السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الحياة الاجتماعية 4

العصر البطلمي arrow الحياة الاجتماعية arrow المصــريون و حالهم على عهد البطالمة

4.المصــريون و حالهم على عهد البطالمة

طباعة أرسل لصديق
ليست لدينا إحصاءات عن عدد سكان مصر في عصر البطالمة، لكنه لا سبيل إلى لاشك في أن نزلاءها الأجانب لم يكونوا إلا أقلية بالنسبة إلى أهالي البلاد، الذين كانوا يعدون بالملايين ، على حين كان الأجانب يعدون بالآلاف. ولكي نتبين حال أهالي البلاد في عصر البطالمة، يجدر بنا أن نذكر الطبقات التي كانوا ينقسمون إليها قبل الفتح المقدوني ثم نتتبع مصيرها في خلال عصر البطالمة.

طبقات المصريين:

لقد كانت تأتي في المقدمة الأرستقراطية بشقيها الدنيوي والديني. وكانت هذه الأرستقراطية تتمتع بنفوذ كبير جدًا في البلاد، وتمتلك مساحات واسعة من الأراضي، وينتمي إليها الفراعنة الوطنيون الذين كانوا يحسبون لها ألف حساب. ولابد من أن الإسكندر الأكبر وبطلميوس الأول قد وجدوا أسرًا مصرية قوية تنتمي إلى هذه الأرستقراطية. اختار منها الإسكندر اثنين أو واحدًا على الأقل من حكام البلاد. ويبدو محتملاً جدًا أنه في عهد بطلميوس الأول كان لا يزال على قيد الحياة نبيل مصري يدعى نكتانيو كان أحد أحفاد نكتانيو. آخر فرعون مصري. ويظن أن أسرته كانت تملك ضياعًا واسعة في مديريات بوتو (Bouto) وتانيس وسبنيتوس. لكن النقوش الجنازية التي تحدثنا عنه لا تذكر شيئًا عن أملاكه، وإن كانت تذكر ألقابه، وأهمها نومارك المديرية الرابعة عشرة في الوجه البحري، وكانت عاصمتها مدينة أطلق الإغريق عليها اسم سيلي (Sele)، وتقع على مسافة أربعة كيلومترات تقريبًا شرقي قناة السويس ومدينة القنطرة، على رأس الطريق المؤدي من مصر إلى فلسطين، وكانت مدينة حصينة ذات أهمية عسكرية. وكان يطلق عليه أيضًا قائد الأجانب في هذه المديرية. فهل معنى ذلك أنه كان قائد الفرق المرتزقة هناك؟ يبعد أن يكون بطلميوس الأول قد وضع مصريًا على رأس فرق مرتزقة إغريقية أو تراقية، لأن نظم الحرب الإغريقية وأسلحتها كان تختلف كل الاختلاف عما ألفه المصريون، إذ أن المصريين لم ينظموا ويسلحوا على نمط المقدونيين إلا منذ الاستعداد لموقعة رفح، كما سلف القول. ولذلك يظن أن هذا النبيل المصري كان يرأس فرقًا من الجنود المرتزقة الشرقيين، وخاصة الساميين الذين كانوا يعيشون في مديريته. وكان يحمل أيضًا لقب "القائد الأعلى لجيوش جلالة الملك"، لكنه لا يحدثنا أي مصدر بأن مصريًأ تولى قيادة جيوش بطلميوس الأول. وإذا كان من المستبعد أن مصريًا كان يتولى قيادة الفرق المرتزقة الإغريقية. فلا يعقل إطلاقًا أنه كان يتولى قيادة الجيش البطلمي بأجمعه، الذي كان يخر بأنه جيش مقدوني ويتألف من فرق مقدونية وإغريقية. ولعل تفسير هذا اللقب هو أنه كان القائد الأعلى للفرق المصرية. وكان يحمل كذلك لقب نومارك المديرية التاسعة بالوجه البحري ، وكانت عاصمتها بوتو وموضعها الحالي تل الفراعين إلى الشمال الشرقي لدسوق ، وكان أيضًا نومارك المديرية الثانية عشرة بالوجه البحري وكانت عاصمتها سبنيتوس. وتذكر الوثائق أيضًا ابسمتيك قائد الجنود في مديرية بوسيريس وكذلك حورس ابن ابسمتيك.

ويجب ألا يستخلص من ألقاب نكتانبو الحربية أنه كان كذلك قائد المديريات التي كان يتولى منصب النومارك فيها. لأن مناصب قواد المديريات كانت من نصيب الأجانب مثل ما كانت مناصب وزراء الملك ومستشاريه. وهذا يدل على أنه إذا كان بطلميوس الأول قد سمح لمصريين مثل هذا الأمير بتولي مناصب إدارية مهمة، فإنه على كل حال لم يعطهم أهم المناصب حتى في الإدارة المحلية. وبما أنه كان يوجد إذن إلى جانب نكتانيو قائد أو أكثر من الإغريق أو المقدونيين، فليس ثمة ما يدعو إلى الدهشة إزاء سماح بطلميوس الأول لأمير مصري بمنصب النومارك في ثلاث مديريات مجاورة لحدود مصر الشرقية.

ولا ندري إذا كان بطلميوس الأول قد اتبع هذه السياسة طوال حكمه أم في شطره الأول فقط، عندما كان شديد الحرص على استتاب أحوال البلاد ليتسنى له الفوز باستقلال ولايته. ولاشك في أن بطلميوس الأول قد وضع يده على كل أراضي الملك. ولا يبعد أيضًا أن يكون قد وسع نطاق هذه الأراضي بمصادرة ولو جانب من أملاك الأرستقراطية المصرية، باعتبار أن كل أراضي مصر ملك للتاج، فهو الذي يهبها لسواه ومن ثم يحق له استردادها متى شاء. بيد أنه لعل مركزه الدقيق في عهد ولايته، ذلك المركز الذي فرض عليه الاعتدال في معاملة المصريين، قد فرض عليه أيضًا توخى الحيطة في نزع ملكية أراضي الأرستقراطية، ولذلك لا يبعد أن يكون قد ترك لها على الأقل بعض أراضيها كما ترك لها بعض النفوذ في الإدارة.

أما بعد عهد بطلميوس الأول، فلا نسمع شيئًا على الإطلاق عن هذه الأرستقراطية المصرية الدنيوية في خلال القرن الثالث. ويرى بعض المؤرخين أن بطلميوس الثاني والثالث قد قضيا عليها، ولا يدري البعض الآخر ماذا كان مصيرها لكنه يرجح أن يكون بعض أفرادها قد اندمجوا في الأرستقراطية الدينية. وهذا قول مردود، لأن الأرستقراطية الدينية كانت وراثية وشديدة الغيرة على مركزها. ونحن نرى أن البطالمة عملوا منذ أواخر عهد بطلميوس الأول على حرمان الأرستقراطية المصرية الدنيوية مناصبها الإدارية، كلما خلا أحد هذه المناصب بوفاة صاحبه أو كلما سمحت الظروف بذلك. ولعل بطلميوس الثاني، الذي تدل أعماله على أنه كان أشد البطالمة مراسا وأكثرهم اهتمامًا بإعادة تنظيم شئون البلاد الداخلية تنظيمًا شاملاً، قد ذهب إلى أبعد مدى في إقصاء الأرستقراطية المصرية عن المناصب الإدارية وفي استرداد كل أملاكها باعتباره صاحب أرض مصر جميعًا. وليس أدل على ذلك من أن كل الضياع والمناصب الرفيعة، حتى في الإدارة المحلية، أصبحت وقفًا على الإغريق. كما مر بنا. ولعله لم يبق من هذه الأرستقراطية إلا أفرادها الذين كانوا يتولون مناصب في الفرق المصرية في الجيش، وحسبنا دليلاً على ذلك أننا عندما نسمع عن هذه الأرستقراطية ثانية في الشطر الثاني من حكم البطالمة، نراها ممثلة في أشخاص لهم صفة حربية مثل ديونيسيوس بتوسيرابيس، الذي كان أحد حاشية الملك ومنح لقب "صديق"، وتولى زعامة الثورة في عهد فيلومتور؛ ومثل باوس (Paos) الذي تولى إخضاع مناهضي بطلميوس الثامن في منطقة طيبة. ونرجح أن ثروة هذه الفئة القليلة من الأرستقراطية، التي بقيت في الجيش، كانت محدودة جدًا مثل الإقطاعات التي سمح بها لابطالمة الأوائل للجنود المصريين، ولم تكن ملكًا حرًا لأربابها بل كانت اقطاعات كالتي منحت لغيرهم من رجال الجيش، ومن ثم كان الملك يستطيع استردادها. وإذا كنا نعرف أنه عندما اتبع البطالمة الأواخر سياسة مشربة بروح العطف نحو المصريين قد ضموا بعضهم إلى حاشيتهم وسمحوا للبعض الآخر بتولي مناصب كبيرة في الإدارة المحلية، فإننا لا نستطيع الجز إذا كان هؤلاء المصريون المحظوظون أو بعضهم ينتمون إلى البقية الباقية من الأرستقراطية المصرية، وإن كان ذلك غير مستبعد.

وتعطينا زخارف مقبرة بتوسيريس فكرة عن الأرستقراطية الدينية في بداية عصر البطالمة، إذ يبدو من نقوش هذه المقبرة أن بتوسيريس كان يملك أراضي واسعة، أو على الأقل يستغل مساحة واسعة من الأراضي. ولاشك في أن بتوسيريس لم ينفرد، في بداية عصر البطالمة، دون غيره من كبار رجال الدين المصريين في طول البلاد وعرضها بامتلاك أراض واسعة أو إدارة ضياع كبيرة، فقد كان رجال الدين يؤلفون في كل أنحاء البلاد جماعات دينية منظمة تنظيمًا دقيقًا، وتتمتع بنفوذ كبير وثروة عريضة. لذلك رأى البطالمة فيهم خطرًا يتهدد كيانهم، ومن ثم فإنهم عملوا على تقليم أظافرهم بإسناد إدارة أراضي المعابد إلى الحكومة، والحد من إمتيازات المعابد، وتعيين مراقب لكل معبد. وبيع مناصب الكهنة. وإرغام رجال الدين على إظهار ولائهم للأسرة المالكة بشتى الطرق. وجملة القول لقد أذل البطالمة رجال الدين المصريين، إلى أن أرغمتهم الظروف بعد موقعة رفح على النزول عن صلفهم وجبروتهم. واتباع سياسة جديدة في معاملة رجال الدين ردت إليهم أغلب إمتيازاتهم. وتدل الوثائق الديموتيقية التي ترجع إلى نهاية القرن الرابع قبل الميلاد على أنه لم يطرأ أي تغيير على حياة الكهنة المصريين في خلال المدة التي حكم فيها بطلميوس الأول مصر بوصفه واليًا. فهل عندما توطدت دعائم حكمه وأصبح ملكًا على مصر، وضع أساس سياسة تقييد الخناق على رجال الدين المصريين؟ أم هل يجب أن نعزو هذه السياسة إلى ابنه فيلادلفوس الذي لا يمكن أن نتصور أنه ترك لهذه الفئة القوية من المصريين أملاكها ونفوذها؟ وعلى كل حال فما من شك في أن رجال الدين المصريين كانوا يرزحون تحت القيود الجديدة، التي فرضت عليهم، منذ بداية القرن الثالث، إن لم يكن منذ بداية حكم البطالمة. ولما كان رجال الدين زعماء المصريين الروحيين، فقد ساهم بعضهم على الأقل في الثورات القومية التي هزت دعائم دولة البطالمة، على حين وقف بعضهم الآخر موقفًا سلبيًا من هذه الثورات. ولعل هذا الموقف السلبي يرجع إلى الأحقاد والمنازعات الوراثية بين كهنة الآلهة المختلفة، أكثر مما يرجع إلى النعم التي والاها البطالمة على الكهنة.

وقد كان الكهنة المصريون، حتى في الشطر الأول من حكم البطالمة، يكونون فئة ممتازة بين الأهالي، فإنهم كانوا يتمتعون ببعض الامتيازات الهامة، مثل إعفائهم من الأعمال جبرية التي كانت تفرض على غيرهم من المصريين، هذا وإن كانت الإدارة لا تحترم دائمًا كانوا يؤدون مهام أعمالهم دون تدخل الحكومة في شئونهم. ويضاف إلى ذلك أنهم كانوا يستمدون بعض الدخل من مهتهم، ومن الزراعة باعتبارهم ملاك أراض داخل نطاق الأراضي المقدسة، ومن الصناعة باعتبارهم مشرفين على ما سمح للمعابد بمزاولته من الصناعات والحرف. ومع ذلك يحتمل أن الجانب الأكبر من دخلهم كان يذهب إلى الخزانة الملكية.

ولا ريب في أنه إزاء انقراض الأرستقراطية الدنيوية تقريبًا، وإزاء المنح التي اضطر ا لبطالمة الأواخر إلى أن يجزلوها للكهنة المصريين، وإزاء مكانة هؤلاء الكهنة ونفوذهم بين الأهالي في طول البلاد وعرضها، أصبحت طبقة الكهنة أهم الطبقات المصرية، حتى أن أحد المؤرخين يذهب إلى حد القول بأن الأرستقراطية المصرية، حتى أن أحد المؤرخين يذهب إلى حد القول بأن الأرستقراطية المصرية في عهد البطالمة لم تتألف إلا من الكهنة. ولا أدل على أهمية طبقة الكهنة المصريين من تلك الامتيازات التي اضطر البطالمة الأواخر إلى منحها لهذه الطبقة أو على الأصح ردها إليها، ومن تلك الوثيقة التي تحدثنا عن وصف استقبال أحد حكام المديريات في أثناء قيامه برحلة تفتيشية، فقد رأينا رجال الدين يأتون في مقدمة المستقبلين ثم يعقبهم سائر فئات السكان، ومن بينهم أرباب الاقطاعات الإغريق.

وقبل عصر البطالمة، كانت تلي الأرستقراطية، بشقيها الديني والدنيوي، طبقة المحاربين المصريين. وقد عرفنا كيف فقدت هذه الطبقة مكانتها الممتازة في حياة البلاد على عهد البطالمة الأوائل، إزاء اعتماد أولئك البطالمة في تكوين قواتهم المحاربة على العناصر الأجنبية، وعدم استخدام الجنود المصريين حتى موقعة رفع إلا في أعمال الجيش الثانوية، وقصر منح البطالمة الأوائل على جنودهم المقدونيين والإغريق. فلا عجب إذن أن شعر الجنود المصريون، كغيرهم من سائر طبقات المصريين، بذل الاحتلال الأجنبي وذاقوا مرارة الإهانة والحرمان، فساهموا في الثورات القومية حتى يعد ما منحوه من الامتيازات عقب موقعة رفح.

ولا شك في أن حال هذه الطبقة قد تحسنت في الشطر الثاني من عهد البطالمة، لكنه كان تحسنًأ نسبيًا بالقياس إلى ما كانت عليه قبل ذلك، إذ أن الجنود الأجانب كانوا لا يزالون يكونون الجانب الأكبر من القوات البطلمية، وكانت الأراضي التي تمنح اقطاعات أكبر من اقطاعات الجنود المصريين، وكانت الأراضي التي تمنح اقطاعات للجنود المصريين في حاجة إلى الإصلاح، هذا إلى أنهم لم يعفوا من الأعباء غير العادية وكانوا يدفعون سدس دخلهم لا شعرة بمثابة ضريبة الأبومويرا. ومع كل ذلك فإن الجنود المصريين أفادوا من مركزهم الجديد، ذلك أنهم لم يعودوا يعتبرون وطنيين (Laoi) بل أرباب اقطاعات (Klerouchoi) ويعاملون معاملة أرباب الاقطاعات الإغريق في الماضي بوجه عام، وبذلك أصبحوا يتمتعون بقدر كبير من الحرية في نشاطهم الاقتصادي. وحقًا كانت إقطاعاتهم صغيرة وفي حالة إلى الإصلاح، لكنه كان يمكن تحسينها وتوسيع رقعتها بشراء أراض أو بإصلاح أراض بور أو مهجورة، وكانوا يضمنون على الأقل من يخلفهم أبناؤهم الذكور في حيازة إقطاعاتهم. ويضاف إلى ذلك أن البطالمة قد أصحبوا أكثر استعدادًا لإزالة مظالمهم خوفًا من قوتهم واستمالة لجابهم، فلا عجب أن بعض المصريين حاولوا الاندماج خفية في طبقتهم قراراً من حالتهم السيئة، ولا عجب أيضًا أن بعض الأجانب المرتزقة أصبحوا في القرنين الثاني والأول قيل الميلاد يقبلون العمل في خدمة البطالمة بالشروط نفسها التي وضعت عندئذ للمحاربين المصريين.

ولما كانت اقطاعات الجنود الأجانب بوجه عام أفضل من اقطاعات الجنود المصريين في المساحة وفي النوع وكان القواد وغالبية الضباط من الأجانب، فإن أرباب القاطاعات الأجانب أصبحوا يؤلفون نوعًا من الأرستقراطية العسكرية، دونها غالبية المحاربين المصريين، وللتفرقة بين هذه الأرستقراطية الأجنبية وبين أرباب الإقطاعات، بل أطلق عليهم لقب لم يعد الفريق الأول يعرف باسم أرباب الإقطاعات من الجنود المصريين، لم يعد الفريق الأول يعرف باسم أرباب الإقطاعات، بل أطلق عليهم لقب مستوطنين (Katioikoi). وجملة القول أنه مهما تحسنت حال الجنود المصريين في الشطر الثاني من عهد البطالمة عما كانت عليه في الشطر الأول، فإنهم لم يرتفعوا إلى مصاف غالبية الجنود الأجانب.

وكانت تلي هذه الطبقة، قبل عصر البطالمة، طبقة الموظفين وكانت تتألف من كتبة مفتاوتي الدرجات. ويبدو أن قئتهم العليا اختفت تدريجيًا، ولم يبق في خدمة الحكومة من الموظفين المصريين إلا فئة صغار الكتبة، وقد اضطروا إلى تعلم اللغة الإغريقية ونظم العمل الجديدة، والخضوع لرءوسائهم الجدد. ويعتبر من أمهر ما قامت به الحكومة الجديدة نجاحها في تعليم هذه الفئة من الموظفين ـ وكانوا عصب النظم الإدارية والمالية والاقتصادية في البلاد ـ اللغة الإغريقية ونظام المحاسبة الإغريقي، ولم تكن المناصب الحكومية التي كان المصريون يستطيعون توليتها في خلال القرن الثالث قبل الميلاد، مثل مناصب عمد القرى (Komarchai) وكتابها (Komogrammateis)، مصدر خير عميم، فإن مسئولياتها كانت أكثر من نفعها. حقًا كان شاغلوا هذه المناصب يتمتعون بمكانة ممتازة في قراهم، لكن هذه المكانة وما يتبعها من النفع لم يكونا عادة عوضًا كافيًا عن عمل هذه المناصب الشاق المعقد، وما كان ينطوي عليه من المسئوليات الجسيمة، ولاسيما ما كان منها خاصًا بدخل الدولة من موارد البلاد الاقتصادية، على نحو ما مر بنا. وقد كان أشقهم عملاً وأكثرهم مسئولية أولئك التاعسون، الذين كانوا يرغمون على القيام يمختلف أنواع الحراسة التي تتصل بالشئون الاقتصادية، فقد كان عليهم أن يراقبوا بحرص شديد كل الذين يؤدون أي عمل لحساب الدولة، وخاصة فيما يتعلق بالزراعة. ولم يكن هذا العمل المضني بغيضًا في حد ذاته فحسب، بل كان ينطوي أيضًا على مسئوليات خطيرة شخصية ومادية، ولذلك كان الأهالي ينفرون من أداء هذه الأعمال ويحاولون جاهدين الفرار منها. وإذا كان في الشطر الثاني من عصر البطالمة قد سمح لمصريين بتولي مناصب رئيسية في الإدارة المحلية، فإن عددهم كان محدودًا بالقياس إلى الأجانب الذين كانوا يشغلون مثل هذه المناصب.

وكان يأتي في مؤخرة الطبقات الاجتماعية ملايين من المصريين كانوا يعيشون في آلاف المدن والقرى المصرية، وكان منهم الزراع والصناع والتجار، ولذلك كانوا عماد حياة البلاد الاقتصادية في عصر البطالمة، مثل ما كانوا في كل ع هد التاريخ المصري الطويل، ومن ثم كانوا أكثر تأثرًا من غيرهم بذلك النظام الاقتصادي الصارم الذي وضعه البطالمة للبلاد. ولما كان الهدف الرئيسي لهذا النظام جعل الدولة أو بعبارة أخرى الملك غنيًا قويًا، فقد كان يتعين تركيز كل جهود الأهالي على تحقيق هذا الهدف. ولذلك كان ينبغي على كل فرد أن يعمل للدولة أولاً وقبل كل شيء، وفقًا لنظام دقيق وضعته الحكومة ويشرف رجالها على تنفيذه تنفيذًا محكمًا، بفضل التبعات التي ألقيت على عاتقها.

وفي كنف هذا النظام، إذا كانت فرص الثراء التي أمام الطبقات الأخرى قليلة، فإنها كانت منعدمة بالنسبة لغالبية المصريين، الذين ألقيت عليهم أثقل الأعباء، فقد كان يتعين على هذه الغالبية أن تخدم موارد الحكومة بطريقة من الطرق، أما بمثابة زراع الملك، أو عمال في مصانعه، أو في مصانع تعمل لحسابه، أو في مصانع تؤدي له ضرائب معينة وتقدم له جانبًا من إنتاجها، أو تجار تجزئة، أو رعاة، أو صيادين، أو يشتغلون بالنقل البري أو المائي، ويدفعون جميعًا ضرائب معينة نظير مزاولتهم أعمالهم. وإلى جانب كل هذه الأعمال العادية، التي كانت الحكومة تستمد منها دخلاً كبيرًا، كان يفرض على الأهالي أداء كثير من الخدمات الجبرية فكثيرًا ما كانوا يرغمون على ترك أعمالهم اليومية للعمل على الجسور والقنوات كل عام، والعمل من وقت لآخر في المناجم والمحاجر، ومن المحتمل أيضًا في صيد الأسماك والحيوانات، وغرس الأشجار والنقل. حقًا أن هذه الأعمال الجبرية لم تكن دون أجر، لكنه كان أجرًا تافهًا. وبرغم كل الأعباء التي أثقل بها كاهل غالبية الزراع والصناع والعمال المصريين، وكانت أشد وطأة مما ابتلوا به في أي وقت مضى، فإن حالهم لم تتحسن لأنه، كما رأينا، ليضمن الملك الفوز بأكبر قدر من الربح عمل على أنقاص تكاليف الإنتاج إلى أدنى حد ممكن، وتبعًا لذلك على عدم رفع مستوى معيشتهم.

وإزاء الالتزامات الثقيلة التي كان المصريون يضطلعون بها، يبدو أنه لم يكن على شيء من اليسر من ملايينهم المشتغلين بالزراعة والصناعة والتجارة إلا نفر قليل، كان بعضهم زراعًا ناجحين وأتاهم التوفيق مرتين: إحداهما في أعالهم الزراعية، والأخرى في الحصول على أذن من لحكومة واستصلاح بعض الأراضي وزرعها كرومًا أو فاكهة، وبذلك أصبحوا في عداد أرباب أراضي الامتلاك الخاص. أما البعض الأخر فكانوا أولئك الصناع الناجحين، الذين لم تحتكر الحكومة صناعاتهم احتكارًا كليًا، وبذلك لم تغلق دونهم باب الكسب إغلاقًا كاملاً.

ولسنا نعرف عن يقين الأساس القانوني الذي كان ينظم علاقات العمل بين الأفراد والحكومة، لكن يحتمل أنه كان في أغلب الحالات يتخذ شكل عقود. وقد كان للعقود بين الحكومة والأفراد الذين يعملون لحسابها طابع خاص، فإنها كانت تحوي شرطًا يقضي بأنه، في حالة عدم وفاة الأفراد بالتزاماتهم، تحصل الحكومة على حقها بتنفيذ الإجراءات المعتادة في حالة المطالبة بحقوق الملك. ويبدو أن معنى ذلك كان حصول الحكومة على حقها بالتنفيذ على شخص المدين، وكان معنى ذلك سجنه واستبعاده.

ومع كل ذلك فإنه الطبقات العاملة المصرية لم تكون عبيدًا يمكن مقارنتهم عبيد الممالك الشرقية أو عبيد العالم الإغريقي، ذلك أنه لم يفرض على المصريين مزاولة حرف بعينها أو البقاء في مكان معين، وكانوا يتمتعون بقسط من الحرية الاجتماعية والاقتصادية بوجه عام وحرية التنقل بوجه خاص. إلا أنهم لم يكونوا أحرارًا بكل معاني الكلمة، فقد كان محظورًا عليهم مغادرة عملهم أو مقره خلال موسم العمل، وكانت ترطبهم بالحكومة قيود لم يكن يتيسر الإفلات منها، إذ كانت تتوقف عليها وسائل حياتهم.

ولم تكن هذه القيود شكلية بل حقيقية، فقد كان موظفوا الحكومة وجباة الضرائب يتدخلون حتى في شئون الحياة الخاصة للذين يعملون في خدمة موارد الحكومة، لأن كل عمل من أعمالهم قد يؤثر في موارد وهي التي كانت أمرًا مقدسًا في نظر الموظفين، فإنها كانت الهدف الأعلى الذي يجب أن توجه إليه جهود الجمع. وقد كان أولئك الأفراد يدركون تمامًا أن حالهم كانت تعني الحكومة من حيث أن سلامة مواردها كانت تتوقف على عملهم. وليس أدل على ذلك مما سبقت الإشارة إليه، وهو أنهم في مظالمهم الكثيرة كانوا لا يستصرخون عدالة الملك فحسب بل كانوا في أغلب الأحيان يؤكدون أن سوء معاملتهم قد يمنعهم من أداء عمليهم، وهو أمر يسيء إلى موارد الملك. فلا عجب إذن أنه وسط هذه الظروف لم يبد المصريون أي حماس أو ابتكار في عملهم.

وجملة القول أن البطالمة قضوا على الأرستقراطية الأهلية الدنيوية، وأذلوا الأرستقراطية الدينية، وحطوا من قدر المحاربين المصريين، وفرضوا أثقل التبعات على الموظفين والزراع والصناع والتجار المصريين. وهكذا لم تنج من بطشهم فئة واحدة من فئات المصريين، وذلك حين اتسولوا على أخصب الأراضي، ومنحوا الإغريق الضياع الواسعة والمناصب الرفيعة والامتيازات المختلفة وجندوا منهم الجانب الأكبر من قواتهم الحربية. وإذا كانت حال الكهنة والجنود وموظفي الحكومة ونفر قليل من الزراع والصناع أفضل من حال الغالبية العظمى من المصريين، فإن حال هؤلاء القلائل من المصريين، الذين كانوا أسعد حظًا من سائر مواطنيهم، كانت أسوأ كثيرًا من حال العناصر الأجنبية، ومن ثم نستطيع أن نتصور الفارق الهائل بين حال الأجانب وحال المصريين بوجه عام.

سياسة البطالمة:

ويرى بعض المؤرخين أن البطالمة لم يتعمدوا إرهاق المصريين، وإن التفرقة في المعاملة لم تقم على أساس الفارق بين جنسية سكان البلاد، وذلك لأن سياسة البطالمة كانت سياسة ملكية لا تكفيها إلا مصلحة أولئك الملوك. ويستدل على ذلك بأن تاريخ ملكية الأراضي في عهد البطالمة عبارة عن حركة تطور، ساهمت فيها كل طبقات السكان دون أية تفرقة في الجنس، وأفضت هذه الحركة إلى إيجاد أنواع من الملكية شبيهة بالملكية الخاصة؛ وبأن المعابد المصرية منحت حق حماية اللاجئني إليها؛ وبأن البطالمة لم ينشئوا للمصريين نظمًا فضائية مهينة تلحق بهم الضرر؛ وبأنه لم يوجد دليل على أن البطالمة لم يحترموا الديانة المصرية؛ وبأ،ه لم تكن للإغريق قانونًا امتيازات خاصة باعتبارهم إغريقًا، إذ أنه لم ينظم الطبقات الاجتماعية بعضها فوق بعض إلا خدمة الملك وعطفه. ولذلك لا يستبعد أن البطالمة قد تشبعوا بسياسة الفراعنة الأقوياء، وعملوا على أن يستغلوا إلى أقصى حد الحق الإلهي الذي جعلهم السادة المطلقين على كل أرض حورس وأهليها ومياهها وثمارها. و من ثم فإنه يقال لنا بدلاً من أن نتصور تاريخ مصر في عصر البطالمة صراعًا بين فريق مصري ضد فريق إغريقي يقوده البطالمة، لماذا لا نتصور أن تطور النظم قد أدى إلى صراع قوي مختلفة ضد الملك. الذي اعتمد حسب الظروف على الإغريق ضد المصريين أو على المصريين ضد الإغريق.

حقًا أن البطالمة كانوا ملوكًا قبل كل شيء. لكنهم كانوا ملوكًا إغريقاً، روحًا وعاطفة. فقد رأينا بطلميوس الثاني يتبع سياسة هلينية نشيطة، ومع ذلك فإنه كان لا يعطف على أساليب الحياة الإغريقية الصاخبة التي تنتقص من سلطته. وقد كانت سياسة البطالمة بوجه عام، والأوائل منهم بوجه خاص، مشربة بروح العطف على الإغريق، لأن هذه السياسة قضت بأن يكون طابع دولتهم طابعًا إغريقيًا، وبأن يمنح الإغريق مركزًا ممتازًا في حياة البلاد، وبأن يقصى المصريون عن المناصب الرفيعة والقوات العاملة. وبأ، يحرموا الضياع الكبيرة، وبأن يستغلوا إلى أقصى حد في ملء خزائن الملك الأجنبي. وعندما اضطر البطالمة الأواخر إلى إفساح المجال أمام المصريين، فإنه إذا كان قد أصاب المصريين أي خير، فإن ذلك كان مقصوراً على المصريين المتأغرقين. وقد عرفنا أيضًا أن البطالمة فرضوا التزامات مالية على الإغريق كما فرضوا على المصريين، إلا أن التزامات الإغريق كانت أخف وطأة وأقل عبئًا. وعرفنا أيضًا أن الجنود المصريين كانوا يمنحون اقطاعات، كما كان يمنح الجنود الإغريق، لكن ما أبعد الفارق بين مساحة ونوع الاقطاعات التي كانت تمنح لكل فريق.

فكيف يمكننا تفسير كل ذلك إذا لم يكن للتعصب أثر كبير في سياسة البطالمة؟ لماذا أقصوا المصريين عن الجيش العامل والمناصب الإدارية الرفيعة؟ يقال أن المصريين كانوا أقل كفاية وولاء من الإغريق. أن البطالمة الأوائل لم يعطوهم الفرصة لإثبات جدارتهم، وعندما فعل بطلميوس الرابع ذلك، أثبتوا تفوقهم في ميادين القتال. وربما يرد على ذلك بأن نتائج هذه التجربة كانت خطيرة. لأن المصريين عندما استشعروا قوتهم ثاروا على البطالمة، لكن سبب هذه الصورة هو المعاملة القاسية التي كانت تكال لهم، على حين كان الإغريق ينعمون بكل خيرات بلادهم. إن أكبر خطأ ارتكبه البطالمة الأوائل هو أنهم لم يحاولوا بناء دولة قومية، فكان ذلك أخطر مواطن ضعفهم، ومرده إلى أن البطالمة خشوا أو لم يريدوا إحساء الأمة المصرية، لاعتقادهم الخاطئ بأن اعتمادهم على الإغريق وحدهم كان كفيلاً بتوطيد دعائم حكمهم. بفضل إغداق النعم عليهم وإذلال المصريين لهم.

لقد كانت سياسة البطالمة إذن سياسة متعصبة ضد المصريين، فكان طبيعيًا أن تكون ثورات المصريين ضدهم ثورات قومية. ويلاحظ أن السماح للمصريين بامتلاك بعض الأراضي كان محدودًا بوجه عام، وبخاصة في الشطر الأول من عهد البطالمة. وأنه لم يقصد بذلك إلا مكافأة المصريين المتأغرقين ليتخذ منهم البطالمة عونًا لهم في تأييد حكمهم. ولم يكن في وسع البطالمة احتقار الديانة المصرية. لأنهم اتخذوا من هذه الديانة أساسًا لحكمهم. ولم يمنحوا المعابد المصرية حق حماية اللاجئين رغبة منهم وإنما قسرًا عنهم في الشطر الثاني من حكمهم إزاء ضعفهم وانتشار الثورة في أنحاء البلاد. وإذا كان البطالمة قد تركوا للمصريين بوجه عام نظامهم القضائي، فإن أغلبهم كانوا يخضعون للقضاء الخاص المستبد، فقد رأينا أن أغلب المصريين كانوا يخدمون موارد الملك بطريقة من الطرق. وإذا كان ملتزموا احتكارات الحكومة، وكلهم تقريبًا من الإغريق، يخضعون لهذا القضاء الخاص، فلا ننسى أنهم كانوا قليلة ممتازة بالنسبة للمصريين، وأن هذا القضاء كان في قبضة موظفين إغريق، وإن الإغريق كانوا عادة ينتمون إلى حاشية أحد ذوي النفوذ، ولذلك لا نستبعد أن الإغريق لم يعانوا كثيرًا من عبء هذا القضاء. وقد يقال أن هذا القضاء كان يحمي أحينًا مزارعًا مصريًا من مزارعي الملك من دائنه الإغريق فلا يستطيع سجنه وفاء لدينه، لكن المزارع لم يحم لأنه مصري وإنما لكي لا تتعطل مصالح الملك.

والقول بأن تطور النظم في دولة البطالمة أفضى إلى صراع قوي مختلفة ضد الملك، الذي اعتمد حسب الظروف على الإغريق ضد المصريين أو على المصريين ضد الإغريق، يجنح عن جادة الصوب، لأن الثورات المصرية كانت جميعًا موجهة ضد البطالمة وأعوانهم سواء أكانوا إغريقيًين أم مصريين. ولم نر الشعب المصري يشد أزر البطالمة في ثورة أو ثورات قام بها الإغريق كلهم أو بعضهم ضد البطالمة مثل ما رأينا الإغريق يشدون أزر البطالمة في نورات عنيفة قام بها المصريون جميعًا أو على الأقل الجانب الأكبر منهم. لقد ثار حقًا بعض الإغريق على بعض البطالمة الأواخر. لكن ذلك كان بإيعاز بعض أفراد أسرة البطالمة عندما انقسم أفراد هذه الأسرة على أنفسهم، فأنقسم الإغريق تبعًا لذلك فريقين يشايع كل منهما أحد الطرفين المتنازعين، كما انقسم كذلك بعض المصريين الموالين للبطالمة، لكن غالبية المصريين انتهزوا فرصة هذا العداء الأسرى للثورة ضد طغاتهم، على حين أن الإغريق، ولا انتصار بعض المصريين للبطالمة بانتصار كل الإغريق لهم.

ولا يمكن القول بأن حال المصريين لم تكن في عهد البطالمة أسوأ منها في عهد فراعنة مصر الأقوياء، على اعتبار أن المصريين اعتادوا منذ غابر الزمن أن يكدوا ويعملوا لحساب سيدهم فرعون. لا يمكن قول ذلك لأن البطالمة كانوا ملوكًا غرباء عن رعيتهم، وسواء أكانت سياستهم سياسة ملكية أم سياسة تعصب ضد المصريين، فإن كل الغنم كان للإغريق حين كان الغرم على المصريين. ولو أن المصريين لم يكدوا ويعملوا أكثر مما كانوا يفعلون في عهد فراعنتهم، لكان ذلك وحده كافيًا لثورتهم، فما بالنا إذا كان قد أضيف إلى ذلك أيضًا مطالبة المصريين بمضاعفة جهودهم، فقد عرفنا كيف وجه البطالمة، وبخاصة الأوائل منهم، عنايتهم إلى تقدم مرافق البلاد الاقتصادية واستغلالها استغلالاً لم يسبق له مثيل. وقد كان ذلك ينطوي دون شك على تكليف المصريين ـ عماد الحياة الاقتصادية ـ بأداء أعمال مرهقة متواصلة لم يجن ثمارها إلا الأجانب، فقد رأينا أنه ليجني البطالمة أكبر قدر من الفائدة عملوا على إنقاص تكاليف الإنتاج إلى أدنى حد ممكن وتبعًا لذلك عدم رفع مستوى حياة غالبية المصريين.

وجملة القول أن أعباء المصريين قد تزايدت في عهد البطالمة عما كانت عليه في عهد الفراعنة، دون أن يعود على المصريين أي خير نظير ذلك. وحسبنا دليلاً على ذلك توزيع الاقطاعات العسكرية بين أشخاص لم يكن أغلبهم من المصريين، فإن الأمر لم يقف عند حد الفارق الكبير بين نصيب المصريين ونصيب الإغريق من هذه الاقطاعات بل تعداه إلى مدى أبعد من ذلك بكثير. هب أن البطالمة لم يحرموا مصريًا أرضه ليمنحوها لإغريقي ـ وهذا أمر غير مقطوع به ـ وأن أغلب هذا الأراضي قد استخلص من براثن الصحراء أو المستنقعات، فمن الذي استصلحها قبل منحها اقطاعات؟ لقد عرفنا أن المصريين هم الذين كانوا عادة يستصلحون هذه الأراضي، وأنه بعد استصلاح هذه الأراضي، كان البطالمة يمنحونها للإغريق الذين، أما بسبب عدم خبرتهم بالزراعة أو لتغيبهم عن اطقاعاتهم، كانوا يؤجرونها للمصريين فيقدم هؤلاء لهم الإيجار. وهكذا أصبح الأجانب الأغرب دائني المصريين، أصحاب البلاد ومصلحي أراضيها وزارعيها. ولم يكن المصريون مديني أرباب الإقطاعات فحسب، بل كانوا كذلك مديني الملك وأرباب الضياع وغيرهم، ومن ثم كان الإغريقي على الدوام دائنًا والمصري مدينًا، فوجد السواد الأعظم من المصريين أنفسهم في قبضة الأجانب، وكانوا دائنين ساهرين على ديونهم.

وإلى جانب ذلك، لو أن مئات آلاف الأجانب الذين استقروا في مصر كانوا ينتجون لأنفسهم ما يحتاجون إليه من الغذاء. لما شعر المصريون بكل ما شعروا به من الحيف والإرهاق. لكن أرباب الاقطاعات ونزلاء البلاد الأجانب بوجه عام كانوا يعتمدون في توفير غذائهم على منتجات المزارعين المصريين، الذين طالبهم البطالمة الأوائل بإنتاج أكبر قدر ممكن من الحبوب. لا لسد حاجة إغريق مصر فحسب بل كذلك للمتاجرة في الأسواق الخارجية، حيث كانت أسعار الحبوب مرتفعة جدًا. ولذلك لم تتسع فقط مساحة الأراضي التي كان على المصريين زراعتها، بل كان عليهم في كثير من الأحيان زراعة الأرض مرتين. ولما كان أغلب المزارعين المصريين من فئة صغار المزارعين. فإنه بعد كل ما يبذلونه من جهد وبعد الوفاء بكل ما عليهم من التزامات قبل الحكومة كان لا يتبقى لديهم إلا ما يكاد بسد رمقهم هم وعيالهم. ومن ثم فإنه لم تكن لديهم فرص للإفادة من ارتفاع أسعار الحاصلات الزراعية سواء في الداخل أم في الخارج. وهكذا ترتب على قدوم الإغريق وسياسة ا لبطالمة زيادة عمل الزراع المصريين دون أن مقابل ذلك مكافأتهم.

وليت كان المصري بعد كل ذلك هادئ البال مطمئن الخاطر في بيته، فقد عرفنا كيف كان البطالمة يفرضون على المصريين أن يتقاسموا بيوتهم مع أرباب الاقطاعات، وكيف كان أرباب الاقطاعات يستغلون هذه المنحة أسوأ استغلال، ويميلون إلى اعتبار هذه المساكن الممنوحة كما لو كانت ملكًا لهم. وقد كانت النتيجة الطبيعية لذلك كثرة الاحتكاك بين أصحاب البيوت وضيوفهم الثقلاء، ولم تكن بأي حال إيجاد الألفة أو إزدياد الاختلاط.

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

ممكن اعرف المصادر الموثقه الخاصه بفترات العصر البطلمى سواء اجتماعى او اقتصادى ؟