السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الآداب والعلوم 2


العصر البطلمي arrow الآداب والعلوم

2.الشعـــر

طباعة أرسل لصديق
ولم يقتصر نشاط الإسكندرية في مجال الشعر على القيام بدور رئيسي في دراسة الشعر القديم ، بل شمل كذلك أحياء فنون الشعر التي أهملها شعراء العصر الكلاسيكي .

ذلك أن أعظم شعراء العصر الكلاسيكي وقفوا جهودهم على المسرحيات ـ على حساب فنون الشعر الأخرى ـ وبلغوا بشعرهم مستوى رفيعًا كان يتعذر بلوغه على من أتوا بعدهم، ولذلك صرف أعظم شعراء العصر الهلينيسي جهودهم في أحياء الشعر غير المسرحي. ويلاحظ أنهم حين أحيوا فنون الشعر القديمة فعلوا ذلك بروح جديدة كل الجدة. وليس معنى ذلك أن كل شعراء العصر الهلينيسي انصرفوا عن كتابة المسرحيات، فقد اشتهر في الإسكندرية شاعر الكوميديا يدعى ماخون (Machon) وسبقه شعراء للتراجيديا عرفوا في عصر بطلميوس الثاني بالشعراء السبعة، إلا أن هذه المسرحيات لم تبلغ ما بلغته فنون الشعراء الأخرى.

وقد كانت بداية حركة الأحياء حوالي عام 300 ق.م. في مدن آسيا الصغرى الواقعة على شاطئها الجنوبي الغربي، وكذلك في الجزر المجاورة. وكان في مقدمة القائمين بهذه الحركة فيلتاس (Philetas) من جزيرة بوس. واسكلبيادس من ساموس، وسيمياس الرودسي. وقد جمع الشاعران الأولان على الأقل حولهما عددًا من التلاميذ والرفاق، إذ نعرف أن هرمسياناكس (Hermesianx) من كولوفون وثيوكريتوس من سراقوسة وزنودوتوس من أفيسوس كانوا يتصلون بفيلتاس، كما أن بوسيديبوس من بلا وهديلوس من ساموس كانا من رفاق اسكلبيادس، وفي تلك الأيام كان الانتقال يسيرًا من كوس أو ساموس إلى الإسكندرية، وبينما بقى الشعراء الشيوخ في مواطنهم كان الشعراء الشبان يفدون عادة على الإسكندرية.

وكانت أحب ألوان الشعر إلى قلوب الإسكندريين هي الشعر الحماسي (Epio) والمرثيات (Elegy) والشعر الغنائي والشعر السباعي (Lambus) والأبيجراما (Epigram) ويمتاز الشعر الحماسي الإسكندري بالميل إلى الإيجاز ميلاً شديدًا أدى إلى إنتاج القصائد القصيرة (Epyllion)، وبأنه لم يعد كما كان في الماضي مقصورًا على الرواية، ذلك أن الإسكندريين كانوا يميلون إلى تخطي الحدود التي كانت في الماضي تفصل بين ألوان الشعر المختلفة، ومن ثم فإن القصائد الحماسية القصيرة اقتبست بعض التفاصيل من الرثيات والشعر الغنائي، وأصبحت المرثيات تستخدم في الرواية، بل أن كاليماخوس استخدمها لمختلف الأغرض، وكذلك ظهر في الشعر الغنائي تنوع عجيب. وقد اصطنع شعراء الإسكندرية بعض مظاهر الشعر القديم، فإن اسكلبيادس وثيوكريتوس بثار روح الحياة في أوزان الشعر القديم التي كان يستخدمها الكايوس وسافو في أواخر القرن السابع وبداية السادس، كما أن شعراء التراجيديا الإسكندريين شعراء التراجيديا الذين برزوا في أثينا في خلال الشطر الأول من القرن الخامس، مثل فرينيخوس وايسخيلوس. وإذا كان كاليمخاوس أوزان جديدة، فإنه ذهب في أناشيده إلى حد محاكاة أناشيد هوميروس ومع ذلك فإن شعراء الإسكندرية لم يستمدوا في العادة وحيهم من مصادر الشعر التقليدية، إذ ليس في شعرهم مكان للعواطف الدينية ولا القومية على نحو ما عرفته العصور القديمة. ومن العجيب أن شعراء الإسكندرية لم يعنوا بالإشادة بمجهودات زملائهم علماء دار العلم، لكن بعض هؤلاء العلماء الفوا القصائد عن أعمالهم مثل أراتوسثينس الذي وضع قصيدة عن النجوم بيد أنه كان للحركة العلمية في الإسكندرية أثرها في الشعر، فإن شعراء الإسكندرية أظهروا اهتمامًا شديدًا في الكتابة عما وبخاصة تلك التي عرفت باسم القصص المحلية وأهملت الآداب القديمة شأنها، فلم ينتشر ذكرها بين الناس لكن تكدست مقادير وفيرة منها في المكتبة الكبرى. وقد كانت هذه القصص تهدف عادة إلى تفسير بعض العادات أو الطقوس المحلية، وهذا هو ما أثار شغف الإسكندريين بهذه القصص. ولو أن أولئك الشعراء قد اعتمدوا على خيالهم أكثر مما اعتمدوا على مراجعهم، لأصابت منتجاتهم توفيقًا كبيرًا، ويبدو أنه قد ساعد على هذا الاتجاه غنى مكتبة الإسكندرية وتكليف شعراء مثل كاليمخاوس وأبولونيوس وليكوفرون بتنظيم شئون هذه المكتبة، فإنه بمضي الزمن أثر علم هؤلاء الشعراء في شعرهم فلم يكن هناك مفر من أن تظهر ثمار قراءتهم في شعرهم على نحو ما يبدو في شعر كاليماخوس وأريستارخوس بوجه خاص، لكن هؤلاء الشعراء العلماء تخطوا نطاق الذوق السليم في هذه الناحية. ويتألف أغلب الشعر الأسكندري من كلمات غامضة، كان أرسطو قد أوصى بها لتنميق الشعر، وكان فيلتاس وسيمياس قد جمعاها في معاجم.

إن فن الشعر الذي نشأ في مصر كان إغريقيًا بحتًا، ولا يمت بصلة إلى مصر وشعبها، حتى أن تيوكريتوس عندما كان يتغنى بوصف الطبيعة كان لا يصف جمال الطبيعة في مصر بل في كوس وسراقوسة. وقد كان الشعراء لا يعرفون عن مصر، وحتى بعد ما عاشوا فيها، إلا ما قرأوه في القصص والخرافات الإغريقية أو ما كتبه هرودوتوس وأفلاطون. وكانوا لا يوجهون عنايتهم إلى شيء من المميزات المحلية، إلا ما يستطيعون استخدامه في إطراء الملك الذي يرعاهم. ومن العسير أن نجد في أشعارهم انطباعًا شخصيًا ولو طفيفًا عن رحلة نيلية مثلاً. وإذا كانت الإسكندرية قد أثرت في إلهامهم، فقد كان ذلك على نحو ما كانت انطاكية أو برجام ـ بهذا الخليط من سكان المدينة الملكية، التي خلت من كل روح سياسي حر وإن لم تخل تمامًا من الفخار المحلي ـ تؤثر في شعرائها.

وقد أتهم الإسكندريون بإغراقهم في تصوير العواطف، لكن شعرهم الحماسي يسرف في الاتجاه المضاد لذلك. وقلما نجد أثرًا للحب في أشعارهم الغنائية أو في مقطوعاتهم أو في أشعارهم التي تصور الطبيعة. ويبدي الإسكندريون اهتمامًا كبيرًا يفوق اهتمام أسلافهم بتصوير حياة الريف ومناظره. ويزعم البعض أن هذا الاهتمام كان رد فعل طبيعي لظروف الحياة الصاخبة في مدينة كبيرة مثل الإسكندرية، مم حدا بالشعراء إلى أن يحلموا بالحياة الوادعة في بعض أنحاء الريف الهادئ. لكن هذا الزعم ليس تفسيرًا شافيًا لهذا الاتجاه الشعري، فإن كوس لم تكن عاصمة كبيرة مثل الإسكندرية، ومع ذلك يميل شعراؤها أيضًا إلى الطبيعة.هذا إلى أن حياة الحضر لم تكن أمرًا مستحدثًا، فقد عاش الشعراء من قبل في مدن كبيرة مثل أثينا وسراقوسة. ولذلك يبدو أنه لا يمكن تفسير اهتمام الشعر الهلينيسي بالطبيعة إلا بحدوث تغيير جوهري في وجهة نظر الشعراء، الذين أخذوا يبحثون عن مصادر جديدة لوحيهم، فدفعهم ميلهم للتجديد إلى الاهتمام بناحية كان أسلافهم قد أهملوها.

وقد كان في طليعة الشعراء الذين وفدوا على الإسكندرية فيلتاس من كوس، وكان أستاذ بطلميوس الثاني وزنودوتوس، فهو لم يكن شاعرًا فحسب بل فقيهًا كذلك، ويمكن وصفه مؤسس الشعر الإسكندري.

ويعتبر كاليماخوس أبرز شعراء الإسكندرية في عصره، وقد ولد في قورينة حوالي 310 ثم هاجر بعد ذلك إلى الإسكندرية، حيث نلقاه لأول مرة يقوم بالتدريس في ضاحية اليوسيس. ولعل ابيجرامانه التي ألف أغلبها في ذلك الوقت هي التي لفتت نظر القصر البطلمي إليه. وعلى كل حال فإنه عهد إليه بمنصب كبير في المكتبة الكبرى، حيث قضى الشطر الأوسط من حياته في وضع فهارس المكتبة. وكان لا يزال يقرض الشعر في الشطر الأخير من حياته في عهد بطلميوس الثالث، ولم تخل فترة عظمته من النزاع الأليم، لأنه إذا كان أبولونيوس، كما يبدو الآن محتملاً، هو الذي أصبح أمينًا للمكتبة الكبرى بعد زنودوتوس، فإن كاليماخوس يكون قد واجه في أوج مجده مناوءة شاعر كان رئيسه الرسمي مع أنه كان يومًا ما تلميذه. لكنه عندما ارتقى بطلميوس الثالث العرش (في عام 246)، فقد أبولونيوس منصبه وغادر مصر، فأشاد كاليماخوس بهذا الحادث في نهاية قصيدته المعروفة "نشيد لأبولو". ويستخلص البعض من قول كاليماخوس "الكتاب الكبير شر كبير" أنه كان لا يحب الإطالة في القصائد، لكن لا يبعد أنه لم يقل ذلكباعتباره شاعرًا وإنما باعتباره مصنفًا للفهارس، فإن قصيدته "السبب" (Aitia) كانت بحسب عدد ما فيها من الأشعار ـ أكثر من 3000 بيت من الشعر ـ "كتابًا كبيرًا". ولعل ما كان يزعج كاليماخوس هو الإطالة في موضوع واحد، ولذلك فإنه كان ينصح أما باختيار موضوع واحد محدد أو بالانتقال سريعًا من قصة إلى أخرى.

ويحدثنا القدماء بأنه وضع 800 كتاب، لكنه لم يصل إلينا من نثره لا قطع متفرقة ومن شعره إلا المقطوعات والأناشيد. ويلاحظ أن كاليماخوس اقتفى في خمسة من أناشيده أثر الأناشيد الهومرية مع إدخال بعض التعديلات التي تجعلها تتمشى مع روح العصر، وأنه في اثنين منها على الأقل أعطى للنشيد اتجاهًا سياسيًا. فقد وصف نشيده لزيوس بأنه بيان عن حق الملوك الإلهي. ويبدو أن نشيده لأبولو كان يرمي إلى إقناع قورينايئة بقبول سيادة بطلميوس الثالث. ويلاحظ أن أناشيده تخلو من العواطف الدينية الحقيقية، لكنها تفيض بالأوصاف البارعة والتصويرات الرائعة.

وتعتبر قصيدة "السبب" أطول قصائد كاليماخوس، وهي مزيج من المعلومات التاريخية والجغرافية والميثولوجية، لكنها تفتقر إلى الحبكة التي تكسبها طابع الوحدة، فإن المؤلف يتنقل فيها من موضوع إلى آخر حسبما يتراءى له. ولعل مرد ذلك إلى أنه أوردها على هيئة حلم.

وتعتبر قصيدة هكلي (Hecale). التي تحوي 1000 بيت من الشعر، مثل كاليمخاوس الأعلى للشعر الحماسي.وبطلة هذه القصة سيدة عجوز قضى البطل القصصي ثسيوس ليلة في كوخها قبل منازلة ثور مارثون، وبعد انتصار ثسيوس عاد يشكر مضيفته، لكنه وجد أنها قد توفيت، وأطول حلقة في تلك القصة ذلك الجزاء من القصيدة الذي وتناول الفترة التي قضاها ثسيوس في الكوخ، وهو يصور لنا غرام الإسكندريين بالصور الواقعية من عهد البطولة الإغريقي، وترينا بقايا أشعار كاليمخاوس الغنائية تنوعًا عجيبًا في الأوزان والموضوعات، وأهمها نشيد أرسينوي الجنازي. وقد ألف كاليماخوس كذلك الكثير من المرثيات، أفضل المعروف منها قصيدة "جدائل شعر برينيكي".

ولم يولد في مصر شاعر هلينيسي من الطراز الأول إلا أبولونيوس الذي أطلق عليه لقب الودسي، لأنه استقر في رودس وأصبح أحد مواطنيها بعد طرده من منصبه في المكتبة، لكنه كان في الأصل من نقراطيس أو الإسكندرية، ولذلك كان خصمه كاليماخوس يقارنه بالأيبيس (Ibis) وهو طائر له عادات قذرة. وقد اتبع أبولونيوس أساليب عصره في عدة قصائد ألفها عن تأسيس المدن، لكنه تحدى هذه الأساليب في أعظم قصائده، وتعرف باسم أرجوناوتيكا (Argonautica)؛ وهي تتألف من 5835 بيت من الشعر، ويعيبها ضعف تصوير الشخصيات وافتقارها إلى الوحدة. ومع ذلك فإن بها نواح ممتازة كثيرة، أهمها قوة التحليل النفساني التي نراها في تصوير حب ميديا لياسون (Jason) بطل القصة، وفي النزاع العنيف بين هذا الحب وبين تعلقها ببيتها وأسرتها. وتستحق التقدير كذلك قدرة هذا الشاعر على وصف الطبيعة والمظاهر الطبيعية، فإنه كثيرًا ما يزعج الشاعر القصصي تصوير الزمن الذي تدور فيه الحوادث، لكن أبولونيوس يتحاشى التكرار ويعطينا صورًا رائعة للفجر والفسق والليل.

ومن أشهر شعراء القرن الثالث ثيوكريتوس، الذي انضم إلى جانب كاليماخوس في النزاع الذي نشب بينه وبين أبولونيوس، وقريًا أشعاره أمر نصائح الشاعر الكبير كاليماخوس، الذي كان يفضل التنوع والقصائد القصيرة. وقد مر بنا أنه ولد في سراقوسة وذهب في شبابه إلى كوس حيث كان أحد أفراد جماعة فيلتاس، لكننا نجده ثانية في سراقوسة عقب عام 275، حيث حاول كسب رعاية مكلها هيرو (Idyll XVI) وعندما أخفق في ذلك، ذهب إلى الإسكندرية حيث ألف أرجوزة بعنوان "نساء سراقوسة (Idyll XVII). لكنه لما لم يكن لهذا الشاعر غرام شديد بحياة القصور والمكتبات، ذاته سرعان ما برح الإسكندرية لينعم بحياة الريف بقية حياته في كوس أو بجوارها حيث استمر في صناعة الشعر، وقد أطلق عليه لقب "والد شعر الريف"، ومع ذلك فإن شعره ونجاحه لم يقتصرا على هذا اللون وأن كان أهم ما يمتاز به هذا الشاعر. ويعزو البعض اهتمام أيوكريتوس بهذا اللون من الشعر إلى أثر بيئة فيلتاس الأدبية فيه، لكننا نعتقد أنه كانت لميوله الخاصة كذلك أثر كبير في هذا الاتجاه، فقد رأينا كيف أن حبه لحياة الريف دفعه إلى النزوح من حياة الحضر في الإسكندرية. ولاشك في أنه كان يتعذر عليه أن يدرك ما أدركه من النجاح في هذا اللون من الشعر، لو أنه لم يكن له شغف خاص بحياة الريف يمكننا أن نستدل عليه كذلك من قوة ملاحظته الدقيقة لحياة أهل الريف وعاداتهم. وقد أصاب ثيوكريتوس كذلك نجاحًا كبيرًا في أرجوزاته الفكاهية عن حياة الحضر، حتى أن إحداها (Idyll II) تعتبر أعظم ما أنتجه هذا الشاعر.

ومن أشهر شعراء الإسكندرية الذين ألفوا الأرجيز الفكاهية شاعر يدعى هرونداس (Herondas)، كان فيما يبدو من أبناء أيونيا لكنه عاش في كوس وكذلك في الإسكندرية، وكان من معاصري كاليماخوس لكنه لم يحشر في زمرته المختارة. وهذه الأراجيز الفكاهية تصور عادة أحداث الحياة اليومية. ويتصل بهذا اللون من الشعر تلك القصائد التي تفيض بالأقوال الفاحشة، مثل أشعار سوتادرس (Sotades) عند زواج بطلميوس الثاني من أخته أرسبينوي، التي كوفئ عليها هذا الشاعر بإغراقه في البحر أو بإلقائه في غياهب السجن .

وإذا كان العصر الذهبي للشعر الإسكندري لم يعمر أكثر من نصف قرن، يمتد من حوالي عام 290 إلى عام 240 ق.م. فإن الشعر الذي يصور حياة الريف بقى منتعشًا حتى القرن الأول قبل الميلاد. فقد حمل رسالة ثيوكريتوس موسخوس (Moschos)، تلميذ أريستارخوس. وبيون (Bion) الأزميري الذي ولد قبيل بداية القرن الأول قبل الميلاد. لكنهما لم يبلغا ما بلغه ذلك الشاعر العظيم. ولم يكن خليفة ثيوكريتوس الحقيقي شاعرًا إغريقيًا وإنما الشاعر الروماني فرجيل.

ليست هناك تعليقات: