السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الآداب والعلوم 1

العصر البطلمي arrow الآداب والعلوم arrow
  1. دار العلم والمكتبة
طباعة أرسل لصديق
لقد أوجد انتشار التعليم في العصر الهلينيسي فئتين من المتعلمين ، أحداهما فئة المتعلمين تعليمًا عاليًا . والأخرى فئة الذين حصلوا من العلم على قسط محدود ، لكنه كاف ليشير فيهم الشغف بقراءة ما يتناسب مع مستواهم العقلي .

وقد سدت مؤلفات المتخصصين حاجة الفئة الأولى ، وأشبعت الآداب الشعبية حاجة الفئة الثانية ، وساعد على ذلك إخراج الكتب بكثرة لم تعرف حتى ذلك الوقت (بفضل التوسع في إنتاج الأوراق البردية أول الأمر ثم الجلود المعدة للكتابة فيما بعد وكذلك استخدام العبيد المتعلمين)، وتحسن سبل المواصلات، وانتشار حضارة مشتركة ولغة مشتركة في أنحاء جانب كبير من العالم المعروف إذ ذاك، ورعاية الملوك للعلم، وإنشاء المكتبات العامة في الإسكندرية ثم في أنطاكية وبرجام وفيما بعد ذلك في رودس وأزمير وغيرهما من المدن فيما يبدو.

وكانت الإسكندرية عاصمة الأدب في العالم الإغريقي في القرن الثالث قبل الميلاد، وعلى كل حال فإن كافة أنواع الشعر الإغريقي، فيما عدا الكوميديا تأثرت في خلال هذه الفترة بالشعر الإسكندري. وليس أدل على مدى ما بلغه أثر الشعر الإسكندري في منتصف هذا القرن من أن شاعرًا مثل يوفوريون، الذي قضى حياته في بلاد الإغريق وسوريا، فقد تأثر بالشعر الإسكندري كأي شاعر عاش في الإسكندريةنفسها. أما في النشر فإنه لم يكن للإسكندرية مثل ذلك الأثر. وحين آلت زعامة الأدب الإغريقي للإسكندرية احتفظت أثينا لنفسها بالمكان الأول في الفلسفة، فقد زاول هناك نشاطهم أعظم تلاميذ أرسطو وأفلاطون، وكذلك أساتذة المدارس الفلسفية الجديدة مثل أبيقوروس وزينون. حقًا لقد وفد على الإسكندرية بعض الفلاسفة، كان أغلبهم من المشائين، مثل د الفليري في عهد بطلميوس الأول واستراتون أستاذ بطلميوس الثاني، وديكيارخو (Dicaerchos) أستاذ أراتوسشينس (Eratosthenes) وبراكسيفانس أستاذ كاليماخوس، كما وفد عليها أيضًا بعض الرواقيين مثل سفايروس أستاذ بطلميوس الرابع، ولكن البيئة لم تكن بوجه عام مناسبة هناك لهذا اللون من النشاط العقلي ولا للخطابة أيضًا. ولذلك لم تكن للإسكندرية أهمية كبيرة في هذين المضمارين. وقد كان أهم ما عنى به ك ت اب النشر الإسكندري العلوم الفنية كالجغرافيا والرياضيات والطبيعة والطب والتاريخ الطبيعي وفقه اللغة.

وتختلف المصادر القديمة فيما بينها على مؤسس مكتبة الإسكندرية ودار العلم فيها، فمنها من يعتبر ذلك المؤسس مكتبة الإسكندرية ودار العلم فيها. فمنها من يعتبر ذلك المؤسس بطلميوس الأول ومنها من يعتبره بطلميوس الثاني، غير أن صلة د الفليري بمنشأة هاتين المؤسستين تؤيد الرأي الأول لأنه فقد مكانته في القصر البطلمي منذ أوائل عهد بطلميوس الثاني. ولذلك يرجح أن يكون بطلميوس الأول هو الذي خطا حوالي عام 290 ق.م. الخطوة الأولى في سبيل إنشاء دار العلم والمكتبة.

وقد أنشئت دار العلم على نمط مدارس أثينا الفلسفية، وبخاصة أكاديمية أفلاطون وليكبوم أرسطو، لكن معهد الإسكندرية (Mouseion Museum) فاق سائر معاهد العلم القديمة طرأ إلى حد أن ذكره دون تخصيص، عند الكلام عن الحركة الفكرية قديمًا، لا يمكن أن يثير في الذهن ذكرى أي معهد آخر سواه. ومع ذلك فإن معلوماتنا عن نظمه ومبانيه طفيفة. وكل ما يمكن أن يستمد عن ذلك من المصادر القديمة هو أن دار العلم كانت تؤلف جزءًا من الحي الملكي وتتألف من متنزه فسيح ومجموعة من المباني تضم قاعات للبحوث العلمية فضلاً عن قاعة عامة للأكل وأماكن لإقامة العلماء الذين كان يتألف منهم أعضاء الدار، وإن الملوك كانوا يدفعون لهؤلاء العلماء مرتبات سخية ويوفرون لهم كل حاجاتهم المادية ويعفونهم من دفع الضرائب وأداء أي عمل يصرفهم عن بحوثهم، وأن عميد دار العلم كان شخصية بارزة، فالقرائن توحي بانه كان يشغل في الوقت نفسه منصب كاهن الإسكندر والبطالمة المؤلهين وهو الذي كان تؤرخ باسمه كافة الوثائق في طول البلاد وعرضها وكذلك منصب كبير حكام الإسكندرية (exegetes). وإزاء سخاء البطالمة والمكانة السامية التي تمتعت بها دار العلم والنتائج الباهرة التي أحرزها رجالها. ولابد من أن يكون البطالمة قد وفروا كل الأسباب التي كانت تهيئ للعلماء القيام ببحوثهم، فكان في متناول أيديهم محتويات المكتبة الكبرى، وكانت أعظم المكتبات في العصرو القديمة. ويبدو أنه خصصت في دار العلم لكل فرع من فروع العلم ـ الفلك والتشريح والطبيعة والميكانيكا ـ قاعة أو أكثر زودت بما يلزم من الأدوات والآلات والأجهزة. وأما علماء النبات والحيوان فكانت لديهم حدائق فسيحة تضم مختلف أنواع النبات والحيوان، ولاسيما النادرة منها.

وقد كانت دار العلم أساسًا معهدًا للبحث العلمي وليست مركزًا للتعليم، فلم يكن العلماء والفقهاء والأدباء والفلاسفة الذين كان البطالمة يجرون عليهم الأرزاق مطالبين بإلقاء أية محاضرات. ولم تنظم دار العلم أي نوع من الدراسات. ولكن شهرة هؤلاء العلماء الإعلام كانت تسترعى انتباه الراغبين في العلم، فيلتف حول كل منهم عدد من الراغبين في الاستزادة من علمه، ويقوم الأساتذة بتعليم من يتوسعون فيهم الإفادة من علمهم. ولذلك فإن التعليم العالي الذي عرفته مصر وغيرها من دول العصر الهلينيسي كان بوجه عام ضربًا من التعليم الفردي، أشبه ما يكون بالدروس الخصوصية التي يعطيها أستاذ الفئة قليلة مختارة من الطبلة. ولم تكن هناك شهادات ولا امتحانات ولا مكافآت. فقد كانت المكافأة الحقيقية هي الإحساس بإجادة العمل. أما العقاب فكان الشعور بالتقصير في أداء عمل جدير بأن يؤدي على خير وجه. فضلاً عن الطرد من هذه الجنة العلمية. وكان حسب الطلاب شهادة أنهم درسوا على هذا إذ ذاك من أساتذة دار العلم في الإسكندرية .

وقد كان هذا اللون من التعليم مثمرًا إلى حد أنه تمخض عنه عدد المدارس المتنافسة في كل فرع من فروع المعرفة، فنحن نقرأ في المصادر القديمة مثلاً عن مدرسة أريستارخوس ومدرسة أريستوفانس في فقه اللغة، وعن مدرسة هيروفيلوس ومدرسة أراسيستراتوس في الطب. والمقصود طبعًا بهذه المدارس إتباع هذا أو ذاك من الأساتذة الذين كانوا ينحون نحو كل منهم.

وإذ كنا لا نعلم عن يقين فروع المعرفة التي كان يمثلها أعضاء الدار، فإننا نستخلص من الدور الذي قامت به الإسكندرية في الحركة العلمية أن كل فروع العلم كانت ممثلة في هذا المعهد الجليل الذي استمر يباشر خدمة العلم إلى عهد متأخر في العصر الروماني، باستثناء الفترة القصيرة التي اضطهد فيها بطلميوس الثامن علماء الإسكندرية وفنانيها لأن الكثيرين منهم كانوا يعطفون على أخيه وأخته في أثناء النضال على العرش فأعتبرهم أعداءه وصب عليهم جام غضبه. وتحدثنا المصادر القديمة بأنه نتيجة لذلك تشرد في أنحاء العالم الإغريقي الكثيرون من علماء الإسكندرية وفنانيها فبعثوا نهضة علمية وفنية في كل الأماكن التي فروا إليها.

ولا يمكن المبالغة في أثر معهد الإسكندرية في تقدم العلوم، فإنه بفضل إنشائه وما تمتع به من سخاء البطالمة ورعايتهم المستنيرة أمكن تنظيم البحث العلمي الجماعي لأول مرة في التاريخ، وتوفير مطلق الحرية للعلماء في متابعة بحوثهم دون أي توجيه أو سياسي أو ديني أو قومي، ودون توخي أي هدف سوى البحث عن الحقيقة. وفي كنف هذه الظروف انطلق العلماء في بحوثهم وأفادوا من كل ثمار البحوث السابقة سواء أكانت إغريقية أم مصرية أم بابلية، فأحدثوا تهنيئة علمية باهرة لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل.

لكن قبل أن نتتبع هذه النهضة يجب أن نقف هنيهة لنلقي نظرة عاجلة على المكتبة الكبرى التي كان لها نصيب كبير فيها. فمن المعلوم أن المكتبة جزء أساسي من كل معهد علمي، ولا غنى عنها سواء للفلكي والطبيب أم للمؤرخ والأديب غير أنه على حين كانت دار العلم مركز البحوث العلمية، كانت المكتبة الكبرى مركز الدراسات الإنسانية. وقد حصروا على أن يزودوها بأنفس المؤلفات وأن يسندوا الإشراف عليها إلى علماء مبرزين.

وإذا كان بطلميوس الأول هو الذي وضع نواة المكتبة الكبرى بما جمعه من كتب، فإن بطلميوس الثاني كلاهما برعايته فتمت سريعًا إلى حد أنه عند منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، أي قبل نهاية حكمه، ضاق المبنى الأصلي للمكتبة بما فيه من كتب مما استوجب إنشاء مكتبة ثانية في معبد السيرابيوم، تعرف باسم المكتبة الصغرى، وأودع فيها 42.800 مجلد لعلها كانت نسخًا مكررة رؤى ثقلها من المكتبة الكبرى، وذلك من ناحية لإفساح مكان لكتب أخرى أجدر بالاقتناء. ومن ناحية أخرى لتوفير مكتبة ثانية يستطيع القارئ العادي التردد عليها. وقد اقتفى بطلميوس الثالث خطوات أبيه وجده في جمع الكتب. واستخدم في ذلك وسائل لا يمكن أن يقره عليها أحد اليوم، فقد أصدر أمرًا يحتمل على كل القادمين من الخارج أن يسلموا عند وصولهم إلى الإسكندرية كل ما معهم من كتب لإيداعها في المكتبة إذا لم تكن من بين مقتنياتها على أن تنسخ صورة من كل منها تعطي لأربابها بدلاً من النسخ الأصلية. ويروي أيضًا أنه استعار من أثينا النسخ الأصلية لمؤلفات "أيسخيلوس" و "سوفوكلي" و"يوريبيدس" من أجل نسخها وقدم ضمانًا ماليًا يقدر بحوالي 60.000 جنيه، لكنه أثر على ذلك المبلغ استبقاء النسخ الأصلية ورد نسخًا جديدًة بدلاً منها.

وتتفاوت تقديرات المصادر القديمة لعدد الكتب التي كانت تحويها كل من هاتين المكتبتين. ومن العسير الوقوف على الحقيقة، لأنه قلما تعرف التفرة التي تشير إليها هذه المصادر ولا إذا كانت هذه التقديرات تتضمن محتويات المكتبتين أم المكتبة الكبرى فقط. ولعل أقربها إلى الحقيقة تقدير العالم البيزنطي تزتزس (Tzetzes)، الذي يذكر أنه كان يوجد في المكتبة الصغرى 42.800 مجلد وفي المكتبة الكبرى 40.000 مجلد مختلط و90.000 مجلد بسيط غير مختلط. ثم يضيف إلى ذلك أن كاليمخاوس هو الذي وضع فيما بعد فهارس الكتب. ويستخلص من العبارة الأخيرة أن رواية هذا العالم البيزنطي تنصب على فترة مبكرة في تاريخ مكتبتي الإسكندرية. ويبدو أن المقصود بعبارة مجلدات غير مختلطة لفافات من الأوراق البردية كانت كبير، أما المجلدات المختلطة فإنها كانت اللفافات البردية الضخمة التي تحتوي كل منها على كتابين أو أكثر أو عدة أجزاء من كتاب كبير. وبمضي الزمن نقص عدد المجلدات المختلطة تدريجيًا نتيجة لنسخها في لفافات بردية متناسبة الحجم. وقد ساد هذا النظام إلى حد أنه عندما أهدى أنطونيوس إلى كليوبترة مكتبة برجام تعويضًا لها عن الكتب التي أحرقت في عهد قيصر، تحدثنا المصادر القديمة بأن الهدية كانت تتألف من 200.000 مجلد بسيط.وقد بقيت المكتبة الكبرى كعبة الباحثين والمطلعين إلى أن أحرق الإمبراطور ماركوس أورليوس الحي الملكي في عام 272م. فدمر جانب كبير منها ونقل ما تبقى فيها من كتب إلى مكتبة السيرابيوم.

وقد راحت هذه المكتبة ضحية للصراع بين المسيحين والوثنيين، عندما أصبحت المسيحية الدين الرسمي للدولة، فقد أمر ثيوفيونس (أسقف الإسكندرية من 385 إلى 412) بتدميرها بوصفها معقل الآراء الهدامة. ويحدثنا أوروسيوس بأنه لم يعد للمكتبة وجود في عام 416، أي قبل فتح العرب بأكثر من قرنين. ومن ثم فإن إتهام المسلمين بإحراق مكتبة الإسكندرية لا يستحق الوقوف عنده لتفنيده. وحسبنا ما يقوله جورج سارتون في هذا الصدد "وفضلاً عن ذلك، فإن الكتب الوثنية كانت أشد خطرًا على المسيحيين الذين كانوا يستطيعون قراءتها منها على المسلمين الذين كان يتعذر عليهم قراءتها على الإطلاق" (لعدم إلمام المسلمين إذ ذاك باللغة الإغريقية).

وتحدثنا المصادر القديمة بأنه عندما أحرق قيصر الأسطول المصري في خلال "حرب الإسكندرية"، ارتفع اللهب بشدة حتى امتد إلى رصيف الميناء وأحرق المباني المجاورة له. ويرى بلوتارك أن المكتبة الكبرى كانت من بين هذه المباني، ويؤيد ذلك الأديب معروف عادة بسعة إطلاعه، ويدعى أولوس جلوس (Aulus Gellus). ويؤكد ستكا، الذي استمد معلوماته من ليفيوس. إن عدد الكتب التي التهمتها النيران يبلغ 40.000 أ:و على الأرجح 400.000 مجلد. ويبدو أن الرقم الأخير أدنى إلى الحقيقة لأن أوروسيوس، الذي اعتمد أيضًا على ليفيوس، يخبرنا بأن عدد الكتب التي أحرقت كانت 400.000 مجلد.

إن أغلب المؤرخين الحديثين يضربون بأقوال بلوتارك وسنكا وجلوس عرض الحائط، ولا يعتقدون أن المكتبة الكبرى هي التي ذهبت عندئذ طعمة للنيران، بل يعتقدون أن النيران لم تلتهم إلا كتبًا كانت مخزونة مؤقتًا بالقرب من الميناء لنقلها إلى روما، أو على الأكثر مخازن المكتبة الكبرى. إن أهم ما يستند إليه هذا الرأي هو أنه لم يرد لحادث هام مثل حرق المكتبة الكبرى ذكر فيما كتبه قيصر ولا مؤلف تاريخ حرب الإسكندرية ولا استرابون ولا شيشرون ولا ولكيانوس. لكن رأيًا يستند إلى صمت بعض المصادر عن أي حادث لا يمكن أن يرجح على رأي يستند إلى رواية بعض المصادر المحترمة، ولاسيما إذا كان يمكن تفسير صمت المصادر التي أغفلت ذكر ذلك الحادث تفسيرًا معقولاً. ولا شك في أن قيصر أغل ذكر هذا الحريق، لأنه كان حادثًا مؤسفًا تسبب هو فيه، وإن كان ذلك عن غير قصد منه. ويضاف إلى ذلك أن ما كتبه قيصر لم يكن تاريخًا بل مذكرات لم يراد بها سرد جميع الوقائع بقدر ما أريد بها تبرير تصرفات قيصر. وقد كان طبيعيًا أن يغفل صاحب "حرب الإسكندرية" هذا الحريق، لأنه وقع قبل الفترة التي تبدأ فيها حوادث كتابه. وإذا سلمنا جدلاً بأن كل مراسلات شيشرون قد وصلت إلينا فإننا نعتقد أنه لم يذكر هذا الحريق لم يخف على أحد ولذلك لم يبق ثمة داع لذكره، وخاصة بعد موقعة فارسالوس عندمام كان شيشرون يحاول كسب ود قيصر، فكان طبيعيًا أن يتناسى شيشرون حادثًا لابد من أن قيصر كان يرجو أن يتناساه الناس جميعًا. ويبدو أن استرابون لم يذكر هذا الحريق في كتابه الذي وصل إلينا، لأنه كتاب جغرافي، ولعله قد ذكر هذا الحادث في كتابه التاريخي الذي لم يصل إلينا. أما صمت لوكيانوس عن هذه المسألة. فإنه إذا كان لا يرجع إلى رغبته في إغفال ذكر حادث كان لا يشرف مواطنيه فلابد من أنه يرجع إلى أنه توفي قبل إتمام كتابه العاشر ونشره.

ومن الحجج التي يتذرع بها أصحاب الرأي المناقض لرواية بلوتاريك أنه من المستبعد أن المكتبة الكبرى كانت قريبة من الميناء إلى هذا لحد، لكن وصف أترابون يقضي على هذا الزعم، فهو يحدثنا بأن ذلك الجزء من القصور الملكية، الذي لم يقع على رأس لوخياس. كان ملاصقًا للميناء، وإن دار العلم، وتبعًا لذلك المكتبة الكبرى إذ لابد من أنها كانت متصلة بالدار، كانت تكون جزءًا من القصور الملكية.

ولما كان عدد الكتب التي التهمتها النيران في هذا الحريق كبيرًا، فإنه لا يمكن قبول الرأي القائل بأنها كانت مخازن المكتبة الكبرى، إذ يصعب أن نعتقد أن هذه المخازن كانت تضم 400.000 أو حتى 40.000 مجلد. ولم يبق إذن إلا الرأي القائل بأن الكتب التي أحرقت كانت كتبًا مخزونة مؤقتًا في الميناء استعدادًا لنقلها إلى روما. وهذا الرأي مردود، لأنه لا يمكن أن نتصور أن قيصر وهو في ذلك المركز الحرج، بسبب قلة رجاله وتفوق عدوه عليه مما دفعه إلى إحراق الأسطول المصري. كان يسمح لنفسه حتى بالتفكير في مثل هذا العمل. وإزاء كل ذلك نميل إلى العتقاد بأ، الحريق قد امتد إلى المكتبة الكبرى وقضى عليها، ولهذا السبب أراد أنطونيوس أن يعوض كليوبترة عن تلك الخسارة الفادحة فأهدى إليها 200.000 مجلد من مكتبة برجام.

وقد أسدى العلماء الذين عينهم البطالمة في المكتبة خدمات جليلة للعلم، فإنهم لم يقصروا عنايتهم على وضع فهارس للكتب بل وضعوا أسس علم التصنيف وتحقيق النصوص والنقد الأدبي، وابتكروا العلامات الصوتية وكذلك علامات الاستفهام وما إليها من فواصل الكلام وقد عكف زنودوتوس ـ أول أمين للمكتبة ـ ومساعاداه، إسكندر الأيتولي وليكوفرون الأيوبي، على جمع وتصنيف وتحقيق ونقد الشعر الإغريقي. وأخذ نودوتوس لنفسه نصيب الأسد ـ إشعار هوميروس وهيود وبعض أشعار بيندار وأناكربون ـ بينما عهد إلى الإسكندر بالتراجيديا وإلى ليكوفرون بالكوميديا. وكان علماء الإسكندرية عند دراسة أي مؤلف يهتمون أولاً بتحقيق النص ثم بشرح لغته وبعد ذلك بتفسير الموضوعات التي يتناولها. وبترينا مقارنة نصوص الأشعار الهومرية التي نشرها على التوالي وأعظم نقاد الأدب في عصر البطالمة، وهم زنودوتريس وريانوس وأريستوفانس البيزنطي وأريساترخوس الطريقة التي كان أولئك العلماء يتبعونها، كما ترينا أن فن النقد الأدبي القديم تقدم بمضي الزمن، فإن أخرهم يعتبر أعظم ناقد الأدب في العصور القديمة. وقد استخدم أرستوفانس وخلفاؤه هذه المهارة في دراسة فنون الشعر الأخرى وكذلك في النثر، لكنهم لم يصيبوا في هذا المضمار الأخير ما أصابوه من التوفيق في الشعر. ويرتكز النقد الإسكندري بمعنى الكلمة على قواعد ثابتة أكيدة تخالف تمامًا قواعد النقد عند الرواقيين، ذلك النقد التخيلي الذي ظهر فيما بعد في برجام، ويعزى إلى علماء الإسكندرية فضل تحقيق الأشعار الهومرية والأشعار الغنائية والمسرحيات ونشرها على نحو لا يختلف كثيرًا عما بين أيدينا اليوم.

وقد عثر على جانب من تعليقات ديديموس الإسكندري على مؤلفات ديموسثينس المؤلف هي تعليقات قيمة تدل على سبعة أطلاع هذا العالم الذي كتب عن أغلب المؤلفين الإغريق حتى يقال أنه الذي نتج من الكتب أكثر مما أنتجه أي مؤلف قبله أو بعهده، إذ يقدر عدد مؤلفاته بثلاثة آلاف وخمسمائة مؤلف. وقد عنى بعض علماء الإسكندرية بدراسة قواعد اللغة لذاتها، وقد كان أول كتاب عن قواعد اللغة الإغريقية من وضع ديونيسيوس التراقي تلميذ أريستارخوس.

وقد قام كاليماخوس بتصنيف الكتب ثمانية أصناف كانت كما بلى :

1- المسرحيات .

2- الشعر الحماسي والغنائي .

3- التشريع .

4- الفلسفة .

5- التاريخ .

6- الخطب .

7- علم الخطابة .

8- موضوعات مختلفة الأنواع .

ووضع للكتب فهارس رتبها في بعض الأصناف ترتيبًا زمنيًا، وفي البعض الآخر ترتيبًا أبجديًا أما للموضوعات أو للمؤلفين. وكانت الفهارس تتضمن فضلاً عن أسماء المؤلفين وأسماء الكتب الجملة الأولى في كل كتاب وعدد سطوره وترجمة أدبية موجزة، ويرى البعض أن كاليماخوس تولى منصب أمين المكتبة، لكننا نميل إلى تأييد الرأي المعارض لذلك، ولاسيما أن وثيقة بردية كشفت حديثًا تخبرنا بأن الذين عينوا أمناء للمكتبة بعد زنودوتوس كانوا أبولونيوس الرودسي وأراتوسشينس أوريستوفانس البيزنطي، الذي علق على فهارس كاليماخوس ويعزى إليه فضل ترتيب مؤلفات أفلاطون، ثم أبولونيوس مؤرخ الأدب الإغريقي (Eidographos) واريستارخوس، وكيداس (Cydas) أحد رجال حرس الملك. ولما كنا نعرف أن زنودوتوس وأبولونيوس الردوسي وأراتوسيشنس وأريستارخوس كانوا معلمي أبناء معاصريهم من البطالمة، فإننا قد لا نعدو الحقيقة إذا استخلصنا من ذلك أن أمين المكتبة كان في الوقت نفسه كذلك مربي أفراد الأسرة المالكة.

ليست هناك تعليقات: