السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- االثورات القومية 4

العصر البطلمي arrow الثورات القومية arrow الثورة في عهد فيلومتور

4.الثورة في عهد فيلومتور

طباعة أرسل لصديق
وعندما توفي ابيفانس في الثامنة والعشرين من عمره وارتقى العرش مرة أخرى طفل صغير ، عانت مصر في عهده كثيرًا من جشع الأوصياء وفساد حكمهم ، ومن الدمار الذي أنزلته بالبلاد غزوتا الطيوخوس الرابع ، ومن النزاع بين بطلميوس السادس فيلومتور وأخيه الصغير الذي عرف فيما بعد باسم بطلميوس بورجتيس الثاني .

وإذا كانت روما قد استغلت هذا النزاع واتخذت منه وسيلة لتحقيق أطماعها وتنفيذ سياستها في مصر، فإن أحد زعماء المصريين، ديونيسيوس بتوسيرابيس قد حاول أيضًا استغلال هذا النزاع لتحقيق الآمال التي كانت تجيش في صدور المصريين منذ مدة طويلة. وبيان ذلك أن هذا الزعيم، الذي كان يتولى منصبًا كبيرًا في القصر ويتمتع بنفوذ كبير بين المصريين ولعب دورًا ممتازًا في الحرب ضد أنطيوخوس وذاعت شهرته الحربية بين الناس، أراد في عام 195/164 أن يتخلص من الملكين الأخوين الواحد بعد الآخر، باستثارة خواطر الإسكندريين ضد بطلميوس السادس فيلومتور، حتى إذا ما تم له ذلك استنفر فيما يبدو وطنية الأهالي ضد بطلميوس الصغير.

لكن فيلومتور خيب عليه خطته بمصالحة أخيه، فانسحب ديونيسيوس إلى اليوسيس (Eleusis)، ضاحية الإسكندرية المشهورة، حيث التف حوله 4000 من الجنود لعلهم كانوا جميعًا من المصريين. وعندما انقض عليهم فيلومتور وعزمهم، تمكن ديونيسيوس من الفرار وإشعال لهيب الثورة في البلاد .

ويحدثنا ديودوروس بأن فيلومتور تولى بنفسه إخماد الثورة بمعاونة قوات كبيرة، وبأنه استطاع إخمادها بصهولة في منطقة طيبة فيما عدا مدينة بانوبوليس (Panopolis) (مدينة أخميم الحالية) التي قاومته مقاومة عنيفة. إذ يبدو أن صعوبة الوصول إليها بسبب ارتفاعها ساعدت الثوار على الاعتصام بها، فلم يتسول الملك عليها إلا بعد حصار شديد. وبعد ذلك عاقب الثوار ثم عاد إلى الإسكندرية. وجدير بالملاحظة أن الثورة قد تركزت هذه المرة أيضًا في أحد معاقل عبادة آمون. وهل تحالف المصريون هذه المرة أيضًا مع النوبيين، وأنفصلت منطقة طيبة ثانية عن حكم الطبالمة؟ هذا جائز إذا عزونا إلى هذا الوقت الملك هيرجونافور، وإذا كان حصار أبيدوس الذي سبقت الإشارة إليه قد حدث في هذا الوقت، أي في العام السادس من حكم فيلومتور (عام 164) ولم يحدث في العام السادس من حكم أبيفانس. وقد يدل اهتمام فيلومتور بحماية الحدود الجنوبية على مساعدة النوبيين للمصريين في ثورتهم.

وترينا عدة وثائق الأحوال التي سادت مصر بوجه عام، ونتائج الثورة المصرية بوجه خاص في عهد فليومتور. وتأتي في مقدمة هةذه الوثائق وثيقة مطولة من عام 164، وهي تلك الوثيقة التي سبقت الإشارة إليها وعرفنا أنها تتضمن تعليمات هرودس وزير مالية فليومتور لمرءوسيه بخصوص الحالة الزراعية. لقد جاءت الثورة الأخيرة عقب ثورة العهد السابق وغزوتي أنطيوخوس ضغثا على إبالة، فإن عددًا كبيرًا من المصريين اشتركوا في الثورة وهلكوا في معاركها العديدة، أو أعدموا بعد إخماد الثورة، أو بقوا مختفين في الصحارى والمستنقعات، فترتب على كل ذلك قلة اليد العاملة في كل أنحاء البلاد. وصاحب ذلك أيضًا قلة الماشية، وتبعًا لذلك تأثرت الزراعة إلى حد بعيد كما تأثرت دون شك الصناعة والتجارة. لكن الزراعة كانت تعني الحكومة قبل كل شيء لتوفير غذاء سكان البلاد ولأنها كانت مورد الحكومة الرئيسي. ولما لم يعد يجدي استصراخ همة المتيسيرين لإنقاذ الموقف، فإنه تقرر إرغام "الجميع" على المساهمة في زراعة الأراضي المهجورة.

ولم يحفق هذا القرار الغرض المنشود منه فمن ناحية أخذ الموظفون ينفذونه بنشاط جم ولكن دون تفكير، ذلك أنهم فسروا كلمة "الجميع" حرفيًا. ومن ناحية أخرى يبدو أن الأثرياء وذوي النفوذ استطاعوا أن يتخلصوا من العبء برشوة الموظفين واستغلال نفوذهم، فوقع كل العبء أو أكثر على التاعسين الذين لا نفوذ لهم ولا مال يحيمهم من غائلة الموظفين. ولما كان أغلبهم من مزارعي الملك الفقراء والجنود المصريين بوجه خاص ـ وكانت اطاعاتهم تتراوح بين خمس أرورات وثماني أرورات ـ فإن الموقف كان دقيقًا، ولاسيما إذا أدركنا أنعدد الجنود المصريين الذين منحوا اقطاعات ازداد سريعًا منذ ع هد فيلوباتور، وانهم كانوا يتمتعون بمركز هام في الجيش عقب موقعة رفح، وأن عددًا منهم كان معسكرًا في الإسكندرية بمثابة حرس خاص للملك. وإزاء الأعباء التي ألقيت على كاهلهم تقدموا بظلاماتهم إلى الملك، الذي خشى هو ومستشاروه عاقبة الأمر، فبادر هرودس بإرسال تعليمات إلى مرءوسيه لرفع الغبن الذي لحق بالجنود المصريين وطبقات السكان الدنيا بوجه عام والمصريين بوجه خاص. ونرى هرودس ثائرًا على مرءوسيه لغباوتهم، فإنه لم يقصد "بالجميع" كل فرد بل جميع القادرين على ت حمل العبء. أما مقدار ما أصابته تعليمات هرودس من النجاح فلا نعرفه، وإن كنا نعرف أنها كانت تنطوي على إرغام المتيسيرين من طبقة ملاك الأراضي على زراعة الأراضي لمهجورة. ولما كان الإرغام يؤدي دون شك إلى الإرهاق، فإن أفراد تلك الطبقة حاولوا بطبيعة الحال أن يتخلصوا من التبعات التي فرضت عليهم. وقد مر بنا أن إحدى حيلهم لتحقيق ذلك كان التسرب إلى صفوف تلك الطبقة الممتازة، طبقة رجال الجيش، ولذلك اتخذت الحكومة من الإجراء ما يحول دون ذلك.

وقد كان الإرغام سلاحًا خطيرًا، وكان بعض الأهالي يحاولون تفادية والبعض الآخر يقابلونه بالشكاوي المريرة والإضراب عن العمل وهجر مواطنهم، مما كان يساعد على إشعال لهيب الثورة. ولذلك فإن الحكومة كانت لا تلجأ دائمًا إليه، أو كانت تحاول تخفيف عبئه، بإنقاص الإيجار أو منح بعض الامتيازات للزراع لقاء استصلاح الأراضي البور المهجورة، وذلك بإعفائهم من الإيجار مدة عشر سنوات أو خمس، ثم فرض إيجار أسمى مدة معينة، وبعد ذلك يحصل الإيجار كاملاً. وإذا كانت النتيجة مرضية في بعض الحالات، حيث أعيدت الأرض إلى حالها السابقة، فإنها لم تكن كذلك بوجه عام لأنها لم تضع حدًا لإطراد زيادة مساحة الأراضي غير المنزرعة التي كانت الحكومة لا تصيب منها أي دخل.

وقد كان يزعج الحكومة كذلك نقص مواردها من الضرائب فكانت تضغط على الملتزمين، وترينا وثيقة من عام 156 ق.م. كيف أنهم ألقوا بدورهم هذا الضغط على كاهل دافعي الضرائب، إذ أنهم استخدموا كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة في امتصاص دمائهم. ولما لم تثمر شكاوى دافعي الضرائب لرجال الإدارة المحلية، فإنهم فزعوا إلى الملك ووزير المالية من جور رجال الإدارة المحلية وملتزمي الضرائب. وقد حاول ديوسكوريدس وزير المالية عندئذ، وضع حد لهذه الحالة، بإرسال منشور إلى مرءوسيه في الأقاليم يذكرهم بأن الملك والملكة يرغبان في معاملة الرعية بالعدل، ويأمرهم بعدم إرهاق الناس. لقد كانت نوايا الملك والملكة والوزير طيبة لكنه يشك فيما إذا كانت لها نتائج فعالة، نظرًا إلى أن الحكومة، لفرط حاجتها إلى الأموال، كانت تضغط على الملتزمين ضغطًا شديدًا.

ويبدو أن طبقة الكهنة انتهزت فرصة تحرج مركز الحكومة للفوز بامتيازات جديدة، فعملت على استرداد إدارة أراضي المعابد، أو ـ في رأي البعض ـ عملت على التمتع بقدر من الحرية في إدارة أراضي المعابد، وبكل الحرية في إدارة الأرضي الموقوفة، لكننا لا نعرف مدى نصيبها من النجاح في ذلك على عهد فيلومتور.

إن وثيقة هردوس سالفة الذكر تشير إلى وجود جنود مصريين في الإسكندرية، كانوا بين حرس الملك الخاص، وتدل على أن بعض الجنود المصريين كانوا موالين للملك، على حين اشترك البعض الآخر في الثورة ضده. ويدل نجاح البطالمة في إخضاع الثورات المصرية على أنه إذا كان الكثيرون من الجنود المصريين قد اشتركوا في هذه الثورات، فإن غالبيتهم موالين للبطالمة. ويبدو أن الكهنة المصريين قد انقسموا أيضًا بين ثائرين على المك وموالين له. أما لثائرون فقد عرفنا ما كان من أمرهم إما عن الموالين له فإن وثيقة من حوالي عام 164 تحوى شكوى من اعتداء الثوار على معبد مصري بالفيوم كان فيلومتور قد أعاد بناءه بعد ما دمره أنطيوخوس الرابع. ولعل هذا العطف الذي أبدأه فيلومتور نحو هذا المعبد، ومن المحتمل أيضًا ولاء كهنته للملك في أثناء الثورة قد دفعا الثوار إلى تخريبه تخريبًا. ويبدو أن الحالة كانت مماثلة لذلك في قرية أخرى من قرى الفيوم، فإن كاهنًا يدعى مارس (Marres) كان قد اشترى قبل الثورة منزلاً من كاهنة تدعى ثمبوس وأودع عقد البيع عند شخص يدعى كونديلوس، وعندما استولى الثوار على هذه القرية أحرقوا العقد، وانتهزت ثمبوس هذه الفرصة لتضع يدها على المنزل ولا يبعد أن إحراق العقد كان للانتقام من مارس، بسبب ولائه للملك.

وقد وصلت إلينا من منطقة طيبة شكوى قدمها شخص يدعى بتيارويريس إلى القائد ضد شخص آخر يدعى بمسايس، لأن الأخير اشترى جانبًا ووضع يده على الجانب الآخر من قطعة أرض مساحتها 80 أرورة كانت ملكًا لزوج الطرف الأول وأعتبرت في خلال الاضطرابات أرضًا لا صاحب لها، لأن صاحبة الأرض ومن المحتمل زوجها أيضًا كانا قد هربا من الجنوب إلى الشمال، وفي أثناء غيبتهما عن موطنهما أعتبرت الأرض دون صاحب وبيعت. أما سبب فرار بتيارويريس وزوجه فلا نعرفه على وجه التحقيق، لكنه يبدو أنهما لم يشاركها بقية المواطنين مشاعرهم أو على الأقل لم تكن لديهما الشجاعة الكافية للمساهمة في الثورة، فاضطرا إلى الفرار لكيلا يلحق بهما أذى، فقابل الوطنيون كذلك مصادرة أملاكهما.

وتعطينا قصة بطلميوس المتصوف في معبد السيرابيوم بمنف فكرة عن مشاعر المصريين نحو الإغريق. لقد ذهب هذا الشخص قبل ثورة عام 165/164 بمدة طويلة ليقيم في السيرابيوم، أما بدافع التدين أو من المحتمل كذلك بسبب اضطراب الأحوال في البلاد، فإن ثورة عهد أبيفانس كانت قد أخضعت منذ عهد قريب وكانت البلاد تتهددها أخطار الحرب مع سوريا. وبما أن بطلميوس كان ابن أحد المستوطنين من أرباب الإقطاعات (Katoikos)، فمن المحتمل أنه كان عرضة للخدمة العسكرية ولذلك لا يبعد أنه فضل حياة التعبد الهادئة في السيرابيوم على مواجهة أخطار الجندية وأخطار البقاء في قريته بسيخيس (Psichis) وسط المصريين المعادين للأجانب. ويبدو أنه كان أمام الإغريق الذين يبحثون عن نوع من الحياة الآمنة أن يختاروا بين أحد أمرين، أما حياة الإنقطاع للتعبد (أي يصبحوا enkatochoi) أو الانخراط في الندية. وقد رأينا بطلميوس يفضل الأمر الأول، لكن أخاه الصغير أبولونيوس بعد أن خذا حذوه فترة قصيرة انخرط في سلك الجندية، غير أننا لا نعرف إذا كان هذا الاختيار مطلقًا من كل قيد.

وجدير بالملاحظة أن أباهما جلاوكياس قتل في بسخيس في نهاية الثورة الأخيرة (عام 164)، وربما كان مقتله على يد الثوار. لكن بطلميوس كان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإن الكهنة المصريين اعتدوا عليه لأنه كما يذكر في شكواه إغريقي. وقد أظهر أولئك الكهنة العداء نفسه نحو إغريق آخرين في عدة مناسبات أخرى في عام 163 وفي عام 161 وفي عام 158 ق.م. وإذا كان هذا هو موقف كهنة منف المعتدلين إزاء الإغريق، فإنه يمكننا أن نتصور موقف المصريين المتطرفين إزاءهم.

إن القضاء على الثورة لم يضع حدًا للاضطرابات في مصر، ولذلك فإنه ما كاد فيلومتور يعود من روما بعد أن أحرز نصرًا سياسيًا على أخيه الصغير، حتى أعلن في عام 163 عفوًا يشمل فيما يظن كل الذين كانوا مختبئين أو أتهموا باشتراكهم في الثورة. وعلى الرغم من ذلك لم يستتب الهدوء والأمن في البلاد، ونستدل على ذلك من نشاط عصابات اللصوص في أنحاء المجاورة لمعبد سيرابيوم منف في عام 157 وعام 152 ق.م، ومن محاكمة الكثيرين من زراع الملك حوالي عام 157 بتهم السلب والنهب وغير ذلك من الجرائم .

ولم تسهم الثورات القومية وحدها في تدهور حالة البلاد الاقتصادية فقد أضيف إلى ذلك في هذا العهد الآثار المترتبة على النزاع الأسرى وتكاليف التدخل المسلح في سوريا لمناصرة إسكندر بالاس ثم د الثاني، فازدادت الحال سوءًا على سوء. وأبلغ دليل على ذلك استفحال أمر الأزمة النقدية التي شهدنا بدايتها في عهد فيلوباتور فقد زادت باستمرار قيمة العملة الفضية وقل تداولها بين الناس، فأصبحت النسبة بين قميتها وقيمة العملة البرونزية تعادل 1: 500. وقد صاحب ذلك بطبيعة الحال ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمصنوعات والأجور، ولما كانت موارد الملك قد نقصت على حين أن التزماته لم تنقص، فإنه اقتفى أثر أبيه وجده في تخفيف هذه الالتزامات على حساب الأهالي برفع القيمة الإسمية للعملة البرونزية.

ليست هناك تعليقات: