السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الحياة الاجتماعية 1

العصر البطلمي arrow الحياة الاجتماعية arrow الإغــريق و حالهم على عهد البطالمة

1.الإغــريق و حالهم على عهد البطالمة الأوائل
طباعة أرسل لصديق

شدة الحاجة إلى الإغريق:

لقد عرفنا كيف اشتبك بطلميوس الأول في صراع عنيف من أجل تحقيق استقلاله بمصر ولعب الدور الأول في السياسة الدولية ، كما عرفنا كيف أقتفى بطلميوس الثاني والثالث سياسة مؤسس أسرة البطالمة .

ولقد كانت الدعامة الأولى للفوز بالاستقلال وإحراز مكانة سامية في السياسة الدولية تجنيد جيش قوي وبناء أسطول كبير. ولما كانت تحت أمرة منافسي البطالمة جيوش وأساطيل من الطراز الأول، إذ كانت مؤلفة من خيرة جنود العصر وأعنى المقدونيين والإغريق الذين أثبتت حملات الإسكندر وخلفائه تفوقهم على محاربين ممتازين كالفرس، ومزودة بأحدث منتجات الصناعة الحربية الإغريقية، ويتولى قيادتها ضباط برعوا في فنون القتال، فقد رأى بطلميوس الأول وخلفاؤها أنهم إذا أرادوا تحقيق أطماعهم الخارجية بل المحافظة على كيان دولتهم فلابد من أن يكون لهم جيش وأسطول من طراز جيوش وأساطيل منافسيهم. وقد عرفنا أن البطالمة الثلاثة الأوائل لم يحاولوا تكوين جيوشهم وأساطيلهم من المصريين، بل رأوا سلامتهم في الاعتماد على المقدونيين والإغريق.

وقد كانت وفرة المال الدعامة الثانية للاستقلال والسيادة الدولية، ومصر على غناها كانت لا تستطيع مواجهة المطالب الجديدة إذا بقيت شئونها الإدارية وحالها الاقتصادية على ما كانت عليه عند الفتح المقدوني. فكان يتعين إذن إعادة تنظيم شئون الإدارة، والنهوض بمرافق البلاد الاقتصادية، واستغلالها استغلالاً منظمًا دقيقًا، وتصدير أكبر قدر ممكن من منتجاتها، واستبدال نظام النقد بالنظام الاقتصادي القديم. وللقيام بهذه الأعمال الإنشائية الواسعة، كان البطالمة في حاجة ملحة إلى رءوس أموال وإلى أعوان مخلصين يستطيعون فهم مراميهم والتفاني في خدمتهم، ومن ثم اعتمدوا على رءوس أموال إغريقية وسواعد المقدونيين والإغريق وأشباههم، وكانوا يألفون أحدث الأساليب الاقتصادية ونظم التجارة السائدة في عالم البحر الأبيض المتوسط.

وإزاء كل ذلك كان يتعين على البطالمة ألا يكتفوا فقط بفتح أبواب مصر على مصاريعها للأجانب، كما حدث قبل الفتح المقدوني، بل كان يتعين عليهم أن يجزلوا العطاء لهم ويمنحوهم مركزًا ممتازًا في وطنهم الجديد، ليضمنوا استمرار وفودهم على مصر بكثرة واستقرارهم فيها على الدوام. حقًا أن الكثيرين من النازحين الإغريق اضطروا إلى هجر بلادهم طلبًا للرزق بسبب ما كانوا يعانونه من الضنك والاضطرابات في بلادهم، لكنه يجب ألا نتصور أن كل الذين هاجروا إلى مصر كانوا ضحايا اضطرابات اجتماعية، فقد كان بينهم كذلك الكثيرون ممن اجتذبتهم وبهرت أبصارهم نعماء الطبالمة. وهكذا يتبين لنا سبب تلك الظاهرة التي أثبتتها الوثائق البردية بجلاء وبأشكال مختلفة، أي المركز الممتاز الذي اختص البطالمة به الأجانب. وإذ عمل كل خلفاء الإسكندر على جذب الإغريقي، مما أدى آخر الأمر إلى نقص عدد الإغريق في بلادهم نقصًا شديدًا. على حين كانت تعج بهم الممالك الشرقية التي قامت على أنقاض امبراطورية الإسكندر.

سياسة البطالمة الأوائل:

ويرى كورنمان أن بطلميوس الأول اتبع سياستين متناقضتين في مصر، أحداهما منذ نصب واليًا على مصر في عام 323 إلى أن ابتع السياسة الآخرى منذ حوالي عام 311 حتى وافته منيته. وفي رأي هذا المؤرخ كانت السياسة الأولى مشبعة بأفكار الإسكندر الكريمة، وتنطوي على المساواة في المعاملة بين العنصرين المصري والإغريقي تمهيدًا للمزج بينهما وبين حضارتيهما. وذلك لأن بطلميوس الأول سكن منف واتخذها عاصمة له وأقام فيها قبر الإسكندر وأظهر بشتى الطرق احترام وإجلاله لآلهة البلاد وأنشأ عبادة سيرابيس، لكن حوالي عام 311 هجر بطلميوس منف إلى الإسكندريةحيث نقل رفات الإسكندر. ويتخذ كورنمان ذلك دليلاً على أن بطلميوس الأول قد طرح عندئذ جانبًا أفكاره الكريمة السابقة واقتدى بسلوقس، فوضع أساس سياسة التعسف في معاملة المصريين واحتضان الإغريق وإشراكهم في السيطرة على المصريين، وهي السياسة التي اقتبسها عنه ابنه وحفيده، وشتان ما بينها وبين سياسة الإسكندر، التي كانت تقوم على المساواة ومزج العناصر المختلفة.

إن الأدلة التي لدينا من عهد بطلميوس الأول طفيفة، ويبدو أن كورنمان حملها أكثر مما تنطوي عليه من المعاني. لقد كان بطلميوس الأول مقدونيا متأغرقًا إلى حد لا يستقيم معه أنننسب إليه محاولة أحياء القومية المصرية، لكن بطلميوس الأول كان كذلك سياسيًا حكيمًا بعيد النظر، فقد أدرك أنه لميمض وقت طويل منذ رحب المصريون بالمقدونيين باعتبارهم منقذين ومحررين، وأن سلفه كليومنيس الإغريقي قد أذى المصريين في كرامتهم القومية فضلاً عن مصالحهم الشخصية. وأدرك أيضًا أن أمامه صراعًا عنيفًا لتقرير كيان دولته ومصير الإمبراطورية المقدونية، فإنه لم يكد ينصب واليًا على مصر حتى اشتبك أولاً مع برديكاس ثم بعد ذلك مع خصمه العنيد أنتيجونوس. وإزاء كل الظروف المحيطة به، كان يتعين عليه أن يعمل على اجتذاب الإغريق إلى مصر والاستقرار فيها بشتى الوسائل، على ألا يهمل في الوقت نفسه مشاعر رعاياه المصريين. ولعله لم يتخذ منف عاصمة له في بادئ الأمر إرضاء للمصريين فحسب بل أيضًا، أو قبل كل شيء، لأنه كان أكثر أمنًا فيها من الاعتداءات الخارجية إذ أنه ما استشعر مقدرة جيشه وأسطوله على تأمين مركزه في الإسكندرية حتى نقل مقره إلى هذه المدينة الإغريقية. وبذلك أعلن للملأ اتخاذه أياها عاصمة لملكه، لأن "نصب الوالي"، الذي لا يمكن أن يرجع إلى تاريخ متأخرة عن عام 31، يحدثنا عن انتصارات بطلميوس الحربية وعن سكناه في مدينة الإسكندرية. ويبج أن نذكر ما أسلفناه مرارًا من العالم الإغريقي كان كل شيء في ذلك الوقت، وأن بطلميوس الأول كان يريد أن يكتسب لنفسه المكانة الأولى في ذلك العالم. وكان سوتر لا يستطيع أن يبنى لنفسه مجدًا شامخًا في نظر هذا العالم باعتباره فرعون مصر، مهما أنفق في بلاد الإغريق من الأموال، فكان ينبغي إذن أن يكون مظهر مصر إغريقيًا، وأن يبرز مصر في هذا العالم باعتبارها دولة إغريقية لا دولة شرقية. وإذا كان بطلميوس الأول قد استخدم بعض المصريين في المناصب الإدارية الهامة أو سمح لهم بالاستمرار فيها، فإنه يبدو محتملاً أن أغلب مساعديه الإداريين كانوا موظفين على شاكلته في التدريب والتفكير. وقد كان طبيعيًا أن يضمن لهؤلاء الإغريق والمقدونيين، كما ضمن لأخوانهم في شتى نواحي الحياة المصرية، أجرا طيبًا ومركزًا ممتازًا.

ومهما قيل بصدد سياسة بطلميوس الأول نحو المصريين في بداية حكمه، فإنه لا يمكن اتهامه بأنه أهمل العنصر الإغريقي في مصر أو خارج مصر. وحسبنا دليلاً على شدة اهتمامه بالإغريق ما قام به ليبرر في نظرهم سلطانه المطلق عليهم، وذلك بالآراء الفلسفية التي خلعت على الملوك أنبل الصفات وأجلها قدرًا ويجعل عبادة الإسكندر دينًا رسميًا إغريقيًا في مصر، لأنه باعتبار بطلميوس الأول خليفة الإسكندر دينًا رسميًا إغريقيًا في مصر، لأنه باعتبار بطلميوس الأول خليفة الإسكندر في حكم مصر فقد أصبحت سلطته بعد تأليه الإسكندر مستمدة من مصدر إلهي، وبذلك حق له أن يتمتع بالسلطة الشاملة المطلقة في مملكته. وبطلميوس الأول هو الذي وضع نواة مكتبة الإسكندرية ومعهدها العلمي، اللذين أصبحا في عهد خلفائه منبعًا فياضًا للحضارة الإغريقية. وهو أيضًا الذي أنشأ مدينة إغريقية في مصر العليا لتخلد اسمه وتكون مهدًا للحضارة الإغريقية في ذلك المعقل الحصين للحضارة المصرية القديمة.

ويرى لسكييه في نظم الجيش البطلمي، حيث كان للأجانب القدح المعلي من ناحيتي الغلبة في العدد والمكانة الممتازة، نموذجًا لسياسة البطالمة العامة في الدولة، ويردف ذلك بقوله: "إذا كان بطلميوس الأول قد شارك على الإطلاق أفكار سيده (الإسكندر) في تنظيم الإمبراطورية، وهذا أمر مشكوك فيه، فإنه هجر هذه الأفكار عندما أصبح والي مصر. أن الملكية العالمية لم تستهوه أبدًا، فقد أراد أن يكون ملك مصر ولا شيء أكثر من ملك مصر. وإذا كان قد احترم عادات المصريين باتباع سياسة متسامحة لم يحد عنها خلفاؤه، فإنه أقام نفسه في البلاد باعتباره فاتحًا وحكمها باسم الجنس المنتصر واعتبر جيشه القومي، الذي كان مقدونيًا من حيث المبدأ، أضمن دعامة لسلطانه".

ويجمع الكل على أن بطلميوس الثاني كان نصيرًا مؤزرًا للإغريق، وهل أدل على ذلك من سياسته العامة التي كانت تنطوي على ممالأة الإغريق على حساب المصريين، وعلى نشر الحضارة الإغريقية في طول البلاد وعرضها؟! لكن إذا كان فيلادلفوس قد نصب نفسه حاميًا للحضارة الإغريقية، فإنها كان أولاً وأخيرًا ملكًا مطلق السلطة يستند سلطانه فيما يستند إليه إلى حق الملوك الإلهي، ولم يكن له أي ميل إلى الروح الجمهوري الذي كان قوام حياة الإغريقية الصاخبة المضطربة في مدنهم الحرة. وما أبعد الفارق بين فكرة الملكية المستبدة وروح الحضارة الهلينية التي كانت الحرية أساسها الأول، ومع ذلك فإن سلطة الملك المستبد كانت دعامة الحضارة الهلينية في مصر البطلمية! وحسبنا دليلاً على ذلك أن المنشآت العلمية في الإسكندرية كانت منشآت ملكية وليست أهلية. أن سوتر لم يطلب إلى رعاياه الإغريق إلا عبادة الإسكندر الأكبر المؤلمة بعد وفاته، ولم ينطو ذلك على ما يسيء إلى شعورهم لأنهم كانوا يألفوا عبادة الأبطال. أما فيلادلفوس فإنه لم يكتف بتأليه أبويه بل رفع نفسه هو وزوجته أيضًا إلى مصاف الآلهة، وبدل أن كان الإغريق يعبدون الحاكم بعد مماته أصبحوا يعبدون البطالمة في حياتهم أيضًا. وإذا كان أحد خلفاء فيلادلفوس هو الذي ألغى المجالس الدستورية التي كانت الإسكندرية تنعم بها، فإن هذا الإجراء لم يكن غريبًا عن روح فيلادلفوس، ولعله كان نتيجة لسياسته المطلقة المستبدة.

وتشير كل الدلائل إلى أن بطلميوس الثالث قد سار على نهج سياسة أبيه فيلادلفوس، ومن ثم فإن البطالمة الثلاثة الأولائل يعتبرون أقوى عضد للإغريق. ويحدثنا بوشيه لكلرك بأن البطالمة الأوائل قد أقاموا حكمهم في مصر باعتبارهم غزاة فاتحين ، فلم ينسوا أو يتناسوا إطلاقًا أصلهم الأجنبي، ولم يعتمدوا في تأييد سلطانهم إلا على الجنود المرتزقة الذين كانوا ينتمون إلى جيشهم ويشاركونهم الفخار بهذا الجيش واحتقار الأهالي الوطنيين. وخير شاهد على صحة هذا الرأي ما يقوله المؤرخ القديم بوليبيوس، الذي عاصر بطالمة القرن الثاني وزار مصر في أواخر ذلك القرن وكان ملمًا بدخائل السياسة الدولية في عصره. ومجمل رواية بوليبيوس أن البطالمة كانوا يوجهو إلى شئون العالم الإغريقي من العناية ما يفوق عنايتهم بشئون مصر. وإذا كان هذا هو رأي مؤرخ أغغريقي ما يفوق عنايتهم بشئون مصر. وإذا كان هذا هو رأي مؤرخ إغريقي معاصر للبطالمة المتأخرين، الذي يجمع الكل على أنهم كانوا أقل حدبًا وعطفًا على الإغريق من أجدادهم وأسلافهم، فيم كان يحدثنا هذا المؤرخ لو أنه عاش في عصر البطالمة الأوائل؟! والواقع أن البطالمة لو لم تدفعهم ميولهم الشخصية إلى نشر الحضارة الإغريقية في مصر وإظهار عطفهم نحو الإغريق، لأرغمتهم ظروفهم على ذلك بسبب شدة حاجتهم إلى الإغريق.

مظاهر العطف على الإغريق:

وقد كان أول مظاهر عطف البطالمة الأوائل على الإغريق تهيئة البيئة المناسبة لمعيشتهم، ولذلك عنى البطالمة الأوائل ببناء الإسكندرية ومنحها مظاهر الحياة الخليقة بالمدن الإغريقية، حتى غدت أعظم المدن الإغريقية في البحر الأبيض المتوسط. وقد أنشأ بطلميوس الأول كذلك مدينة بطوليميس ووفر لها سبل الحياة الإغريقية. هذا إلى أن نقراطيس، تلك المدينة الإغريقية القديمة، استمرت تنعم بما ألفته من نظم الحياة الإغريقية وأساليبها.ويبدو أنه من أجل المحافظة على العنصر الإغريقي نقيًا خالصًا في مدن مصر الإغريقية حظر على مواطني هذه المدن مصاهرة المصريين. ولما كان البطالمة قد عقدوا العزم على أن يتمتعوا في مملكتهم بالسلطة الشاملة المطلقة، فإنهم لم يفرطوا إنشاء المدن الإغريقية على نحو ما فعله الإسكندر وخلفاؤه السلوقيون في أنحاء إمبراطوريتهم، بل أنه لم يجار بطلميوس الأول في هذا الاتجاه أحد من خلفائه، وكأنهم رأوا سلامتهم في الاكتفاء بهذه المدن الثلاث لتقاوم ما قد يكون هناك من الأثر لعواصم مصر القديمة: منف وسايس وطيبة. ولعل البطالمة قد اكتفوا بهذا العدد القليل من المدن الإغريقية لسببين: وأحدهما تفادي انتقاص هذه المدن من سيطرتهم، والآخر رغبتهم في أن يبثوا الإغريق في طول البلاد وعرضها لينشروا الحضارة الإغريقية فيها ويساهموا مساهمة فعالة في إنهاض مرافق البلاد الاقتصادية. ولذلك فإن الإغريق الذين ضاقت بهم مدن مصر الإغريقية تفرقوا في أنحاء البلاد واستقروا أفرادًا وجماعات في المدن والقوى المصرية القديمة، أو في القرى الجديدة التي أنشأها لهم البطالمة وخاصة في الفيوم. وإذا كنا نجد بين الإغريق الذين استقروا خارج مدن مصر الإغريقية عدد من مواطني هذه المدن، فإن أكثرهم لم يكونوا كذلك وإنما كانوا أصلاً من مواطني مدن أخرى في العالم الإغريقي. وقد ترتب على ذلك أن الإغريق الذين انتشروا بين جنبات وادي النيل لم يكونوا جميعًا وحدة سياسية واحدة وإن كانت تربطهم وحدة سياسية من نوع آخر، وهي أن كل إغريق مصر كانوا رعايا ملك واحد. بيد أن أقوى رابطة بينهم كانت رابطة الحضارة، فقد كانوا يشتركون في اللغة والعليم والتفكير والنظم وسبل الحياة فضلاً عن الديانة. وعند استقرارهم في وطنهم الجديد، حتم عليهم البطالمة بمقتضى أوامر مشددة أن يحتفظوا بلقبهم السياسي القديم عند ذكر أسمائهم في الوثائق الرسمية، وذلك بأن يضيفوا إلى اسمهم أسم مدينتهم الأصلية. ويبدو أنه بمضي الزمن انقرضت سلالة الكثيرين من هؤلاء الإغريق، لأننا لم نعد نرى في الوثائق ما كنا نراه في القرن الثالث من ذلك التنوع الكبير في الألقاب السياسية. ولعله إزاء ازدياد الثورات القومية عمل البطالمة على تركيز القوى المناهضة للحركة الوطنية بإدماج جاليات الجنسيات التي لم يبق منها إلا فئات قليلة في الجنسيات التي كانت أوف رمنها عددًا، إذ بينما كان يوجد في القرن الثالث قبل الميلاد عدد كبير من الجنسيات المختلفة، نلاحظ اختفاء الكثير منها في القرن الثاني وازدياد عدد أفراد الجاليات المقدونية والكريتية والميسية والفارسية نتيجة للتجنس بجنسياتها. ويبدو كأن السكان وزعوا بين طبقات أقل عددًا من الماضي، وفقًا لنظام دقيق حدد مرتبة كل طبقة. وكانت الطبقات الثلاث الأولى طبقات ممتازة وهي أولاً، طبقة المقدونيين والكريتيين ـ سواء أكانوا من نزلاء الإسكندرية أم بطوليميس ـ وثانيًا طبقة مواطني مدن مصر الإغريقية. أما الطبقة الثالثة فإنها كانت تتألف من الإغريق المقيمين خارج هذه المدن ولم يكونوا من مواطنيها، وكانت تشمل بنوع خاص أرباب الاقطاعات العسكرية من الإغريق وكانت تأتي نعد ذلك طبقة الميسيين فطبقة الفرس.

وهكذا يتبين لنا أنه طوال عصر البطالمة كان سكان مصر من غير أهلها الوطنيين ينقسمون طبقات متفاونة في المرتبة تميزها القاب سياسية وجنسية. وقد حظر البطالمة الانتقال من إحدى طبقات السكان إلى طبقة أخرى دون الحصول على إذن بذلك من الملك، وفرضوا عقوبة الإعدام على الموظفين الذين يتلاعبون في هذه المسألة. ولاشك في أن هذا ينهض دليلاً على أهمية الفارق في الحقوق الممنوحة لمختلف الطبقات.

وقد سلف القول بأن الإغريق الذين كانوا يعيشون خارج المدن الإغريقية كانوا يؤلفون جماعات، كانت أهمها شأنًا، على الرغم من قلة معلوماتنا عنها، تلك الجماعات القومية (Politeumata) التي كان أغلبها يتصل اتصالاً وثيقًا بالجيش، وبأن تكوين تلك الجماعات القومية لم يكن مقصورًا على الإغريق وحدهم، فنحن نعرف جماعات مشابهة لليهود و الفرس والتراقيين وأهل ميسيا وأهل أدومايا وحسبنا هنا هذه الإشارة إلى الجماعات القومية بعد كل ما أوردناه عنها في معرض الحديث عن اليهود والفرس وإغريق الأقاليم.

وكان تلي جماعات الإغريق القومية في الأهمية أو لعلها كانت تتصل بها جماعات رجال الجيمانزيوم (hoi ek tou gymnasiou)، فقد كان الإغريق، في مدنهم الإغريقية وفي المدن والقرى المصرية، يتمتعون بهذه المعاهد الجليلة الشأن. ولتقدير أهمية هذه المعاهد في مصر البطلمية حق قدرها يجب أن درك أنها كانت المراكز الرئيسية لنشر الحضارة الإغريقية، وأنه من أجل الوصول إلى المناصب السياسية الهامة أو الانخراط في سلك الفرق الممتازة بالجيش وما كان ذلك يتتبعه من الفوز بإقطاع كبير كان يتعين على الراغبين في ذلك أن يكونوا قد تعلموا تعليمًا إغريقيًا.

وفي كل الممالك الهلينيسية، لم تكن هذه المعاهد منشآت حكومية أسسها الملوك لتنفيذ سياستهم، بل كانت منشآت خاصة أو محلية أسستها الجماعات أو الأفراد الذين وفودوا من بلاد الإغريق ولم يسعهم الاستغناء عنها، لأنها كانت قوام الحياة الاجتماعية والعقلية في بلاد الإغريق منذ أقدم العصور. وإذا كان البطالمة لم ينشئوا هذه المعاهد، فإنهم كلؤوها برعايتهم وأمدوها أحيانًا بإعانتهم. فلعل هذه الرعاية أو لعل اتصال هذه المعاهد بحركة التعليم هو الذي خلع عليها صبغة عامة أو شبه رسمية، إذ أننا نعرف من إحدى الوثائق أنه كان يتعين الحصول على إذن من حاكم المديرية لإجراء الإصلاح اللازم في أحد معاهد الفيوم، مع أن أحد الأفراد هو الذي أسسه ثم ورثه عنه فرد آخر. ومعنى ذلك أن هذه المعاهد كانت تخضع للنظام نفسه الذي كانت تخضع له مصانع النسيج والهياكل التي أسسها الأفراد، وذلك لأن شئون التعليم كانت تهم الدولة مثل ما كانت تهمها شئون الصناعة والديانة. وقد انتشرت هذه المعاهد في كل الممالك الهلينيسية، لكن أكثر معلوماتنا عنها خاصة بما وجد منها في مصر، وهي ترينا أن الحكومة كان تعترف بالجماعات التي نشأت حول هذه المعاهد، وكان هدفها الرئيسي هو تزويد هذه المعاهد بما كانت تحتاج إليه من الأموال وتنظيمها والإشراف عليها، ولذلك فإن البطالمة منحوها امتيازات هامة كامتلاك المباني والأثاث والأرضي. وكان لكل جماعة رئيس تنتخبه الجماعة ويدعى الجيمناسيارخس (gymnasiarches). أما شئون التعليم، فإنها كانت في قبضة عدد من المدرسين وشخص يدعى كوسميتس (Kosmetes). ولما كان أهم أعوان هذه المعاهد هي المدن من ناحية والجيش من ناحية أخرى وخاصة الجنود المستقرين في أنحاء البلاد، فإن جماعات رجال الجيمنازيوم كانت تتصل اتصالاً وثيقًا بالمدن وبالجماعات القومية المختلفة (Politeamata) التي كانت منشآت سياسية وكذلك عسكرية.

ويتبين من المصادر القديمة أنه حيثما نزل الإغريق في كثرة ـ سواء في المدن الإغريقية أم خارجها حيث كونوا جماعات قومية خاصة بهم ـ أنشأوا جيمنازيا، فنرى أنه كانت توجد جيمنازيا في الإسكندرية ونقراطيس وسبنيتوس (سمنود) وفاربابثوس (هربيط) وتمويس (تمى إلا مديد) وبسناموسيس (Psenamosis) بمديرية برينيكي (قرب الإسكندرية) وأفروديتوبوليس (أطفيح) وعدد من بلاد الفيوم وقرأها وبطوليميس وكوبتوس (فقط) وطيبة (الأقصر) وهرمونثيس (أرمنت) وأمبوس (كوم أمبو) وفيلة.

وقد كان دخول الجيمنازيا وعضوية جماعات منظمين بمقتضى قوانين الهيئات المختلفة التي كانت هذه المعاهد والجماعات تتصل بها ضمانًا لعدم تسرب المصريين إليها. فقد كانت الجيمنازيا معاقل حصينة للحضارة الإغريقية يستطيع الإغريق في رحابها أن يتلقوا ثقافتهم ويمارسوا تدريباتهم ويقيموا شعائر عبادتهم وينعموا بأسلوب حياتهم دون التعرض لأية تأثيرات مصرية. فلا عجب إن كان للجيمنازيا أكبر الفضل في المحافظة طويلاً على الحضارة الإغريقية بين ربوع وادي النيل. ولاشك في أن العطف الذي أسبغه البطالمة على الجيمنازيا وجماعاتها ينهض دليلاً على رغبتتهم الأكيدة في مساعدة نزلاء مصر الإغريق على متباعة أسلوب حياتهم والاحتفاظ بطابعهم الإغريقي قويًا نقيًا. وإذا صح ما يزعمه بعض الباحثين من أن البطالمة لم يستجيبوا إلا إلى الدوافع الاقتصادية، وإن هذه الدوافع هي التي فتحت أبواب مصر على مصاريعها أمام الأجانب، فإنه يبدو من العسير أن نتصور أن أولئك الملوك لم يتوقعوا النتائج المترتبة على سياستهم الاقتصادية، أو أنهم ـ عندما تمخض عن هذه السياسة نشر الإغريق في طول البلاد وعرضها ـ لم يهتموا بالعمل على نشر الحضارة الإغريقية والحفاظ عليها.

وكانت تأتي بعد ذلك في الأهمية تلك الجمعيات الإغريقية التي عرفنا أنه كان لها طابع ديني أو اجتماعي. ويرجع وجود هذه الجمعيات إلى ما قبل الفتح المقدوني، لكنها لم تكتسب أهميتها ومكانتها البارزة إلا على عهد البطالمة.

وإذا كانت هذه الجمعيات الإغريقية الخاصة قد تكونت في مصر في الفترة السابقة على الفتح المقدوني، فإنه يحتمل أن الكثير منها قد تكون في بداية عهد البطالمة. وعلى كل حال فإن معلوماتنا عن هذا النوع من الجمعيات مقصورة على أواخر عهد البطالمة، عندما كانت قد خضعت للتأثيرات المحلية، ومع ذلك فإنها لم تختلف كثيرًا في نظمها عن الجمعيات المماثلة لها في المدن الإغريقية في بلاد الإغريق. ومرد هذه التأثيرات إلى أنه في الشطر الثاني من عهد البطالمة ازداد الاختلاط بين الإغريق والمصريين وازدادت أهمية المذاهب المصرية في حياة إغريق مصر الدينية، ويبدو أن هذه الجمعيات الإغريقية وشبيهاتها المصرية أصبحت تتألف من أعضاء مصريين وأعضاء إغريق على السواء، وهكذا تأثرت جمعيات المصريين وجمعيات الإغريق ببعضها بعضًا. ويعزى انتشار هذه الجمعيات بين إغريق مصر إلى ميل هؤلاء الإغريق إلى لون من الحياة الاجتماعية يعيضهم إلى حد عن جانب من حياة "المدينة" كان عزيزًا عليهم قريبًا إلى قلوبهم ولكنهم حرموه في مصر. ذلك أن أغلب إغريق مصر لم يكونوا مواطنين في مدن يشتركون في مجالسها وانتخاباتها وإدارة شئونها، ففي الإسكندرية نفسها لم تكن بين هيئة المواطنين إلا أقلية من سكانها الإغريق، وخارج الإسكندرية كان أغلب الإغريق يعيشون في المدن والقرى المصرية، ومن ثم نشأ ذلك الشغف بتلك الجمعيات الخاصة الدينية والاجتماعية لتوفر لهم الاجتماع والمناقشة والانتخاب. وقد سمحت لهم الحكومة بهذا النشاط ما دامت هذه الجمعيات لم تكن سببًا في حدوث اضطرابات سياسية، وذهبت الحكومة إلىحد الاعتراف بهذه الجمعيات ومنحها الامتيازات الهامة مثل امتلاك العقار.

مركز الأجانب، اعتزازهم بأنفسهم:

ومهما اختلف المؤرخون في تقدير امركز الأجانب بالنسبة للمصريين فلا شك في أن أولئك الأجانب الذين وفدوا زرافات ووحدانا على مصر في خلال القرن الثالث قبل الميلاد كانوا يكونون طبقة منفصلة من سكان البلاد تفصلهم فوارق شاسعة من أهليها، ومع ذلك فإنهم كانوا قانونًا من وجهة نظر الملك والحكومة رعايا الملك مثل المصريي، إذ أن أولئك الذين لم يكونوا زائرين ولا مستوطنين مؤقتين بل كانوا نزلاء مستديمين في البلاد كانت تفرض عليهم الضرائب، شأنهم شأن المصريين، ولم يعفوا من أعباء احتكارات الحكومة، وكانوا يتحملون نصيبهم من الأعباء المالية غير العادية المفروضة على الشعب، وكان ينتظر منهم أداء أي عمل تفرضه الحكومة عليهم. بيد أنهم كانوا يتمتعون بعدد من الامتيازات. التي منحهم الملك أياها وميزت بينهم وبين المصريين تمييزًا دقيقًا.

ويجب أن نذكر أن الجانب الأكبر من الأجانب كان في خدمة الملك بطريقة من الطرق، فإن أكبر فئة من الأجانب كانت فئة المشتغلين بالجندية في جيوش البطالمة، وكان أفراد هذه الفئة يحيون حياتهم الممتازة الخاصة التي كانت تنظمها التقاليد العنيدة وكذلك القواعد التي وضعها الملك لضباطه وجنوده. ومما يجدر بالملاحظة أن هذا الجيش كان جيش الملك ولم يكن جيش مصر، فلم يكن عليه أية تباعات نحو مصر بل كانت كل تبعاته نحو الملك. وقد كان الجانب الأ:بر من الأجانب المدنيين، الذين تحدثنا الوثائق عنهم، ينتمون إلىحاشية الملك (oikos)، وكان لكل منهم بدوره حاشيته، وكان لأفراد هذه الحاشيات حاشياتهم أيضًا. ومثل ذلك أن أبولونيوس كان أحد رجال حاشية بطلميوس الثاني، وأنه كانت لأبولونيوس حاشيته، وإن أحد أفرادها كان زينون الذي أصبح مدير أشغال ضيعته في فيلادلعيا، وإنه كانت لزينون بدوره حاشيته كذلك. وإذا استثنينا المدن الإغريقية، فإنه يتعذر أن نجد في الأقاليم إغريقاً لم ينتموا إلى حاشية أو أخرى، ومن ثم كانوا يستظلون بحماية الذين يستخدمونهم. أما أولئك الذين لم ينتموا إلى دوائر هذه الحاشية فإنه كان يربطهم بها الدور الذي يقومون به في الحياة الاقتصادية.

ويضاف إلى ذلك أن مركز هؤلاء الأجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي كان مختلفًا عن مركز المصريين، وأكثر منه امتيازًا، فإن طوال الجانب الأكبر من عهد البطالمة كان كل كبار الموظفين المدنيين من الأجانب، مثل ما كان جل ضباط الجيش وأكثر رجاله. وقد كان الأجانب أو على الأقل جانب منهم يعفون فيما يظن من أعمال السخر المفروضة على الغالبية العظمى من المصريين. وكانت بعض فئات الأجانب تتمتع بامتيازات خاصة فيما يتعلق بالضرائب. ولم يتمتع مواطنوا الإكسندرية وسكانها الأجانب بمركز سياسي ممتاز فحسب، بل كانت أمامهم فرص عظيمة لإنماء ثروتهم. ففي الزراعة كانت لدى الأجانب أفضل الفرص ليصبحوا أرباب أراضي ويفوزوا بدخل وفير من ذلك، فقد عرفنا كيف كان البطالمة يمنحون الضياع الواسعة للمقربين لديهم من الأجانب، وكيف كانوا يمنحون الاقطاعات الكبيرة للضباط والجنود الأجانب ويسمحون لهم بغرس الكروم والفاكهة، مما كان يكسبهم امتلاك ما يزرع من الأرضي على هذا النحو امتلاكًا خاصًا. وعلى كل حال فقد أصبحت ملكية الاقطاعات العسكرية وراثية، ومن المحتمل أيضًا تلك المساكن التي كانت تمنح للجنود. وفي الصناعة لم يكن العمال عادة من الأجانب، وإنما كان منهم المتلزمون.

وقد كان منهم أيضًا مديرو أغلب المصارف الملكية والمصارف الخاصة. وجملة القول أن الأجانب قد كانوا قانونًا رعايا الملك مثل المصريين، إلا أنهم كانوا في الواقع شركاءه ومساعديه الذين ساهموا معه في حكم المصريين وفي استغلالهم وفي الاستمتاع بخيرات بلادهم. إن النظام الذي وضعه البطالمة الأوائل لحكم مصر يذكرنا إلى حد من هذه الناحية بالنظام الذي وضعته الدول الأوربية في العصور الحديثة لحكم مستعمراتها، وخاصة في بداية حركة الاستعمار الأوروبي. فإن علاقات الأوربيين بالنسبة للأهالي الوطنيين كانت علاقات سيطرة أكثر منها مشاركة، وكان غرض المستعمرين قبل كل شيء استغلال الإقليم المستعمر لفائدتهم المادية الخاصة. وكذلك أيضاً كانت حال البطالمة الأوائل والأجانب الذين جمعوهم حولهم، فقد عرفنا كيف أوغل البطالمة الأوائل في جمع الثروة وتكديسها حتى أصبحوا يعتبرون أغنى ملوك عصرهم. ولا ريب في أن الكثير من الأجانب شاركوا البطالمة ثراءهم. ولم ينعم بهذا الثراء رجال يشغلون مناصب رفيعة فحسب، مثل أبولونيوس وغيره ممن منحوا ضياعًا واسعة وكانوا سواعد الملك في الإدارة المدنية والجيش، بل كذلك أشخاص يشغلون مناصب متواضعة، مثل زينون وغيره من رجال أبولونيوس.

ويعتبر زينون مثلاً لأثرياء هذا الوقت، فقد كان أول الأمر أحد أفراد حاشية ذات شأن، ثم اشتغل بالزراعة وبتربية الأغنام والالتزام وإقراض النقود، وصادف نجاحًا كبيرًا في كل ما زاوله من الأعمال.

لكن يجب أن درك أن التمتع بثقة الملك كان دعامة ما يتمتع به الأجانب من السلطات والسيطرة، ذلك أنه مهما كان لهم من النفوذ الواسع في شئون البالد، فإنهم كانوا يعتمدون اعتمادًا كليًا على الملك مصدر كافة السلطات ومنبع كل الخير والشر على السواء. لقد كانت عليهم تبعات كبيرة مادية وشخصية، فإذا لم ينهضوا بها على خير وجه لو إذا أثاروا شكوك سيدهم أو غضبه، فإن انصاف آلهة اليوم كانوا يفقدون بين عشية وضحاها مركزهم ونفوذهم وضياعهم، ويلقون في غياهب السجن أو يعدمون ويستولى الملك على كل ما ملكت يداهم. ولدينا أمثلة كثيرة لذلك في الثوائق القليلة التي لدينا، وحسبنا ما جرى لأبولونيوس وزير مالية فيلادلفوس في بداية عهد يروجتيس الأول. وترينا وثائق زينون أن الموظفين متوسطي الحال كانوا أيضًا عرضة للمصير نفسه، فإنهم كانوا جميعًا عمال الملك وإذا حامت حولهم شبهة عدم النزاهة أو الإهمال. فإن الملك كان لا يتردد في تعويض نفسه بمصادرة أملاكهم.

وقد كان نزلاء البلاد الإغريق يعتزون بجنسيتهم وحضارتهم والمركز الممتاز الذي اختصهم به البطالمة في البلاد، وليس أدل على ذلك من أنه كان لا يقبل في خدمة الحكومة إلا الذين اصطبغوا بصبغة إغريقية؛ ومن المظلمة التي رفعها إغريقي إلى بطلميوس الرابع لأن سيدة مصرية اعتدت عليه، فقد طالب في مظلمته بأنه يجب ألا يسمح بأن يعامل المصريون أمثاله الإغريق على هذا النحو! أن هذه العبارة الموجزة لتنطوي على حقيقة الشعور الذي كان يكنه الإغريق أو على الأقل فئة منهم نحو المصريين، وهو شعور إزدراء عميق. ونلمس هذا الشعور في وثيقة من عهد بطلميوس الثالث، تحوي شكوى كاهن مصري كبير المقام من إغريقي أرغم على إسكانه في بيته، فهذا الكاهن يقول في شكواه من هذا الضيف الثقيل الإغريقي أنه "يحتقرني لأنني مصري". ويبدو أن الإغريق كانوا يسيئون معاملة كل من لم يكونوا إغريقًا أو مصطبغين بصبغة إغريقية من سكان مصر، إذ نجد رجلاً في خدمة زينون بفيلادلفيا يشكو من سوء المعاملة لأنه ليس إغريقيًا وليس في وسعه أن يتحدث الإغريقية.

مسألة التزاوج مع المصريين:

لقد اعتمد البطالمة الثلاثة الأوائل على الإغريق كل الاعتماد في حكمهم، ذلك أنهم كونوا منهم جيوشهم وأساطيلهم. واتخذوا منهم حكام البلاد وكبار رجال الإدارة والشرطة والمشرفين على الشئون المالية والاقتصادية، ولذلك وفر البطالمة للإغريق سبل الحياة الرغدة اللينة، كما وفروا لهم سبل الحياة الإغريقية بقدر ما سمحت به سياستهم العامة، فكانوا يعيشون أما في المدن الإغريقية أو في الجاليات الإغريقية خارج هذه المدن، وشملوا برعايتهم معاهدهم ومدارسهم، وأباحوا لهم حرية عبادة آلهتهم التي أحضروها معهم، وسنوا لهم من القوانين ما يتمشى مع عاداتهم وتقاليدهم، وأنشأوا لهم محاكم تفض شكاويهم وفقًا للقوانين الإغريقية. وليس من الإسراف في الرأي القول بأن سكان البلاد بوجه عام كانوا ينقسمون في القرن الثالث طبقتين منفصلتين عن بعضهما تمام الانفصال: طبقة عليا مكونة من الإغريق الذين قبضوا على أرفع مناصب الدولة، واستمتعوا بخيرات البلاد، وامتدت أيديهم إلى كل شيء حتى وصلت إلى داخل منازل الأهالي، وكانوا يعتقدون أنهم أهل حضارة رفيعة دونها كافة الحضارات الأخرى، ويعيشون في أوساط خاصة بهم، ويحيون حياتهم التي اعتادوا عليها في بلادهم. وطبقة سفلى مكونة من المصريين، الذين كانوا يعتبرون عباد هؤلاء السادة الأجانب، ويشعرون بأنهم سلبوا كرامتهم كما سلبوا خيرات بلادهم إلا أنهم استمروا يحتفظون بعاداتهم وتقاليدهم ويذكرون مجدهم التالد. أمن سداد الرأي أن يتصور أحد أنه كان يتيسر حدوث أي اختلاط اجتماعي بين هاتين الطبقتين ما بقيت هذه الظروف؟ يقول لنا بعض المؤرخين أن الإغريق والمقدونيين وإن كانوا يعتبرون أنفسهم نوعًا من البشر أسمى من المصريين، إلا أن عامتهم لم يروا غضاضة في الإصهار إلى المصريين، ويفسر ذلك بأن أغلب الإغريق والمقدونيين كانوا يفدون على مصر للاشتغال بالجندية، ومن ثم لابد من أن عدد الرجال بينهم كان يفوق كثيرًا عدد النساء؛ وإذا كانت الوثائق البردية تنبئنا بأن الكثير منهم اتخذوا زوجات أوربيات، فإن عدد السيدات الأوربيات كان لا يكفيهم جميعًا، ولذلك اتخذ كثير منهم زوجات مصريات. إن هذا الرأي لا يقوم إلا على افتراضات لا سند لها، إذ أن دعامته الأساسية الافتراض بأن أكثر هؤلاء الأجانب جاءوا للخدمة العسكرية في مصر، ولذلك لابد من أن عدد رجالهم كان يفوق عدد نسائهم، مما كان يؤدي حتمًا إلى اتخاذ الكثير منهم زوجات مصريات. بيد أنه ليس لدينا ما يثبت صحة هذا الافتراض وملابساته، فإنه لا يمكن القول بأن أغلب الأجانب في مصر كانوا جنودًا، وإن كان يمكن القول بأن رجال الجيش كانوا أكبر فئة من فئات إغريق مصر، وهناك فارق كبير بين الفولين. هذا إلى أن أغلب أولئك الجنود جاءوا لا ليحاربوا حملة واحدة أو عدد معينًا من الحملات ثم يعودوا إلى أوطانهم، بل جاءوا ليستقروا في مصر. ولذلك فليس لدينا ما يؤيد الزعم بأن عدد الرجال كان أكثر من عدد النساء بين الإغريق والمقدونيين، ولاسيما أن الإغريق كانوا يفدون على مصر باستمرار طوال القرن الثالث.

وهل كان ذلك الشاعر الإغريقي ـ شاعر بلاط بطلميوس الثاني ـ الذي يشيد بمحاسن الإسكندرية ويتعنى فيما يتغنى به بكثرة عدد نسائها حتى فقن النجوم في العدد، وبجاملهن حتى أنه وضعهن في كفة واحدة مع أجمل الآهات، أكان ذلك الشاعر يشيد بالنساء المصريات أم الإغريقيات؟ إننا إذًا ما تذكرنا حال سكان الإسكندرية من المصريين، لاشك في أنه لم يقصد قطعًا إلا الإغريقيات. وقد يقال أن هذه دعاية فيها الكثير من المبالغة، ونحن نسلم بذلك، لكننا نعتقد أنه من المبالغة أيضًا الذهاب إلى النقيض والزعم أن الإغريق كانوا يفتقرون إلى النساء إلى أحد التجائهم إلى التزاوج مع جنس غير جنسهم.

وهب جدلاً أن الرجال الإغريق كانوا أكثر عددًا من نسائهم، أكان يكفي أن يحتاجوا إلى زوجات مصريات فيستجيب الأهالي إلى طلبهم، أي أنه لم يكن لاستقلال المصريين المسلوب وكرامتهم الممتهنة ومواردهم المنهوبة أي وزن؟ وهل لم يكن كذلك للاختلاف في الديانة واللغة والعادات والتقاليد أي أثر؟ ولما كنا نعرف أن المصريين القدماء كانوا عادة يتخذون زوجاتهم من أفراد أسرتهم ـ وهي عادة لا تزال معروفة بيننا حتى اليوم في الريف وخاصة في الوجه القبلي ـ فإننا نستبعد أنهم كانوا يعطون نساءهم لأزواج لم يكونوا غرباء عن أسرهم فحسب بل عن جنسهم وديانتهم وعاداتهم وتقاليدهم. وإلى جانب ذلك، ليس في عقود الزواج التي وصلت إلينا من عهد البطالمة والرومان عقد واحد لزواج مختلط كان أحد طرفيه مصريًا والآخر إغريقيًا أو مقدونيًا. وإذا قيل أن عدم وصول شيء من عقود الزيجات المختلطة لا يمكن اتخاذه دليلاً على عدم التزاوج، إذ قد يرجع ذلك إلى الصدف وحدها، فإننا نرى أنه لو وجدت حقًا هذه الزيجات المختلطة في القرن الثالث بتلك الكثرة التي يتوهمها بعض الناس، لما خلت وثائق هذا القرن على كثرتها من أية قرينة، ولرجعت إصداء مثل هذه الظاهرة الهامة ولو بظهور بعض الأسماء المختلطة الت يقد يجوز اتخاذها دليلاً على اختلاط الجنسين. وفي الواقع لم يجد أحد بعد أية قرينة على هذا الاختلاط في وثائق القرن الثالث. وإزاء كل ذلك يمكننا أن نوقن تمامًا بأن الزواج بين المصريين والإغريق في الشطر الأول من حكم البطالمة كان أمرًا بعيد الاحتمال. ومع ذلك لا نستطيع الجزم بأنه لم يحدث عندئذ أي تزاوج على الإطلاق، فإن لكل قاعدة شواذها.

وهل هناك دليل على عدم وجود أي اختلاط بين العنصرين المصري والإغريقي، في خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أبلغ من أنه قلما كان يلم في هذه الفترة إغريقي بلغة البلاد؟ ومن أن الآداب الإغريقية التي ازدهرت في الإسكندرية تتجاهل مصر كلية، فلا نجد فيها إشارة حتى لمنظر مصري، إذ أن ثيوكريتوس مثلاً لا تغنى إلا بصقلية وكوس، بل يحتمل أن كاليماخوس الذي جمع أعدادًا كبيرة من الأساطير لم يذكر بينها أسطورة مصرية واحدة؟ أليس معنى ذلك أن الإغريق في زهوههم واعتزازهم بإغريقيتهم انطووا على أنفسهم ولم يعنوا بشي إلا بشئونهم الإغريقية؟!
طبقات الأجانب:

ويمكن تقسيم الأجانب المقيمين في مصر إذ ذاك إلى الطبقات التالية:

(1) طبقة الموظفين: وتشمل الموظفين المدنيين والعسكريين، ويمكن تقسيمها ثلاث فئات: كانت أرفعها قدرًا فئة الوزراء والقواد وكبار رجال الحاشية المدنية والعسكرية، ثم تليها فئة حكام الأقاليم والضباط، وأخيراً تأتي فئة كبار صغار الموظفين مثل مساعدي حكما الأقاليم وكبار رجال الإدارة المالية المحلية في الأقاليم والجنود. وقد كانت لدى أفراد هذه الطبقة فرصة طيبة لإثراء أنفسهم أو على الأقل للتمتع بحياة رغدة، إذ من المرجح أنه إزاء رغبة البطالمة الأوائل في إغراء الأجانب على القدوم والاستيطان في مصر، كانت المرتبات التي يمنحونها لرجالهم مرتبات سخية. ويبين من الوثائق أنه كان يجوز إعطاء الموظفين المدنيين إقطاعات زراعية بدلاً من المرتبات، أي أنه كانت تجوز معاملتهم معاملة الجنود وقت السلم. ولابد إذن من أن مساحة اقطاعاتهم كانت تتوقف أيضًا على مركز كل منهم، مثل ما كانت حال مساحة اقطاعات الجنود. وكان أرباب الاقطاعات على اختلاف أنواعهم يستطيعون تحسين ما في قبضتهم من الأراضي بالجد والعمل المتواصل، وتوسيع رقعتها أو امتلاك أجزاء منها امتلاكًا خاصًا نتيجة لغرس الكروم وأشجار الفاكهة والزيتون. وقد كان البطالمة يمنحون كبار رجالهم المدنيين والعسكريين ضياعًا واسعة تفيض عليهم بالبركات. وكان أرباب الضياع والاقصطاعات يتمتعون ببعض الامتيازات فيما يتعلق بالضرائب. وبقدر من الحرية الاقتصادية أكثر من غيرهم من أرباب الأراضي والزراع. ويضاف إلى ذلك أن الانتصارات الحربية كانت تحمل أحيانًا في طياتها خيرًا عميمًا للجيش. وإذا كنا لا نعرف كيف كان البطالمة يتصرفون عادة في أسلاب الحرب، فإننا نعرف على الأقل أن بطلميوس الرابع أعطى مكافآت شخصية لجنوده بعد انتصار موقعة رفع، وأن ضباط بطلميوس الثالث والرابع كانوا يباهون بما أغدقه عليهم سيدهم من الهدايا الذهبية. وإلى جانب كل ذلك كان أمام موظفي الحكومة، ولاسيما في عهد البطالمة الأواخر عندما ضعفت السلطة المركزية، مجال متسع لاستغلال سلطتهم وإثراء أنفسهم بطرق غير مشروعة على حساب التاعسين من الأهالي الذين كانوا تحت سلطانهم.

(2) طبقة أرباب المهن الفنية: وقد كان أفرادها كثيري العدد ويتفاوتون في المكانة الاجتماعية والحالة المادية. ويبدو أن أعظمهم قدراً وأيسرهم حالاً كانوا يقيمون في الإسكندرية، بينما كانت تتفرق جموعهم في مختلف أنحاء البلاد وخاصة حيثما كانت تعيش الجماعات الإغريقية.

وقد كان البطالمة ينزلون في معهد الإسكندرية أبرز العلماء ورجال الأدب في عهدهم، ويوفرون لهم أود معيشتهم، ويعفونهم من الضرائب وسائر الالتزامات الأخرى. ويكلفون موظفين معنيين برعاية شئونهم المادية، وذلك لكي يتوافروا على البحث العلمي والتأليف. وإذا كان بعضهم يقومون بأداء واجبات خاصة يعهد إليهم الملوك بها مثل تنظيم مكتبة الإسكندرية أو الخدمة الطبية، فإن أغلب نزلاء هذا المعهد كانوا ينقطعون عامًا تلو عام لدراساتهم دون أن تشغلهم عنها مشاغل الحياة المادية أو السياسية، ولذلك أصبح أعضاء هذا المعهد طلاب علم بأدق معاني الكلمة. وقد كانت شهرة كبارة المتخصصين منهم تجتذب حولهم الشبان الشغوفين بطلب العلم للتتلمذ عليهم، مثل ما كان الشبان يلتفون حول أصحاب المدارس الفلسفية في أثناء وغيرهم من كبار الفلاسفة.

وقد كانت توجد أيضًا فئات من المعماريين والمصورين والمثالين، الذين ساهموا في بناء المنشآت الإغريقية وتجمل المدن الإغريقية وإقامة التماثيل للمولك والآلهة وإشباع ذوق المترفين من الإغريق.ذلك أن البطالمة الأوائل، وقد تملكتهم الرغبة في إعطاء مصر صبغة إغريقية يباهون بها في العالم الإغريقي، عملوا على أن يجتذبوا إلى مصر الكثيرين من الفنانين الموهوبين، الذين كلؤوهم برعايتهم ووصلت إلينا بعض مبتكراتهم، التي خلعوا عليها طابعًا خاصًا ميز الفن الإغريقي في مصر عنه في سائر الممالك الهينيسية، على نحو ما سنعرف يما بعد. لكننا لا نعرف مع الأسف إلا اسم سوستراتوس من كنيدوس الذي شيد منارة الإسكندرية. ولابد من أنه كان للفنانين المبرزين أتباع، تلقنوا أصول الفن على يديهم وخلفوهم في مزاولة هذه الفنون، كما نستخلص من استمرار الطراز الإسكندري طوال عهد البطالمة. وتدل نتائج الحفائر أيضًا على أنه قد نشأ إلى جانب الفنانين الممتازين، الذين كانوا يعيشون في المدن الإغريقية بوجه عام والإسكندرية بوجه خاص، الكثيرون من الفنانين المتواضعين الذين انتشروا في أنحاء البلاد.

وقد كان من أهم الفنانين جماعات فناني ديونيسوس، ويمكن تقسيم أعضائها قسمين وهما: الأعضاء العاملون والأعضاء الفخريون. وكان الفريق الأول يتكون ممن يزاولون باستمرار إحدى المهن التي تتصل بالمسرح كالشعراء ومديري المسرح والممثلين والموسيقيين والراقصين وغيرهم ممن يساهمون في إخراج المسرحيات أو الرامج الموسيقية. أما الأعضاء الفخريون فكانوا أولئك الذين يعطفون على تلك الفنون وتجوز برعاية البطالمة وعونهم إلى حد أنهم كانوا في مركز بنسبة مركز أعضاء المعهد العلمي في الإسكندرية. وقد كانوا مثلهم أيضًا يقومون بتعليم النشئ الذين تستهويهم فنونهم.

وكان يوجد كذلك شعراء ومحاضرون في مختلف المواد وموسيقيون وغيرهم ممن لا ينتمون إلى جماعات فناني ديونيسوس ولا إلى غيرها من جماعات أرباب المهن أو الحرف. وقد كانوا يزاولون مهمتهم مستقلين عن غيرهم، ويتكسبون قوتهم متنقلين من مكان إلى آخر لإلقاء أشعارهم أو محاضراتهم أو عزف موسيقاهم لقاء أجر معين من الجمهور. وقد كان يشبههم في ذلك المعلمون، على نحو ما سنرى عند الكلام عن التعليم.
وقد كانت مهنة الطب من أهم المهن في حياة العالم الهلينيسي، فإنه لم توجد مدينة تحترم نفسها دون أن يوجد فيها على الأقل طبيب واحد حكومي وعدد من الأطباء الخصوصيين. وفي أوقات الضرورة ـ أوقات انتشار الأوبئة واشتعال نيران الحروب وعقد الحفلات العامة، عندما كانت تتجمع أعداد كبيرة من الناس في أحوال غير صحية ـ كانت المدن تستعير من بعضها مشاهير الأطباء وتخلع عليهم ألقاب التشريف لقاء خدماتهم. وقد كان الأطباء لا يعتمدون على تعليمهم النظري والعملي فحسب، بل كذلك على منتجات حرف أخرى، فإنه منذ عصر بعيد كانت الأدوات الجراحية وغيرها من الأدوات الطبية شائعة الاستعمال، لكنه أدخلت عليها تعديلات كثيرة في العصر الهلينيسي. ولم يكن لهم غنى عن استخدام الأدوية المختلفة، التي كان يعدها ويبيعها الأطباء أنفسهم ومساعدوهم، لكنهم كانوا يلقون في ذلك منافسة الصيادلة المحترفين، وكانت لهم سمعة سيئة جدًا، بسبب إدعائهم الطب وتغريرهم بالجماهير التي كانوا يبيعون لها مختلف أنواع الأدوية، زاعمين أن لها قدرة سحرية عيجيبة على أشفائهم.

وقد كان ملوك العصر الهلينيسي يستخدمون أمهر من يستطيعون الوصول إليه من الأطباء للعناية بصحتهم وصحة أسرهم وأفراد حاشيتهم وكان هؤلاء الملوك يتنافسون في الفوز بخدمات أعظم أطباء عصرهم وفي إقامة مدارس الطب في عواصمهم. وقد كانت مدرسة الطب في الإسكندرية من أشهر هذه المدارس، ويبدو أنها كانت أحد أقسام معهد الإسكندرية. وتعرف أنه كان على رأسها في خلال جانب من القرن الثاني قبل الميلاد طبيب يدعى خريسرموس (Chrysermos) وقد عنى كل ملوك العصر الهلينيسي بتنظيم الخدمات الطبية لعواصمهم والجيش والسكان المدنيين عامة. ويبدو أن البطالمة قد استعانوا بالتقاليد المحلية وتقاليد المدن الإغريقية في إنشاء خدمة طبية حكومية كانت الأولى من نوعها في تاريخ البشرية. ولاشك في أنه قد ساعدهم على ذلك أنه كان يوجد في مصر قبل عصر البطالمة نوع من الخدمة الطبية الحكومية، وأن مهنة الطب كانت منتشرة في مصر قبل عصرهم ووصلت إلى مستو عال من التخصص. وتحدثنا المصادر القديمة بأنه في عصرهم البطالمة كان الأطباء المحليون يعالجون دون أجر الجنود النازلين في الأقاليم، لأن الدولة كانت تعطيهم مرتباتهم ولعل الانتفاع بهذه الخدمات الطبية المجانية لم يكن مقصورًا على الجنود وحدهم، إذ أن ضريبة الخدمة الطبية كانت تجبي من كل سكان الأقاليم بما في ذلك الجنود.

وتلقى النصوص القديمة بعض الضوء على ناحية أخرى من الخدمة الطبية في مصر البطلمية، إذ نرى في قضية هرمياس المشهورة أن طبيبًا يدعى تاتاس (Tatas) ـ يبدو أنه كان مصريًا ـ قد قدم للقائد تقريرًا خاصًا بالقيود المفروضة على محنطي الموتى في طيبة، ويشير التقرير في سياقة إلى الأمر الملكي الخاص بهذا الموضوع. وفي خطاب خاص من القرن الأول قبل الميلاد نجد طبيبًا إغريقيًا يدعى أثينا جوراس (Athenagoras) يعطى أمراً للمكلفين بتكفين الموتى وكهنتهم في إحدى جهات الفيوم للسماح بنقل جثة مساعده، الذي توفي هناك، إلى مدينة بطوليميس. وقد كان أثينا جوراس يقيم في الإسكندرية، ويبدو أن عمله كان يتصل بمهمام تلك الفئة الكبيرة من المشتغلين بإعداد جثث الموتى لدفنها وبدفن جثث المصريين الذين يتوقون في الإسكندرية وفي الأقاليم. وقد كان هذا العمل هامًا جدًا من الناحية الصحية لأن التحنيط والدفن كانا يتطلبان عناية كبيرة ورقابة صحية شديدة لتفادي تفشي الأوبئة، وخاصة في بلد حار مثل مصر.

يبين إذن أنه كانت توجد بمصر مصلحة حكومية للشئون الصحية، كانت منظمة تنظيمًا دقيقًا، وأنه كان على رأسها طبيب كبير يقيم في الإسكندرية، ويساعده عدد كبير من الأطباء الحكوميين في طوال البلاد وعرضها، كان بعضهم من الإغريق والبعض الآخر من المصريين. وقد كانت هذه المصلحة تعني بوقاية السكان وعلاجهم من الأمراض. ولا يبعد أنه كانت للإسكندرية خدمة طبية خاصة بها. وإلى جانب الأطباء الحكوميين، يبدو أنه كان يوجد في مصر أطباء خصوصيون مثل ما كانت الحال في البلاد الأخرى.

وقد كان من بين عناصر الحياة الاجتماعية في مصر أولئك الذين كانوا يحترفون مهنة المحاماة. وقد كانت الحكومة تعترف بالمحامين، لكنها حاولت الحد من نشاطهم لكي لا يتدخلوا في ئون التزمات الأهالي قبلها على نحو ما مر بنا. أما فيما عدا ذلك فإنهم كانوا كثيري النشاط في المحاكم للمرافعة في مختلف أنواع القضايا. وقد سلف الذكر أنه كانت تجبي ضريبة خاصة بالمحامين، لكننا لا نعرف ماهيتها ولا طريق جبايتها. ويمكننا أن نكون فكرة عن وسائل المحامين ومقدرتهم من وثائق قضية هرمياس المشهورة، التي رأينا فيها اثنين من المحامين الإغريق يتوليان الدفاع عن طرفي الخصومة في هذه القضية، فقد بذلك هذان المحاميان في سبيل ذلك جهودًا مشكورة تستحق الإعجاب. ويبدو أن المحامين كانوا لا يتلقون أصول مهنتهم في مدارس خاصة لدراسة القانون، لأننا لم نسمع عن مثل هذه المدارس، ولعلهم كانوا يكتسبون درايتهم بالمران العملي ويلقنونها لمساعديهم. ويبدو أن ذلك كان أيضًا شأن المعماريين والمهندسين ـ المدنيين منهم والعسكريين ـ ومخططي المدن وقباطنة السفن والصيادلة، فنحن نتبين من المصادر القديمة أن كل أولئك كانوا عناصر مألوفة في المجتمع لكننا لا نعرف شيئًا عن تعليمهم، ولذلك يميل الباحثون إلى القول بأنه باستثناء دراسة الطب لم توجد أية دراسات عليا لإعداد أرباب المهن.

ويجب أن نذكر أخيرًا أنه كان من أهم مظاهر الحياة في العصر الهلينيسي انتشار احتراف مزاولة الألعاب الرياضية، حتى تكونت فئة من محترفيها نافست الممثلين والمفتين في محبة الجماهير، وقد كانت أهم أولئك المحترفين الرياضيين المصارعون والملاكمون.

(3) طبقة رجال الأعمال: لقد رأينا كيف نظم البطالمة حياة مصر الاقتصادية تنظيمًا دقيقًا، وكيف كانوا يحتكرون أغلب الحرف والصناعات لكنهم ضمانًا للحصول على أكبر قدر من الربح وتفاديًا للتعرض لأقل قدر من الخسارة، كانوا يبيعون حق مزاولتها كما كانوا يبيعون حق جباية الضرائب المختلفة للملتزمين، ومن ثم نشأت طبقة كبيرة من الملتزمين والضامنين وتدل الوثائق المختلفة ـ وبخاصة "وثيقة الدخل"، فهي تحوي القواعد العامة المتعلقة ببيع حق جباية الضرائب، وكذلك وثيقة من عهد ابيفانس (عام 203-202) تضم مجموعة اللوائح الخاصة بكل الضرائب التي كانت تشهر في المزاد في مديرية أوكسيرينخوس ـ على أن الملتزمين وضامنيهم كانوا يمتلكون أراضي وعقارات بقدمونها للحكومة ضمانًا للقيام بتبعاتهم. فيرينا أذن نظام بيع الاحتكارات والضرائب أنه في عصر فيلادلفوس كانت توجد أو في طريق الوجود طبقة كبيرة من الأثرياء متوسطي الحال الدين كانت لديهم ممتلكات وأموال مدخرة، وكانوا يرغبون في استغلال ثروتهم استغلالاً مثمرًا. ولما كانت قد تكونت في هذا الوقت طبقة إغريقية متوسطة غير طبقة الموظفين، إذ كان محظورًا على الموظفين أن يتعاقدوا على التزام الضرائب على الأقل، أو أن يكونوا شركاء ملتزميها أو أن يقوموا بضمان هؤلاء الملتزمين.

وكان لهذه الطبقة شق آخر أقل شأنًا من الأول، وهو يتألف من آلاف تجار التجزئة، الذين كانوا يشترون من الحكومة حق بيع أنواع معينة من السلع وكانوا مسئولين أمامها عن تصريفها، ولذلك كان يتعين أن يكون لديهم رأس مال معين. لكن هذه الفئة لم تتكون من الإغريق وحدهم، فإن غالبية تجار التجزئة كانت من المصريين. غير أن وجود هذه الفئة من الإغريق يشير إلى أنه جنبًا إلى جنب طبقتهم الوسطى الثرية نشأت طبقة وسطى إغريقية متواضعة الحال تتصل هي أيضًا اتصالاً وثيقًا بالنظام الاقتصادي الذي وضعه البطالمة لمصر.

ولا يبعد أن الطبعة الوسطى الإغريقية بوجه عام كانت تتألف جانبًا من الموظفين والضباط المتقاعدين وسلالتهم، وجانبًا من سلالة الإغريق الذين كانوا قد استقروا في مصر قبل الفتح المقدوني؛ وجانبًا، لعله أوفرهم عددًا، من أولئك الذين وفدوا من بلاد الإغريق لا لتولي المناصب الحكومية ولا للانخراط في سلك الجندية بل لأنه كانت لديهم رءوس أموال قليلة أو كثيرة، يريدون استغلالها على أحسن وجه، ولم يكن اضطراب أحوال بلاد الإغريق والجزر مواتيًا لذلك، فيمموا أشطر مصر حيث تفتحت لهم أبواب الرزق ليغترفوا منها.

وعلى كل حال لقد كانت هناك طبقة وسطى من رجال الأعمال الإغريق في طريق التكوين في مصر على عهد البطالمة الأوائل. الذين لمسوا ذلك وفتحوا أبواب نظامهم الاقتصادي لهذه الطبقة الجديدة. التي يبدو أنه قد بهرها أمل مشاركة الحكومة أرباحها في استغلال موارد البلاد. وقد كان بعض أفراد هذه الطبقةخبراء في التزام الضرائب في بلادهم، فكان لديهم المجال متسعًا لمزاولة عملهم بنجاح في مصر. وكان البعض خبراء في الصناعة فكان المجال فسيحًا أمامهم لاستغلال هذه الخبرة في وطنهم الجديد. وكانت تجري في عروق الكثيرين منهم دماء التجارة، ولابد من أنهم وجدوا فرصًا مغرية في التجارة الخارجية. ويضاف إلى كل ذلك أنه كانت أمام المهاجرين أراض وفيرة لاستغلال رءوس أموالهم فيها، بمزاولة ما ألفوه في بلادهم من غرس الكروم والزيتون أو تربية الماشية والدواجن والنحل.

(4) طبقة أرباب الحرف اليدوية: وكانت تتألف من الكثيرين من المهاجرين الذين كانوا يتكسبون قوتهم من الأعمال المضنية في الزراعة والصناعة والتجارة، عمالاً وصناعًا وما أشبه ذلك، ولا ريب في أنه كانت توجد فئة من هذه الطبقة في المدن الإغريقية، حيث كانت تكثر المنشآت الإغريقية لكن فئات منها كانت منتشرة كذلك في أنحاء البلاد وبخاصة في الفيوم ويكفي أن نلقي نظرة على وثائق زينون البردية، لنرى أن أعدادًا كبيرة من الإغريق كانت تساهم في مختلف أوجه النشاط الإقتصادي في ضيعة أبولونيوس بفيلادلفيا. ويبدو حقًا أنه كان لدى بعضهم رءوس أموال يستثمرونها في غرس الكروم وزراعة القمح ولذلك نضعهم في الطبقة الوسطى، لكنه يبدو كذلك أن البعض الآخر لم يكونوا على الأرجح إلا صناعًا وعمالاً عاديين ينافسون المصريين فيما يقومون به.

وكم كان يحل الكثير من مشاكلنا ويساعدنا على تكوين صورة صحيحة أو قريبة من الصحة عن هذا العصر. لو كنا نعرف عدد الأجانب الذين استقروا في مصر وزاولوا مختلف الأعمال! بيد أنه ليست لدينا مع الأسف معلومات يمكن الاعتماد عليها في هذا الشأن. وقد حاول سجريه (Segre) حديثًا أن يقدر عدد سكان مصر الإغريق على أساس ما وصلنا من المعلومات عن قوة الجيوش التي جندها البطالمة في مصر وبخاصة قوة جيش بطلميوس الرابع في موقعة رفح. ويقدر سجريه أن مصر قد امتصت نحوًا من 150.000 من الذكور الراشدين من سكان بلاد الإغريق ومقدونيا. وأن سوريا وآسيا الصغرى امتصت ضعف هذا العدد. لكن هذه الأرقام تستند إلى أدلة واهية يسهل هدمها. فقد أخطأ هذا الكاتب في تقدير قوة الفرسان والمشاة الإغريق في موقعة رفح، ولم يدخل في حسابه الإغريق الذين استوطنوا في الإسكندرية وخارجها ولم يكونوا من رجال الجندية الذين استقروا في مصر. ولسنا نعرف على الإطلاق إذا كان التجنيد قد شمل هؤلاء الإغريق المدنيين كما شمل العسكريين، ولا إذا صح ذلك فالي أي حد. ويصاف إلى ذلك أنه من المحتمل جدًا أن عدد إغريق مصر في عام 217 لا يمثل عدد الذين هاجروا في الأصل من بلاد الإغريق ومقدونيا، فإن نزلاء مصر كانوا يتزوجون ويتناسلون بكثرة.

ليست هناك تعليقات: