الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي-الجيش

  • الجيش
طباعة أرسل لصديق
ولما كانت قوات البطالمة في مقدمة الوسائل التي توسلوا بها إلى تنفيذ سياستهم الخارجية، فإننا نتناول الكلام عنها الآن بعد فراغنا من السياسة الخارجية.
الجيش

تقسيم جيش الاسكندر:

عندما توفي الاسكندر الأكبر، لم تقسم إمبراطوريته فحسب بل قسم أيضًأ جيشه، وكان يتكون من ثلاث مجموعات: أولاها، الفرق المقدونية، وكانت تحت إمرة أنتيباتروس في بلاد الإغريق، وثانيتها، الجيش الذي اضطلع بعبء الحملة في الشرق، وثالثتهما، حاميات الولايات في طول الإمبراطورية وعرضها. وعندما قسم جيش الاسكندر بين قواده، احتفظ أنتيباتروس بالقوات التي كانت تحت قيادته، وأخذ برديقاس فيما يبدو جيش الحملة، وآلت إلى كل من القواد الآخرين حامية الولاية التي فاز بها. وإذا كنا لا نعرف عدد قوات ولاية مصر ولا كيفية تكوينها في عام 323، فإننا نعرف على الأقل مما يرويه أريانوس، أنه بعد ما فتح الاسكندر مصر، ترك فيها جيشًا وأسطولاً، وأن الجيش كان يتكون من فرق مقدونية نظامية بعضها في منف تحت قيادة بانتاليون (Pantaleon) وبعضها في بلوزيون تحت قيادة بولمون (Polemo) ابن مجاقلس، ومن فرق مرتزقة لها قائد يدعى لوقيداس (Lucidas) الأيتولي، وأمين (Grammateus) يدعى يوجنوستوس (Engnostos) ومشرفان (episkopoi) يدعيان ايسخولوس (Aeschylos) وأفيبوس (Ephippos). وقد كان الجيش بأجمعه تحت إمرة الأسطول فإنه كان يقوده بولمون (Polemo) ابن ثرامنيس (Theramenens). وليس هناك ما يؤكد لنا أن نظام هذه القوات وتكوينها قد بقيا دون تغيير منذ أن برح الاسكندر مصر إلى أن قدم إليها بطلميوس في عام 323، ومن ثم فإنه لا يمكننا الجزم بشيء عن الجيش الذي وجده في مصر واليها الجديد. وعلى كل حال فإن القوات التي كانت تعتبر كافية لاستبقاء مصر في حظيرة الإمبراطورية المقدونية، في الوقت الذي كانت فيه جيوش هذه الإمبراطورية تجتاح كل شيء أمامها، لم تكن كافية لتحقيق أغراض بطلميوس، ولذلك فإنه، كأغلب القواد الآخرين، اتخذ من القوات التي وجدها في ولايته نواة لبناء قوات أكبر من ذلك وأعظم.

جيش بطلميوس:

ويحدثنا ديودوروس بأنه عند وصول بطلميوس إلى صر (في عام 323) وجد خزائنها تفيض بالأموال مما أتاح له إنفاق 8000 تالنت في ابتياع خدمات جنود مرتزقة وتجهيز جيش، وبأن وداعته أكسبته عددًا كبيرًا من الأصدقاء الذين التفوا حوله وأمدوه بفيض من الضباط الأكفاء. لكننا لا نعرف كيفية تكوين هذا الجيش ولا عدده وإن كانت القرائن تدل على أنه كان جيشًا محترمًا، إذ أن بطلميوس لم يلبث في العالم التالي (عام 322) أن فتح قورينايئة، وفي عام 321 أن نجح في الدفاع عن خط النيل مما أدى إلى مقتل برديقاس بعد فشله في غزو مصر، فانضم عدد من المقدونيين إلى الجيش البطلمي.

ويحدثنا ديودوروس أيضًا بأنه في عام 15 أنفذ بطلميوس 13000 جندي من المرتزقة بقيادة أخيه منلاوس وضابط أثيني يدعى مورميدون (Mymidon) للعمل في قبرص وفي قاريا، وبأنه كان لدى بطلميوس عندئذ في فلسطين قوة دفاعية كبيرة أرغمت على الانضمام إلى أنتيجونوس.

ويحدثنا ديودوروس كذلك بأنه في موقعة غزة في عام 312 كان جيش بطلميوس يتألف من مقدونيين ومرتزقة يبلغ عددهم 18000 من المشاة و4000 من الفرسان وذلك فضلاً عن المصريين. ولابد من أن هذا الجيش كان لا يمثل كل قوة بطلميوس الحربية إذ لا يعقل أنه في أثناء الصراع مع أنتيجونوس كان يترك مصر فضلاً عن قبرص وقورينايئة دون حاميات، ولاسيما أنه في ذلك العام نفسه وقعت فتنة في كل من هاتين الولايتين استخدم بطلميوس القوة في إخمادها. وتقدر حامية هاتين الولايتين بعشرة آلاف مقاتل على الأقل، وهو عدد متواضع يمكن أن نضيف إليه أيضًا 5000 بمثابة حامية واحتياطي في مصر. ولذلك فإنه لا يبعد أن قوة بطلميوس كانت تبلغ عندئذ حوالي 37000 مقاتل.

ولما كانت المصادر القديمة تذكر أن الجيش البطلمي كان يتألف في موقعة غزة (عام 312) من مقدونيين ومرتزقة ومصريين، وكنا نتبين هذه العناصر فيما جاء في مصادرنا عن موقعة رفح (عام 217)، وكان ذكر هذه العناصر يتردد كثيرًا في الوثائق البردية التي تتصل بالجيش، فإنه يمكننا أن نستخلص من ذلك كله أنه بعد ما تم تكوين الجيش البطلمي كان يتألف من ثلاث فئات رئيسية: وهي الفرق النظامية، وكانت تدعى مقدونية، والفرق المرتزقة، والفرق المصرية.

بيد أنه في رأي بعض الباحثين أن ما جاء عن المقدونيين في المصادر القديمة والوثائق البردية لا يدل على أن الجيش البطلمي كان بأكمله جيشًا مقدونيًا نظاميًا ولا على وجود فرق نظامية في هذا الجيش، وأنه ربما كان المقصود بكلمة "مقدونيين" الحرس الملكي فقط. ولا جدال في أن الجيش البطلمي لم يكن بأكمله جيشًا نظاميًا مقدونيًا، لكنه لا شك في أنه لم يصد بكلمة "مقدونيين" الحرس فقط، وذلك لسببين: وأحدهما هو أنه لا يمكن القول بأن عدد المقدونيين في مصر لم يزد على عدد رجال الحرس، وهو الذي لابد من أنه كان متواضعًا في بداية عهد بطلميوس الوالي. والسبب الآخر هو أن وثيقة بردية، من عهد بطلميوس الرابع، تحدثنا عن "مقدونيين" في حيازة كل منهم إقطاع عسكري مساحته ثلاثون أرورة، وهي، كما سنرى فيما بعد، نفس مساحة الإقطاعات العسكرية التي كانت تمنح للمشاة العاديين، في حين أن مساحة إقطاع مشاة الحرس كانت تبلغ مائة أرورة.

الفرق النظامية:

ولا ريب في أن جيوش البطالمة كانت تضم فرقًا نظامية، لأن جيوش بلاد الإغريق في العصور الكلاسيكية، وجيش فيليب المقدوني وجيش الاسكندر، كانت جيوشًا نظامية، ولأنه قد مر بنا أن الجيش الذي تركه الاسكندر في مصر واتخذ منه بطلميوس نواة لجيشه كان يضم فرقًا مقدونية نظامية. وفضلاً عن ذلك فإن عبارة ديودوروس سالفة الذكر تدل على أن فرق "المقدونيين" كانت تختلف عن الجنود المرتزقة والجنود المصريين، مما يدل على أنها كانت الفرق النظامية في الجيش البطلمي.

وإذا كان من المؤكد أن "المقدونيين" الذين كانوا في جيوش البطالمة لم يكونوا مقصورين على قوات الحرس فحسب، فإن القرائن توحي، كما سنرى، بأن كلمة "مقدونيين" كانت لا تستخدم في أضيق ما تنطوي عليه هذه الكلمة من المعاني، بل كانت تطلق بوجه عام على المقدونيين وكذلك على كافة الذين كانت تتألف منهم الفرق النظامية في الجيوش البطلمية.

ولما كنا نعرف أنه كان يوجد "مقدونيون" في جيش بطلميوس الأول في موقعة غزة وفي جيش بطلميوس الرابع في موقعة رفح، وكنا نعرف أنه لم يكن دائمًا في وسع البطالمة أن يجندوا الفرق لجيوشهم في مقدونيا، فهي لم تكن تابعة لهم بل كثيرًا ما ناصبتهم العداء، وكان يبدو طبيعيًا أن فرقهم النظامية لم تقتصر على المقدونيين الذين تركهم الاسكندر في مصر، وكان لا يوجد ما يستدل منه على أن الخدمة العسكرية كانت إجبارية على مواطني المدن الإغريقية، فإنه يبدو أنه إذا كان البطالمة قد استعانوا بالمرتزقة لزيادة عدد قواتهم وتزويدها بأنواع معينة من الأسلحة – كما سنرى فيما بعد – فإنهم اعتمدوا أساسًا في تكوين فرقهم النظامية على المتطوعين من المهاجرين، وهم الذين جذبتهم إلى مصر من بلاد مختلفة تلك الامتيازات التي كان البطالمة يمنحونها للمتطوعين في جيوشهم، فقد اختصوهم بمكانة ممتازة في البلاد وأعطوهم إقطاعات كانت بمثابة أجرهم في وقت السلم.

ومن دراسة وثائق مديرية الفيوم، وكانت أكثر مديريات مصر ازدحامًا بأربات الإقطاعات العسكرية، يتكشف لنا عدد من الحقائق الهامة:
أولاً: وفرة عدد المقدونيين في القرن الثالث، وكان يليهم عن قرب جيرانهم من سكان البلاد الشمالية في البلقان ولاسيما تراقيا. وقد استمر اعنصر المقدوني قويًا في القرنين الثاني والأول، في حين أن عدد العنصر البلقاني سالف الذكر وإن بقي وفيرًا قويًا في بداية القرن الثاني فإنه أخذ في النقص منذ ذلك الوقت.

ثانياً: وفرة عدد العنصر الإغريقي في القرن الثالث ثم نقصه فجأة بعد ذلك. وكان أكثر الإغريق يفدون من بلاد الإغريق الوسطى والبلوبونيز والجزر، وكان بينهم عدد غير قليل من إغريق قورينايئة.

ثالثاً: ظهور الآسيويين بعد عام 250 وتكاثرهم بين عام 200 وعام 150، فلا عجب أنهم أصبحوا في القرن الأول أكثر العناصر كلها عددًا. وكان اليهود والأدوميون يؤلفون الجانب الأكبر من الآسيويين. وكانت بعض حاميات المدن، مثل حاميتي منف وهرموبوليس، تتألف كلها تقريبًا من الآسيويين.
وبالمقارنة بين النسب المئوية لفئات السكان في الفيوم في القرن الثالث وفي القرن الثاني قبل الميلاد يتضح:

أولاً: أنه في القرن الثالث كان العنصر الإغريقي يمثل أكثر من خمس أرباب الإقطاعات العسكرية لكن عدده هبط هبوطًا كبيرًا في القرن الثاني فأصبح يمثل 1/15 منهم. ومرد ذلك إلى سببين وهما: نقص المهاجرين، وضعف الجنس نفسه.

ثانياً: أن العنصر المقدوني، بفضل صلابته ومحافظته على سلالته، بعد أن كان يمثل في القرن الثالث حوالي خمس أرباب الإقطاعات العسكرية في الفيوم أصبح يمثل نصفهم تقريبًا دون تغير ملحوظ في العدد. وهكذا يتبين أنه لم يكن مرد ذلك إلى استمرار هجرة المقدونيين وإنما إلى قوة الجنس نفسه ومقدرته على مقاومة أثر البيئة المصرية.

ولما كان المقدونيون يؤلف أصلاً نواة الفرق النظامية في الجيش البطلمي ويكونون جانبًا كبيرًا من هذه الفرق، وكان البطالمة يعتزون بأصلهم المقدوني، فإنه كان طبيعيًا أن يعتز جيش البطالمة النظامي بأن يدعو نفسه الجيش المقدوني، مع أنه كان يضم بين أفراده الكثيرين ممن لم يكونوا مقدونيين ولا إغريقًا.

ويبدو أنه منذ أواخر القرن الثالث كان عدد كبير من الجنود يتجنسون بجنسيات غير جنسياتهم الأصلية. ذلك أننا نعرف مثلاً أن شخصًا يدعى اسقلبياديس كان يوصف حوالي عام 145 بأنه مقدوني، لكنه يوصف في عام 115 بأنه كريتي، وأن شخصًا آخر كان يوصف في عام 115 بأنه فارسي وفي عام 103 بأنه "موسى". ومن ثم فإن الشك يحوم حول كثير من الجنسيات المذكورة في وثائق القرن الثاني قبل الميلاد.
وتدل كثرة تغيير الجنسية الأصلية على أنه لم يعد للأصل الحقيقي للجندي إلا أهمية طفيفة. وربما حدث ذلك عندما تعذر على البطالمة استقدام متطوعين من بلاد الإغريق منذ أواخر القرن الثالث، وتبعًا لذلك تعذر عليهم ملء الأماكن الشاغرة في الفرق القومية برجال من جنسيات تلك الفرق، مما اضطرهم إلى الاعتماد في ذلك على رجال من جنسيات أخرى. ولا يبعد أن يكون ذلك قد أدى إلى خلع جنسية كل فرقة على الرجال الذين ينخرطون فيها ولو لم يكونوا أصلاً من تلك الجنسية، على الأقل في أثناء خدمتهم في تلك الفرقة. وإزاء انقطاع قدوم المتطوعين من بلاد الإغريق اضطر البطالمة إلى الاعتماد على عنصرين رئيسيين في تكوين فرقهم النظامية، وهذان العنصران هما:

أولاً: أرباب الإقطاعات وأبناؤهم، وثانياً: المتطوعون الآسيويون. ويبدو أنه كما نقص العنصر الأول ازداد البطالمة على العنصر الثاني. وينهض دليلاً على ذلك ما أسلفناه من ازدياد عددهم باطراد منذ القرن الثاني.

ومما يجدر بالملاحظة أنه إذا كان صغار الضباط في الفرق النظامية ينتمون غالبًا إلى جنسية الجنود، فإن كبار الضباط والقواد كثيرًا ا كانوا من المرتزقة.

وإذا كنا نعرف أن الجيش البطلمي كان على الأقل في عهد البطالمة الثلاثة الأوائل، يتكون من هذه الفئات الرئيسية وهي: الفرق النظامية، والفرق المرتزقة، وفرق الجنود المصريين، وأن قلب الجيش كان يتكون من الفرق النظامية، فإنه كما رأينا وكما سنرى ثانية، كان قلب الجيش في موقعة رفح يتألف من المصريين. ولهذا السبب اعتبر النصر في هذه الموقعة نصرًا مصريًا، ومع ذلك فإن الفرق الأجنبية قد بقيت، حتى بعد موقعة رفح، عماد قوة الجيش البطلمي.

ويرى أحد المؤرخين أنه د طرأ على الجيش البطلمي تغير جوهري في خلال القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، إذ أن صاحب هذا الرأي يعتقد أن قلب الجيش في عهد بطلميوس الخامس والسادس أصبح يتكون من الفرق النظامية والفرق المرتزقة، وأن رجال هذا الجيش المختلط أصبحوا يدعون ماخيموي (Machimoi)، وهي كلمة كانت تطلق في الأصل على المحاربين المصريين، وأنه لم يعد للفرق المصرية وجود، وأنه منذ وفاة بطلميوس السادس أصبح الجنود المرتزقة يؤلفون الجيش كله. وأما الشق الأول من هذا الرأي فيبدو أنه صحيح، لكنه لا يمكن قبول شقيه الثانية والثالث. ذلك أن نصوص القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، التي تتحدث عن أرباب الإقطاعات ن الفرق النظامية وأرباب الإقطاعات من المصريين، تدل على وجود هؤلاء جميعًا في الجيش. ويضاف إلى ذلك أن ما يرويه بوليبيوس عن عصر بطلميوس الخامس، وما تذكره وثائق عهد بطلميوس الثامن يورجتيس الثاني وخلفائه، وما يحويه نقش من عهد بطلميوس الثاني عشر، ينهض دليلاً على أنه كانت للجنود المرتزقة فرق خاصة بهم حتى نهاية أسرة البطالمة.

وتدل مجموعة وثائق تبتونيس على أن كل أو غالبية الذين يطلق عليهم "ماخيموي"، سواء من المشاة أم من الفرسان، كانوا حتى نهاية القرن الثاني قبل الميلاد من المحاربين المصريين. لكنه يبدو أنه طرأ شيء من التغير على استخدام هذا الاصطلاح منذ بداية القرن الأول، فقد أصبح لا يطلق على المحاربين المصريين وحدهم بل كذلك على محاربين من جنسيات مختلفة، ولذلك فإنه كان يتعين ذكر جنسياتهم على وجه التحديد. فنجد إحدى الوثائق تحدثنا عن دفع مبالغ لمحاربين إغريق (Hellenoi machinmoi) ومحاربين مصريين (Aigytioi machimoi) ومحاربين آخرين (Alloi machimoi). ويحتمل أن هذا الاصطلاح أصبح يطلق على كل محارب مهما تكن جنسيته، إذا كان يملك إقطاعًا تعادل مساحته مساحة إقطاعات المحاربين المصريين.

أما وقد عرفنا أن الفرق النظامية في جيوش البطالمة لم تكن فيما يبدو منذ عهد بطلميوس الأول "مقدونية" إلا من حيث المبدأ فقط، إذ أنه كان لا يجوز أن يدعى مقدونيا إلا الذين كانوا من أصل مدوني، سواء أولدوا في مقدونيا أم في مصر، في حين أن الفرق المقدونية البطلمية كانت لا تضم مقدونيين فحسب بل كذلك إغريقا وغير إغريق، فقد بقي أن نعرف شيئًا عن هذه الفرق. وتدل الوثائق على أن الفرق النظامية كانت قسمين، وهما: فرق الفرسان، وفرق المشاة، وعلى أن فرق الفرسان كانت مرتبتين، أولاهما أرفع مكانة من الثانية. وقد كانت فرق المرتبة الأولى تميز بالأرقام، فنجد مثلاً الفرقة الأولى والفرقة الثانية الخ. وكان أفراد فرق هذه المرتبة يمنحون إقطاعات تزيد مساحتها على مساحة إقطاعات أفراد فرق المرتبة الثانية، وكانت تميز بحسب جنسية أفرادها، فمثلاً نجد فرقة التراقيين وفرقة التساليين، وفرقة الفرس، لكننا نجد منذ عهد بطلميوس الرابع عدة أجناس مختلفة بين رجال الفرقة القومية الواحدة. ولعل هذا يرجع إلى أن بعض رجال الفرقة الأصليين قد انقرضوا، ولما لم يوجد من يحل مكانهم من هذه الجنسية، ملئت الأمكنة الشاغرة برجال من جنسيات أخرى، مع الاحتفاظ، فيما يبدو، بأسلحة الجنسية الأصلية وطريقة قتالها. وعلى كل حال فإن القرائن تشير إلى أن رجال فرق الفرسان النظامية لم يكونوا جنودًا مرتزقة ولا جنودًا مصريين.

وكانت فرق المشاة النظامية أقل مرتبة من فرق الفرسان النظامية، بدليل أن مساحة إقطاعات المشاة كانت تبلغ حوالي ثلث مساحة إقطاعات الفرسان. وكانت فرق المشاة النظامية تكون كتلة قلب الجيش أو الفيلق (Phalanx) إلى ما قبل موقعة رفح، لكنه يبدو أنه عندما كون قلب الجيش في هذه المعركة من المصريين، وآثار فيهم انتصارهم روح الوطنية الكامن في صدورهم مما دفعهم إلى الثورة في وجه غاصبي بلادهم، خشي البطالمة الاستمرار في هذه التجربة، ومن ثم فإنهم أصبحوا يكونون قلب الجيش من الفرق النظامية والفرق المرتزقة. وقد كان المشاة النظاميون ينقسمون فرقًا لكل منها رقمها.

وقد بقي أن نعرف إذا كانت فرق المشاة النظامية تنتظم أيضًا تلك الفرق التي يذكرها بوليبيوس ضمن جيش بطلميوس الرابع، ويطلق على بعضها اسم بلتاستيس (Peltastes = مشاة خفيفة العدة)، ويميز بعضها الآخر بجنسياتها. وإذا كانت كلمة بلتاستيس تدل على نوع السلاح، فإنها لا تدل على هوية الجنود. ومع ذلك فإن أحد المؤرخين يرى أن هذه الفرق كانت خليفة أصحاب الخوذات الفضية (Argyraspides) في جيش الاسكندر، إلا أنها فقدت طابعها المقدوني وأصبحت فرقًا مرتزقة، وبما أنه كان يقودها في عام 218/217 سقراط البويوتي، فلابد من أن يكون أغلبها قد جند في بويوتيا. لكننا من ناحية، لا نستطيع أن نستخلص من جنسية القائد جنسية الفرق التي يقودها ولا طريقة تكوينها، وإلا فلابد من أن نعتبر مشاة الحرس في عام 218/217 فرقة مرتزقة لتدريب الفرق النظامية وتولي قيادتها. ومن ناحية أخرى، نستبعد أن البتاستيس كانوا خلفاء أصحاب الخوذات الفضية، إذ أن البتاستيس كانوا فرقًا خفيفة العدة، في حين أن أصحاب الخوذات الفضية كانوا فرقًا في الحرس، أي فرقًا كاملة العدة. ولما كنا نعرف أن فرق المشاة النظامية الخفيفة العدة في جيوش فيليب والاسكندر كانت تسمى حملة الدروع (Hypaspistes)، وكان بوليبيوس قد ذكر مرة حملة الدروع في جيش فيلوباتور، وكان في فقرات تتصل بالحروب في بلاد الإغريق يتحدث عن البلتاستيس المقدونيين حيث يقصد حملة الدروع، فلا يبعد أن يكون ذلك هو ما حدث أيضًا عندما وصف جيش بطلميوس الرابع الذي اشترك في معركة رفح. وإزاء ذلك لابد من أن فرق المشاة النظامية في الجيش البطلمي، شأنها شأن الفرق النظامية في جيوش فيليب والاسكندر، لم تكن مقصورة على المشاة كاملي العدة فحسب، بل كانت تنتظم أيضًا مشاة خفيفي العدة.

الفرق المرتزقة:

ويجب أن نميز بين فئتين رئيسيتين من الجنود المرتزقة في جيوش الاسكندر وخلفائه. وكانت الفئة الأولى تشمل تلك الفرق القومية التي كانت تحتفظ في الجيش الذي تنضم إليه بملابسها وأسلحتها القومية، وتدمج في ذلك الجيش بسبب نوع السلاح الذي اشتهرت به كل قومية بعينها. فقد اشتهر الكريتيون بأقواسهم ونشابهم، والتراقيون بدروعهم الكبيرة وسيوفهم المستيمة ذات الحدين، والغال بدروعهم الطويلة الضيقة وسيوفهم الطويلة إلى حد غير عادي. وفي خلال الحرب ضد أنطيوخوس الثالث كان لدى بطلميوس الرابع 3000 من الكويتيين و6000 من التراقيين والغال فضلاً عن أولئك الذين يصفهم بوليبيوس صراحة بالجنود المرتزقة.

وكانت هذه الفئة تكون فرق مشاة خفيفة العدة. وتعرف أحيانًا باسم سلاحها، وأحيانًا باسم قوميتها، وأحيانًا بالاسمين معاً. وإذا لم يكن في الأصل لقومية الفرق قيمة مطلقة، فإنه منذ عهد بعيد اكتسبت القومية شهرة سلاحها الخاص وأصبح اسمها اصطلاحًا حربيًا فنيًا يدل على ذلك السلاح.

وأما الفئة الثانية، فإنها كانت تتكون من أولئك الجنود المرتزقة الذين كان ضباط مرتزقة يقومون بتجنيدهم إما من بين مواطنيهم وإما في أسواق الجنود (مثل تاينارول (Taenaron) في البلوبونيز وأسبندوس (Aspendos) في بامفوليا) ويبيع خدماتهم لمن يدفع في مقابلها أكبر ثمن. وقد كان أولئك الضباط في بعض الأحيان شخصيات كبيرة لها حظوة في بلاد الإسكندرية، مثل سقوباس. وكان البطالمة يبتاعون كذلك خدمات ضباط كبار أو قواد من المرتزقة لتدريب الفرق النظامية وتولي قيادتها في ميادين القتال. ومن أبرز الأمثلة ما حدث في الأزمة التي واجهت بطلميوس الرابع، إذ أنه استحضر يورولوخوس (Eurylochos) وأندروماخوس وبطلميوس وبولوقراتيس فقاموا بتدريب الفرق النظامية وتولوا قيادتها في معركة رفح.

وفي أغلب الأحيان كان جنود الفئة الثانية ينظمون من حيث السلاح والتشكيلات العسكرية على نمط فرق المشاة النظامية في الجيش الذي ينضمون إليه. وليس معنى ذلك أن الجنود المرتزقة بوجه عام لم تكون إلا فرق مشاة، بعضها خفيف والبعض الآخر ثقيل العدة، إذ أن الجنود المرتزقة كانوا ينقسمون قسمين من الناحية الفنية. أحدهما مشاة والآخر فرسان. لكننا لا نعرف إذا كان هؤلاء الفرسان يكونون فرقًا خفيفة أم ثقيلة، وإن كان يبدو أن فرق الفرسان الخفيفة كانت مقصورة على الفرق النظامية.

ولا نعرف عدد الجنود المرتزقة الذين حصل عليهم بطلميوس الوالي، عند وصوله إلى مصر، لقاء 8000 تالنت، ولا عدد الجنود المرتزقة الذين حاربوا معه في موقعة غزة (عام 312) وإن كنا نعرف أنه خرج من هذه الموقعة بثمانية آلاف أسير وأنه كان يستخدم في قاريا وقبرص في عام 315 جنودًا مرتزقة يبلغ عددهم 13000، تحت قيادة أخيه منلاوس وضابط يدعى مورميدون الأثيني، وأن دمتريوس أسر 16000 من جنوده المرتزقة في قبرص. ولابد من أن يكون فيلادلفوس قد استخدم أعدادًا كبيرة من الجنود المرتزقة ليضاعف عدد جيشه، ومع ذلك فإنه لم يرد في المصادر القديمة إلا ذكر 4000 من الغال في عصره. وفي عام 320 كان بين حامية الإسكندرية 4000 جندي مرتزق، ثلاثة أرباعهم من البلوبونيزيين والربع الباقي من الكريتيين. وأما في خلال الحرب ضد أنطيوخوس الثالث، فقد كان لدى فيلوباتور 10.000 من الجنود المرتزقة الإغريق و3000 من الكريتيين و6000 من التراقيين والغال، وفي عام 200، كان يوجد في مصر 6500 من الجنود الأيتوليين، وفي خلال القرن الأول ابتيعت خدمات الكثرين من الجنود المرتزقة الشرقيين. والواقع أن القرائن تشير إلى أن الغالبية العظمى من الجنود المرتزقة كانت تتألف في خلال القرنين الثالث والثاني من الإغريق، وفي خلال القرن الأول من الشرقيين.

وإذا كان الجنود المرتزقة لا يتعاقدون في الأصل إلا على القيام بحلة واحدة ضد عدو معين، فإنه فيما يبدو أصبح بعض الجنود المرتزقة يكونون فرقًا دائمة في خدمة البطالمة، إذ أن بوليبيوس يفرق في جيش فيلوباتور بين الكريتيين والكريتيين الجدد، ما يدل على أنه كان للفريق الأول خدمة طويلة العهد تزيد على حملة واحدة، وترجع إلى ما قبل الاستعداد لمحاربة أنطيوخوس الثالث. ويضاف إلى ذلك ما تحدثنا به الوثائق عن وجود جنود مرتزقة بين أرباب الإقطاعات العسكرية في القرن الثالث، منذ عهد يورجتيس الأول. ونعرف أنه من بين الجنود المرتزقة الكريتيين والتراقيين والغال، الذين حاربوا في موقعة رفح، كان أربعة آلاف "من أرباب الإقطاعات العسكرية وسلالتهم" (Epigono).

ويبدو أن منح المرتزقة إقطاعات كان لا يزيل عنهم صفتهم كمرتزقة ويجعل شأنهم شأن سائر أرباب الإقطاعات فيدعون مثلهم مجرد "أرباب إقطاعات"، فقد كانوا يميزون بلقب "أرباب الإقطاعات المرتزقة" (Misthophoroi Klerouchoi)، مما يدل على وجود فارق بينهم وبين أرباب الإقطاعات الآخرين. وقد لاحظ "ماهافي" ذلك لكنه لم يحاول تفسير هذا الفارق.

وأما لسكييه (Lesquier) فإنه يفسر وجود أرباب الإقطاعات المرتزقة بالرغبة في تيسير التجنيد عند الحاجة. لكن جريفيث (Griffith) يرى بحق أن هذا التفسير غير شاف لأنه يرد وجود أرباب الإقطاعات المرتزقة إلى السبب نفسه الذي من أجله وجد أرباب الإقطاعات من غير المرتزقة، ولا يفسر الفارق في التسمية، وأنه يجب البحث عن تفسير أتم وأوفى من ذلك. ويعتقد جريفيث أن "أرباب الإقطاعات المرتزقة" كانوا إما مرتزقة تعاقدوا على الخدمة في الجيش البطلمي لعدة سنين وقبلوا أن يكون جانب من أجرهم إقطاعات، وإما أنهم كانوا يحصلون على الإقطاعات بمثابة مكافأة لهم على طول خدمتهم ويسمح لهم عند انتهاء مدة خدمتهم بالاحتفاظ بإقطاعاتهم ويصبح شأنهم عندئذ شأن باقي أرباب الإقطاعات، وأن هذه الميزة كانت مقصورة، فيما يبدو، على المرتزقة الذين كانوا يبقون في خدمة البطالمة مدة طويلة ولا يعتزمون مبارحة مصر للعمل في خدمة بلد آخر، ولعلها كانت وسيلة من وسائل الإغراء لاستبقائهم في الإقليم الذي لهم فيه مصلحة دائمة. ونحن نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، ونرد منشأ هذا النظام إلى الرغبة في القضاء على الداء الوبيل الذي كان فاشيًا بين الجنود المرتزقة، وهو استعدادهم لتغيير سيد بآخر عند ظهور أول بادرة من بوادر الهزيمة أو الإغراء.

الفرق المصرية:

وعندما أقام بطلميوس دعائم ملكه في مصر، كانت لا تزال توجد تلك الطبقة الوراثية من المحاربين المصريين، وهم الذين يطلق الإغريق عليهم لقب ماخيموي، ويرجع عهدهم إلى أيام الفراعنة، وكانوا يمنحونهم حق استغلال إقطاعات زراعية ليضمنوا تلبية ندائهم كلما اقتضى الأمر. ولا شك في أن البطالمة الثلاثة الأوائل اعتمدوا إلى أقصى حد في تكوين جيوشهم على المقدونيين والإغريق، لثقتهم في كفايتهم وبسالتهم في ميادين القتال، ولخوفهم من الاعتماد على المصريين، إما لارتيابهم في مقدرتهم الحربية أو في إخلاصهم الطاعة لهم، وإما لرغبتهم، ككل دخيل مغتصب، في ألا ينتشلوا الأمة المصرية من وهدة الاضمحلال التي تردت فيها. وذلك لأن الجيش، في كل دولة وفي كل عصر، قلب الأمة النابض، ورمز حيويتها، وعنوان مجدها. بيد أنه لابد من أن أولئك البطالمة كانوا يخشون أيضًا إغفال أمر الجنود المصريين كلية، وذلك لكي لا ينشر أولئك الجنود روح التذمر في البلاد فيثور المصريون، يوم كان البطالمة في أشد الحاجة إلى الهدوء والسكينة داخل دولتهم. فكيف حل البطالمة الأوائل هذه المشكلة؟ يتعذر علينا اليوم أن نعرف على وجه التحقيق الدور الذي قام به الجنود المصريون في جيش البطالمة قبل عصر بطلميوس الرابع، إذ أن ديودوروس يحدثنا بأنه في موقعة غزة (عام 312) كان جيش بطلميوس الوالي يضم عددًا كبيرًا من المصريين، كان بعضهم يقوم بأعمال النقل، والبعض الآخر مسلحًا ويمكن استخدامه في القتال "في حالة الضرورة القصوى".

وترينا بعض وثائق القرن الثالث محاربين مصريين، في حيازة كل منهم إقطاع مساحته خمس أرورات. ويحدثنا بوليبيوس بأن تسليح المصريين في عهد فيلوباتور كان عملاً صائبًا فيما يخص الحاضر، لكنه كان بدعة خطيرة تتهدد المستقبل. فهل تدل عبارتا ديودوروس وبوليبيوس على أن بطلميوس الأول اضطر في أزمة عام 312 إلى استخدام المصريين في الجيش، ثم عدل بعد ذلك عن هذه التجربة، حتى أنه عندما اشترك المصريون فعلاً في القتال في موقعة رفح اعتبر ذلك خروجًا على التقاليد البطلمية؟ أم أن البطالمة الثلاثة الأوائل لم يدمجوا الفرق المصرية في صلب الجيش، بل عهدوا إلى بعضها بأعمال النقل وما أشبه ذلك من الأعمال الثانوية، وسلحوا بعضها الآخر بالأسلحة الخفيفة أو بأسحتها المصرية العتيقة، استعدادًا للطوارئ في حالة الضرورة القصوى، وعندما أدمج فيلوباتور المصريين في صلب الجيش وسلحهم بالأسلحة المقدونية اعتبر ذلك بدعة خطيرة؟ وعندنا أن الاحتمال الثاني أدنى إلى الصواب، وذلك استنادًا إلى ما تنطوي عليه عبارتا ديودوروس وبوليبيوس من المعاني، وإلى صغر مساحة إقطاعات الجنود المصريين حتى موقعة رفح، لأن ذلك يدل دلالة قاطعة على ما كان للمصريين من الأهمية الثانوية في الجيش البطلمي.

ونحن لا نتفق مع الرأي القائل بأن بدعة فيلوباتور لم تنطو على إدماج المحاربين المصريين فقط في صلب الجيش وتسليحهم بالأسلحة المقدونية، بل انطوت كذلك على تجنيد المصريين كافة، دون الاقتصار على طبقة المحاربين فحسب، فهذا الرأي يصعب أن تنم عنه عبارة بوليبيوس التي يزعم أنها تتضمنه، هذا وإن كان القائل بذلك يرى أيضًا أن المصريين لم يكونوا قبل عهد فيلوباتور إلا فرقًا إضافية. ولا شك في أن الدافع إلى التعديل الخطير الذي أقدم عليه فيلوباتور كان يرجع إلى مواجهة الأزمة الخطيرة التي كانت تتهدده، في وقت نضب فيه معين الرجال في بلاد الإغريق، نتيجة للحروب الطاحنة، التي شهدتها هذه البلاد في خلا القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، ونقص فيه عدد الجنود الأجانب الذين كان البطالمة قد أنزلوهم في مصر، وضعف الروح الحربي في البقية الباقية منهم.

وإزاء ما ترتب على الانتصار في موقعة رفح من إنعاش الروح القومي بين المصريين، ونشر روح الثورة في البلاد، يبدو أن البطالمة اعتمدوا على أرباب الإقطاعات الأجانب والمرتزقة لإخماد ثورات المصريين، وأنهم زادوا عدد أرباب الإقطاعات بأن أدمجوا في صفوفهم فريقًا من المرتزقة الذين جندوا حديثًا في بلاد الإغريق. وقد كان طبيعيًا أن يعدل البطالمة عن تكوين قلب الجيش من الفرق المصرية، لكنه لم يكن في وسعهم تسريح المصريين، فبقوا في الجيش يؤلفون فرقًا مستقلة بهم، واستمروا يكونون جزءًا مستقلاً في الجيش حتى نهاية القرن الثاني على الأقل، بل حتى نهاية أسرة البطالمة فيما يبدو. وكان المحاربون المصريون يؤلفون في عهد البطالمة الأواخر فرقًا، بعضها من الفرسان وبعضها من المشاة، لكل فرقة منها قائد خاص يدعى لآرخيس (Larrches = قائد الوطنيين).

ويبدو أن الفرق المصرية كانت تتألف في القرنين الثالث والثاني من المصريين وقلة من الليبيين الذين كانوا يعيشون في ريف مصر، لكننا لا نعرف إذا كانت هذه الفرق أيضًا تضم في القرن الأول جنودًا من جنسيات أخرى. وعلى كل حال فإن بعض الأجانب المرتزقة كانوا في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد يقبلون العمل في خدمة البطالمة وفقًا للقواعد نفسها التي وضعت عندئذ للمحاربين المصريين. وهذا يفسر ما سبق ذكره من أنه منذ بداية القرن الأول أصبح اصطلاح "ماخيموي" يطلق على محاربين مصريين وغير مصريين، ويؤيد ما رجحناه من أن هذا اللقب أصبح عندئذ يطلق على كل محارب مهما تكن جنسيته، إذا كانت مساحة إقطاعه تعادل مساحة إقطاعات المحاربين المصريين.


الجيش في زمن السلم
الحرس الملكي:

وقد كان الجيش في زمن السلم يتألف من فئتين رئيسيتين: وأحداهما هي الحرس الملكي، وكان بمثابة جيش دائم يؤلف أكبر الاميات البطلمية. وكانت مهمته الأولى الدفاع عن الملك وبلاطه، ولذلك فإن مقره كان في الإسكندرية.

ولا نعرف شيئًا عن أصل الحرس الملكي البطلمي، لكنه لا يبعد أنه لم يكن في الأصل أكثر من جماعة من الفرسان وأخرى من المشاة اصطفاهم الملك من بين أفراد الفرق النظامية ليكونوا رفاه وحرسه على نحو ما كان حرس فيليب والاسكندر. ويحدثنا بوليبيوس بأن الحرس الملكي الذي اشترك في معركة رفح كان يتألف من مشاة وفرسان يبلغ عددهم على التوالي 3000 و700.

ويبدو أنه بعد "بدعة" بطلميوس الرابع التي أكسبت المحاربين المصريين أهمية في الجيش لم تكن لهم من قبل، حدث في تكوين الحرس الملكي تعديل يساير التعديل الذي استحدث في تكوين الجيش نفسه، وذلك يضم جنود مختارين من المحاربين المصرين إلى الحرس.

وكان الحرس يضم كذلك عنصرًا ثالثًا يتألف من الجنود المرتزقة، فقد أصبحوا منذ أواخر القرن الثالث على الأقل يؤلفون جزءًا أساسيًا من الحرس، إذ يبدو من حديث بوليبيوس عن أحداث عام 221 وعام 202 أنه كان يوجد جنود مرتزقة في خدمة البلاط في هاتين المناسبتين. وفي رأي جريفيث أن المرتزقة كانوا في عام 221 يؤلفون أهم جزء في الحرس ثم أصبح النظاميون في عام 202 أهم جزء في حرس يتألف من نظاميين ومرتزقة ومصريين. بيد أنه يتضح لنا بجلاء من رواية بوليبيوس أن النظاميين كانوا فعلاً أهم جزء في الحرس في عام 202، ومن ثم فإننا نستبعد أنهم كانوا القلة في عام 221، ولاسيما أن رواية بوليبيوس عن أحداث ذلك العام لا تستتبع حتمًا أن المرتزقة كانوا يؤلفون عندئذ غالبية الحرس، وإن كان يفهم منها أنهم كانوا يؤلفون جانبًا كبيرًا منه وأن ولاءهم لم يكن مضمونًا ولذلك كانوا يشكلون خطرًا لابد من أن يحسب حسابه، فهي تصور لنا خوف سوسيبيوس من المرتزقة ومحاولة قليومنيس تبديد هذه المخاوف دون إشارة إلى عدد النظاميين والمرتزقة في الحرس.

ونستخلص مما أسلفناه أنه منذ أواخر القرن الثالث كان الحرس الملكي يتألف من ثلاثة عناصر وهي: النظاميون والمرتزقة والمصريون، ونعقد أنه قد بقي على هذا النحو حتى سقوط دولة البطالمة مع فارق واحد هام، وهو زيادة عدد المرتزقة ونقص عدد النظاميين باطراد على نحو يشابه ما حدث في صفوف الجيش نفسه.

الحاميـات:

وأما الفئة الرئيسية الثانية بالجيش في زمن السلم، فإنها كانت تتألف من عدد كبير من الحاميات الصغيرة، وكانت موزعة على المواقع الاستراتيجية داخل مصر وخارجها في مختلف أنحاء الإمبراطورية، وذلك لحماية مصر ودعم مركز البطالمة فيها والحفاظ على ممتلكاتهم الخارجية. ونجد في المصادر القديمة إشارات إلى وجود مثل هذه الحاميات منذ أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، إذ أننا نسمع عن حامية في صور في عام 315، وأخرى في أسبندوس حوالي عام 310/309، وثالثة في سيقوون في عام 305، ورابعة في قورينايئة. وقد كانت توجد كذلك في القرن الثالث مراكز عسكرية على شواطئ البحر الأحمر حيث كانت تصاد الفيلة من أجل استخدامها في الجيش. ونعرف أنه في عام 172 كان يحرس مداخل مصر الشرقية حامية عند بلوزيون. وكانت توجد أيضًا حاميات أخرى كثيرة داخل مصر، فنسمع عن جنود يؤدون عملهم في ديوسبوليس ماجنا (Diospolis Magna) وديوسبوليس بارفا (Parva) وبطولميس وهرموبوليس وأسوان، وجنود يحرسون خزان ماء في الطريق من أبولونوبوليس (Apoelonopolis) إلى البحر الأحمر.

وممن كانت تتألف كل تلك الحاميات؟ لا يبعد أنه في مصر ذاتها كانت الحاميات تتألف من أولئك المرتزقة الذين عرفنا أنهم كانوا يمنحون إقطاعات. وأما في خارج مصر فإنه من المعروف أن حاميات أسبندوس وقورينايئة والبحر الأحمر كانت تتألف من مرتزقة. ونسمع كذلك عن وجود مرتزقة في الحامية البطلمية في أرتري حوالي عام 275 وعن تراقيين في أفسوس بعد ذلك بقليل. وتشير القرائن إلى أن حاميات قبرص – وهي التي ظلت في حوزة البطالمة مدة أطول من سائر ممتلكاتهم الأخرى – كانت تتألف من المرتزقة. وفي ضوء ذلك كله لا نستبعد أن الحاميات البطلمية خارج مصر أيضًا كانت تتألف عادة من المرتزقة، ولاسيما أن جنود البطالمة النظاميين كانوا أعز عليهم من أن يغامروا بهم في ميادين خارجية بعيدة من أجل أعمال الحراسة، وأن نظام منح الإقطاعات العسكرية لم يقصد به توفير جنود للخدمة فترات طويلة على الحدود أو في الخارج. وتبعًا لذلك فإنه لم يكن هناك مفر إذن من اعتماد البطالمة عادة على المرتزقة في تكوين حامياتهم، وهو ما يبدو أنه كان أهم عمل للمرتزقة الذين كانوا في خدمة البطالمة في أثناء السلم.

صفة أرباب الإقطاعات:

كانت لفريق من سكان الريف في مصر صفة مزدوجة، عسكرية وزراعية. وهذا الفريق هو أرباب الإقطاعات، وتطلق الوثائق عليهم في القرن الثالث لقب قلروخوي (Klerouchoi)، وفي القرن الثاني هذا اللقب في بعض الأحيان، ولقب قاتويقوي (Katoikoi) أحيانًا أخرى، على نحو ما سنرى عند الكلام عن الإقطاعات العسكرية. فما كانت الصفة العسكرية لأرباب الإقطاعات؟ يلجأ نفر من المؤرخين إلى تفسير هذه الصفة باصطلاحات عسكرية حديثة، ذلك أن بعضهم يرى أن أرباب الإقطاعات كانوا جزءًا من الجيش العامل، في حين أن البعض الآخر يرى أنهم كانوا يؤلفون جيشًا إقليميًا. لكنه يجب أن نستبعد قبل كل شيء اصطلاحي "الجيش العامل" و"الجيش الإقليمي"، لأنه فيما عدا روما لم يعرف القدماء جيشًا عاملاً مستديمًا، يحتفظ به في المعسكرات حتى وقت السلم، ويقوم بتدريبات عسكرية على الدوام. وقد كان شأن مصر من هذه الناحية شأن سائر الممالك الهلينسية والمدن الإغريقية. ولا أدل على أنه لم يكن للبطالمة جيش عامل مستديم من الاستعدادات التي يحدثنا بوليبيوس بأن فيلوباتور اضطر إلى القيام بها من أجل محاربة أنطيوخوس الثالث. ومع ذلك فإنه كان للحرس الملكي، وكذلك لتلك الفرق المرتزقة التي تقوم بعمل الحاميات في مصر وفي الخارج، طابع الاستمرار. ولا ريب في أن أرباب الإقطاعات عامة لم يعيشوا في معسكرات، ولم يفرض عليهم القيام بتدريبات عسكرية مستمرة، ولذلك لا يجوز اعتبارهم جزءًا من "الجيش العامل". ولا يجوز كذلك اعتبارهم "جيشًا إقليميًا"، لأنه يقصد بهذا الاصطلاح الحديث جيش تختلف نظمه اختلافًا تامًا عن نظم الجيش العامل، والغرض منه الدفاع عن الأقاليم وما فيها من المرافق العامة، ولا يجند هذا الجيش إلا من الشيوخ الذين فرضت عليهم الخدمة العسكرية. وحسبنا دليلاً على أن أرباب الإقطاعات لم يكونوا جيشًا إقليميًا ما نعرفه على الأقل عن اشتراكهم في الفرق النظامية في موقعة رفح، وكذلك عن سنهم، إذ أن عمر الكثيرين منهم كان يتراوح بين 25 و45 عامًا في عهد بطلميوس الثالث، أي عندما اكتمل نظام أرباب الإقطاعات، وهو الذي يرجع فيما يبدو إلى عهد بطلميوس الأول. ولهذا السبب أيضًا لا يجوز اعتبارهم محاربين قدماء كما يريد بعض المؤرخين.

وإزاء هذه الاعتبارات جميعًا لا يمكن أن نرى في أرباب الإقطاعات إلا فريقًا من سكان البلاد، كان يسمح لهم في وقت السلم بمزاولة فنون الحياة المدنية، ومن بينها الزراعة. لكنه في وقت الحرب كانت تفرض عليهم الخدمة العسكرية، وتكون منهم الفرق النظامية. ومن كان ذلك الفريق من سكان البلاد؟ لقد كان طبيعيًا أن تتجه أنظار البطالمة الثلاثة الأوائل إلى رعاياهم لتجنيد فرقهم النظامية، لكنهم، وقد قرروا عدم إدماج المصريين في هذه الفرق. وجدوا مهمتهم شاقة عسيرة، لأنه لم يتبق لهم بعد ذلك إلا المقدونيون الذين ورثهم بطلميوس الأول عن جيش الاسكندر عندما فاز بولاية مصر وسلالة هؤلاء المقدونيين، ومواطنو المدن الإغريقية في مصر، ولم يكن عدد هؤلاء المقدونيين كافيًا لتكوين الجيش اللازم لتحقيق أغراض سياستهم الخارجية، ولم يكن في وسعهم فرض الخدمة العسكرية على مواطني مدن مصر الإغريقية، لكي لا يقضوا على الإسكندرية وبطولميس في مهدهما. ولذلك قرروا أن يتخذوا من المقدونيين نواة لجيشهم، وأن يفتحوا أبواب هذه الجيش "المقدوني" للمتطوعين من مقدونيا وتراقيا، وبلاد الإغريق والجزر، وكذلك من آسيا. ولم يقتصر منح الإقطاعات على المتطوعين، فقد مر بنا أن بعض المرتزقة كانوا يمنحون إقطاعات منذ عهد بطلميوس الثالث. ويبدو أن البطالمة كانوا يمنحون إقطاعات كذلك لبض أسرى الحرب الذين كانوا في الأصل جنودًا.

ولا نعرف الشروط التي كان المتطوعون يندمجون بمقتضاها في جيش البطالمة، لكنه على خلاف الجنود المرتزقة كانوا يتطوعون أفرادًا لا جماعة ولم يتطوعوا عادة للقيام بحملة واحدة، وإلا لتجددت مشكلة تكوين الجيش باستمرار عند القيام بكل حملة. وسواء أكان أولئك المتطوعون مطالبين بالخدمة العسكرية حتى يبلغوا سنًا معينة، أم طوال حياتهم، أما حتى تمنعهم حالتهم الصحية عن القتال، فقد كان يتعين توفير أسباب العيش لهم لاستمرار بقائهم في مصر رهن أمن البطالمة، ومن أجل ذلك منحهم البطالمة مساكن وإقطاعات زراعية. وقد أصاب البطالمة بهذه الرمية عدة أهداف، وهي ضمان استقرار الجنود اللازمين لهم في البلاد، وعدم تحميمل الخزانة عبء نفقات جيش دائم، واستغلال خبرة كل هؤلاء الجنود أو بعضهم في استثمار الأراضي، وحصول البطالمة على ضرائب وفيرة من هذه الأراضي المستثمرة، ونشر الحضارة الإغريقية في ضرائب وفيرة من هذه الأراضي المستثمرة، ونشر الحضارة الإغريقية في أرجاء البلاد، دون الاضطرار إلى إنشاء مدن إغريقية كثيرة تحد من سلطتهم، وتثير لهم المتاعب، بسبب ميل الإغريق إلى الحرية، والمشاركة في حكم المدن التي يعيشون فيها.

فشل الاعتماد على المستوطنين الأجانب في تكوين الجيش:

وإذا كانت هذه الوسيلة قد أتت بنتائج طيبة في عهد البطالمة الثلاثة الأوائل. فإنه لم تحقق كل الغرض المنشود منها في عهد بطلميوس الرابع، وإلا لما اضطر إلى الاعتماد على المصريين في تكوين قلب الجيش في موقعة رفح. ولعل ذلك يرجع إلى أن حروب القرنين الرابع والثالث قضت على الكثيرين من أرباب الإقطاعات، ولم يتيسر إحلال غيرهم مكانهم بسبب نضب معين المتطوعين من بلاد الإغريق نتيجة لتلك الحروب الطويلة، والتي أن طول اشتغال أرباب الإقطاعات بالزراعة، مع تمتعهم بفترة طويلة من السلام دامت عشرين عامًا (241-221ق.م)، قضى على روحهم الحربي، ولاسيما أنه لم يعد يفد من بلاد الإغريق تلك الأفواج التي كانت تجدد فيهم ما بلى وتنعش فيهم ما ذوى. فلا عجب أن يحدثنا بوليبيوس بأنه قبل موقعة رفح أصبحت قوة مصر الحربية من الضعف بحيث لم يكن في وسع مصر أن تدفع عن نفسها ضرًا. وقد أصبح شأن أرباب الإقطاعات شأن غيرهم من زراع الأرض في مصر، ولا أدل على ذلك من الالتماس الذي قدمه أحدهم إلى الملك لإعفائه من الخدمة العسكرية، لأنه كان يفضل البقاء في أرضه. لكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا فضل المصريون في تكوين قلب الجيش؟ ربما كان الدافع إلى ذلك سياسيًا، وهو استرضاء المصريين وضمان سلامة مؤخرة الجيش، فلا تقع في مصر ثورة في أثناء الحرب ضد أنطيوخوس، كما حدث في أثناء حملة بطلميوس الثالث الآسيوية.

وإذا صح أن عدد المشاة في جيش بطلميوس الرابع في موقعة رفح كان 50.000، وأن عدد المقدونيين والإغريق في قلب الجيش كان 5000، وأن عدد المصريين كان 20.000، وأن عدد المرتزقة كان 8000 على نحو ما مر بنا عند الكلام عن هذه الموقعة في سياق الحديث عن السياسة الخارجية، فلابد من أن عدد المقاتلين من أرباب الإقطاعات كان حوالي 17.000. وهذا بعد فترة غير عادية من التدريب انتشلت الجيش النظامي مما تردى فيه من الاضمحلال. وإن دل ذلك على شيء فهو يدل على فشل المحاولة التي بذلها البطالمة للاستعاضة عن جيش قومي بجيش من المستوطنين الأجانب. بيد أنه حين كون بطلميوس الرابع جيشًا قوميًا من المصريين ونجح هذا الجيش في أداء الغرض المنشود، وهو صد عدوان أنطيوخس، تسبب في متاعب جمة للبطالمة لأنه أشعل روح الوطنية الكامن في صدور المصريين فهبوا ثائرين على البطالمة. والواقع أن أهم نقطة ضعف في بناء دولة البطالمة هي أنهم لم ينشئوا دولة قومية، فقد كان الغنم كله من نصيب الإغريق والمقدونيين والغرم كله من نصيب المصريين، فكان طبيعيًا حين ينتزع المصريون النصر الذي عز على الإغريق والمقدونيين أن ينتفضوا ثائرين على طغاتهم وأن يزلزلوا الأرض تحت أقدامهم.

وتشير القرائن إلى أنه بعد معركة رفح استمر البطالمة يجعلون جل اعتمادهم على أرباب الإقطاعات والمرتزقة. وينهض ضياع أغلب ممتلكات البطالمة الخارجية في عهد بطلميوس الخامس، وانهيار الجيش البطلمي أمام غزوة أنطيوخوس الرابع، وتغلغل النفوذ الروماني في مصر باطراد منذ ذك الوقت – ينهض ذلك كله دليلاً على ضعف قوة مصر الحربية ضعفًا خطيرًا، وعلى أن الجيش الذي حارب في معركة رفح كان آخر جيش حقيقي أنزلته مصر قديمًا إلى ساحة القتال، وعلى أن الانحلال كان قد دب دبيبه ثانية إلى أرباب الإقطاعات. ولما كنا لا نسمع عن أية محاولات جديدة بعد عهد بطلميوس الرابع لإنهاض أرباب الإقطاعات، فإنه يبين أن اعتماد البطالمة الأواخر على المرتزقة أخذ يزداد باطراد حتى أصبحوا يؤلفون جل الجيش إن لم يكن كله منذ أواخر القرن الثاني قبل الميلاد.

الأبيجوني والأبيجونوي:

وقد اختلفت آراء المؤرخين اختلافًا بينًا في تفسير اصطلاحين يتصلان اتصالاً وثيقًا بأرباب الإقطاعات، ونلقاهما كثيرًا في الوثائق البردية، التي ترجع إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. وهذان الاصطلاحان هما أبيجوني (Epigone) وأبيجونوي (Epigonoi) والصلة اللفظية بينهما واضحة لكنه من البديهي أنهما ليسا مترادفين. ولعل الرأي الأقرب إلى الصواب، هو أن كل أبناء المهاجرين الأجانب، سواء أكانوا جنودًا أم لا، كانوا يدعون بوجه عام "أبيجوني" أي "من السلالة"، وذلك فيما يبدو توكيدًا للفارق بينهم وبين أبناء المصريين. وبطبيعة الحال لم ينخرط كل أبناء المهاجرين الأجانب في مصر في سلك الجيش، لأن الخدمة العسكرية لم تكن مفروضة عليهم جميعًا.

وأما الإصلاح الآخر "أبيجونوي" أي "أفراد السلالة"، فكان يطلق على أفراد وحدات عسكرية، لهم أجر مالي وعيني، وكان لكل وحدة ضابط معين. ويبدو أن هذه الوحدات كانت تتألف من أبناء أرباب الإقطاعات، إذ لابد من أنه كان يحتم على أبناء أرباب الإقطاعات، أن يتدربوا مدة معينة في إحدى هذه الوحدات، لأنه كان من صالح الملك عندما يتوفى رب الإقطاع أن يكون ابنه، الذي يخلفه في الإقطاع وفي الجيش، قد تعلم فنون الحرب. وبما أن بوليبيوس يحدثنا بأنه كان يوجد "أبيجونوي" في جيش بطلميوس الرابع في موقعة رفح، فإن هذا قد يوحي بأن هذه الوحدات لم تكن للتدريب فحسب، بيد أنه من الجائز أنه إزاء الأزمة الخطيرة التي واجهت بطلميوس الرابع استخدمت هذه الوحدات أيضًا في موقعة رفح. وعلى كل حال فإنه يبدو أن هذه الوحدات كانت تؤلف جزءًا من الجيش، إذ أن بعض الوثائق البردية تطلق هذا الاصطلاح (أفراد السلالة) على إحدى فئات الجنود. ولعل وحدات الأبيجونوي لم تضم أكبر أبناء أرباب الإقطاعات فحسب، بل كل أولئك الأبناء الذين كان من الممكن أن يخلف أحدهم أباه في الجيش وفي الإقطاع. وإذا كانت وثيقة من عهد بطلميوس الثاني تحدثنا بأن أشخاصًا يدعون من "أفراد السلالة" كانت في حيازة كل منهم إقطاع مساحته خمس وعشرون أرورة، فلعل تفسير ذلك هو أنهم كانوا الأبناء الصغار لأرباب إقطاعات، ومن ثم فإنه لم يكن من حقهم أن يخلفوا آباءهم في إقطاعاتهم، ولذلك فإنهم منحوا إقطاعات خاصة بهم بوصفهم مسجلين في إحدى وحدات الجيش.

الأجور والأسلحة والخيول:

وقد كان الجنود المرتزقة، الذين ينخرطون في خدمة البطالمة، وكذلك "أفراد السلالة" يحصلون على أجر معين (أوبسونيون، Opsonion) في حين أن إقطاعات أرباب الإقطاعات ومساكنهم كانت بدلاً من هذا الأجر، إلا فيما يبدو عندما كانوا يشتركون في الحملات. وكان البطالمة يقدمون الأسلحة لكل مشاتهم النظاميين والمرتزقة، كما كانوا يقدمون الخيول لكل فرسانهم. وفي حالة أرباب الإقطاعات، يبدو أن الأسلحة والخيول كانت تبقى لديهم على الدوام ماداموا صالحين للخدمة العسكرية، على نحو ما كانت الإقطاعات تبقى في حيازتهم. ونتبين من وصايا بعضهم أنهم كانوا يورثون أسلحتهم وخيولهم لأبنائهم، وإذا كان ذلك لا ينهض دليلاً على أن هذا الإرث كان ملكًا حرًا، فإننا نرجح حدوث تطور في هذا الشأن يماثل التطور الذي طرأ على ملكية الإقطاعات منذ النصف الثاني من القرن الثالث عندما أصبحت الدولة تعترف بأن الإقطاع ملك لربه وسلالته، غير أنه عند وفاة رب الإقطاع كانت تضع يدها على الإقطاع ودخله إلى أن يسجل الابن نفسه بوصفه رب الإقطاع. وبالمثل يبدو أن الدولة كانت تسمح لأبناء الذين توفوا بحيازة أسلحة وخيول آبائهم بعد تسجيل أنفسهم في فرق الجيش. ومن البديهي أن صوالح الملك وأرباب الإقطاعات هي التي أفضت إلى هذا التطور، ذلك أنه كان من صالح الملك أن يخلف رق الإقطاع المتوفي جندي جديد في الجيش وفي الإقطاع، كما كان في صالح رب الإقطاع أن تخلفه سلالته في استغلال الإقطاع. وكانت صلاحية هذه السلالة للخدمة العسكرية الشرط الأول للاحتفاظ بالإقطاع، وكذلك بسلاح الأب فضلاً عن جواده إذا كان فارسًا.

نظم الجيش:

وإذا كنا نعرف أن الجيش البطلمي كان ينقسم بوجه عام إلى فرق نظامية، وفرق مأجورة، وفرق مصرية، فإننا لا نعرف عن تشكيلات هذه الفرق إلا معلومات متفرقة، لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء معلوماتنا عن ألقاب قواد الجيش وضباطه. ومثل ما كان الفراعنة وفيليب والاسكندر أصحاب القيادة العليا في جيوشهم، كان الملك البطلمي – وهو مصدر كل سلطة عسكرية ومدنية ودينية – القائد الأعلى لقواته البرية والبحرية. غير أن الملك كان يستطيع بطبيعة الحال إنابة غيره عنه، لكنه كان لا يفعل ذلك بصفة دائمة، ولم توجد قاعدة ثابتة في هذا الصدد طوال تاريخ البطالمة. ويبدو أن الملوك كانوا يتولون القيادة العليا فعلاً إذا كانت سنهم أو طبيعتهم أو ظروفهم تسمح بذلك، وإلا فإنه كان يتولى ذلك عنهم الأوصياء أو الوزراء أو أصحاب الحظوة لدى البلاط. وقد رأينا أن بطلميوس الأول تولى بنفسه قيادة جيشه في موقعة غزة (عام 312)، وأن بطلميوس الثالث أدار بعض الأعمال الحربية في الحرب السورية الثالثة وزحف على رأس جيشه حتى بلاد ما بين النهرين، وأن بطلميوس الرابع تولى القيادة العليا في موقعة رفح، وأن بطلميوس السادس والثامن اشتركا في الحروب السورية. ومن ناحية أخرى لم يصل إلى علمنا أن بطلميوس الثاني تولى بنفسه قيادة جيوشه أكثر من مرة واحدة، لكننا نعرف أن الوزراء أو بعض أصحاب الحظوة كانوا يتولون القيادة العليا في أحوال كثيرة، ومثل ذلك سقوباس وبولوقراتيس في عهد بطلميوس الخامس، وجالايستيس في عهد بطلميوس السادس، وأخيلاس في عهد بطلميوس الثالث عشر. ولا شك في أنه سوسيبيوس وأجاثوقلس هما اللذان توليا إعداد الحملة ضد أنطيوخوس الثالث، ولا في أن سوسيبيوس كان يقود قلب الجيش في معركة رفح. وحوالي عام 200 قام سقوباس بتجنيد فرق في ايتوليا، وحوالي عام 187 أخذ الخصى أندرونيقوس على عاتقه تجنيد بعض الفرق المرتزقة في بلاد الإغريق. وقد رأينا أنه في بداية عهد بطلميوس السادس باشر يولايوس ولنايوس الاستعدادات الحربية لمحاربة سوريا.

وقد كان تحت إمرة القائد العام مباشرة قواد كانوا أرفع ضباط الجيش مرتبة، لكننا نفتقر إلى المعلومات التي تبين لنا مهام كل منهم. بيد أنه كان يعهد بقيادة كل قسم من أقسام الجيش المختلفة إلى أحد هؤلاء القواد، تحت إشراف القائد العام.

وكان أعظم الضباط مقامًا في الجيش البطلمي هم ضباط الفرسان، وكانوا يدعون هيبارخوي (Hipparchoi)، وأما ضباط المشاة فإنهم كانوا يدعون هجمونس (Hegemones). وإذا كنا نعرف أن كل ضابط من ضباط الفرسان الكبار (هيبارخوس Hipparchos) كان يتولى قيادة إحدى فرق الفرسان، فإننا لا نعرف عن يقين مهام كل ضابط من كبار ضباط المشاة (هجمون Hegemon)، لكنه يبدو أن هذا اللقب كان يطلق بصفة عامة على كل ضابط رئيسي من ضباط المشاة، سواء أكان يقود كتيبة أم فرقة، أم حامية في مكان ما. ويبدو أن كبار الضباط في وحدات الفرسان والمشاة كانوا يطلقون أسماءهم على وحداتهم. ومن المشاكل العويصة التي يثيرها غموض الوثائق البردية تفسير اصطلاح "المشرف على الرجال" (ep'andron)، لكن الرأي السائد حتى اليوم هو أن معنى هذا الاصطلاح "في الخدمة العامة".

ويبدو أن القوات التي تحت قيادة كبار ضابط الفرسان والمشاة كانت تنقسم إلى وحدات، يتولى قيادتها ضباط صغار، وأن الفرقة (هيبارخيار Hipparchia) كانت أهم وأكبر وحدة في قوة الفرسان. وقد عرفنا أن فرق الفرسان النظامية في جيوش البطالمة كانت نوعين وهما: الفرق ذات الأرقام، والفرق التي كانت تطلق عليها أعباء قومياتها، لكننا لا نعرف عدد فرق كل نوع ولا عدد أفراد كل فرقة. وكانت كل فرقة تنقسم إلى وحدات (ايلاي، ilai) لكل منها ضابط (ايلارخوس ilarchos)، لكننا لا نعرف كم كان عدد وحدات كل فرقة، ولا طريقة التمييز بينها. ومن المحتمل أن كل وحدة كانت تنقسم أقسامًا صغيرة (لوخوي lochoi)، لكل منها ضابط صغير (لوخاجوس lochagos).

ومعلوماتنا طفيفة جدًا عن الوحدات التي كانت فرق المشاة تنقسم إليها، لكنه يبدو أن الفرقة كانت تنقسم إلى كتائب (خيليار خياري، Chiliarchiae) وتميز كل منها برقم. ويدل اسمها الإغريقي على أن الكتيبة الواحدة كانت تتألف من ألف جندي، يتولى قيادتها ضابط يدعى قائد الألف (خيليارخيس أو خيليارخوس Chiliarches أو Chiliarchos)، إلا أننا لا نعرف عدد الكتائب في كل فرقة. ويبدو أن كل كتيبة كانت تنقسم قسمين، يتألف كل منهما بطبيعة الحال من خمسمائة جندي، إذ نعرف أنه كان يوجد ضباط، يدعى كل منهم قائد الخمسمائة (بنتاقوسيارخوس Pentacosiarchos). ويبدو أن كل قسم من هذه الأقسام ذات الخمسمائة كان ينقسم إلى خمس مثينات، لأن الوثائق تتحدث عن مثينات (هقاتونتارخياري Hekatontarchiae)، وعن صف ضباط يدعى الواحد منهم قائد المائة (هقاتونتارخوس Hekatontarchos). ويبدو أن كل مثين كان ينقسم قسمين، لأنه كان يوجد عرفاء يدعى الواحد منهم قائد الخمسين (بنتاقونتارخوس Pentakonatrchos). وإلى جانب ذلك كله كانت توجد وحدتان أخريان على الأقل، وهما هجمونيا (Hegemonia) وسونتاجما (Syntagma). وتعبر كلمة هجمونيا عن وحدة من المشاة تحت قيادة هجمون. وإذا كان الهجمون ضابطًا كبيرًا مكانته أدنى من مكانة القائد العام وأرفع من مكانة قائد الألف (الخيليارخوس)، فإن قيادته كانت تمتد على عدد من الكتائب. وأما إذا كان الهجمون ضابطًا صغيرًا أدنى مكانة من قائد الخمسمائة وأعلى من قائد المائة، فإن الوحدة التي تحت قيادته كانت تشمل عدة مئينات وتدعى في القرن الثالث سونتاجما، وفي القرن الثاني هجمونيا. ومعنى ذلك أنه في القرن الثالث كانت الهجمونيا والسونتاجما نتمان عن نوعين مختلفين من تشكيلات المشاة التكتيكية، لكنه في القرن الثاني أصبحت كلمة هجمونيا تطلق على هذين النوعين من تشكيلات المشاة. ولسوء الحظ أننا لا نعرف عدد الكتائب أو المئينات في كل تشكيل من هذين التشكيلين.

وتشير القرائن إلى أن الفرق المرتزقة لم تختلف عن فرق الفرسان وفرق المشاة النظامية في نظم قيادتها وتشكيلاتها. ولابد من أن ذلك كان أيضًا حال الفرق المصرية على الأقل منذ عام 217ق.م عندما رأيناها تكون قلب الجيش ومسلحة بالأسلحة المقدونية. ومع ذلك فإنه لا يبد أن أسماء وحداتها وضباطها كانت تختلف عن أسماء وحدات وضباط الفرق النظامية والفرق المرتزقة.

ليست هناك تعليقات: