السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- القانون والقضاء 8



8.القانون الجنائي

طباعة أرسل لصديق
يتبين من استقراء الوثائق أن القانون الجنائي البطلمي كان يفرق بين خمسة أنواع رئيسية من الجرائم وهي: أولاً، الجرائم ضد صوالح الخزانة العامة؛ وثانيًا، الجرائم ضد الأفراد؛ وثالثًا، الخيانة العظمى؛ ورابعًا، سوء استخدام الحقوق؛ وخامسًا، الجرائم الدينية.

أولاً: وجرائم النوع الأول فئتان رئيسيتان، وكانت جرائم الفئة الأولى تتصل بالضرائب وتسمى الجرائم التي تمس دخل الدولة (Prosodika enklemata). وكان يرتكب هذه الجرائم فئات مختلفة من الناس، ويمكن تقسيم هذه الجرائم تبعًا لفئة مرتكبيها، فقد كانوا:


‌أ- دافعي الضرائب الذين كانوا يحاولون التهرب من أداء الضرائب المستحقة عليهم كلها أو بعضها، ومثل ذلك عدم إعطاء ملتزم ضريبة ما البيانات التي كان القانون يتطلبها أو إعطاؤه بيانات غير صحيحة.


‌ب- موظفي الإدارة المالية الذين كانوا يرتكبون جريمة من الجرائم التالية:

(1) اختلاس ما جمع من الضرائب .

(2) إتباع أساليب غير مشروعة في جمع الضرائب، مثل استخدام مكاييل غير قانونية .

(3) الإهمال في جمع الضرائب .

(4) عدم جمع العجز في حصيلة الضرائب .

(5) إغفال موافاة مراقب الحسابات عن ميزان حسابات ملتزمي الضرائب .

(6) استخدام أشخاص في عملية التزام الضائب لم ترد أسماؤهم في عقود الالتزام .

(7) دفع مرتب الملتزم عن طريقهم مباشرة بدلاً عن الخزائن الملكية.


‌ج- ملتزمي الضرائب الذين كانوا يرتبكون جريمة من الجرائم التالية:

(1) إغفال تقديم شهادات الضمان للخزائن الملكية .

(2) إشراك أشخاص في التزام الضرائب لم ترد أسماؤهم في عقود الالتزام .

(3) أخذ مرتبهم من الموظفين بدلاً من الخزائن الملكية .

(4) عدم احترام القواعد الخاصة بالتزام الضائب وبشركاء الملتزمين .

(5) إغفال القواعد الخاصة بجباية الضرائب .

(6) إهمال تسوية حساباتهم مع الأويكونوموس عندما يبعث في استدعائهم لهذا الغرض .

(7) إهمال عقد اتفاق مع المزارعين .

(8) إغفال إذاعة القواعد الخاصة ببيان ما يملكه الأفراد من عبيد .

(9) القيام بعملية الالتزام بالرغم منعدم الصلاحية لهذا العمل.


‌د- مراقبي الملتزمين الذين كانوا يبلغون الأويكنوموس أو مراقبة عن كل ما أبلغوا بجمعه من الضرائب.


وكانت الدولة تفرض عقوبة الإعدام على مزيفي المكاييل، وتصادر ثروة الذين يتهمون بالإهمال في جباية الضرائب، أو تفرض عليهم دفع غرامة معينة للخزانة العامة. وكذلك كانت تصادر اقطاعات الذين يقدمون بيانات غير صحيحة عن موارد دخلهم من اقطاعاتهم. وفي حالتين وصل إلينا خبرهما، كانت العقوبة التي فرضت بسبب محاولة التهرب من سداد الضرائب تبلغ ضعف الخسارة التي تحملها الملتزم. وفي إحدى الحالات، كانت العقوبة مصادرة ذلك القدر من المحصول الذي لم يبلغ المزارع عنه.


ويبدو أنه كان في وسع أي شخص إقامة الدعوى في الجرائم التي كانت عقوباتها مالية، فكان يشارك في ذلك الأهالي والموظفون على السواء، لكنه لوحظ أنه في جرائم التهرب من دفع الضرائب كان ملتزم الضريبة هو الذي يقيم الدعوى والحكومة هي التي تأخذ الغرامة.


أما جرائم الفئة الثانية من النوع الأول، فكانت تتصل بأرض الملك والاحتكارات وتسمى الجرائم التي تمس أعيان التاج (Basilika enklemata) ويمكن تقسيم هذه الجرائم قسمين، وكانت جرائم القسم الأول تتألف من الجرائم التي كانت تمس صوالح الأراضي الملكية. ومثل ذلك سرقة أغنام يملكها "الدخل المنفصل" (kechorismene prosodos) وإهمال الموظفين في جمع المحصول من المزارعين الملكيين أو في أداء ما نبط بهم من مهام تتعلق بالحصول، وإشعال النار عمدًا في محصول الأراضي الملكية، ومخالفة القواعد الخاصة بالإرغام على استخدام الأراضي الملكية.


وكانت جرائم القسم الثاني تمس صوالح الاحتكارات. ومثل ذلك الخروج على القواعد الخاصة بأمر من الأمور التالية: (1) أسعار العطور والبخور، (2) تزويد الإسكندرية بالزيت، (3) حظر انتاج الزيت خلسة وتهريبه، (4) استخراج الزيت في المعابد، (5) الإشراف على أدوات المعاصر وتوفيرها (6) حظر بيع محصول الحبوب الزيتية لأشخاص أخرين عدا ملتزمي أحتكر الزيت، (7) المواد الخام والبذور، (8) استخراج الزيت وبخاصة حظر انتقال العمال المشتغلين بهذه الصناعة من مقر عملهم، (9) تسليم معاصر الزيت لملتزمي الاحتكار، (10) الاتفاقات مع العمال.


وفي جرائم القسم الأول كان رجال الإدارة المالية هم الذين يقيمون الدعوى. وأما في جرائم القسم الثاني فإنه إذا كان الموظفون يقيمون الدعوى في بعض الحالات، فإنه يبدو أن الملتزم هو الذي كان يفعل ذلك قس أكثر الحالات. ومعلوماتنا عن العقوبات التي كانت تفرض على مرتكبي الفئة الأولى من هذه الجرائم تكاد تكون مقصورة على ما نعرفه من أن رب إلا قطاع الذي سرق ماشية يملكها "الدخل المنفصل" حرم دخل إقطاعه لمدة سنة. ويتبين من الوثائق أنه كانت تفرض على مرتكبي جرائم الفئة الثانية عقوبتان ماليتان كانت إحداهما عقوبة عامة لارتكاب الجريمة ولذلك فإنها كانت تؤول إلى الخزانة العامة، والأخرى تعويضًا للملتزم كان من الممكن أن تصل إلى ضعفي بل خمسة أضعاف الخسارة المترتبة على ارتكاب ذلك الجرم.


ثانيًا: وكان النوع الثاني من الجرائم يشمل الاعتداء على أشخاص الناس أو ممتلكاتهم أو حقوقهم. وكانت أخطر جريمة ضد الأفراد هي القتل. وكان القانون البطلمي، شأنه شأن القانون المصري، يفرق بين القتل العمد والقتل غير العمد. وكانت إقامة الدعوى في هذه الجريمة، أو على الأقل في محاولة القتل بالسم، من حق المعتدي عليه وأفراد أسرته إلى حد أنه إذا لم يظهر منهم أحد في المحكمة ليتولى الاتهام، فإن المتهم كانت تبرأ ساحته. ولا يوجد دليل عمن كان يحق له إقامة الدعوى في حالة الأنواع الأخرى من جرائم القتل في هذا العصر، لكنه يبين أن القانون المصري كان يعتب رجريمة القتل جريمة ضد المجتمع والدولة، إلى حد أنه كان يعاقب بالموت كل من رأى جريمة قتل أو تعذيب ولم ينقذ المجني عليه مع أنه كان قادراً على ذلك. أما إذا كان حقًا عاجزًا عن تقديم المساعدة، فإنه كان يتحتم عليه الإبلاغ عن المجرمين وإلا كان جزاؤه الجلد والحرمان من الأكل ثلاثة أيام متوالية.


وتخلو الوثائق البردية من معلومات قاطعة عن نوع العقوبة التي كانت تفرض في جرائم القتل، وإن كان يتبين من قرار العفو الذي أصدره بطلميوس الثامن أنه لم يستثن إلا مرتكبو جريمتي القتل العمد وسرقة المعابد. ويبدو أنه في حالة الجريمة الأولى كانت تفرض عقوبة عامة ـ أما بوصفها العقوبة الرئيسية أو الفرعية ـ يظن أنها كانت مصادرة أملاك المتهم، وهو ما كان القانون الأتيكي يقضي به. وبتأييد هذا الرأي بم جاء في وثيقة بردية من أنه في قضية قتل حصرت أملاك المتهم وقدرت قيمتها.


ويحدثنا ديودوروس بأن القانون المصري كان يفرض عقوبة الموت على الذين يرتكبون جريمة القتل عمدًا، سواء أكان القتيل رجلاً حرام عبدًا، وبأنه إمعانًا في العقوبة كان المجرم يعذب قبل إعدامه. وإذا كان القاتل ابن القتيل، فإنه كان يعدم حرقًا، وأما الذين يقتلون أبناءهم، فإنهم بدلاً من إعدامهم كانوا يؤمرون باحتضان جثث ضحاياهم ثلاثة أيام وثلاث ليال على مشهد من الناس وتحت رقابة الشرطة. وإذا حكم على إمرأة حامل بالإعدام، فإن العقوبة كانت لا تنفذ إلا بعد أن تضع المرأة طفلها. ويذكر مصدر قديم أن قوانين منف كانت تقضي بأن الذي يرتكب جريمة قتل بغير عمد لا يدخل بيته إلا بعد أن يتطهر من جرمه ويضع قربانًا على مقبرة ضحيته.


وقد كان الملك يستطيع أن يستبدل بعقوبة الإعدام الأشغال الشاقة، لأنها على حد قول ديودوروس كانت أجدى على الهيئة الاجتماعية وأنفع علها من الإعدام، على نحو ما كان يفعل الملك سابكون (شابكًا، أحد ملوك الأسرة الخامسة والعشرين)، الذي كان لا يعدم المجرمين وإنما يأمرهم بتعلية مستوى الأرض في مواطنهم ولابد من أن كثيرين من أمثال هؤلاء المجرمين كانوا يستخدمون في استغلال المحاجر والمناجم، فإن ديودوروس واجثارخيدس يحدثاننا بأن الذين يعملون هناك كانوا جميعًا أما أسرى أو مجرمين صدرت ضدهم أحكام.


وتلي ذلك من الجرائم التي كانت ترتكب ضد الأفراد: مختلف أنواع جرائم الاعتداء عليهم، مثل السب والضرب والتهديد بالضرب. وكان يؤخذ بعين الاعتبار مدى خطورة إصابة المجني عليه، وظروف ارتكاب الجريمة، مثل ارتكابها ليلاً أو هيكل أو في السوق العامة. وكان القانون البطلمي يفرد نصًا خاصًا للاعتداء على الموظفين في أثناء تأدية عملهم. وكان تقدير الأضرار يبنى على أساس أقوال المجني عليه، ومع ذلك فإنه كان يمكن ترك ذلك لتقدير القاضي. وكان يمكن إنهاء النزاع بالمصالحة.


وهناك سلسلة أخرى من الجرائم التي كانت القوة تستخدم فيها كالسرقة بالإكراه، وابتزاز الأموال، والطرد عنوة من مسكن، والحيلولة دون تنفيذ الإجراءات القانونية، والاعتداء على الممتلكات.


وكان السرقة تعتبر أهم الجرائم ضد الممتلكات، وكان يزيد من خطورة الجرم عدة ملابسات، مثل ارتكاب ليلاً، أو مع حمل السلاح، أو إشتراك عدد من الأشخاص في ارتكابه، أو السطو ليلاً على المنازل، أو انتهاك حرمة معبد’.


وكان الأفراد المجني عليهم هم الذين يقيمون الدعوى في الجرائم المرتكبة ضدهم، وإن كان يبدو أنه في حالة الجرائم الخطيرة كانت الدولة تتولى ذلك. ويتبين من الوثائق أنه على الأقل في جرائم السرقة كان يحكم برد المسروقات أو بتعويض وكذلك بعقوبة معينة كانت عادة مصادرة أملاك المجرمين، وفي بعض الحالات دفع غرامة مالية.


ويحدثنا ديودوروس بأن القانون المصري كان يحتم على الذين يريدون احتراف السرقة تسجيل أنفسهم لدى كبير اللصوص وتلسيمه في الحال ما يسرقون، وبأن الذين يسرق منهم شيء كان عليهم الاتصال بهذا الشخص وإبلاغه عما سرق منهم، مع بيان الزمان والمكان اللذين وقعت فيهما السرقة. وبهذه الطريقة كان يعثر على كافة المسروقات في الحال، وكان أصحابها يستطيعون استردادها بعد دفع ربع قيمتها. ويفسر ديودوروس الدافع على إصدار مثل هذا القانون بأنه كان يتعذر منع الناس جميعًا من السرقة، ولذلك أوجد المشرع وسيلة لاستعادة المسروقات إلى أصحابها لقاء فدية متواضعة.


فهل نستطيع قبول رواية ديودوروس؟ لا جدال في أن هذا التشريع يبدو غريبًا لنا، لكن ليس إلى حد اتحالة تصور وجوده، ولاسيما إذا أدركنا أنه يوجد شبه بينه وبين القانون الإنجليزي الذي يسبغ حمايته على عملاء اللصوص الذين يجمعون على أرض إنجليزية أسلاب السرقات التي ارتكبت في الخارج ويعيدونها لأصحابها لقاء فدية معينة. وعلى ضوء ذلك نرجح أن العبارة (phores) الواردة في بردية إغريقية تتضمن قائمة تعداد كان يقصد بها "ثمانية لصوص" وليس "ألباحثين عن المسروقات" على نحو ما ترجمها ناشر وهذه الوثيقة الذين علقوا على ذلك بأنهم يستبعدون إثبات اللصوص في قائمة تعداد رسمية باعتبارهم ينتمون إلى مهنة معترف بها. وإذا صح ما رجحناه لترجمة هذه العبارة فإنه يتبين أن البطالمة استبقوا التشريع المصري القديم الخاص باللصوص وكان يتضمن الاعتراف بمهنتهم. ولماذا يشير هذا غرابتنا واستنكارنا، فهل امتهان السرقة أحط من امتهان الدعارة الذي كانت دولة البطالمة تبيحه وما زالت كثيرة من الدول تبيحه حتى يومنا هذا؟ وعلى كل حال فإن هذا لا يمكن أن يستقيم مع ما أسلفناه من فرض عقوبات على اللصوص إلا إذا كانت هناك تفرقة بين اللصوص المسجلين واللصوص غير المسجلين، أو بين طرق ارتكاب السرقة وأنواع المسروقات وقيمتها.


وتلي السرقة في الأهمية جرائم إلحاق الأضرار بالممتلكات، مثل إطلاق المياه على الأرض المنزرعة، والاعتداء على الماشية، وتدمير المحاصيل، وإتلاف الوثائق، وقطع الأشجار، وسد قنوات الري، وقطع الجسور، ويدخل في نطاق الجرائم ضد الممتلكات جرائم الخداع والتدليس، مثل تزوير الوثائق، والتدليس في المعاملات التجارية، والتعاقد مع أشخاص قاصرين.


ووفقًا للقانون البطلمي كان لا يحق إلا للشخص الذي لحقه ضرر من جراء جريمة من الجرائم سالفة الذكر رفع الدعوى للحصول على تعويض مناسب وكذلك لا تزال العقاب بالمجرم.


ثالثًا: أما عن جرائم الخيانة العظمى، فيلاحظ أن القانون البطلمي كان لا يفرق بين الدولة والتاج، ويعتبر الجرائم التي ترتكب ضد الدولة جرائم ضد التاج. وقد ترتب على حق الملوك الإلهي أن مثل هذه الجرائم كانت تعتبر ذات طابع ديني وتوصف بأنها كفر (asebeia). وكانت هذه الجرائم تشمل العيب في الذات الملكية، والخروج على الملك، والحنث باليمين الملكية ويبدو أن الدولة هي التي كانت تقيم الدعوى عادة في مثل هذه الجرائم. ولا نستطيع أن نتبين من الوثائق العقوبات التي كانت تفرض على مرتكبي هذه الجرائم وإن كانت إحدى الوثائق توحي بأنه في بعض الحالات كانت تفرض غرامات معينة.


رابعًا: أما جرائم سوء استخدام الحقوق فإنها كانت في عصر البطالمة تغيير الجنسية (Patridos) واللقب (Onomaton) بطريق غير مشروع. وكان الموظفون الذين يسمحون بذلك يعاقبون بالإعدام.


خامسًا: أما الجرائم الدينية، فإنها وفقًا لما ورد في الوثائق البردية البطلمية كانت تشمل امتهان المقدسات، والسطو على الأماكن المقدسة والاعتداء على حق المعابد في حماية اللاجئين إليها. وكانت العقوبة في هذه الحالات هي الإعدام.


وقد كانت تنفذ عقوبات جسمانية مختلفة تقرب إلى حد كبير من نظام الأخذ بالثأر، فقد كان يقطع لسان الجاسوس وتبتر أيدي مزيفي النقود والذين يطففون الموازين والمكاييل، أو يزورون الأختام، وكذلك الكتبة العموميون الذين يزورون في السجلات أو يمحون شيئًا منها، أو يقدمون عقودًا غير صحيحة. وكان تستأصل أعضاء تناسل من يرتكب جريمة هتك العرض وتجدع أنف المرأة الزانية، أما الزاني فكان يجلد.


وقد قضى البطالمة بسجن الذين يخدعون الإدارة المالية أو يعجزون عن الوفاء بالتزاماتهم نحوها، فإن غالبية المسجونين الذين وصلت إلينا شكاويهم كانوا يطلبون إلى رجال الإدارة المالية مثل الديويكينس والأبيميليتس إطلاق سراحهم أو على الأقل ألا يدعوهم يموتون جوعًا في السجون.


أننا لا نستطيع الجزم إلى أي مدى احتفظ بالقانون الجنائي المصري أو عدل فيه في خلال عهد البطالمة، ولا إذا كان يوجد قانون آخر لنزلاء مصري الأجانب في القانون المدني، فإنه غير محتمل أن هذين العنصرين كانا يخضعان لقانون جنائي واحد.

ليست هناك تعليقات: