأداء مهام عاجلة ويرغبون في متابعة الملاحة ليلاً، وفي هذه الحالة كان يجب تزويدهم بحراسة كافية. وقضى هذا الملك أيضًا بضرورة رسو السفن عند جنوح الظلام في أماكن معينة، وذلك باستثناء السفن التي تصادفها أجواء عاصفة تضطرها إلى الرسو في غير تلك الأماكن، وفي هذه الحالة كان يجب إخطار رجال الشرطة عن سبب رسوها ومكان ذلك، وعندئذ كان يجب على رئيس الشرطة إرسال قوة حراسة تكفل درء أي عدوان على تلك السفن.

وأغلب الظن أن تلك الأماكن الآمنة التي حددت لرسو السفن عندها قبل إقبال الليل كانت مراكز الحراسة أو الشرطة (phylake) التي أنشئت على النيل لهذا الغرض وورد ذكرها في أحد أوامر فيلادلفوس، وهي التي تمدنا بنسخة منها ذات الوثيقة التي تتضمن التعليمات السالفة الذكر. وإذا كانت مراكز الحراسة أو الشرطة الواردة في هذا الأمر الملكي تقع جميعًا في منطقة مصر الوسطى فيما بين منف وهرموبوليس (الأشمونين)، فإنه ليس معنى ذلك أنه لم توجد مراكز للحراسة أو الشرطة على الني إلا في هذه المنطقة، لأن ذلك من ناحية لا يتفق مع ما في مصادرنا وما سبق ذكره عن وجود مراكز الشرطة في كل أنحاء البلاد بما في ذلك القرى، ولا مع حرص البطالمة وبخاصة أوائلهم على استتباب الأمن في كل أرجاء المملكة، ولأنه من ناحية أخرى لا يمكن أن نتصور أن السطو على السفن التجارية في النيل كان مقصورًا على منطقة مصر الوسطى وغير مألوف في الدلتا ومديرية الفيوم ومنطقة طيبة وكانت تمتد من هرموبوليس إلى أسوان. وإنما معنى ذلك هو أن الأمر الملكي الذي حدد تلك المراكز كان خاصًا بمنطقة مصر الوسطى. ويؤيد ذلك أن القرائن توحي بأن الوثيقة التي تضمنت هذا الأمر بين ما تضمنته من أوامر ملكية أخرى يتناول أغلبها مهام رجال الشرطة ووسائل مكافحة مختلف أنواع الخروج على القانون قد نسخت في أحد بلاد مصر الوسطى ليفيد منها رجال الشرطة في أحد مراكزهم في تلك المنطقة. وفي ضوء الاعتبارات التي أوردناها لعله ليس من الإسراف في الرأي القول بأنه فيما يخص الوسائل التي تكفل استتباب الأمن كان الملك يصدر أوامر متماثلة لكل أنحاء المملكة، وأما فيما يخص تحديد مراكز الشرطة أو الحراسة على النيل فإنه بسبب كثرتها في طول البلاد وعرضها كان الملك يصدر أمرًا خاصًا بذلك لكل منطقة بعينها. وإذا صح ذلك فإن معناه أن البطالمة الأوائل أنشأوا مراكز للشرطة أو للحراسة على طول امتداد النيل وفروعه.

ومما يجدر بالملاحظة:

أولاً: أن الأوامر الملكية الواردة في الوثيقة السالفة الذكر تستكمل الأوامر الملكية الأخرى التي أصدرها البطالمة الأوائل من حيث الاتسام بطابع الحسم والجدية لمكافحة عوامل القلق والاضطراب والفساد، في حين أنه منذ أواخر القرن الثالث قبل الميلاد لجأ البطالمة إلى إجراءات كانت مزيجًا من أساليب القهر وأساليب الاسترضاء بحث الموظفين على الكف عن أعمال العسف والجور وبإعطاء المنح والإعفاءات إلى الثوار.

ثانياً: أن ناشر هذه الوثيقة يعجب من أنه في عصر فيلادلفوس الذهبي كانت الملاحة غير آمنة في النيل ويرجح أن مرد ذلك كان إلى آفة كامنة ولدتها ظروف قديمة أكثر منه إلى ظروف استثنائية. ويبدو لنا أنه قد غاب عن هذا الباحث أن النظام المالي والاقتصادي البغيض الذي أصدره أو أحكم حلقاته فيلادلفوس أدى إلى تذمر شديد بين المزارعين والمشتغلين بالصناعة والتجارة في كنف هذا النظام، وأن هذا التذمر لم يفض إلى الإضراب عن العمل فحسب بل أيضًا إلى وقوع اضطرابات أزعجت الحكومة إزعاجًا شديدًا فكانت تقابلها بإجراءات صارمة تذكرنا بما أوردناه آنفًا، ولنا عودة إلى هذه الإجراءات فيما بعد.

وثالثًا: أنه وسط اضطرابات الثورات القومية، يبدو أن أعمال السطو على السفن التجارية في النيل تفاقمت إلى حد أنه لم يعد في وسع رجال الشرطة وحدهم القبض على ناصية الحال فلجأت الدولة منذ عهد بطلميوس الرابع أو الخامس إلى استخدام وحدات من الأسطول الحربي في النيل لتأمين سلامة الملاحة فيه، على نحو ما سبق ذكره.

وأما الفئة الثالثة من رجال الشرطة، فإنها كانت تتألف من أشخاص يطلق على بعضهم أرموفولاقس (eremophylakes)، وعلى البعض الآخر أفودوي (ephodoi) وعلى البعض خرسفيبوي (chersephippoi). وإذا كان يصعب استخلاص مهامهم من ألقابهم، فإننا نعرف على الأقل أنهم كانوا يمنحون إقطاعات مساحتها على التوالي: عشر أرورات، وخمس وعشرون أرورة، وثلاثون أرورة، مما يدل على أن الأرموفولاقس كانوا مساوين في المرتبة للفئة الثانية من رجال الشرطة (hylakitai)، فقد كانوا يمنحون إقطاعات تبلغ هذه المساحة، ما يوحي بأن مهامهم لم تكن أرفع من مهام تلك الفئة. ويبدو أن الأرموفولاقس كانوا يباشرون مهامهم في قرية واحدة أو أكثر. ويشير لقبهم إلى أن مهامهم كانت تنطوي على الإشراف على الأراضي التي تدعى "الأراضي الجافة"، لكي يمنعوا الأفراد فيما يبدو من استغلالها دون وجه حق. ويجب أن يلاحظ أن جفاف الأرض قد يكون سببه أحد أمرين: إما أنها مرتفعة والمياه لا تصل إليها وإما أن أربابها هجروها ونزحوا عنها. ولما كانت ظاهرة هجر الأرض غير معروفة في عهد البطالمة الأوائل، فلابد من أن شيوع هذه الظاهرة في عهد البطالمة الأواخر قد أدى إلى اتساع نطاق عمل هذا الفريق من رجال الشرطة.

وإذا كنا لا نجد أرباب إقطاعات من فئة العشر أرورات قبل عصر أبيفانس، فإنه لا يجوز اتخاذ ذلك قرينة على عدم وجود هذا الفريق من رجال الشرطة في العهد السابق على أبيفانس، لأنه – كما رأينا – كان منح الإقطاعات لرجال الشرطة قبل عصر فيلوباتور مقصورًا على المحاربين المصريين منهم، ولأنه إذا كانت ظاهرة هجرة الأرض غير معروفة في عهد البطالمة الأوائل فلا شك في أنه كانت توجد في عهدهم أراض جافة بسبب ارتفاعها عن منسوب المياه.

أما الأفودوي، ونعرفهم طوال فترة تمتد من عهد فيلادلفوس حتى العصر الروماني، فيبدو أن مهمتهم كانت قبل كل شيء مراقبة الملتزمين وجامعي الضرائب، ولعلهم كانوا يعنون أيضًا بالسهر على الجسور. وعلى كل حال فإن اسمهم يدل على أنهم كانوا مفتشين، ولا يستقرون في مكان معين، وفي الواقع كانت لك منهم منطقة واسعة. ولا شك في أن الخرسفيبوي كانوا يؤلفون قوة فرسان، ويبدو من اسمهم أن منطقة نشاطهم كانت الأراضي الجافة المرتفعة الواقعة بين الصحراء والأراضي الزراعية، لرد اعتداء سكان الصحراء الرحل عليها.

ويتبين من وثيقة الدخل أنه في عهد فيلادلفوس كانت مائة دراخمة هي معدل المرتب الشهري للأفودوي، وهم الذين عرفنا أن معدل أجرهم أصبح منذ عهد أبيفانس إقطاعًا زراعيًا قدره خمسة وعشرون أرورة. وإذا جاز لنا اتخاذ هذا التطور أساسًا لتقدير الأجور بالنقد قبل عهد أبيفانس، فإن معناه أن دخل الأرورة الواحدة في العام أصبح مقابلاً لما كان أربع دراخمات شهريًا في الماضي، وتبعًا لذلك فإنه لا يبعد أنه في الأصل ربما كان معدل مرتب الأرموفولاقس وكذلك معدل مرتب الفئة الثانية من رجال الشرطة (Phylakitai) 40 دراخمة شهريًا، ومعدل مرتب الخرسفيبوي 120 دراخمة شهريًا.

ولا يمكن معرفة جنسية رجال الشرطة إلا من أسمائهم، لكنه، كما رأينا من قبل، وكما سنرى فيما بعد، لم تعد الأسماء في القرن الثاني دليلاً شافيًا على الجنسية. وإذا كنا نتبين من الوثائق أن ضباط الشرطة والخرسفيبوي والأفوودوي كانوا بوجه عام يحملون أسماء إغريقية، حتى في القرن الثاني، فإنه من المحقق أنه قد تسلل إلى صفوفهم مصريون يحملون أسماء إغريقية، مما يدل على أنه لم يكن من المستساغ أن يتولى هذه المهام أشخاص لم يكونوا إغريقًا ولو في الظاهر. وجملة القول أنه إذا كان من المحتمل جدًا أن هذه المهام كانت مقصورة على الإغريق فقط في القرن الثالث، فإنه لا شك في السماح تدريجيًا للمصريين بتوليها. وأما رجال الشرطة العاديون، فإنهم كانوا في الغالب من المصريين منذ القرن الثالث.

ليست هناك تعليقات: