الخميس، 13 نوفمبر 2008

العصر البطلمي-الأسطول

  • الأسطـول
طباعة أرسل لصديق

الدور الكبير الذي قام به الأسطول البطلمي:

لقد أسلفنا أن سياسة البطالمة الأوائل الخارجية كانت تستهدف السيطرة على طرق التجارة في بحر إيجة وفي البحر الأحمر، بل بناء إمبراطورية بحرية، وأن أهداف هذه السياسة كانت مناهضة لصوالح سوريا ومقدونيا ولاستقلال الكثير من الجزر الإغريقية في بحر إيجة والمدن الإغريقية في آسيا الصغرى، ومن ثم فإنه كان يتعين أن يكون للبطالمة الأوائل أسطول كبير .

وقد نجح أولئك البطالمة في بناء إمبراطورية بحرية بلغت أوج اتساعها في عهد بطلميوس الثالث، واحتفظت مصر بهذه الإمبراطورية إلى أن ضاعت كل ممتلكاتها الخارجية، ما عدا قبرص وقورينايئة، في عهد بطلميوس الخامس أبيفانس. وفضلاً عن ذلك فإن البطالمة الأوائل قد تمتعوا بسيادة البحار في فترات من عهد بطلميوس الأول والثاني والثالث.

وبعد انهيار إمبراطورية البطالمة، كانت مصر لا تزال في حاجة إلى أسطول قوي لحماية تجارتها البحرية، وكانت لا تزال نشيطة، بل إنها ازدادت نشاطًا عندئذ في البحر الأحمر. وبيان ذلك أن المجهودات التي كان البطالمة الأوائل يوجهونها إلى آسيا الصغرى وسوريا من أجل السيطرة على أهم منافذ الطرق التجارية القادمة من الشرق تحولت منذ عهد بطلميوس السادس في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد إلى "طريق الجنوب" ونشطت نشاطًا كبيرًا في عهد بطلميوس الثامن، فأخذت المراكب المصرية تجوب البحر الأحمر، وبعد أن كانت لا تتخطى بوغاز باب المندب اجترأت إذ ذاك على اجتياز هذا البوغاز، ووصلت إلى الإقليمين اللذين كانا ينتجان العطور وهما: حضرموت في جنوب بلاد العرب، وبلاد بنت على شاطئ الصومال.

ويحدثنا بوسيدونيوس (Posidonios) بأنه في عهد بطلميوس الثامن أبحر يودوكسوس (Eudoxos) في رفقة بحار هندي إلى الهند، فكان أول إغريقي وصل إلى الهند دون الاستعانة بالطرق البرية . وقد ساعد على رواج تجارة مصر الشرقية انهيار مملكة سبأ في عام 115ق.م.، ومساعدة روما لمصر على حساب سوريا وفلسطين، واستكشاف هيبالوس (Hippalos) طرق الإفادة من الرياح الموسمية حوالي عام 100ق.م مما يسر اجتياز باب المندب بل الإبحار إلى الهند مباشرة. والواقع أنه إزاء نقص موارد البطالمة الأواخر وازدياد مطالب إيطاليا من منتجات بلاد العرب والهند منذ أواخر القرن الثاني اكتسبت التجارة الشرقية في نظر البطالمة الأواخر أهمية لم تكن لها من قبل. ولا أدل على ذلك من إنشاء منصب جديد في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الأول قبل الميلاد وهو منصب "قائد البحر الأحمر والمحيط الهندي (epi tes Erythras kai Indikes thalasses). وهذا كله يشير إلى اهتمام البطالمة الأواخر بتأمين البحار الشرقية، وإلى وجود أسطول لهم يقوم بحماية التجارة فيها، وإلى قيام علاقات منتظمة بين مصر والهند أكسبت البحرين الأحمر والهندي أهمية لم تكن لهما من قبل. وفي الواقع لدينا أدلة على مجيء تجار هنود إلى مصر، مثل نصب الموتى التي وجدت في الإسكندرية وعليها رموز هندية.

وفي الوثائق التي ترجع إلى أواخر عهد بطلميوس الخامس أبيفانس ترد لأول مرة الإشارة إلى وجود سفن من الأسطول الحربي في النيل. وتفسر هذه الظاهرة بالاضطرابات التي أخذت تسود البلاد منذ أواخر العهد السابق، مما أدى إلى ضرورة القيام بما يكفل سلامة التجارة النهرية، فأنشئت في عهد بطلميوس الرابع أو الخامس فرقة من المحاربين المصريين (Machimoi) لتقوم بتأمين سلامة السفن في النيل، ومن ثم فإنه أطلق على أفرادها (Naukleromachimoi). ونحن نعتقد أن الأصح ترجمة هذه الكلمة بالمحاربين البحريين لا بالمحاربين الذين يحرسون الملاحين.

وفي ضوء الأوامر المشددة التي أصدرها بطلميوس الثاني تأمين سلامة السفن التجارية في النيل، بما في ذلك سفن الملك النهرية، يتبين :

أولاً: أن هذه المهمة كانت أصلاً من اختصاص رجال الشرطة، على نحو ما سيأتي في ذكره في سياق الحديث عنهم.

وثانياً: أن الأسطول الملكي التجاري النهري لم يكن عرضة لأعمال السطو فحسب بل أيضًا لهرب الملاحين منه.

وثالثاً: أن أعمال السطو على التجارة النيلية لم تكن وليدة الاضطرابات التي واكبت الثورات القومية، وإن كان من الجائز أنه كان من شأنه هذه الاضطرابات استفحال أمر هذه الأعمال.

ورابعًا: أنه ربما كان الباعث على الأجزاء الذي استحدثه بطلميوس الرابع أو الخامس باعثًا مزدوجًا هو عدم كفاية الوسائل المتبعة قبل ذلك لكبح جماح أعمال السطو واستفحال خطر هذه الأعمال وسط اضطرابات الثورات القومية.

وهكذا يتبين لنا من القرائن التاريخية أنه كان للبطالمة، ولاسيما لأوائلهم، أسطول عظيم لعب دورًا هامًا في تاريخ العصر الهلينيسي، الذي شهد سباقًا في التسلح البحري شبيهًا بما نراه اليوم. وقد كان أحد أسباب إعجاب الناس إذ ذاك ببطلميوس فيلادلفوس قيامه بإنشاء أنواع جديدة من السفن الحربية. ويروي أثينيايوس أن هذا الملك قد بز الملوك الآخرين في الأسلحة البحرية.

وتنهض الأسانيد الأثرية أيضًا دليلاً على عظمة أسطول البطالمة، فد عثر في تمويس (Thmuis، تمى الأمديد بالقرب من السنبلاوين) على فسيفساءة، محفوظة الآن بمتحف الإسكندرية، صورت فيها الإسكندرية بوصفها سيدة البحار. فقد رمز إلى الإسكندرية بسيدة على رأسها تاج بحري. وعلى كتفيها عباءة حربية، وفي يدها اليسرى رمز الانتصارات البحرية، وكان يحمل عادة في المهرجانات التي تام في هذه المناسبات، وهو عبارة عن زخرفة خشبية كان يزين بها مؤخر السفن. ويرجح روستوفتزف أن هذه الفسيفساءة، التي قد ترجع إلى فترة متأخرة في عصر البطالمة، منقولة عن نموذج أقدم منها عهدًا وأعظم شأناً، ابتكره أحد فناني الإسكندرية للإشادة بالمجد البحري الذي أحرزه البطالمة الأوائل.

ود عثر في بيت ريفي روماني بالقرب من لبتيس ماجنا (Leptis Magna = لبده بالقرب من طرابلس في ليبيا) على فسيفساءة يعتقد روستوفتزف أنها تصور "الميناء الملكي"، داخل الميناء الكبير، (الميناء الشرقي اليوم) ومدخل قصر البطالمة، وأن هذه الفسيفساءة – التي ترجع إلى القرن الثاني للميلاد – منقولة عن نموذج يرجع إلى عصر البطالمة ويهدف فيما يبدو إلى تمجيد سيادة البطالمة البحرية وازدهار تجارتهم في كنف أسطولهم العظيم.

قوة هذا الأسطول:

وبالرغم ن كل ما نعرفه عن عظمة أسطول البطالمة والدور الكبير الذي لعبه هذا الأسطول، مما يقطع بأنه كان للبطالمة، ولاسيما لأوائلهم، أسطول ضخم، فإن معلوماتنا عن هذا الأسطول طفيفة جدًا. ذلك أننا لا نعرف عن قوة أسطول البطالمة في العهود المختلفة أكثر ما يرويه ديودوروس من أن عدد سفن بطلميوس الأول في موقعة سلاميس ديودوروس من أن عدد سفن بطلميوس الأول في موقعة سلاميس (عام 306) كان 140 سفينة، ومما يقوله بلوتارخ من أنه في هذه الموقعة كان تحت إمرة بطلميوس 150 سفينة وتحت إمرة أخيه منلاوس 60 سفينة، ومما يذكره أثينايوس وأبيانوس عن معدل قوة أسطول فيلادلفوس. وقد ورد عند أثينابوس، نقلاً فيما يبدو عن قالكسينوس، أن عدد أكبر السفن التي استخدمها هذا الملك كان يبلغ 336 سفينة، وذلك فضلاً عن 4000 سفينة "كانت ترسل إلى الجزر والولايات الأخرى التابعة له وكذلك إلى ليبيا".

وأما أبيانوس فإنه يحدثنا بأنه كان تحت إمرة هذا الملك "ألفان من سفن النقل والسفن الصغرى و1500 سفينة حربية و800 سفينة وشى صدرها وعجزها بالذهب وبها حجرات، فقد كان الملوك أنفسهم يستخدمونها عند ذهابهم إلى المعارك الحربية". وقد لاحظ أحد الباحثين أن مجموع سفن فيلادلفوس وفقًا لما ذكره أثينايوس (4000 + 336 = 4336) يتفق تقريبًا مع ما ذكره أبيانوس (2000 + 1500 + 800 = 4300). ويميل هذا الباحث إلى الاعتقاد بأن سفن فيلادلفوس الحربية كانت 336 سفينة، بل يتشكك في أنها كانت تصل إلى هذا العدد. ومن الجلي أن هذا الرأي متأثر بالعبارة التي أوردها أثينايوس، وإن كان أثينايوس نفسه لم يحدد سفن فيلادلفوس الحربية بهذا العدد. ويحق لنا أن نتساءل كيف أن هذا العدد من السفن الحربية كان يكفي فيلادلفوس للتمتع بسيادة بحر إيجة في وجه مقاومة منافسيه الأشداء، مع الاحتفاظ بسلامة شواطئ مصر وسلامة ممتلكاته الخارجية في هذا البحر وضمان خضوعها له، وكذلك سلامة الملاحة في البحر الأحمر، وكان يتهددها قراصنة النبط؟ ولا شك في أن موارد فيلادلفوس كانت أوفر وتبعاته أكبر من موارد وتبعات كل من أنطونيوس وأوقتافيانوس اللذين مر بنا أن أسطول أولهما كان يتألف من سفن يزيد عددها على 500 سفينة وأن أسطو ثانيهما كان عدد سفنه يزيد على 400 سفينة. بيد أنه من ناحية أخرى إذا كان يصعب علينا أن نتصور أن فيلادلفوس، مع وفرة موارده وما تمتع به من سيادة بحرية وممتلكات خارجية وما كان عليه ن تبعات جسام في البحرين المتوسط والأحمر لم يمتلك إلا 336 سفينة حربية فقط، فإنه يصعب كذلك أن نقبل تلك الأرقام الضخمة التي ذكرها أثينايوس وأبيانوس، ولاسيما أنه لا سبيل إلى التأكد من صحتها. وإزاء ذلك فإن كل ما يمكننا أن نستخلصه في اطمئنان مما ذكره هذان المصدران هو أن أسطول فيلادلفوس كان يتألف على الأقل من أربع فئات من السفن وهي:

1- فئة لخوض المعارك.
2- فئة لحماية ممتلكات مصر الخارجية.
3- فئة لنقل الجنود والرسائل والمواد الحربية والغذائية.
4- فئة لنقل الملك وحرسه وحاشيته.

ومن الجائز أنه كانت توجد فئة خاصة لتأمين طرق الملاحة أو أنه كان يعهد في هذه المهمة إما إلى الفئة الأولى وإما إلى الفئة الثانية.

كيفية تكوين الأسطول البطلمي:

وكيف كون البطالمة أساطيلهم؟ لقد أسلفنا أن الإسكندر ترك في مصر بعد فتحها قوات برية وبحرية، وأنه مهما يكن عدد هذه القوات فإنها لم تكن كافية لتحقيق أغراض بطلميوس، ولذلك فإنه مثل أغلب قواد الإسكندر الآخرين اتخذ من القوات التي وجدها في ولايته نواة لبناء قوات أكبر من ذلك وأعظم.

ويبدو طبيعيًا أن نفترض أن الملك كان يبني على الأقل جانبًا من الأسطول على نفقة الدولة. وإذا كان يعوزنا الدليل المادي على ذلك من عهد بطلميوس سوتر، فإن وثيقة بردية محفوظة في أكسفورد ولم تنشر بعد وترجع إلى عام 251/250 ق.م تحتوي على أمر من فيلادلفوس إلى وزير ماليته أبولونيوس ليقطع عددًا كبيرًا من الأشجار لبناء سفن حربية.

ويستخلص من إحدى الوثائق البردية ومن أحد المصادر القديمة أن جانبًا آخر من الأسطول كان سفنًا يستأجرها الملك. ولم يكن ذلك أمرًا غريبًا، فقد كان الملك يستأجر المحاربين الذين يتقنون فنًا معينًا من فنون الحرب. وفضلاً عن ذلك فإنه كان شائعًا بين ملوك العصر الهلينيسي نظام استئجار السفن والبحارة من المدن، وأحيانًا استئجار وحدات بحرية من القراصنة.

وتشير القرائن إلى أن جانبًا ثالثاً من الأسطول كان يتألف – وفقًا للنظام الذي ابتدعته أثينا – من السفن التي كان يفرض على الأثرياء من المواطنين إعدادها وتقديمها للملك. فقد شاع هذا النظام خارج أثينا في كل عصر واتبعه الإسكندر نفسه. حقًا ليست لدينا إلا وثيقة بردية واحدة (عام 258/257ق.م) خاصة بتطبيق هذا النظام في إحدى مدن الإمبراطورية البطلمية وهي مدينة هاليقارناسوس. ولكنه، على حد رأي فليكن، من العسير أن نتصور أن هذا العبء لم يلق إلا على كاهل هذه المدينة وحدها دون غيرها من سائر الثغور الإغريقية التي كانت في حظيرة الإمبراطورية البطلمية. ومن المعقول أن نتصور أيضًا أن البطالمة قد فرضوا هذا العبء كذلك على مواطني الثغور الفينيقية وعلى مواطني مدن مصر الإغريقية. ولا شك في أن هذا العبء لم يفرض على المصريين أيضًا، لا شفقة بهم وإنما لأنه لم يكن في وسعهم، على الأقل على عهد البطالمة الأوائل، الاضطلاع به بسبب فقرهم وقلة مواردهم مع كثرة الالتزامات الأخرى التي أرهقهم بها البطالمة.

وعندما سيطر البطالمة على عصبة جزر بحر إيجة كان أسطول هذه العصبة يكون جزءًا مهمًا من أسطولهم.

المجذفون والبحارة:

أما عن رجال الأسطول فيجب أن نلاحظ أنهم كانوا يتألفون من عنصرين رئيسيين وهما عنصر المجذفين والبحارة، وعنصر المحاربين. ووفقًا للنظم المتبعة في كافة أنحاء العالم القديم، كان العنصر الأول يتألف من أدنى طبقات السكان. ولما كان البطالمة قد وضعوا المصريين في أسفل الدرك، وكان طبيعيًا أن يتبع البطالمة النظم المألوفة، فلابد من أن العنصر الأول في أساطيلهم كان يتألف أساسًا من المصريين. ويتأكد ذلك بما ورد في القرار الذي صدر في العام التاسع من عهد بطلميوس الخامس أبيفانس (شهر مارس عام 196ق.م) وحفظه لنا حجر رشيد المشهور، إذ أن هذا القرار يتضمن إعفاء مزارعي المعابد وعبيدها من الخدمة في الأسطول. ويبدو معقولاً أن البطالمة لم يفرضوا هذه الخدمة على مزارعي المعابد دون غيرهم من سائر فئات المزارعين. لكن البطالمة الأواخر، وقد وهنت قواهم ولمسوا قوة الكهنة المصريين وأخذوا يتقربون إليهم بشتى الوسائل، لم يعفوا إلا مزارعي المعابد وعبيدها من الخدمة في الأسطول.

وتشير القرائن إلى أن المجرمين وأسرى الحرب كانوا أيضًا يشتركون في تكوين العنصر الأول من رجال الأسطول. ويبين أن بعض المرتزقة كانوا يستخدمون كذلك هذا الغرض. وكان العبيد والمجرمون وأسرى الحرب يميزون عن غيرهم من العاملين سواء في الأسطول الحربي أم الأسطول التجاري بوشمهم بالنار. ويبدو أن وشم العبيد وأسرى الحرب لم يكن أمرًا استحدثه البطالمة بل يرجع إلى عهد رمسيس الثالث.

المحاربـون:

ويرى لسكييه أن جنود الأسطول أيضًا كانوا يؤخذون من المصريين ولكن من تلك الطبقة الممتازة، طبقة المحاربين المصريين (machimoi). ويستند هذا الرأي إلى أن باوسانيوس يحدثنا، في خلال الكلام عن دور أمير البحر البطلمي باتروقلوس (Patroclos) في أثناء حرب خرمونيدس، بأن باتروقلوس طلب إلى الإسبرطيين مهاجمة أنتيجونوس ورجاله المقدونيين على أن يقوم هو بالهجوم عليهم من الخلف، وإلا فإنه لا يكون من الإنصاف لرجال أسطوله المصريين منازلة المقدونيين في البر.

فلنناقش أولاً الحجة التي يعزوها باوسانياس إلى باتروقلوس ويستند إليها لسكييه، وفيما يبدو أيضًا غيره من المحدثين. أمن المعقول أن يكون البطالمة الأوائل – وهم الذين لم يثقوا في كفاية المصريين الحربية ومقدرتهم على منازلة المقدونيين، ومن ثم فإنهم لم يعتمدوا عليهم في تكوين جيوشهم – قد اعتمدوا عليهم في تكوين قواتهم المحاربة البحرية مع العلم بأن أغلب، إن لم يكن كل، معارك الأسطول البطلمي كانت ضد إغريق ومقدونيين؟ أليس ذات ما عزاه باوسانياس إلى باتروقلوس يدل دلالة قاطعة على عدم ثقة البطالمة وقوادهم في كفاية المصريين الحربية؟
وإذا صح أن جنود الأسطول كانوا فعلاً من المصريين، فلابد من أن البطالمة لم يقدموا على ذلك إلا بعد أن أثبت المصريون كفايتهم ومقدرتهم على منازلة المقدونيين وغيرهم واقتنع البطالمة وقوادهم بذلك.

وفي هذه الحالة تبطل حجة باتروقلوس، وإلا فإنه يكون معنى كلامه أن البطالمة وقوادهم، بالرغم من عدم ثقتهم في كفاية المصريين الحربية ومقدرتهم على منازلة المقدونيين، قد كونوا جنود أسطولهم من المصريين. وإذا جاز هذا، وهو أمر غير مقبول في نظرنا، فما كانت إذن فائدة مثل هذا الأسطول للبطالمة الذين كانت قوات منافسهم البحرية تتألف من المقدونيين والإغريق؟ ولماذا إذن ذهب باتروقلوس لنجدة أثينا مع علمه تمام العلم بأن الأعداء الذين سيجابههم كانوا من المقدونيين وبأن رجاله غير أكفاء لمنازلتهم؟ وهكذا يتبين لنا أمران: وأحدهما هو أن حجة باتروقلوس لم تكن إلا عذرًا منتحلاً لتبرير سياسة سيده الذي لم يكن متحمسًا لتعريض قواته البحرية للمخاطر من أجل قضية لم يكن ينتظر من ورائها منفعة مباشرة. ويؤكد ذلك أنه عندما قام آريوس بمحاولة اقتحام خطوط جوناتاس التي كانت تسد برزخ قورنثة لم يحاول باتروقوس مهاجمة المقدونيين من الخلف برًا بوعده وفقًا لرواية باوسانياس. والأمر الآخر هو أنه لا يمكن الاستناد إلى هذه الحجة في القول بأن جنود أسطول البطالمة، وخاصة الأوائل منهم. كانوا من المحاربين المصريين.

وقد سبق أن ذكرنا أنه لا يمكن الجزم بأن المصريين اشتركوا فعلاً وباستمرار في جيوش البطالمة قبل موقعة رفح في عام 217... ويساعد على الاعتقاد بعدم حدوث هذا الاشتراك أنه حتى هذا التاريخ لم تزد مساحة إقطاع المحارب المصري على خمس أرورات، وإن كانت هذه المساحة قد زيدت بعد ذلك. وقد رأينا أن بطلميوس الرابع فيلوباتور لم يعتمد على المصريين في موقعة رفح إلا مضطرًا حين كانت المخاطر تحف به، ولم يكن في وسعه تجنيد عدد كاف من المقدونيين والإغريق. وإذا كنا نعرف أن أحدًا من البطالمة الأوائل لم تضطره الظروف إلى الاعتماد على المصريين في تكوين القوات البحرية، وكنا نعرف كذلك أنه حين أقدم بطلميوس الرابع على الاعتماد على المصريين وصف القدماء عمله هذا بأنه "بدعة خطيرة" مما يقطع بأن أحدًا من أسلافه لم يسبقه إلى ذلك، فإننا نستبعد أن يكون البطالمة الأوائل قد اعتمدوا على المصريين في تكوين جنود الأسطول. وفضلاً عن ذلك فإنه عندما كون فيلوباتور قلب جيشه في موقعة رفح من المصريين – وبذلك أتاح لهم الفرصة لإثبات كفايتهم العسكرية – وأحرزوا نصرًا مبينًا في هذه الموقعة على القوات المقدونية والإغريقية، أزكى هذا الفوز روح الوطنية الكامن في صدورهم وأعاد إليهم ثقتهم بأنفسهم فأصبحوا لا يتهيبون الثورة على طغاتهم. ويسلم المؤرخون منذ عهد بوليبيوس بأن ثورات المصريين على البطالمة منذ عهد بطلميوس الرابع ترجع إلى انتصارهم في موقعة رفح. ولا جدال في أن البطالمة الثلاثة الأوائل كانوا أكثر صلفًا وعنتًا في معاملة المصريين من البطالمة الأواخر، ولا جدال أيضًا في أن أسطول البطالمة الثلاثة الأوائل قد قام بأعمال باهرة جدًا، فلو صح الزعم بأن جنود هذا الأسطول كانوا من المصريين لكان هذه الانتصارات من الأثر في نفوس المصريين مثل ما كان لانتصار رفح. لكن مظاهر تذمر المصريين من حالهم على عهد أولئك البطالمة لم تكن أكثر من الاحتجاج والإضراب عن العمل والفرار إلى المعابد للاحتماء بالآلهة، وذلك على عهد بطلميوس الثاني، ومن القيام بثورة واحدة على عهد بطلميوس الثالث. ولم تكن مظاهر احتجاج المصريين في عهد بطلميوس الثاني ولا ثورتهم في عهد بطلميوس الثالث نتيجة لانتصار بحري رائع، وإنما في الحالة الأولى نتيجة للقوانين المالية الصارمة التي أصدرها بطلميوس الثاني، وفي الحالة الثانية من جراء ما أصاب المصريين من إزهاق نتيجة للاستعدادات الكبيرة لفتوحات بطلميوس الثالث في أواسط آسيا، وكذلك نتيجة للمجاعة التي يذكرها قرار قانوب.

وإزاء ما تقدم إذا جاز لنا التسليم – مع التحفظ الشديد – بأن جانبًا من المحاربين البحريين في أسطول البطالمة الأوائل كانوا مصريين. فإننا لا نستطيع التسليم بأن كل أولئك الجنود البحريين كانوا مصريين. والواقع أنه ليأخذنا العجب حقًا إذا كان أولئك البطالمة، وهم الذين وضعوا كل اعتمادهم على المقدونيين والإغريق في تكوين قواتهم البرية، لم يعتمدوا على الإغريق والمقدونيين إلى حد كبير في تكوين قواتهم البحرية أيضًا. وأما منذ عهد فيلوباتور، أي منذ سمح للمحاربين المصريين بالاشتراك الفعلي في جيوش البطالمة، فإننا لا نستبعد أنهم قد استخدموا أيضًا محاربين مصريين في الأسطول. لكنه إذا كانت لم تصبح لهم حتى في ذلك الوقت الغالبية بين رجال الجيش، فإنه من المعقول أنهم كذلك لم يصبحوا غالبية جنود البطالمة البحريين. وتبعًا لذلك فإننا نعتقد أنه على عهد البطالمة، الأوائل منهم والأواخر، كان جل، إن لم يكن كل، جنود البطالمة البحريين من الإغريق ومن على شاكلتهم، وأن كل جنود الأسطول النهري كانوا من المحاربين المصريين، وأن غالبية مجذفي الأسطول البحري – أي الأداة الدافعة في هذا الأسطول – كانوا من الزراع والعمال المصريين والمساجين. ويؤيد هذا الرأي أن ديودروس يحدثنا بأنه عقب موقعة غزة في عام 312 وضع بطلميوس الأول أسرى الحرب في الوحدات البحرية (Nauarchiai)، وأن وثيقة بردية من عام 159ق.م ترينا بين محاربي الأسطول رجالاً من الجزر الإغريقية.

الأجــور:

وليست لدينا معلومات عن أجر جنود الأسطول، فنحن لا نعرف هل كانوا يعاملون معاملة جنود الجيش، أي هل كانوا يمنحون إقطاعات مثلهم ومثل كثيرين من موظفي الدولة؟ أم أنهم كانوا يعطون مرتبات كالإغريق من رجال الشرطة في القرن الثالث مثلاً؟ لقد حدا بالبطالمة إلى إتباع نظام منح الإقطاعات ولاسيما لرجال الجيش دوافع عدة لعل أهمها أنه لم يكن من الحكمة ولا في الإمكان تسريح الجيش بعد كل حرب وإعادة تكوينه قبل الحرب التالية، لأن أسواق الجنود المرتزقة كانت في بلاد معادية للبطالمة. ومن ناحية أخرى كان يسبب لهم متاعب جمة ويكلفهم نفقات كثيرة للاحتفاظ بجيش قائم من الجنود المرتزقة يقضون معظم وقتهم عاطلين في الثكنات. وكان منح الجندي قطعة من الأرض يقوم على استغلالها يربطه بمصر فيتخذها وطنًا له وتنشأ بينه وبين الملك علاقات قوية دائمة، وبذلك كان الملك يستطيع الاعتماد عليه دائمًا في تكوين جيشه وتأييد ملكه، وإدخال وسائل اقتصادية جديدة في مصر، وزيادة عدد الأيدي العاملة، ونشر الحضارة الإغريقية في أنحاء البلاد. ولا شك في أن هذه الدوافع نفسها لم تغب عن البطالمة عند تكوين الأسطول، وكان طبيعيًا أن تؤدي بهم إلى إتباع النظام نفسه مع رجاله لكننا لم نجد بعد في وثيقة بردية واحدة ما يدل على أن رجال الأسطول كانوا أيضًا من أرباب الإقطاعات، مما يثير الشك في أن البطالمة اتبعوا معهم أيضًا نظام الإقطاعات. فهل يرجع صمت الوثائق إلى الصدفة وحدها أم إلى اختلاف النظام؟ إن أغلب الإقطاعات التي منحها رجال الجيش كانت من الأراضي التي استصلحها البطالمة في الفيوم. ويرجح المؤرخون أن أعمال الاستصلاح لم تكن مقصورة على الفيوم، بل امتدت إلى مناط أخرى تشبه الفيوم، وخاصة في الدلتا، حيث كانت تكثر الأراضي المنبسطة الواطئة التي تغمرها المستنقعات وتغطيها الحشائش والأدغال. فهل كانت المنطقة المخصصة الرئيسية لإقطاعات رجال الأسطول في الدلتا لقربها من المواني الرئيسية، ولم تصل إلينا الوثائق البردية الخاصة بأرباب الإقطاعات من رجال الأسطول لأن طبيعة أرض الدلتا لم تساعد على الإبقاء على هذه الوثائق ولا على انتشار أعمال التنقيب هناك؟ هذا محتمل، ويؤيد هذا الاحتمال قلة معلوماتنا عن الأسطول بسبب ندرة ما وصل إلينا من الوثائق البردية عنه. وعلى كل حال إذا جاز أن جنود الأسطول كانوا يمنحون إقطاعات، فإنه من المعقول أن المجذفين والبحارة كانوا يعاملون معاملة العمال، أي يشتغلون لقاء أجر معين.

نظم الأسطـول:

ونحن لا نعرف كذلك شيئًا عن عدد رجال الأسطول بنوعيهم ولا عن تشكيلاتهم، ولكنه يفهم من عبارة ديودوروس التي سبقت الإشارة إليها أن سفن الأسطول كانت تنقسم إلى وحدات، كل منها تحت إمرة قائد بحري. فقد ورد في هذه العبارة أنه عقب غزوة عام 312 وضع بطلميوس أسرى الحرب في الوحدات البحرية (nauarchiai)، ونعرف من النقوش والمصادر القديمة أسماء عدد كبير من قواد هذه الوحدات. ولابد من أن عدد وحدات الأسطول البطلمي كان يختلف تبعًا للعهود المختلفة، بل تبعًا للظروف المختلفة في عهد واحد. وبطبيعة الحال كانت لهذه الوحدات قواعد بحرية متعددة كانت أهمها الإسكندرية، وسلاميس بجزيرة قبرص، وساموس، وثيرا، ومن المحتمل أيضًا قورينايئة. وما كان اهتمام البطالمة بتجارة البحر الأحمر قد حدا بهم منذ عهد أولهم إلى القيام بسلسلة من البحوث الكشفية لمعرفة الشواطئ والشعوب وموارد الثورة أولاً في البحر الأحمر وفيما بعد في المحيط الهندي، وإلى القيام بتأسيس عدد كبير من الثغور والمستودعات على الشاطئ الإفريقي للبحر الأحمر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وكنا نعرف أنه قد كان للبطالمة أسطول حربي لتأمين الملاحة في هذا البحر، فلابد من أن هذا الأسطول قد اتخذ من بعض هذه الثغور قواعد له.

ولا نعرف شيئًا كذلك عن مراتب ضباط الأسطول أكثر من أنه كان على رأس كل سفينة ضابط (trierarchos) – لا يبعد أنه كان له مساعد (hypotrierarchos) – وأنه كان على رأس كل وحدة بحرية قائد، يظهر أنه كان إلى جانب مهامه البحرية يتولى حكم تلك المنطقة من ممتلكات مصر الخارجية، التي كانت توجد فيها قاعدة وحدته، وكذلك قيادة الجنود البريين في تلك المنطقة، على نحو ما كان شأن حاكم جزيرة قبرص إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، أي في الفترة التي أخذ فيها نفوذ مصر الخارجي يتقلص أمام نفوذ روما في شرق البحر المتوسط. ويبدو أنه كان يساعد قواد الوحدات ضباط لا نعرف مرتبتهم مثل زينون مساعد القاعد البحري باكخون (Bacchon).

وقد كان الملك البطلمي القائد الأعلى لقواته البرية والبحرية، شأنه في ذلك شأن الفراعنة وفيليب المقدوني والإسكندر الأكبر من قبل. ومر بنا أن بعض البطالمة كانوا أحيانًا يتولون فلاً قيادة قواتهم البرية، لكنهم كانوا عادة ينيبون عنهم أحد قواد الجيش ليتولى القيادة العامة دون منحه لقبًا يميزه عن غيره من القواد ودون أن يكون لعمله صفة الدوام. ويبدو أن الحال كانت مماثلة لذلك فيما يخص الأسطول، أي أن الملك كان أحيانًا يتولى بنفسه قيادة الأسطول، مثل بطلميوس الأول في موقعة سلاميس (306)، لكنه كان عادة يعهد بالقيادة العامة في الأسطول إلى أحد قواد الوحدات البحرية. فقد أسلفنا أن الأسطول كان يتألف من عدة وحدات (nauarchiai)، وأنه كان على رأس ك وحدة قائد (naurchos)، ونعرف أن كلا من تيموسثنيس وبارتروقلوس كان أميرًا للبحر، وأنه لم يكن لأيهما لقب آخر عدا لقب (nauarchos).

ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أنه في ضوء ما نستنبطه من القرائن لم يكن للملك أسطول حربي فحسب بل أيضًا أسطول تجاري كان بعضه بحريًا والبعض الآخر نهريًا

ليست هناك تعليقات: