السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- االثورات القومية 1

العصر البطلمي arrow الثورات القومية arrow الثورة الأولى

1.الثورة الأولى

طباعة أرسل لصديق
وليس من العسير أن نتصور شقاء المصريين ، إذ أنهم لم يكونوا خاضعين لملوك غرباء فحسب بل كذلك لجنس غريب بأسره تغلغل في جميع نواحي حياة البلاد ، فلم تنج طبقة واحدة من المصريين من استبداد البطالمة واستغلال الإغريق .

وقد عرفنا كيف أثل البطالمة كاهل المصريين بالضرائب الفادحة والتكاليف المرهقة، وكيف وضعوا يدهم على كل موارد البلاد بشكل لم يسبق له مثيل، حتى في عهد الآشوريين أو الفرس أنفسهم، وكيف استولى الإغريق على أرفع المناصب وأخصب الضياع وأوسعها بل امتدت أيديهم حتى إلى داخل المنازل، وكيف قضى البطالمة على الأرستقراطية الأهلية الدنيوية، وكيف أذلوا الأرستقراطية الدينية والمحاربين المصريين. فلا عجب إذن أن نبضت قلوب المصريين بكراهية الأجانب، وأن انفجر مرجل غضبهم في وجه مغتصبي بلادهم، فقد تضافر في إشعال لهيب الثورات المصرية عاملان لهما أقوى الأثر في حياة الناس في كل زمان ومكان، وهما العامل القومي والعامل الاقتصادي. ويريد بعض المؤرخين إلقاء كل تبعة هذه الثورات على بطلميوس الثاني، لأنه حتى إذا كان بطلميوس الأول يشارك أبنه آراءه التي أكسبت مصر طابعها في عهد البطالمة، فإن الظروف المحيطة به لم تمكنه من تنفيذها، إذ يحتمل أن يكون الإسكندر الأكبر قضى على الاحتكارات القديمة وأنه لم يعد إنشاءها إلا بطلميوس الثاني، ولأن بطلميوس الثالث لم يفعل إلا أنه أقتفى أثر سياسية أبيه.

ونحن نرى أنه إذا كان يجب أن يتحمل بطلميوس الثاني الجانب الأكبر من تبعة الثورات المصرية، بسبب ما نستدل به من وثائق عصره على شدة عطفه على الإغريق ومعاملتهم معاملة ممتازة، واختفاء المصريين من المراكز الرفيعة في الحكومة، وتضييق الخناق على رجال الدين المصريين، وبسبب ذلك النظام الاقتصادي والمالي الصارم الذي أرهق المصريين، فلابد من أن يتحمل بطلميوس الأول وسائر البطالمة جانبًا من هذه التبعة، لأنهم لم يحاولوا إنشاء دولة قومية، ولأنها يبدو من القليل الذي نعرفه عن بطلميوس الأول أنه وإن كانت الظروف قد فرضت عليه أن يتوخى جانب الاعتدال في معاملة المصريين في بداية حكمه، إلا أنه مع ذلك قد وضع أساس معاملة المصريين معاملة المقهورين المغلوبين على أمرهم، ومعاملة الإغريق معاملة السادة. وقد أقتفى أثر هذه السياسة سائر البطالمة حتى المتأخرين منهم، الذين وإن كانوا قد حاولوا منذ عهد بطلميوس الرابع كسب ود المصريين ببعض المنح، فإنهم لم يغيروا هذه السياسة تغييرًا جوهريًا.

بوادر التذمر:

لقد ضاق المصريون ذرعًا بالنظام الاقتصادي والمالي الجديد منذ عهد فيلادلفوس، فإن وثائق زينون تحدثنا عن وقوع اضطرابات بين المزارعين، كانت تنتهي بإضرابهم عن العمل وفرارهم إلى المعابد للاحتماء بالآلهة. ولم تقل عن ذلك شأنًا الاضطرابات التي كانت تنشأ بين المشتغلين بالصناعة والتجارة في كنف النظام الجديد، ولم يفض ذلك إلى الإضراب عن العامل فحسب، بل كذلك إلى تهريب السلع وبيعها دون تصريح. وقد أدت أيضًا مختلف أنواع الخدمة الجبرية إلى اضطرابات واضرابات مماثلة، ولشد ما كانت الحكومة تنزعج من كل هذه القلاقل، فكانت تقابلها بعقوبات صارمة. وقد وجد العيون مرتعًا خصبًا في هذه الحالة، التي لا يمكن تفسيرها بالنقائص الطبيعية في كل نظام جديد لم يألفه الذين يطبقونه ولا الذين كان يطبق عليهم. فقد كان السبب أبعد مدى من ذلك، لأن النظام لم يكن صارمًا فحسب، بل كان تطبيقه في فبضة أجانب اعتبروا أنفسهم أرفع قدرًا وأعظم شأنًا من المصريين، ولم يتكلموا اللغة المصرية بل أرغموا على الأقل بعض المصريين على تعلم لغتهم الأجنبية. وكانوا لا يعبدون آلهة البلاد بل آلهتهم الأجنبية التي أحضروها معهم، ولا يحيون الحياة التي كان المصريون يألفونها بل حياتهم الخاصة، وكان يرغمون أهالي البلاد على بذل أقصى الجهد في استغلال المرافق الاقتصادية. ولم يتحمل المصريون كل ذلك في سبيل آلهتهم أو ملوكهم الوطنيين، الذين يعتنقون نفس المعتقدات الدينيةويتكلمون نفس اللغة ويحيون نفس الحياة، وإنما في سبيل صوالح ملك أجنبي ومن يحيط به من الأجانب، الذين منحهم أفضل المناصب وخير الفرص لإثراء أنفسهم، فظفر الأجانب بالثروة حين حلت الفاقة بالمصريين. وإذا احتاج مصري إلى اقتراض نقود أو بذور، فإنه كان يقترضها عادة من أحد هؤلاء الأجانب، وإذا أراد استئجار قطعة أرض فإنه كان يستأجرها عادة منهم، وفضلاً عن كل ذلك فإنه كثيرًا ما كان يفرض عليه إيواء هؤلاء الأجانب في مسكنه. فلا عجب إذن أن أدرك المصريون أنهم قد أصبحوا غرباء في بلادهم، أداة يجب أن تكون طيعة في خدمة الأجانب، فتملكهم شعور جارف ضد أولئك الدخلاء.

ووسط هذه الظروف كان من اليسير أن يندلع لهيب الثورة لأي سبب، فقد امتلأت النفوس غضبًا وحقدًا، وتوفر جييش الثورة من ملايين الزراع والصناع والعمال الذين لم ينقصهم القادة، فإن النبلاء المصريين وقد عصف البطالمة بمكانتهم وثروتهم وامتيازاتهم، وكذلك رجال الدين قود كيلهم البطالمة بالقيود التي كسرت شوكتهم، كانوا جميعًا يحنون إلى استعادة ما كانوا ينعمون به في الماضي من الكرامة والعزة والنفوذ والثراء. ولم يؤد مضي الزمن إلا إلى ازدياد الهوة بين الفريقين، وساعد على ذلك أيضًا صرامة العقاب، الذي كان يكال للناقمين على سوء الحال. ولذلك فإن الاضطرابات التي بدأنا نشهدها في عهد فيلادلفوس لم تنقطع في عهد خلفائه بل ازدادت عنفًا وشدة. وإذا كانت أشد ثورات المصريين لم تقع إلا بعد انتصارهم في موقعة رفح، فإن ذلك يرجع دون شك إلى أنه كان ينقص المصريين الحافز الذي يعيد إليهم ثقتهم بأنفسهم ويزكي روح الوطنية الكامن في صدورهم، فيخلصوا بلادهم من نير الأجنبي، كما تخلص أجدادهم من الهكسوس بعد حكم دام مدة لا تقل عن قرن.


الثورة الأولى

لقد نشبت أول ثورة شعبية في عهد بطلميوس الثالث في خلال حربه السورية، لكننا لا نعرف عنها إلا النزر اليسير من مؤرخين متأخري العهد، وهما يوستينوس وهيرونيموس المعروف باسم سان جروم، فإن أولهما يحدثنا بأنه لو لم تستدع الملك ثورة داخلية لاحتل كل مملكة السلوقيين، والمؤرخ الثاني أكثر إيجازًأ من ذلك. أكانت هذه الثورة حركة إغريقية دبرها بعض رجال القصر أو قواد الجيش، أم أنها كانت حركة مصرية أفضت إليها العوامل التي دفعت المصريين من قبل إلى الأضراب عمل العمل والاحتجاج على سوء المعاملة؟ ليس هناك ما يبرر الفرض الأول، بينما يبرر الفرض الثاني أن الاستعدادات الكبيرة لفتوحات بطلميوس الثالث الواسعة أنطوت على ازدياد ضغط الحكومة على الأهالي، لأننا نسمع عن القسوة المتزايدة في وسائل الأداة الحكومية وعن مطالبة مزارعي الملك بإيجازات باهظة. فلا يبعد إذن أن هذه الحركة كانت ثورة قومية أدت إليها هذه العوامل، وساعد عليها غياب قوات الحكومة في الخارج، وكذلك فميا يبدو تلك المجاعة التي يذكر قرار كانوب أنها ترتبت على نقص الفيضان عن منسوبه، فسارع بطلميوس الثالث إلى إنقاذ الموقف باستيراد القمح من سوريا وفينيقيا وقبرص وغيرها من الأقاليم. وربما تعزى هذه الثورة أيضًا إلى توزيع اقطاعات كثيرة بين أسرى الحرب الآسيويين، مما أفضى إلى إزعاج المزارعين المصريين.

وإذا عزونا إلى عهد بطلميوس الثالث وثيقة تبتونيس المشهورة، التي يدل خطها على أنها ترجع إلى النصف الثاني من القرن الثالث، فإننا نستطيع نبين شيء عن طبيعة هذه الثورة. إن هذه الوثيقة تشير إلى الخطر المزدوج الذي كان يتهدد سلطان البطالمة، وهو مساوئ رجال الإدارة وعدم إقبال المصريين على العمل. لكن بما أن البلاد كانت تواجه حالة مماثلة غداة رفح، فإنه لا يمكننا الجزم إذا كانت هذه الوثيقة ترجع إلى بداية عهد بطلميوس الثالث أم إلى بداية عهد خليفته، ومع ذلك فإنها على كل حال تبين أسباب ذلك القلق الذي يتصف به النصف الثاني من القرن الثالث.

ويعتقد البعض أنه قد ظهرت في عهد بطلميوس الثالث تلك النبوءة الديمقوتيقية، التي أعطتنا ترجمتها الإغريقية وثيقة بردية من القرن الثالث للميلاد. وتتكشف هذه النبوءة، التي تعرف باسم نبوءة صانع الخارج (Potter's Prophecy)، عن كره عميق للإسكندرية وعداء دفين للأجانب، وتتنبأ بقيام زعيم وطني يحرر البلاد من مغتصبيها، ويعيد العاصمة إلى منف، ويتولى حكم مواطنيه. وتزعم هذه الوثيقة أنها نبوءة ترجع إلى عهد الملك تاخوس (Tachos) (269-260ق.م)، وتروي تاريخ مصر منذ ذلك الوقت في شكل نبوءة، لكنها في الواقع ترجع إلى عهد البطالمة، وتعبر عما يجيش في صدور المصريين من الآلام والآمال إذ ذاك. وإذاكان لا يوجد ما يقطع بظهور هذه النبوءة في عهد بطلميوس الثالث، فإن الظواهر المختلفة التي تدل على بلبلة أفكار المصريين واضطراب أحوالهم عندئذ تحملنا على تصديق ما قاله بوستينوس وهيرونيموس عن ووقع اضطراب في مصر أبان حكم بطلميوس الثالث، وعلى الاعتقاد بأن هذا الاضطراب كان ثورة مصرية، بلغت في الخطورة حدا اضطر الملك معه إلى أن يترك فتوحاته الأسييوية ويعود مسرعًا إلى مصر.

ولقد عرفنا أن سياسة البطالمة الأوائل الداخلية كانت سياسية سيطرة على أهالي البلاد يشارك الملك فيها أعوانه المدنيون والعسكريون الذين كان أغلبهم من الإغريق أما منذ عهد بطلميوس الرابع، فقد اتبع البطالمة سياسة جديدة في معاملة المصريين. ويعتقد البعض أن البطالمة قد استبدلوا عندئذ بسياسة السيطرة على المصريين سياسة إشراكهم في الحكم، لكننا نرى أن الطبالمة وإن كانوا قد غيروا حقًا سياستهم الأولى، إلا أنهم لم يذهبوا إلى حد إشراك المصريين في الحكم، بل اكتفوا بمنحهم بعض الامتيازات وفي الوقت نفسه استمروا يوالون الإغريق بعطفهم. وحسبنا دليلاً على صحة هذا الرأي أن أغلب المناصب الكبرى والضياع والاقطاعات الكبيرة بقيت من نصيب الإغريق، وإن النظام الاقتصادي والمالي الصارم بقى في جوهره كما هو بما ينطوي عليه من إرهاب المصريين.

ليست هناك تعليقات: