السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الآداب والعلوم 4

العصر البطلمي arrow الآداب والعلوم

4.الطب والجراحة

طباعة أرسل لصديق
لقد بلغت العلوم الإغريقية شأوا بعيدًا في العصر الهلينيسي بعد الخطوات الموفقة التي خطتها قبل ذلك العصر فإن الفيثاغورثيين وأفلاطون ومدرسته أرتقاوا بالهندسة إلى مستو عال ، حتى أنه نقشت على مدخل معهد أفلاطون عبارة فحواها أن دخوله لا يباح لمن يجهل الهندسة .

وقد وضع أبقراط (Hippocrates) في القرن الخامس قواعد علم الطب، وكانت من أجل نظريات مدرسته أن المرض داء طبيعي تجب مكافحته بوسائل طبيعية هذا إلى أن أرسطو وضع قواعد البحث العلمي التي تتطلب جمع كمية وافية من المعلومات لدرسها واستخلاص النتائج منها وقطع شوطًا بعيدًا في فصل العلم عن الفلسفة بالتفرقة بين مختلف روع المعرفة وبقصر النظريات على المواد التي تسمح بذلك أكثر من غيرها.

وعندما زادت فتوح الإسكندر الأكبر مساحة العالم المعروف أضعافًا مضاعفة، ووفرت للعلماء المادة لزيادة المعرفة في النبات والحيوان والجغرافيا والأجناس ووصف البحار، أصبحت الطريقة ممهدة لقيام حركة علمية نشيطة، تمخضت عن تقدم العلوم في العصر الهلينيسي تقدمًا لم يشهد العالم له مثيلاً إلا في العصور الحديثة. وقد تأثرت الحركة العلمية في هذا العصر بعاملين جليلي الأثر، وهما عبقرية أرسطو ورعاية الملوك، وبذلك توفرت في الإسكندرية وغيرها من مراكز العلم أسباب البحث العلمي على النمط الذي وضع أرسطو قواعده. فلا عجب إذن أنه حين جد علماء الرياضة والفلك في إحراز انتصارات باهرة في آفاقهم العلمية دأب علماء الطب على أبحاثهم في البيئة التي وفرها لهم البطالمة وغيرهم من رعاة العلم. حقًا لم تنتج هذه الحركة العلمية كشوفًا مدهشة. إلا أنها أدت إلى تقدم العلوم تقدمًا محسوسًا ولاسيما في التفاصيل بفضل المثابرة والدقة في الملاحظة.

وقد تقدم علم التشريح بوجه خاص تقدمًا كبيرًا، وما أوسع الشقة بين ما قام به علماء الإسكندرية في هذه الناحية وبين مدرسة أبقراط، التي يشوه الكثير من أبحاثها معلوماتها البدائية وأفكارها الخيالية. وكان أبرز علماء الطب في الإسكندرية هروفيلوس العالم في التشريح وأراسينراتوس (Erasistratos) العالم في وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) ولا نعرف عن حياة هذين العالمين إلا انهما قدما من آسيا الصغرى لمزاولة عملهما في الإسكندرية في خلال النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، وأن الثاني كان أصغر سنًا من الأول إلا أن الفارق بينهما لم يكن كبيرًا ومن الأسف أن أبحاثهما ضاعت، وإن كنا نعرف جانبًا كبيرًا منها من الإشارة إليها فيما كتبه المتأخرون، أمثال جالنوس وسورانوس وكلسوس.

وقد أفلح البحث الحديث في التوصل إلى معرفة أبحاث هروفيلوس ويجب ألا يظن أ، طب الإسكندرية كان خاضعًا لتأثيرات شرقية نتيجة لقدوم هذين العالمين من آسيا الصغرى، إذ أن البحث لم يثبت وجود مثل هذه التأثيرات، ولا أية صلة مباشرة بعلم الطب المصري، وإن كان المستوى الذي بلغه هذا العلم خليقًا بالاحترام فإن بردية أروين سميث الخاصة بالجراحة ترينا أن بعض أطباء الإمبراطورية الوسطى كانوا يطبقون طرقًا ثابتة معقولة، لكن تجارب الأطباء المصريين بوجه عام كانت تمتزج بالخرافات والسحر. وإذا كان أطباء الإسكنردية العظام لا يدينون شيء إلى الطب المصري القديم، فإن أبولونيوس من منف ـ وكان أحد تلاميد أراسيستراتوس ـ استخدم القواعد المصرية القديمة.

وقد كان هروفيلوس أحد أتباع مدرسة أبقراط ويمارس مهنته ويقوم بأبحاثه في الإسكندرية على عهد البطالمة الأوائل. وهو صاحب الفكرة القائلة بأن الشرايين تحمل دمًا لا هواء كما كان يظن، وأنها لا تنبض من تلقاء نفسها وإنما من القلب، وبذلك كشف فعلاً الدورة الدموية، لكنها أهملت بعده وضاعت حتى بعثها هارفي إلى عالم الوجود. وقد وجه هروفيلوس عناية كبيرة إلى ضربات النبض، مقتفيًا في ذلك خطوات براكساجوراس، وكان أول طبيب باطني يعلق أهمية كبيرة على النبض، وإن كان دق النبض قد عرف قبل ذلك بقرن على الأقل. وتدل الأبحاث الحديثة على أن هروفيلوس كان يستخدم أ>اة بديعة لتقدير سرعة النبض، ولعل هذه كانت أولى المحاولات في اتجاه الحصول على تقديرات دقيقة. وكان هروفيلوس يستخدم العقاقير أكثر من أبقراط ومدرسته، لاعتقاده بأنه لا يمكن تطبيب الأمراض دون مساعدتها. وكان طبه طب الأمزجة، وهي الدم والبلغم والصفراء والسوداء التي كان تغيرها يسبب في رأيه كل الأمراض. وقد كانت أبحاثه التشريحية تدور حول المخ والأعصاب والكبد والرئتين وأعضاء التناسل. ولابد من أنه كان يشرح الحيوان، لأنه وصف شبكة تتألف من عدة أوعية دموية تخرج غالبًا من فرع واحد (Rete Mirabile)، وهذه الشبكة توجد في قاعدة مخ الحيوانات بينما لا يوجد لها نظير في الإنسان. لكن لا شك في أنه كان يشرح الإنسان أيضًأ، إذ كان يتعذر إتمام ما قام به من الأبحاث دون ذلك. وتؤكد الروايات القديمة أنه كان يقوم بفحص جثث الموتى، بل أتهم هروفيلوس وأراسيستراتوس بإجراء التجارب على الأحياء، إذ يقال أن البطالمة كانوا يسمحون بتشريح المجرمين.

ولا يمكن إهمال هذا الاتهام الذي لم يتشكك في صحته مصدر واحد من المصادر القديمة وورد ذكره فيما كتبه كلسوس وترتوليانوس، لكن يجب أن نذكر أن مثل هذا الاتهام قد وجه كذلك إلى بعض الأمراء والجراحين في القرن السادس عشر. غير أن أفضل الآراء التاريخية تنفي الاتهام الأخير لاستناده إلى أدلة مشكوك فيها، كما أن الابحثين المحدثين في تاريخ الجراحة القديمة لا يعتقدون أن جراحي الإسكندرية كانوا يجرون تجاربهم على الأحياء، ويعتبرون هذا الاتهام أكذوبة أخترعها المعراضون لأي نوع من التشريح. وحتى إذا قبلنا هذا الرأي، فإنه يبدو جليًا أن الجراحين الذين وجهت إليهم هذه التهم كانوا يعلقون أهمية كبيرة على الفحص النظري للأعضاء الداخلية، ومن ثم يجب أن نعتبرهم آباء علم التشريح الحديث.
وقد كان طبيعيًأ أن يؤدي تقدم التشريح إلى تقدم الجراحة. ومن أسباب مجد طب الإسكندرية اختراع آلات جراحة جديدة واستخدام هذه الآلات بمهارة فائقة.

وكان هروفيلوس يرى أن المخ مركز التفكير، وأنه متصل بالجهاز العصبي الذي كان هو أول من كون عنه فكرة واضحة. وقد فرق بين الأعصاب "الحساسة" (Sensory) والأعصاب "المحركة" (Motor) كما فرق بين المخ (Cerebrum) والمخيخ (Cerebellum)، وساهم كثيرًا في معرفة بطين المخ، ووجه عناية كبيرة إلى التجويف الذي يوجد في البطين الرابع. ولا يزال رجال الطب يستخدمون حتى اليوم بعض الأسماء التي أطلقها على أجزاء الجسم، مثل "الأثنى عشر" (Duodenum)،(وهي ذلك الجزء من الأمعاء الدقيقة الذي يلي المعدة)، والفجوة الناتجة في العظمة الخلفية للرأس من تلاقي جميع الجيوب الدموية في الغشاء السحاقي للمخ (Torcular Herophili). وقد كان لهروفيلوس اتباع كثيرون، كان من بينهم أندرياس (Andreas) الطبيب الخاص لبطلميوس الرابع.

وقد عاد أراسيستراتوس ثانية إلى الفكرة القائلة بأن الشرايين لا تحمل إلا هواء، لأن الهواء عامل حيوي في أداء أعضاء الجسم وظيفتها. وعلى الرغم مما في هذا الاتجاه من الخطأ، فإنه أفضى أخر الأمر إلى الكشف عن الأوكسوجين والذور الذي يلعبه في حياة الإنسان. وقد فاق هروفيلوس في أبحاثه عن القلب والمخ، وذهب إلى مدى أبعد منه في التفرقة بين الأعصاب الحساسة والأعصاب المحركة، حتى أن ذلك يعزي إليه أكثر مما يعزي إلى زميله. وكان يرفض فصد الدم مفضلاً عليه تناول الطعام الخفيف؛ وكان لا يستخدم إلا أبسط الأدوية على نمط ما كان يفعل إتباع مدرسة أبقراط. ويعزي إليه اختراع مجس، لكن لعله لم يكن أول من فعل ذلك. ويضع جالتوس هذين العالمين بين أندين يطلق عليهم أطباء المدرسة المنطقية أو الاستدلالية كما تدعى عادة. وأساس الاستدلال هنا دراسة أسباب المرض، وهو ما يقتضي اعتماد الطب على علمي التشريح والفسيولوجيا.

وقد كان من أشهر تلاميد هروفيلوس طبيب يدعى فيلينوس عز إليه كثيرون إنشاء مدرسة طب جديد في الإسكندرية تدعى المدرسة التجريبية. ولعل مرد ذلك إلى أنه كان يدعو هو وتلاميذه إلى إغفال التشريح والفسيولوجيا، اعتقادًا منهم أن الطب ليس مختصًا إلا بعلاج الأمراض دون الوقوف على أسبابها. ولذلك فإن واج بالطبيب هو أن يعطي العلاج الذي يشفى أعراض الداء التي يراها، على أن يهتدي إلى ذلك بملاحظاته الشخصية والتعليم والحالات المشابهة، لكن لعل الأرجح أن يكون سيرابيون الإسكنردي (حوالي 200 ق.م هو الذي أنشأ المدرسة التجريبية في الطب. ولا يبعد أن تكون المدرسة التجريبية قد أدت للطب خدمة كبيرة، بمناهضة الميول النظرية التي كانت على الدوام أحد مواطن الضعف في الطب الإغريقي، ويبحث فوائد الكثير من أنواع العقاقير والعلاج. ومن أبرع أتباع المدرسة التجريبية هيلاكلايدس (Heracleides) من تارنتم (حوالي 75 ق.م) وكان جراحًا بارعًا ووضع كتابًا ممتازًا عن العقاقير الطبية (Materia Medica) مؤكدًا أنه لم يذكر فيه شيئًا لم يجربه بنفسه، وبين فائدة الأفيون في اللبخ والأدوية. وقد مهد الطريق إلى كشف الأدوية المخدرة (Apaesthetics)، يلفت النظر إلى استخدام المسكنات استخدامًا صحيحًا. وقد كان يظن إلى وقت قريب أنه عاص رالجزء الأخير من القرن الثالث، لكن نتائج البحث الحديث ترجح أنه لم يبرز إلا في أوائل القرن الأول قبل الميلاد.

ومما يجدر بالملاحظة أنه قد نشط كذلك في القرن الثالث تاريخ الطب وخاصة دراسة مؤلفات مدرسة أبقراط ونقدها. وهذا يدل على أن وسائل البحث الحديث في الإسكندرية لم تعم الباحثين عن أهمية الوقوف على نتائج البحث القديم، إذ لا يمكن تناسي الماضي دون تعريض الحاضر والمستقبل لشر خطير. وقد كان من بين الذين كتبوا عن الأبحاث القديمة هروفيلوس وتلميذاه باكخيوس وفيلينوس، وكذلك جلاوكياس ومن بين ما ظهر عن مؤلفات أبقراط رسالتان قصيراتان يبدو أنهما من القرن الثالث، وهما تتناولان بوجه خاص قواعد اللياقة وآداب السلوك في مهنة الطب. وقد بذلت الفلسفة جهدًا كبيرًا في القرن الخامس لتفرض بعض أساليبها على علم الطب لكن الأطباء قاوموا ذلك لتدخله في أداء الطبيب مهامه على الوجه الصحيح. غير أنه عنما ركز الفلاسفة اهتمامهم على الناحية الخلقية في الطب كما حدث في القرن الثالث لم يحاول الأطباء مقاومة ذلك الاتجاه، لأنه لا يمكن أن يترتب عليه إلا خير المهنة الطبية. وفعلاً نجد أن اهتمام الفلاسفة بالناحية الخلقية في عمل الطبيب قد شارك كثيرًا في تكوين آداب طبية سليمة تهدف إلى رفع المستوى الخلقي للطبيب لا الدفاع عن مصالح مهنته.

ويجب أن نشير أخيرًا إلى تقدم الطب البيطري في عهد البطالمة ويعزى ذلك إلى مؤسسات البطالمة أكثر منه إلى مصر القديمة. فقد كان يتعين على فرسان الجيش المنتشرين في المستعمرات الزراعية أن يعنوا بخيولهم تحت إشراف السلطة العسكرية.

ليست هناك تعليقات: