السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الآداب والعلوم 3

العصر البطلمي arrow الآداب والعلوم

3.النــثر

طباعة أرسل لصديق
لم يعمر إلا النزر اليسير من النثر الهلينيسي نتيجة لعدم عناية الكتاب بأسلوبهم ، ولذلك فإنه عندما نهض النثر من كبوته حوالي عام 100 ق.م. وأخذ الكتاب المتأخرون يصيغون في أسلوبهم مادة أسلافهم في العصر الهلينيسي ، اكتفى الجمهور المتعلم بذلك ولم يعد يتداول الكتب الأصلية ، فكان مصيرها الزوال .

وإذا تركنا الأسلوب جانبًا، فإننا نلاحظ أن نثر العصر الهلينيسي قد تأثر بعاملين كان لهما أسوأ الأثر في الحط من قيمة هذا النثر. أما العامل الأول فهو أثر المشائين، إذ أن غرامهم بجمع المعلومات كما هي أفضى إلى الخلط بين الحقائق والقصص دون أي تمييز بينهما. وقد كان أهم ما اختص به المشاءون كتابة تاريخ حياة الأفراد البارزين، لكنه كان يشوه هذه التواريخ عادة المزج بين الحق والباطل.

وأشهر مؤرخي حياة الأفراد في الإسكندرية في خلال القرن الثالث أثنان، كان أحدهما يدعى ساتيروس، وقد عثرنا في البهنسة على أربع صفحات مما كتبه عن حياة الشاعر الأثيني يوريبيدس، والكاكتب الآخر يدعى هرميبوس الأزميري تلميذ كاليماخوس. وقد اقتفى أثر هذين الكاتبين الكثيرون من الإسكندريين، الذين كدسوا عن حياة الأفراد معلومات وفيرة لكنها خليطة، حتى أنه عندما عندما استخدمها بلوتاريك في كتابة تواريخه الرائعة، امتزج الحق بالباطل إلى حد تعذر معه التمييز بينهما حتى أنه لم يحاول أحد إلى الآن أن يحلل مثلاً ما كتبه بلوتارك عن تاريخ حياة الإسكندر الأكبر. أما العامل الثاني فهو أثر أيسقراط وتلاميذه، وكان واضحًا جدًا في كتابة التاريخ. وقد كانوا يختلفون الوقائع لكي يكون أثر الحوادث في النفس عميقًا أو يحورون الحقائق ليكون لها مغزى ظاهر.

ويعتبر كلايتارخورس أبرز مثل لمؤرخي الإسكندرية الذين تأثروا بمدرسة أيسقراط، فإنه كان كاتبًا قديرًا يقدس البطولة وعلى شيء من الخيال. وقد كتب في بداية القرن الثالث تاريخًا للإسكندر، اعتمد فيه إلى حد على الأفضل الروايات المتواترة، وإلى حد أكبر على كاليسثينس وعدد من المؤرخ المتواضعين والكثير من القصص الشائعة. وقد شغف الناس بقراءة هذا التاريخ كما يشغفون بقراءة الروايات، ولعله كان شبهها، فلا عجب أن أحتل المكانة الأولى مدة أربعة قرون ونصف قرن. إلى أن وضع أريانوس كتابه عن الإسكندر واعتمد فيه على مصادر أكثر روية وتدقيقًا. ولا نعرف كتاب كلايتاخورس إلا عن طريق ما كتبه ديودوروس وكورتيوس. الذين اعتمدا عليه فيما كتباه عن تاريخ الإسكندر.

ومن حسن الحظ أنه في الوقت الذي خضع فيه التاريخ لتلك المؤثرات التي أفسدته، وجد أشخاص يميلون إلى الحقيقة وشاركوا فعلاً في الأحداث التي كتبوا عنها، مثل بطلميوس الأول الذي استمد معلوماته فيما كتبه عن الإسكندر من الوثائق الرسمية ومن مذكراته ومشاهداته الخاصة، فكان كتابه تاريخًا فريدًا في بابه إذ ذاك، لكنه مع الأسقف لم يصل إلينا إلا بعض منه عن طريق أريانوس الذي اعتمد عليه.

وفي عهد بطلميوس الأول، كتب هكتايوس من أبدرا عن تاريخ مصر من وجهة نظر الإغريق. وحوالي عام 300 وضع بالإغريقية تقويم للسنة والأعياد المصرية، يعرف باسم "تقويم سايس". أما التاريخ المصري الوحيد الذي يمكن أن يوثق به من ذلك العصر، فهو ما كتبه مانثو كبير كهنة هليوبوليس، واعتمد فيه على الوثائق الهيروغليفية وأهداه بطلميوس الثاني، وكان كتابًا ضخمًا يقع في ثلاثة أجزاء.

وإذا كان التاريخ يحتل مكان الصدارة في نثر العصر الهلينيسي، فقد كان للجغرافيا مكان هام فيه، إلى حد أن ما كتبه فيها العالم الجغرافي أراتوسثينس (275-194 ق.م.) يعتبر أعظم مثل للنثر الإسكندري. وقد ولد هذا الرجل الفذ في قورينة حوالي عام 175 ق.م. ثم رحل إلى الإسكندرية، حيث درس على كاليماخوس. وبعد ذلك تابع دراسته في أثينا حتى حوالي 246، عندما استدعاه بطليموس الثال ليخلف أبولونيوس الرودسي في منصب أمين المكتبة. وقد كانت سعة اطلاع هذا العالم وتبحره في مختلف العلوم والفنون مضرب الآمثال، فإنه كتب في الشعر والفلسفة وقواعد اللغة وفقه اللغة والتأريخ والجغرافيا لكن مؤلفاته في العلمين الأخيرين فاقت سائر ما كتبه. وأهم ما وضعه في التأريخ كتاب كبير يدعى "عام التاريخ" (Chronographiae)، وهو يقع في تسعة أجزاء على الأقل. كان له أثر طويل الأمد فيمن استغلوا بهذا العلم بعده، إلى حد أن أبولودوروس الأثيني اتخذه بعد ذلك بقرن تقريبًا أساسًا لرسالته في هذا الموضوع. ويبدأ تاريخ أراتوسثينس بالاستيلاء على طرواده، الذي وضعه في عام 1184 ق.م. ويستمر حتى وفاة الإسكندر. ومن المشكوك فيه إذا كان أراتوسثينس قد زعم أنه واثق من صحة تأريخ الحوادث السابقة على حفل الألعاب الأوليمبية الأول في عام 776 ق.م. ويبدو أنه اهتدى في تأريخ هذه الفترة المبكرة بقائمة ملوك أسبرطة الأولين، أما حوادث الفترة التاليية لذلك فإنه أرخها بسنى حفلات الألعاب الأوليمبية على نحو ما فعل تيمابوس. وترينا بقايا ما وصلنا من كتباه الطريقة التي اتبعها في تأريخه، فإنه استخلص من الفارق في المعلومات الجغرافية بين هوميروس وهسيود أن أولهما أقدم عهدًا من الآخر، وأبان أنه لابد من أن يكون هوميروس قد عاش في وقت سابق على هجرة الأيونيين لأنه لم يرد في شعره ذكر للإعلام المعروفة بينهم، مثل حفلاتهم المشهورة التي تعرف باسم حفلات الأيونيين الجامعة (Panionia).

ويعزى توفيق أراتوسثينس توفيقًا عظيمًا في علم الجغرافيا إلى مقدرته في الرياضة التي سنتناول الكلام عنها فيما بعد. وأهم مؤلفاته في الجغرافيا كتابان، كان أحدهما بحثًا "في قياس أبعاد الكرة الأرضية"، والآخر كتابًا في ثلاثة أجزاء يدعى "علم الجغرافيا". وقد قدر في الكتاب الأول محيط الكرة الأرضية تقديرًا يثير الإعجاب، فإن التقدير الصحيح هو 120ر 40 ك.م. بينما كان تقديره 39690 ك.م. وقد وصل إلى هذه النتيجة بملاحظة موضع الشمس وقت الظهر في الإسكندرية وفي أسوان وقت المنقلب المصيفي (Summer - Solstice). ومنشأ هذا الخطأ أنه لم تكن لديه الوسائل لمعرفة أن الإسكندرية وأسوان ليستا على خط طول واحد، فضلاً عن أنه لم يعرف بالضبط طول المسافة بين هاتين المدينتين، وقد تتبع في الجزء الأول من كتاب علم الجغرافيا تاريخ جغرافية بلاد الإغريق منذ هوميروس حتى عصر الإسكندر، وفسر الأشعار الهومرية تفسيرًا يخالف التفسير التخيلي الذي نشره الرواقيون بين الناس. وفي رأيه أن هذه الأشعار تغيرها من سائر الأشعار لم يقصد بها تعليم الناس بقدر ما قصد بها الترويح عنهم. ومن بين الأشياء التي نفاها أمكان تحديد الطريق التي سلكها بطل الأودسا في طوافه، ويقول "قبل أن نجد الطريق التي سار فيها أوديسيوس يجب أن نجد أولاً السروجي الذي حاك حقائب الريح" وقد أثبت في الجزء الثاني آراءه عن شكل الأرض وحجمها وطبيعة المحيط ومداه. وفي رأيه أن العالم المأهول بالسكان، ويتألف من أوروبا وآسيا وإفريقيا، يكون جزيرة، وأن المحيطات جزء لا يتجزأ، وأن المد في المحيط الهندي يشبهه في المحيط الأطلسي، وأنه من الممكن الإبحار من أسبانيا إلى الهند حول إفريقيا. والجزء الثالث جغرافية وصفية للعالم وفق الخريطة التي شوعاه له، وفيها قسم العالم المأهول بالناس، بخط يمتد من قادس حتى أواسط آسيا، إلى نصف شمالي ونصف جنوبي يتألف كلاً منهما من عدة مناطق. وبهذا التقسيم أحيا أرتواسنينس، مع شيء من التعديل يتمشى مع تقدم العصر، الفكرة الأيونية القديمة القائلة بوجود فارتين هما آسيا وأوروبا. وبالرغم من النقد الذي وجهه إلى علماء الجغرافيا إلا قدمين لا يمكن اعتباره مبتكرًا أصيلاً، فنحن لا نعرف إلى أي حد ابتسر أفكاره أسلافه المباشرون وخاصة ديكيارخوس. وتمثل بعض ما وصل إليه من النتائج حلاً وسطًا بين الماضي والحاضر، مما أثار عليه نقد العالم المدقق هيبارخوس من نيقيا، الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد. وقد أصبحت الجغرافيا على يدي هذا العالم وإتباعه علمًا لا يتناوله إلا المتخصصون. وإن كان بعض الكتاب مثل بوليبيوس واسترابون قللوا دون وجه حق أهمية الجغرافيا العلمية ووجهوا اتمامهم إلى الجغرافيا الوصفية. ويتصل بإحدى نواحي الجغرافيا الكتاب الذي وضعه تيموسثينس الرودسي عن المواني، وقد أسلفنا أنه أدى خدمة جليلة للملاحة في العصر الهلينيسي .

وإلى جانب الكتب العلمية، ظهرت كتب شعبية طريقة أو على الأصح روايات مسلية تمت بصلة إلى التاريخ أو الجغرافيا. ونجد من النوع الأول مقادير وافرة تتناول الأساطير والقصص، مثل أسطورة أينياس (Aeneas) وقصة تأسيس روما. لكن لعل قصة الإسكندر كانت أهم ما ابتكره هذا العصر، فإن أصلها يرجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، غير أنها لم تأخذ شكلها النهائي إلا حوالي عام 300م. ومع ذلك فإنها تعزي إلى كاليسثينس مؤرخ الإسكندر الأكبر ومعاصره، وذلك دون وشك لإبهام الناس بتصديقها. هذه القصة مزيج من الأفكار الشائعة في مصر وبابل، ومن الروايات المحرفة لما ك تبه كلايتارخوس. وليس أدل على ما أصابته هذه القصة من الانتشار من أنها وصلت شرقًا حتى الملايا وسيام وغربًا حتى بلاد الغال وبريطانيا. ومن أروع القصص الجغرافية قصص الأسفار، كالقصة التي وضعها أنتيفانس من برجا عن إقليم بارد، إلى حد أنه في الخريف كان الكلام يتجمد في الهواء فلا يصل إلى السمع إلا عندما يذوب في الربيع. ويمثل هذا اللون من الآداب قصة لوكيانوس، التي أطلق عليها اسم "قصة حقيقية"، وهي تعتبر مصدر وحي قصة السندباد البحري. وقد كانت كذلك من أحب الكتب في هذا العصر المؤلفات التي تتناول العجائب أو الغرائب في الطبيعة، كالحيوانات أو النباتات أو الأنهار الغريبة.

ليست هناك تعليقات: