السبت، 6 سبتمبر 2008

الععصر البطلمي- عمارة 1

1. المقابر الإغريقية

طباعة أرسل لصديق
ولدراسة فن المعمار في عصر البطالمة سنتناول الكلام عن أقسام هذا الفن المختلفة وهي: المقابر والمنازل والمعابد، عند الإغريق وعند المصريين، ونبين إذا كان الفن المصري والفن الإغريقي قد تأثر أحدهما بالآخر أم بقى كل منهما خالصًا نقيا ...

المقابر الإغريقية


إن بقايا المقابر الإغريقية التي وجدت حتى الآن في الإسكندرية ونقارطيس وأبو صير والفيوم تدل على أنه يمكن تقسيم مقابر إغريق مصر قسمين رئيسين، كان أحدهما عبارة عن حفر منتظمة الشكل أو غير منتظمة، تنحت في الصخر أو تحفر في الأرض، ويختلف اتساعها وعمقها بحسب عدد الأشخاص الذين أعدت لدفنهم، وتغطي بالأحجار والتراب. وهذه المقابر بسيطة جدًا ولا تستحق الإفاضة في الكلام عنها، ولها نظائر كثيرة في مختلف أنحاء العالم الإغريقي، مما يدل على أن الإغريق قد أحشروا معهم طرق دفنهم.

أما القسم الثاني فهو المقابر التي كانت تبنى أو تنحت تحت سطح الأرض وتتألف من نوعين، يسمى أحدهما المقابر ذات الفتحات (Loculi) وكانت توجد في الإسكندرية والفيوم. ويدعى النوع الآخر مقابر الأرائك (Klinai)، ولم يكشف حتى الآن إلا في الإسكندرية فقط، وكان النوع الأول هو الشائع بين الطبقات الوسطى، على حين كان الثاني شائعًا بين الطبقات العليا، لكن ازدياد عدد السكان وضيق الأرض المخصصة للدفن أديا إلى استبدال النوع الأول بالثاني. وقد بدأت عملية الاستبدال في مقبرة الشاطبي وبلغت ذروتها في مقبرة المكس.

ومقابر النوع الأول فئتان، أحداهما لدفن شخص واحد، والأخرى لدفن عدد من الأشخاص. وتتألف مقابر الفئة الأولى من بئر صغيرة بها درج، وفي أسفل جدار البئر المواجه للدرج بنيت فتحة مستطيلة (Loculus) لدفن جثة الميت. وفي بعض الأحيان تؤدي البئر إلى غرفة صغيرة، بني فيها مكان الدفن. أما مقابر الفئة الثانية فهي تتألف عادة من دهليز طويل أو غرفة بنيت في جدرانها فتحات الدفن في صف واحد أو عدة صفوف بعضها بعضًا.

وقد كانت فتحات الدفن تقفل عادة بألواح صخرية، تزينها أبواب وهمية، كانت في أغلب الأحيان مصورة بالألوان، وفي بعضها بالنقش البارز. وطراز هذه الزينة إغريقي عادة ألا نه في حالتين طراز مختلط ففي إحداهما يرينا النصف العلوي عمارة إغريقية بحتًا، على حين أن النصف الأسفل يمثل عمارة مصرية بحتًا، فيما عدا أفريزا إغريقيًا ذا أسنان وسط عناصر مصرية. وفي الحالة الأخرى نجد بابل مصريًا في طرازه، فيما عدا أفريزا إغريقيًا مشابهًا للإفريز سالف الذكر. ونجد هذه الظاهرة أيضًا في بعض أنصاب الموتى التي صنعت على شكل هياكل صغيرة. ويرجح أن تاريخ أقدم هذه الأنصاب يرجع إلى النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد. وتدل القرائن على أن الأبواب الوهمية التي تبدو فيها هذه الظاهرة ترجع إلى حوالي هذا التاريخ. ولما كان اختلاط عناصر العمارة الإغريقية والمصرية اختلاطًا محدودًا طفيفًا على نحو ما رأينا، وكانت الأبواب والأنصاب التي تختلط فيها عناصر العمارة الإغريقية والمصرية قليلة جدًا بالنسبة للتي كانت إغريقية بحتًا، فإننا نستطيع أن نستخلص من ذلك أن مدى اختلاط الحضارتين كان محدودًا جدًا.

وبما أن الدفن في فتحات كان خاصة من خواص الدفن في فينيقيا كالمصاطب والأهرامات في مصر، فإننا نرجح أن أصل ما وجد من هذه المقابر في مصر فينيقي. وتدل زخرفة هذه المقابر ونقوشها ومحتوياتها على أن إغريق مصر قد اقتبسوا هذا النوع من المقابر واستعملوه في مصر طوال عصر البطالمة.

وتستحق مقابر الأرائك أن نوليها قدرًا كبيرًا من الاهتمام، لفرط ما كان يوجه إليها من العناية في إنشائها، ولأنها تمدنا بأدلة منقطعة النظير عن المنازل الإغريقية في عصر البطالمة، إذ يبدو أن الإسكندريين كانوا يبنون بيوت العالم الآخر على نمط بيوت هذا العالم؛ وأخيرًا لأن جدران هذه المقابر كانت مغطاة بزخرفة تلقي شعاعًا قويًا من الضوء على أصل الزخرفة المعروفة باسم زخرفة بومبيي (Pompeii).

وتشبه مقابر الإسكندرية التي من هذا النوع نوعًا من المقابر وجد في بالاتيتزا وبلا وبيدنا بمقدونيا. وكانت هذه المقابر المقدونية تتألف من غرفتين: أحداهما خلف الأخرى، وتسمى الفرقة الأمامية بروستاس (Prostas) والغرفة الخلفية أويكرس (Oikos). وكانت هذه الفرقة الخلفية هي الغرفة الرئيسية في المقبرة، وفيها كان يدفن الميت فوق تابوت في شكل الأريكة (Kline) ويحدثنا باوسانياس بأن الإسكندر الأكبر دفن في منف وفقًا للتقاليد المقدونية، مما حدا ببعض العلماء إلى الاستنتاج بأنه دفن في مقبرة من هذا النوع.

ويبدو أن مقابر الإسكندرية التي من هذا النوع لم تقلد مقابر مقدونيا المشابهة لها تقليدًا تامًا، لأن مقابر مقدونيا كانت لا تتألف إلا من غرفتين فقط، أما في الإسكندرية فقد أضيف إلى هاتين الغرفتين بهو خارجي مكشوف أمام البروستاس الغرفة الخارجية، يبين أنه كان نقطة بداية حفرة المقبرة في الصخرة، وأنه لم يوجد له مثيل في مقابر مقدونيا لأنها كانت تبنى في باطن الأرض. وقد كانت الأويكوس (الغرفة الخلفية) في مقابر مقدونيا أكبر من البروستاس على عكس ما كانت عليه الحال في الإسكندرية، حيث كانت توجد في هذه الغرفة إلى جانب الجدران مقاعد طويلة للمعزين أو الزائرين، وفي وسط هذه الغرفة مذبح لتقديم القرابين. وليس لهذه المقاعد ولا للمذابح أثر في مقابر مقدونيا. يضاف إلى ذلك أن الغرفة الخارجية في مقابر الإسكندرية كانت تستخدم كذلك للدفن بعمل فتحات في جدرانها، وهذا يتفق مع المبدأ الإسكندري القائل بدفن أكبر عدد ممكن في أقل حيز ممكن. وفي مقابر مقدونيا كانت الجثة تدفن فوق الأريكة، أما في الإسكندرية فإن الأريكة كانت تجوف وتدفن الجثة في داخلها، ولعل سبب ذلك رطوبة الجو في الإسكندرية. وعلى الرغم من هذه الاختلافات، فإن تقسيم المقبرة هذا التقسيم الواضح إلى أويكوس وبروستاس لم يعرف إلا في مقدونيا وفي الإسكندرية.

ونحن نرى أنه يمكن ترتيب هذا النوع من مقابر الإسكندرية ترتيبًا زمنيًا، بحسب قرب الشبه بينها وبين مقابر مقدونيا، وبحسب طراز زخرفتها، وبحسب تطورها تدريجيًا من مقبرة ذات أريكة مثل مقبرة ذات أريكة وفتحات مثل مقبرة الشاطبي، حيث استعملت هاتان الطريقتان في الدفن؛ إلى مقبرة ذات فتحات وأريكة مثل مقبرتي سيدي جابر وحديقة أنطونيادس، حيث لم تستخدم في الدفن إلا الفتحات فقط ولم تكن الأريكة إلا زخرفة بارزة؛ وأخيرًا إلى مقبرة ذات فتحات ومحارب (Niches)، حيث اختفت الأريكة تمامًا وكان الموتى يدفنون في الفتحات والمحاريب.


مقبرة سوق الورديان:

أقرب كافة مقابر الإسكندرية شبهًا إلى المقابر المقدونية، وهي تتألف من كل العناصر التي تمتاز بها مقابر الإسكندرية التي من هذا النوع، وهي سلم وفناء مكشوف وبروستاس وأويكوس، تقع جميعها على محور واحد. وتدل بقايا هذه المقبرة على أنها أقيمت في الأصل لدفن شخص واحد، إلا أنها استخدمت فيما بعد لدفن عدة أشخاص في فتحات صنعت في جدران المقبرة فشوهت زخرفتها الأصلية. وقد قلدت زخرفة جدران هذه المقبرة جدرانًا مزينة بألواح من مختلف أنواع المرمر قطعت وصفت بحيث تبتدئ وتنتهي ألواح كل صف في منتصف ألواح الصف الذي يعلوه. ويسمى هذا النوع من الزخرفة طراز بومبيي الأول لزخرفة الجدران.


وقد وجدت أمثلة لهذا الطراز من الزخرفة في دهليز مقبرة في بيدنا وفي مقابر بجنوب روسيا وكذلك في بعض مباني برجام وبرايني وديلوس وإيطاليا، فأين كان موطن هذا الطراز؟ قد يميل البعض إلى الاعتقاد بأن مقبرة بيدنا أولى من غيرها بهذا الفضل، لأن الإسكندرية التي أخذت عن مقدونيا هذا النوع من المقابر لابد من أن تكون قد أخذت عنها هذا الطراز من الزخرفة أيضًا. ولكن مقبرة بيدنا هي المثل الوحيد الذي نعرفه عن استخدام هذا الطراز في مقدونيا، ثم أنه لم يستخدم إلا في مكان ثانوي هو دهليز المقبرة المؤدي إلى الغرفة الأمامية. ويضاف إلى ذلك أنه لا يوجد أي دليل على أن مقبرة بيدنا أقدم من مقبرة سوق الورديان، هذا لا يوجد أي دليل على أن مقبرة بيدنا أقدم من مقبرة سوق الورديان، هذا إلى أن مقابر الإسكندرية لم تقلد مقابر مقدونيا إلا في النوع فقط، وحتى ذلك التقليد لم يكن تامًا. وفي الواقع أنه من الخطأ، عند وجود الظاهرة نفسها في مقدونيا وفي الإسكندرية، أن نفترض دائمًا أن هذه الظاهرة مأخوذة من مقدونيا. أما فيما يخص جنوب روسيا، فإن المعروف عن ميل فن هذا الإقليم إلى الخضوع لتأثير الفنون الأجنبية ومن بينها الفن الإسكندري يضعف إسناد الفضل إلى جنوب روسيا. ولابد إذن من أن ترجح كفة الإسكندرية، عندما ندرك أن أقدم المباني التي استخدم فيها هذا الطراز من الزخرفة في برجام وبرايني وديلوس وإيطاليا متأخرة عن مباني الإسكندرية التي استخدم فيها هذا الطراز. ذلك أن تاريخ مباني برجام يرجع إلى ما بعد بداية القرن الثالث، ولا يمكن إرجاع تاريخ مباني برايني وديلوس وإيطاليا إلى ما قبل القرن الثاني قبل الميلاد، على حين أن هذا النوع من الزخرفة استخدم في الإسكندرية في مقبرتي سوق الورديان والأنفوشي وكذلك في السياج المقدسي الذي وجد فيه مذبح الإلهين المنقذين. ونحن نعتقد أن مقبرة سوق الورديان ترجع إلى حوالي عام 300 ق.م.، ومقبرة الأنفوشي إلى النصف الأول من القرن الثالث، والسياج المقدسي إلى عام 280-270 ق.م.

بيد أن البعض يستنتج من زخرفة الجدران في آسيا الصغرى بألواح من الرخام مختلفة الألوان قبل العصر الهلينيسي أن آسيا الصغرى هي موطن هذا الطراز من الزخرفة لكن يبدو أن صاحب هذا الرأي قد نسى أمرًا هامًأ، وهو أن المدار الحقيقي للبحث ليس: أين نشأت زخرفة الجدران بالأحجام المونة ـ فإن ذلك كان يستخدم منذ عهد بعيد قبل العصر الهلينيسي وكان معروفًا عند الأشوريين والكلديين والمصريين في عهد الدولة القديمة ـ وإنما أين قلد بالألوان لأول مرة هذا النوع من الزخرفة.

وإذا عرفنا أن طريقة الزخرفة الآشورية والكلدية كانت مستعملة عند المصريين منذ مدة طويلة، وأن أعمال التنقيب المنظمة في المنطقة التي كانت تقوم عليها قصور البطالمة أثبتت استخدام زخرفة الجدران بالأحجار الملونة هناك، وأن مقابر الإسكندرية في عصر البطالمة ترينا تقليد هذه الزخرفة بالألوان، وأن تاريخ قصور البطالمة ومقابر الإسكندرية أقدم من المباني الهلينسية الأخرى المزينة بالطريقة نفسها، فيجب أن نقرر أن الإسكندرية كانت موطن الزخرفة المعروفة بطراز بومبيي الأول. وترينا مقارنة هذه الزخرفة البطلمية بالزخرفة الفرعونية أنه إذا كانت الفكرة مصرية أو عرفت عن طريق المصريين، فإن طرازها إغريقي بحث.

ونستخلص مما مر بنا أنه ليس في طراز عمارة هذه المقبرة أو زخرفتها أي أثر مصري، ونستدل من قرب الشبه بين هذه المقبرة وبين مقابر مقدونيا، ومن عدم وجود فتحات للدفن في بنائها الأصلي، ومن وجود مذبح بطلمي قديم في غرفتها الخارجية، ومن طراز زخرفتها أنها أقدم مقابر الإسكندرية التي من هذا النوع، وأنها ترجع إلى حوالي عام 300 ق.م.


مقبرة الشاطبي :


على الرغم من أن هذه المقبرة أكثر تعقيدًا من مقابر سوق الورديان الأنفوشي وسيدي جابر، فإننا نستطيع أن نرى فيها، بمثابة نواة البناء كله، جميع العناصر الأساسية التي تتكون منها تلك المقابر، وهي أيوكوس صغيرة (g) أمامها بروستاس أكبر منها (g) وتؤدي إلى فناء كبير على نفس المحور، وإلى جانب الفناء صالة موازية له تؤدي إلى دهليز يبدأ من مدخل المقبرة (a) ويبدو أن المقبرة كانت لا تتألف في الأصل إلا من هذه الأجزاء، لكنها عندما لم تعد مقبرة خاصة أضيفت إليها أجزاء جديدة تتألف من أربع غرف، كانت اثنتان منها (b.c) إلى جانبي الدهليز والثالثة (e) والرابعة (ا) إلى جانبي الصالة والفناء على التوالي. ويبدو كذلك أن هذه المقبرة صممت في الأصل على نمط البيت، فإنها ترينا كل الأجزاء التي كان يتكون منها البيت الإغريقي عادة وهي: مدخل ودهليز وفناء وبروستاس وأويكوس.

وقد استخدمت في هذه المقبرة طريقتان للدفن، وإحداهما هي طريقة الدفن في الأريكة وذلك في الأويكوس حيث لا تزال توجد أريكتان، والأخرى هي طريقة الدفن في فتحات وذلك في باقي الغرف الأخرى. لكن بينما كانت فتحات البروستاس معاصرة لأريكتي الأويكوس، كانت فتحات الغرف الأخرى متأخرة عن ذكل. ومن الطريف أن نسجل هنا ما لا خظناه من أن أحد علماء الآثار النابهين قد تصور خطأ أنه لا توجد في أيوكوس هذه المقبرة أريكتان بل ثلاث أرائك، ومضى في خطئه إلى حد أنه بنى عليه فكرة جديدة وهي أن غرف الدفن الرومانية ذات التوابيت الثلاثة كانت تطورًا طبيعيًا لغرف الدين البطلمية ذات الأرائك الثلاث.

وقد زين البناء الأصلي في هذه المقبرة بزخرفة معمارية، تتكون من أنصاف أعمدة دورية وأيونية بينها نوافذ وأبواب وهمية، ومن ثم فإننا نجد هنا ذلك الطراز من الزخرفة الذي ثبت استخدامه في زخرفة قصر صلا، حيث تظهر بين الأعمدة أقواس ونوافذ ومحاريب (Niches). ويبدو أن هذا الطراز من الزخرفة المعمارية قد بدا في الشرق، فإنه وجد في بناء مجلس شيوخ مليتوس، وفي القاعة الجنوبية ببناء سوق ما جنسيا، وفي بعض مباني مدينتي ترمسوس وبرجا، وكذلك في قاعة ولائم بلطميوس الثاني. وعندما نتبين أن قاعة ولائم بطلميوس الثاني ومقبرة الشاطبي يرجعان إلى النصف الأول من القرن الثالث، على حين أن الأمثلة الأخرى لهذا الطراز من الزخرفة المعمارية خارج مصر ترجع إلى العصر الهلينسي المتأخر، فإنه يتضح جليًا ابن نشأ طراز الزخرفة المعمارية أو طراز بومبني الثاني لزخرفة الجدران. ومن الإسكندرية انتشر هذا الطراز شرقًا وغربًا.

وتلي ذلك مشكلة معرفة أين نشأت فكرة تقليد هذه الزخرفة المعمارية بالألوان. أمن الإسراف في الرأي القول بأن ذلك قد حدث حيث ظهرت الزخرفة الأصلية؟ أننا ننادي بهذا الرأي، ولاسيما أن هذه المقبرة نفسها تعطينا مثلاً رائعًا لهذا الطراز الجديد من الزخرفة، فإن اللوحة التي سدت بها إحدى فتحات الدفن في الغرفة (e)، التي أنشئت إلى جانب الصالة، زينت بباب وهمي يعتبر أروع نموذج لما وصل إلينا من فن التصوير الإسكندري، بل نلاحظ أن هذا الباب قد قلد في قصر بوسكوريالي (Boscoreale). وإذا كان هذا الباب وغيره من الأبواب الوهمية الأخرى في هذه المقبرة عناصر زخرفية مفككة لا رابط بينها، فإن غرفة الأريكة في مقبرة سيدي جابر تعطينا مثلاً كاملاً للزخرفة المعمارية المصورة بالألوان. ومهما وجد من النقص في هذه الأمثلة المبكرة، وأنها ترينا على الأقل اتجاه الإسكندريين نحو تقليد الزخرفة المعمارية بالألوان.

وتظهر من أول نظرة الروح الإغريقية التي تصطبغ بها العمارة والزخرفة في مقبرة الشاطبي، حتى لتبدو كأنها بيت إغريقي مزخرف بعناصر معمارية. ويدل طراز بناء هذه المقبرة وزخرفتها وما عثر فيها من الآنية على أنها حولت إلى مدفن عام حوالي آخر القرن الثالث مما أفضى إلى إدخال إضافات جديدة عليهما.


مقبرة سيدي جابر:

تدل بقايا هذه المقبرة على أنها تشبه في التصميم مقبرة سوق الورديان، وعلى أنها كانت تتألف في الأصل من العناصر الرئيسية نفسها، أي من فناء وبروستاس وأويكوس على المحور نفسه، لكنه أضيفت إليها فيما بعد غرفتان إلى جانبي الفناء، ونستدل على ذلك من حالة هاتين الغرفتين وما فيهما من الفتحات. ونلاحظ أنه توجد في هذه المقبرة أيضًأ فتحات للدفن معاصرة للأريكة ـ كما هي الحال في مقبرة الشاطبي ـ إلا أن الصلة بين الفتحات والأريكة هنا أقوى مما هي في مقبرة الشاطبي، لأنه لا توجد في الأويكوس أريكة فحسب بل كذلك فتحة فوق الأريكة مباشرة، هذا إلى أن الميت لم يدفن في الأريكة، وإنما في هذه الفتحة، فلم تكن الأريكة إذن إلا حلية شكلية فقط.

ونرى في البروستاس والأويكوس اتجاهًا جديدًا في الزخرفة، لعله أقل اكتمالاً في الغرفة الأولى منه في الثانية بسبب الاختلاف بينهما في الاتساع، إذ أن الغرفة الأولى أكثر اتساعًا من الثانية. وعلى كل حال فقط طليت جدران الغرفتين بالألوان، بحيث تبدو في شكل جدران واطئة مزينة بالأحجار الملونة وتنتهي بحافة (كورنيش) معمارية تظهر السماء فوقها. ويبدو أن الفنان قد تغلب إلى حد في طلاء الأويكوس على التردد الذي خالجه في طلاء البروستاس، فأظهر الأويكوس في شكل مظلة ذات أعمدة تقف في الأركان وتصل بعضها ببعض جدران واطئة وطاقات من الورود والأزهار. وإلى جانب ذلك فإن فتحات الدفن في الأويكوس والبروستاس زينت بزخرفة ملونة من الطراز المعماري.

وجلى أن الفنان كان لا يزال مترددًا في استخدام طراز الزخرفة الجديدة استخدامًا شاملاً، لأنه اكتفى ببعض العناصر التي تكشف لنا عنسيول عصره. ولوا هذا التردد لصور لنا بالطلاء الأعمدة والأبواب والنوافذ الوهمية التي رأيناها في مقبرة الشاطبي مصورة تصويرًا بارزًا أو بعبارة أخرى منحوتة. ومع ذلك فإن زخرفة مقبرة سيدي جابر ترينا أن فكرة الزخرفة المعمارية، التي نفذت بالنحت في تزيين الأجزاء الأصلية في مقبرة الشاطبي، ونفذت عناصر مفككة منها بالألوان في زخرفة الأجزاء الإضافية في تلك المقبرة، قد صورت كاملة بالألوان في تزيين أويكوس مقبرة سيدي جابر.

إن دفن الميت في الفتحة بدلاً من الأريكة على الرغم من وجودها يحتم إعطاء هذه المقبرة تاريخًا متأخرًا عن مقبرتي سوق الورديان والشاطبي، وهو ما يتفق كذلك مع طراز زخرفة هذه المقبرة. وإذا كانت الأجزاء الأصلية في مقبرة الشاطبي ترجع إلى حوالي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وأجزاؤها الإضافية إلى أواخر ذلك القرن، فأننا اعتمدنا على طريةق الدفن التي اتبعت في مقبرة سيدي جابر وعلى طراز زخرفتها قد لا نعدو الحقيقة إذا أرجعنا هذه المقبرة إلى النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد.


مقبرة حديقة أنطونياس:

وتتألف هذه المقبرة من سلم منحوت في الصخرة يؤدي إلى فناء ذي أعمدة، تقوم إلى جانبيه الشرقي والغربي غرفتان بهما فتحات للدفن. وإلى جانبه الشمالي في مواجهة السلم الغرفة الرئيسية، أي غرفة الأريكة. وتتفق هذه المقبرة مع مقبرة سيدي جابر في ظاهرتين، وهما أن بالمقبرتين فتحات للدفن معاصرة للأريكة، وأن الفتحات وحدها هي التي استعملت للدفن. لكن على حين أنه في مقبرة سيدي جابر وجدت الأريكة كاملة، فإنه في مقبرة حديقة أنطونيادس اتخذ مكان الأريكة شكل محراب كبير (Niche) صورت أريكة على جداره بنقش بارز.

ونجد ظاهرة جديدة في تصميم هذه المقبرة، فإن فيها فناء وأويكوس مثل ما في البناء الأصلي لمقابر سوق الورديان والشاطبي وسيدي جابر لكنها تختلف عن هذه المقابر من حيث أنه لا توجد بها بروستاس، وأنه تحيط بكل من جوانب الفناء، الشرقي والغربي والشمالي. غرفة. ونحن نرى أنه إذا كانت مقبرة الشاطبي تشبه المنازل الإغريقية الشائعة في برايني خلال القرن الثالث قبل الميلاد، فإن هذه المقبرة تشبه المنازل الإغريقية الشائعة في ديلوس في خلال القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك بسبب افتقار هذه المقبرة إلى بروستاس وتمتعها بفناء ذي أعمدة غير مكتمل العناصر لكن تحيط بجوانبه غرف على نحو ما نرى في منازل ديلوس. ويجب ألا نخلط بين هذا الفناء وبين الصالة الوسطى في المنازل المصرية، إذ أن هذا الفناء مكشوف وبه أعمدة، وهو في نظرنا تطور طبيعي للفناء الذي وجدناه في المقابر السابقة، على حين أن الصالة الوسطى المصرية مغطاة وليست بها أعمدة، وتقع في وسط المنزل كنتيجة طبيعية للطريقة التي كانت تتبع عادة في تقسيم التصميم المألوف في المنازل المصرية. وتتضح صحة افتراضنا بأن الفناء ذا الأعمدة الموجود في منازل ديلوس وفي مقبرتي حديقة أنطونيادس والمكس لم يكن إلا تطورًا طبيعيًا للفناء الإغريقي القديم، من مقارنة منازل برايني بمنازل ديلوس، ومن الإطلاع على تصميم منزل في برايني حول من طراز منازل القرن الثالث إلى طراز منازل القرن الثاني بإزالة البروستاس منه وإضافة غرف حول الغناء. هذا إلى أن الإغريق في مختلف العصور كانوا يصفون الغرف حول فناء داخلي لتستمد منه الضوء الذي ينيرها. ويؤيد اعتقادنا بأن تصميم مقبرتي حديقة أنطونيادس والمكس تصميم إغريقي وجه الشبه بين هذا التصميم وتصميم منزل كشف عنه في بلدة صغيرة بالقرب من كورنثة.

وقد غطيت جدران هذه المقبرة بطبقة من الجبس وطليت بالألوان، لكنه لم توجد إلا في الأويكوس بقايا طفيفة من هذه الألوان يتعذر معها معرفة الطراز الذي اتبع في الزخرفة. لكن المقبرة زينت إلى جانب ذلك بزخرفة معمارية بارزة يبدو فيها بجلاء تقدم طراز الزخرفة المعمارية، مما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسكندرية كانت موطن هذا الطراز من الزخرفة .

ولم توجد في هذه المقبرة نقوش ولا بقايا يمكن الاستعانة بها في تاريخها، لكن بعض ظواهرها تساعدنا على إعطائها تاريخًا تقريبيًأن فإن وجود أريكة بها ولو بالنقش البارز، ووجود فناء ذي أعمدة وإن كان غير كامل، يستبعدان وضعها في العصر الروماني. وبما أنها إذن من عصر البطالمة. فإننا نستطيع معرفة تاريخها بالتقريب من مقارنتها بالمقابر البطالمة، فإننا نستطيع معرفة تاريخها بالتقريب من مقارنتها بالمقابر البطلمية الأخرى. ويدل طراز زخرفتها وعمارتها وشكل أريكتها على أنها متأخرة عن مقبرة سيدي جابر. ولما كانت الأريكة قد صورت على جدار محرابها، على حين أنه لم توجد مثل هذه الظاهرة في محاريب مقبرة المكس، فلابد إذن من أنها سابقة على هذه المقبرة الأخيرة. وإذا كانت مقبرة سيدي جابر ترجع إلى النصف الأول من القرن الثاني ومقبرة المكس إلى القرن الأول، فلا يبعد أن مقبرة حديقة أنطونيادس ترجع إلى النصف الثاني من القرن الثاني. ويجب أن تؤكد أخيرًا أن هذه المقبرة إغريقية بحت في تصميمها وفي عمارتها وفي زخرفتها.


مقبرة المكس:

تمتاز هذه المقبرة بأربع ظواهر، وهي: تعقد تصميمها، وزوال الأركية منها زوالاً تمامًا، وظهور قاعات المحاريب التي استخدمت هي والفتحات في الدفن، ووجود فناء كامل ذي أعمدة. ويبدو أما أن زخرفة هذه المقبرة لم تتم أو أنها اقتصرت على الزخرفة المعمارية، وهذا دليل آخر على حب الإسكنرديين لهذا الطراز من الزخرفة. وفي رأينا أن هذه المقبرة أيضاً إغريقيية في تصميمها وعمارتها وزخرفتها.

إن عدم وجود أرائك في هذه المقبرة، على حين أنه لا توجد بها قاعات محاريب وفتحات، وهي من مميزات المقابر الرومانية في الإسكندرية، يشير إلى تاريخ هذه المقبرة المتأخرة. لكن بما أن عمارتها من الطراز الهلينيسي، وبما أن شكل ما بها من قاعات المحاريب يختلف كثيرًا عن الشكل الشائع في العصر الروماني، فإننا لا نخطئ إذا وضعنا هذه المقبرة في القرن الأول قبل الميلاد، ورأينا فيها مرحلة الانتقال من العصر الهلينيسي إلى العصر الروماني.

ليست هناك تعليقات: