السبت، 6 سبتمبر 2008

النحت في العصر البطلمي 1

قطع النحت الخالية من كافة التأثيرات الأجنبية طباعة أرسل لصديق

سنقسم الكلام عن فن النحت إلى ثلاثة أقسام:

1- قطع النحت الإغريقية والمصرية التي تمتاز بنقاء طرازها وخلوها من كافة التأثيرات الأجانبية .


2- قطع النحت التي تختلط فيها العناصر دون الطرز، أي قطع نحن إغريقية الطراز لكن موضوعها أو مادتها أو صناعتها مصرية، أو قطع نحت مصرية الطراز لكنها إغريقية في موضوعها. وهذا الاختلاط نتيجة طبيعية لأثر البيئة. وهو يدل على مدى تأثير الإغريق والمصريين بعضهما ببعض في المظهر دون الجوهر، فإن جوهر أي قطعة من قطع النحت هو طرازها الذي يعبر بجلاء عن حضارة الفنان الذي أبدعها.

3- قطع النحت التي حاول فيها الفنانون مزج الطرازين الإغريقي والمصري. وينهض هذا المزج دليلاً على مدى امتزاج الحضارتين اللتين يرمز إليهما هذان الطرازان. ولذلك لا نعلق على اختلاط العناصر من الأهمية ما نعلقه على امتزاج الطرازين.

قطع النحت الخالية من كافة التأثيرات الأجنبية

قطع النحت الإغريقية

كثيرًا ما أنكر العلماء على الإسكندرية تمتعها بمدرسة للنحت الإغريقي لها مميزات خاصة تختلف عن مميزات سائر مدارس النحت الهلينسية، لكن الحجج التي يستند إليها هذا الرأي غير مقنعة. حقًا أن الطبيعة لم تهب مصر وفرة في الرخام، لكن الرخام يمكن شراؤه كغيره من السلع، وقد كان لدى البطالمة من المال ما يعينهم على ذلك وتدل الآثار البطلمية على أن مثالي الإسكندرية لم يقصروا عملهم على الرخام وحده، بل كانوا يستخدمون كذلك المرمر والجبس والحجر الجيري المحلي والجرانيت والبازلت والبرونز وغير ذلك من المواد. ويمكن تفسير صغر حجم قطع النحت الإغريقية البطلمية بقلة الرخام من ناحية، وبعدم رغبة الفنانين من ناحية أخرى في منافسة الفن المصري في الضخامة وبميلهم من ناحية ثالثة إلى المنتجات الدقيقة. وليست منتجات الفن الإسكندري قليلة العدد. إذا لاحظنا أن الجانب الأكبر من الإسكندرية القديمة لا يزال مطمورًا تحت البحر وتحت المدينة الحديثة.
ونعتقد أن تعدد أجناس سكان الإسكندرية، بدلاً من أن يقف حجر عثرة في سبيل تقدم الفن الإسكندري. ساعد على تقدم أحد فروع هذا الفن، وهو الذي يتناول دراسة الأجناس والطباع والحرف ويعتبر من أبرز مميزات الفن الإسكندري. وإذا سلمنا جدلاً بأنه لم تكن للإسكندرية مجالس دستورية تقرر إقامة التماثيل التذكارية، فإن الكل يسلم برعاية ملوكها وخاصة الأوائل منهم للعلماء والفنانين. وعلى كل حال، فإن مصر لم تكن الدولة الملكية المستبدة الوحيدة التي كانت توجد فيها مدرسة لفن. ومما يجدر بالملاحظة أن برجام لم تفقد أهميتها بوصفها مركزًا للفنون، إلا عندما لم تعد فنونها تتمتع برعاية ملوكها. ويزعم البعض أن البطالمة وجهوا جل رعايتهم للمعماريين والمثاليين المصريين. وهذا زعم باطل على الأقل فيما يخص القرن الرابع والجانب الأكب رمن القرن الثالث لأن هذا الزعم لا يتفق مع سياسة البطالمة الأوائل. ولا مع علاقة أولئك البطالمة بالفنانين الإغريق مثل أبلس (Apelles) وبيرجوتلس (Pyrgoteles)، ولا تبرره قطع النحت الإغريقية التي كان البطالمة يملكونها أو يهدونها للمعابد الإغريقية.
ونحن نسلم بأنه لابد من أن يكون قد ترتب على ضعف الروح الإغريقية في مصر تدهور الفن الإسكندري. لكنننا سنرى أن أثر هذا الضعف لم يظهر في النحت إلا منذ القرن الثاني فقط. وإذا أمكننا أن نتبين خواصًا مميزة لفن النحت الإسكندري في أثناء ازدهاره وفي أثناء تدهوره، فإنه يتضح لنا بجلاء أنه كانت للإسكندرية مدرسة للنحت. وفي الواقع يدهشنا ألا يكون للإسكندرية مثل هذه المدرسة، فإن مؤسس أسرة البطالمة بدلاً من أن يقف جهوده على تحقيق سياسة استعمارية طموحة عمل جاهدًا على أن تقطع مملكته شوطًا واسعًا في مضمار الحضارة الإغريقية لتحتل مكان الصدارة بين الدول الهلينسية. ولما كنا قد عرفنا المستوى الرفيع الذي وصلت إليه الآداب والعلوم في عهد البطالمة الأوائل بوجه خاص، فإننا نعجب حقًا إذا ك ان فن النحت الإسكندري قد تخلف عن موكب الحضارة الإغريقية في عاصمة البطالمة، إذ لا يعقل أن يهمل فن النحت في مدينة ازدهرت فيها الآداب والعوم الإغريقية وعنى حكامها بأن تصبح عاصمة العالم الهلينيسي، وكان ملوكها يعتبرون أنفسهم حماة الإغريق وحضارتهم. ويمكننا أن نستدل على فرط حب الإسكندريين وملوكهم لفن النحت وعلى منتجات الإسكندرية في هذا الفن من التماثيل التي زخر بها مهرجان فيلادلفوس ووصفها لنا كاليكسينوس، ومن تماثيل الآلهة والانتصارات والبطالمة التي أقيمت في التيخايون (Tychaion)، ومن التماثيل التي وضعت في الهرمويون، وكانت تتألف من تمثال هوميروس محاطًا بتماثيل تصور المدن التي زعمت أنه ولد فهيا؛ ومن التماثيل التي أمر بطلميوس الثاني بصنعها لوالديه ولأرسينوي الثانية، وكانت تتألف من تمثالين من الذهب والعلاج لبطلميوس الأول وزوجه ومن تماثل من التوباز لأرسينوي؛ ومن التماثيل المتعددة التي صنعت لكلينو حظية فيلادلفوس؛ ومن تماثيل البطالمة التي أهديت للمعابد الإغريقية؛ ومن قطع النحت العديدة التي سيأتي ذكرها فيما بعد.
ولا ريب في أن البطالمة مثل غيرهم من ملوك العصر الهلينسي، قد اجتذبوا إلى بلاطهم فنانين من الخارج. ويحدثنا نقش من القرن الثاني قبل الميلاد بأن ثيون الأنطاكي وديمتريوس الرودسي قد صنعا تمثالاً لفارس في الإسكندرية. ويحمل تمثال لهرقل اسم فنان أجنبي أخر. ومن المحتمل أن يكون المثال المعروف برياكسيس قد استدعى إلى الإسكندرية لعمل تمثال سيرابيس.
وإزاء كل هذه الاعتبارات، يبدو طبيعيًا أنه كانت للإسكندرية مدرسة للنحت. وبمقارنة ابتكارات هذه المدرسة بابتكارات مدرسة برجام يتضح لنا أنه كانت لكل منهما مميزات خاصة. حقًا لقد تأثر الفن في كل مدارس العصر الهلينيسي بتقاليد الفن الإغريقي في القرن الرابع، التي تعزي إلى أعظم مثالية وهم براكسيتلس (Praxiteles) وسكوباس (Scopas) وليسيبوس (Lysippos) إلا أنه بمضي الزمن أدخلت على هذه التقاليد في كل إقليم تعديلات تتفق مع بيئته وظروفه، فنشأت عن ذلك عدة مدارس لكل منها مميزاتها في الطراز والموضوعات. وقد تأثر فن برجام مثلاً كما تأثرت كل نواحي الحياة فيها بصراع هذه المدينة صراعًا عنيفًا ضد الغال، ذلك الصراع الذي عرفنا أن برجام خرجت منه فائزة منتصرة ذائعة الصيت، فعمل مثالوها على تخليد شجاعة مواطنيهم الروحية بتخليد قوة أعدائهم البدنية في تماثيل تعتبر نموذجًا لفن برجام. وتتلخص مميزات هذا الفن في معالجة موضوعات مثالية، هي موضوعات البطولة والقصص القديمة، بطراز واقعي لا مبالغة فيه ولا تكلف.
وقد كانت لظروف الإسكندرية وبيئتها كذلك أثر بعيد في الفن الإسكندري، الذي رجع إصداء ما تمتعت به دولة البطالمة منالهدوء النسبي وعدم القلق على كيانها الذي أزعج برجام مدة طويلة. ولذلك لم يكن أمام مثالي الإسكندرية صراع قومي يثير في خيالهم أفكار البطولة، بل ملوك استحدثوا ديانة جديدة تتطلب تماثيل جديدة؛ وعاصمة غنية تتطلب تجميلها؛ ومواطنون أثرياء يتطلبون إشباع نزوات غرورهم. من ثم اقتصر جانب كبير من عمل المثالين على صنع تماثيل للآلهة والآلهات وتماثيل تذكارية أو جنازية للملوك والمواطنين رجالاً ونساءًا. وبما أنه في الوقت نفسه كانت الأبحاث العلمية تسير قدمًا في الإسكندرية وتبعث في الناس سيلاً إلى البحث، فإن المثالين وجدوا منفذاً آخر لإبراز كفايتهم في فرع جديد من فروع الفن. هو دراسة الأجناس وطباع الناس وحرفهم. وقد كان هذا الفرع الجديد من فن النحت يقوم على دراسات علمية وملاحظات دقيقة مستمدة من الحياة اليومية. وقد كان بطبيعة الحال لكل فرع من فرع الفن الإسكندري الطراز الذي يلائمه، فقد كان طراز الفرع الأول من النوع المسمى بالطراز المثالي (Ideal style)، أي الذي لا يصور الواقع سافرا بل يحاول أن يثبت فيه أسمى الأفكار وأنبل الغابات. أما طراز الفرع الثاني، فكان من النوع المسمى بالطراز الواقعي (Realistie style)، أي الذي تصور الحقيقة كما تبدو للناس جميعًا. وإذا كان الفن الإسكندري قد اختلف على هذا النحو عن فن برجام برغم ما بينهما من الروابط الوثيقة، فلا شك في أن الفن الإسكندري كان يختلف أيما اختلاف عن الفن المصري، الذي كان غريبًا عنه إلى أبعد مدى يمكن تصوره.
وبمقارنة طراز نقود البطالمة بطراز ما وصلنا من تماثيل الفرع الأول من الفن الإكسندري، يمكن تقسيم هذه التماثيل إلى أبع فترات من الناحية الزمنية، تمثل كل منها إحدى مراح تطور هذا الفرع.
1- الفترة الأولى: وتمثلها نقود بطلميوس سوتر منذ أقيم واليًا على مصر في عام 323 إلى أن نادى بنفسه ملكًا في عام 305 ق.م.، وهي ترينا تأثير ليسيبوس ممتزجًا أحيانًا بتأثير سكوباس ودواما بتأثير براكسيتلس.وإذا اتجهنا نحو التماثيل نفسها، فإننا نجد بعضها متأثرًا بطراز سكوباس والبعض بطراز ليسيبوس، لكنها جميعًا تقتفي أثر خطوات براكسيتلس في عدم إبراز عظام الوجه والجسم، وفي عدم معالجة تفاصيل الشعر، وفي خلوها من الزوايا الحادة، وفي ميلها إلى صقل السطح، وهي كلها أخص مميزات الطراز الإسكندري، ومن أروع الأمثلة التي يتمثل فيها طراز فن الإسكندرية رأسان لسيدتين كانت أحداهما من متحف ميونخ والأخرى في كوبنهاجن. وهكذا يتبين لنا أن الإسكندرية كونت لفنسها طرازًا خاصًا عقب إنشائها مباشرة، كان يدين بشيء لكل من مشاهير مثالي القرن الرابع بوجه عام وبراكسيتلس بوجه خاص.
2- الفترة الثانية: في الشطر الأول من العصر الهلينيسي، طفت شخصية الإسكندر على ما عداها وصورت في فن النحت بمهارة وإتقان، إلى حد أن فن النحت الهلينسي تأثر إلى حد بعيد المدى بملامح وجهه كما تأثرت الصورة الرومانية بملامح أغسطس. ولابد من أن مظاهر التشريف التي أغدقها البطالمة على الإسكندر قد ساعدت على أن تدخل في فن النحت الإسكندري أهم خصائص وجه الإسكندر وهي: جبهة بارزة وعينان غائرتان يكاد الشرر يتطاير منهما. ولم يكتف فنانو الإسكندرية بذلك بل بالغوا في تصوير هذه الخصائص، فخلعوا على الوجه مسحة عنيفة نراها في نقود بطلميوس الأول التي سكها بعد المناداة بنفسه ملكًا، وكذلك في أغلب نقود بطلميوس الثاني. وترينا أمثلة متعددة من تماثيل الفن الإسكندري مميزات طرازه التي سبق وصفها مشفوعة بخواص هذه الفترة. وحسبنا أن نذكر من هذه الأمثلة رأسًا بديعة للإسكندر كانت موجودة في شتوتجارت، ورأسا رائعة الجمال لإحدى الألهات محفوظة الآن في متحف الإسكندرية.
3- الفترة الثالثة: ويبدو أنه حوالي آخر عصر بطلميوس الثاني ترك الفنانون جانبًا تصوير تعبيرات طبيعية. ونرى بداية هذا الاتجاه في النقود التي سكت في أواخر عهد بطلميوس الثاني، وفي المجموعة الأولى من نقود أرسينوي فيلادلفوس، وفي نقود كل من بطلميوس الثالث وبطلميوس الرابع.
ويبدو من السير تفسير ظهور هذا الاتجاه الجديد في عهد بطلميوس الثاني، ففي بداية العصر الهلينيسي بلغ نفوذ الإسكندر أبعد مدى. ولا أدل على ذلك من المحاولات التي بذلها بطلميوس الأول لاستغلال هذا النفوذ في توطيد دعائم مركزه بمصر، فقد عرفنا كيف عمل على نقل جثمانه لدفنه في مصر، وكيف جعل عبادته دينًا رسميًا لإغريق مصر. غير أنه يبدو دلوتهما قوى نفوذ بطلميوس الثاني إلى حد تلاشي معه نفوذ أي شخص آخر في الدولة المصرية، ولابد من أنه في الوقت نفسه أيضًا كانت جهود علماء الإسكندرية قد أخذت تؤتي ثمارها ويتعلم الفنانون منها ضرورة ملاحظة الأشياء ملاحظة صحيحة والتعبير عنها تعبيرًا دقيقًا. وقد ساير فن النحت ميول العصر، وتمثل لنا خصائصه في مختلف أنواع التماثيل، لعل من أبدعها ثلاث رءوس أحداها في متحف الإسكندرية ويظن أنها رأس بطلميوس الثالث، والاثنتان الأخريان في بوسطون ويبدو أنهما لبطلميوس الرابع وزوجه أرسينوي الثالثة.
4- الفترة الرابعة: ومنذ عهد بطلميوس الخامس تظهر أعراض التدهور تدريجيًا وتزداد على مضي الزمن، حتى أنه عقب عهد بطلميوس التاسع لا نجد قطعًا فنية جديرة بهذا الاسم. وتظهر هذه الأعراض في نفوذ بطلميوس الخامس المعاصرة للسكة الجديدة من نقود بطلميو الثاني وأرسينوي الثانية، التي تحمل على ظهرها صورتي بطليموس الأول وبرينيكي الأول، وللسكة الجديدة من نقود أرسينوي الثانية، وفي نقود سائر البطالمة المتأخرين منذ بطلميوس السادس حتى كليوبترة السابعة وقيصرون. وتبدو مميزات هذه الفترة في بضع رءوس سيدات توجد في متحف الإسكندرية وفي تمثال نصفي لأحد البطالمة، كان يظن عادة أنه بطلميوس الثاني لكنه يتضح من مقارنة هذا التمثال بالنقود أنه على الأرجح لبطلميوس الخامس.
5- ويتضح من دراستنا أنه يوجد عدد كبير من النقود والتماثيل التي ترجع إلى بداية عصر البطالمة وكذلك إلى نهايته، وتمتاز بطرازها الإغريقي سواء أعظمت قيمتها الفنية أم تضاءلت. وهي ترينا في درجات متفاوتة اتجاها قاطعًا نحو المثالية، فإن الفنان كان يستمد ملاحظاته من الطبيعة لكنه كان يهدف إلى إبراز فكرة مثالية معينة، فأخرج مبتكرات مثالية لا تختلف كثيرًا عن الطبيعة. وهذا الاتجاه نحو المثالية الطبيعية حدا بالفنان إلى استخدام طراز يمتاز باللين والرفق في تصوير الملامح وتشكيل العضلات. وهنا أهم فارق بين فني برجام والإسكندرية، فإن الفنان البرجامي كان يعالج فكرةمثالية بطريقة واقعية، على حين كان الفنان الإسكندري يعالج موضوعًا وقاعيًا، هو دراسة الطبيعة البشرية، بطريقة مثالية.
وقد سبقت الإشارة إلى تعدد أجناس سكان الإسكندرية، وإلى الحركة العلمية في هذه المدينة العظيمة. وكان طبيعيًا أن تؤدي روح البحث العلمي وسط بيئة مختلطة على هذا النحو إلى دراسة الأجناس الجديدة التي كان الإغريق يحتكون بها هناك. ولا جدال في أن دراسة الأجناس البشرية أصبحت لأول مرة في الإسكندرية أحد فروع العلم الحديث. ولا ريب في أن مظاهر هذه البيئة المختلطة قد استرعت أنظار مثالث الإسكندرية، فوجدوا فيها منفذًا لاستخدام مواهبهم الفنية الرفيعة. وبما أنهم كانوا يعيشون في وسط علمي سبقهم إلى الاهتمام بالموضوع نفسه، فلابد من أن منتجاتهم الفنية كانت تقوم على أساس علمي وترمي فعل كل شيء إلى إبراز الخواص الجنسية في موضوعات دراستهم، ولاسيما ما فيها من الخصائص غير العادية. ولذلك كانوا يصورون مصريين وأسيويين ونوبيين وأقزامًا، وكذلك أشخاص يعانون أمراضًا مختلفة. ولاريب في أن هذه الشخصيات لم تكن مجموعة في متاحف بشرية أو طبية، بل كانت أفرادًا عاديين يجوبون الشوارع كغيرهم من البشر. وبالتدريج اتسع نطاق هذه الدراسات فشملت حرف الناس وعاداتهم وسنهم وأخلاقهم، فصور المثالون رجالاً ونساءً وأطفالاً ومزارعين وصيادين وبهلوانات وسكارى. ولم يلبث المثالون أن خطوا بعد ذلك خطوة أخرى، فإن الإسكندريين وقد اشتهروا بحبهم للمزاح وبسخريتهم اللاذعة استغلوا إلى أقصى حد ما أمدتهم به بيئتهم المختلطة. فلم يعد الفنانون يقصرون همهم على الدراسات العلمية، بل استخدموا خبرتهم لإشباع سخريتهم بالمبالغة في الخصائص الجنسية أو الفردية، إلى حد أن تماثيلهم لم تكن في كثير من الأحيان إلا صورًا رمزية مضحكة.
ومن أروع أمثلة هذا الفرع من فن الإسكندرية تمثال من الرخام لبهلوان نوبي واقف على يديه فوق تمساح أليف؛ وتمثال آخر لإمرأة ريفية شمطاء قوست السنين ظهرها ولم يشفق الزمان على جسدها ولكأنك تراها وهي تعثر في طريقها؛ وتمثال لنوبي افترش الأرض ليبيع "الدوم"، وجلس فوق كتفه قرد يقطع الوقت بالبحث في رأس سيده عما قد تجود به قذارتها. وما أبدع ذلك التمثال البرونزي الذي يمثل رجلاً عجوزًا أحدبا يحمل آنية فخارية وديكًا. ولعل ما يبدو على وجهه من سيماء القلق والاضطراب يرجع إلى نكات المارة، أو إلى خوفه من معاكسة الصبية الشياطين.
* * *
وتنقل بعد ذلك إلى الكلام عن النقوش البارزة (bas - reliefs) وهي متعددة النواحي وتأتي في مقدمتها تلك اللوحات الرائعة التي تسمى لوحات النقوش البارزة الهلينيسية (Hellenistic reliefs). وقد اختلف العلماء في أصلها اختلافًا بينًا ساعد عليه أن هذه اللوحات لمتصل إلينا في صورتها الأصلية، إذ لم تصلنا في أغلب الحالات سوى نسخ منقولة عن الأصل. ويعزز بعض العلماء أصل هذه اللوحات إلى الإسكندرية، لأن هذه اللوحات تتصل اتصالاً وثيقًا بفكرة كسوة الجدران، التي سبقت الإسكندرية غيرها من المدن في تطبيقها، ولأن طريقة معالجة هذه النقوش وموضوعاتها تتفق مع روح البحث العلمي الذي امتازت به الإسكندرية. ومع دراسة الأجناس البشرية التي برزت في الفن الإسكندري، ومع روح الشعر الإسكندري. وينكر البعض الآخر ذلك على الآخر ذلك على الإسكندرية، أما لأنه ليست في هذه اللوحات أي عناصر مصرية، أو لأن مناظر الإسكندرية لا يمكن أن تكون مصدر الهام هذه اللوحات التي يصور الكثير منها مناظر طبيعية رائعة، ولذلك يعزى أصل هذه اللوحات إلى مدن تمتاز بجمال مناظرها، مثل أنطاكية أو برجام أو أزمير أو غيرها من مدن آسيا الصغرى.
وفي الواقع لا يمكن الإدلاء برأي قاطع في هذا الموضوع في حالة معلوماتنا الراهنة، فكننا نعتقد أنه لا يمكن أن يعزى أصل هذه اللوحات إلا إلى الإسكندرية أو برجام، لأنهما كانتا المدينتين الوحيدتين اللتين في وسعهما ابتكار مثل هذه الآثار الفنية. وعند المفاضلة بين هاتين المدنينتين، نمثل إلى ترجيح كفة الإسكندرية لأن الأسباب التي قيلت في تأييد أحقيتها تبدو لنا معقولة ومقبولة. وعلى كل حال فإنه على الرغم من احتدام الجدل حول المكان الذي شهد قبل غيره ميلاد هذه اللوحات، فإن أحدًا لم يرقيها أية تأثيرات مصرية.
* * *
ويتضح لنا من دراسة أنصاب الموتى التي وجدت في الإسكندرية أن القليل منها مزينة بنقوش بارزة، على حين أن الغالبية مزينة بالألوان، فمثلاً وجدت في مقبرة الشاطبي ثمانية من النوع الأول وواحد وعشرون من النوع الثاني، وتعزي هذه الظاهرة إلى طبيعة الصخر المحلي التي لا تلائم النحت كثيرًا. ونلاحظ بعد ذلك في أنصاب الإسكندرية المبكرة شبهًا قريبًا بينها وبين أنصاب أتيكا، مما يؤيد الافتراض بأنه في فجر تاريخ الإسكندرية قد أتى إليها مثالون أو آثار فنية من أتيكا، فتأثر الطراز المحلي بهذه العوامل، وهكذا فإن هذا الطراز برغم خصائصه المميزة بكشف عن مصدره الأصلي، ونلمس في كل أنصاب الإسكندرية خواص طرازها الفنين ويمكن تأريخها تبعًا لذلك. هذه الأنصاب تمثل عادة الميت ومن حوله بعض أفراد أسرته. ومن أروع أمثلة النصف الأول من القرن الثالث لوحة تمثل فتاتين تسندان أمهما وهي في حالة النزع الأخير. وإذا كان التدهور قد دب دبيبه إلى هذه الناحية من الفن الإسكندري قبل غيرها، فإن الغالبية العظمى من أنصاب الإسكندر بقيت إغريقية بحتًا.
* * *
وترينا الأحجار النفيسة المزينة بالنقوش، التي يمكن أن تعزوها إلى الفن الإسكندري في عصر البطالمة، كل خواص طراز هذا الفن وتطوراته التي سبق ، تتبعناها في النقود والتماثيل. وبسبب التشابه الشديد بين كل الطرز الهلينيسية في بداية هذا العصر، أي في أواخر القرن الرابع، يتعذر أن نضرب أمثلة للفترة الأولى ونحن آمنين من الزلل. أما أمثلة الفترة الثانية التي لا يمكن أن يرقى الشك إليها فكثيرة، ونكتفي بأن نذكر منها صورة مصنوعة من الساردونيكس تمثل فيما يبدو بطلميوس الأول، وصورة زجاجية لبطلميوس الثاني، وصورة من الأمثيست لأرسينوي الثانية.
ومن أبدع الآثار الفنية على الإطلاق قطعة من الساردوليكس تمثل الفترة الثالثة وتصور رأسين أحداهما لسيدة والأخرى لرجل، يحتمل أنهما بطلميوس الثاني وزوجه. ومن أمثلة الفترة الرابعة صورة من الكارنيليان (Carnelian) لا نرى في هذه الناحية أيضًا من نواحي الفن الإسكندري أي أثر لمزج الطرازين المصري والإغريقي.
* * *
ويمكن نتبع تطورات طراز الفن الإسكندري وخواصه في ناحية أخرى من نواحي هذه الفن، وهي الآنية المعدنية الزخرفة بالنقوش. وإذا كان لم يصلنا عدد وفير من هذه الآنية المصنوعة من الذهب أو الفضة أو البرونز، فقد وصلت إلينا من منف كمية كبيرة من النماذج المصنوعة من الجبس، ومن إبداع أمثلة الفترة الأولى نموذج ميزن بزخرفة مأخوذة من الأساطير، تمثل ثورًا ضخمًا يحمل فوق أمواج البحر سيدة عارية نحيلة الجسم، وينتمي إلى الفترة الثانية نموذج يمثل رأس بطلميوس الأول. ويرجع إلى الفترة الثالثة نموذج يحمل رأي أحد البطالمة، من المرجح جدًا أنه بطلميوس الثالث. ويمثل التفرة الرابعة طبقان من الفضة، عثر عليها في هرموبوليس وكانا يوجدان في متحف برلين، وقد زينا برأسين أحداهما لهرقل والأخرى لأحد أتباع ديونيسوس.



قطع النحت المصرية

لقد وضعت حدًا للتدهور، الذي شهده الفن المصري عقب الزعامة، تلك النهضة الفنية التي ازدهرت في العصر الصاوي، وهدقت إلى إحياء تلك التقاليد القديمة التي أخرجت الكثير من آيات الفن المصري. وقد تمخضت هذه النهضة عن نتائج رائعة في فن النحت. لكن سرعان ما قصر الفنانون همهم على تقليد خصائص الفن القديم. وكذلك أنعشت الفن المصري الحركة القومية التي سرت في البلاد على عهد الأسرة الثلاثين في كنف الفراعنة والقوميين إلا أنه سرعان ما عاد الفنانون ثانية يقلدون القطع الفنية القديمة. ولفن النحت المصري في عصوره المتأخرة ظاهرتان أخريان إلى جانب تقليد الماضي. وهما قلة عدد التماثيل وافتقار هذه التماثيل إلى نقوش مميزة ـ مثل خراطيش الملوك ـ يمكن استخدامها في تاريخها، ومن ثم عمت منتجات العصور المتأخرة فوضى عجيبة يضل الكثيرون طريقهم في بيدائها.

ولنر الآن إذا كان فن النحت المصري قد اعتد في عصر البطالمة، كما اعتمد في غير ذلك من العصور المتأخرة، على تقاليد الفن المصري القديم، أم اقتبس شيًا من الفن الإغريقي. ولم كان عصر البطالمة أسعد حظًا من غيره من العصور المتأخرة، من حيث أ،ه ترجع إلى هذا العصر سلسلة كبيرة من النقوش البارزة، على جدران المعابد والأنصاب الرسمية، التي يمكن تأريخها بقدر معقول من الصحة، فإننا سنستعين بهذه النقوش البارزة في تتبع ما طرأ من التطورات على طراز فن النحت المصري في خلال هذا العصر. وسنستعين بها كذلك في القيام بمحاولة فحسب أنها جديدة، وهي تقسيم منتجات هذا الفن إلى فترات، فإنه بدراسة هذه النقوش البارزة وبمقارنتها بالتماثيل، نستطيع أن نقسم من النحت المصري في عصر البطالمة إلى ثلاث فترات تشمل كل منها قرنًا تقريبًا. ولا جدال في أنه لكل قاعدة شواذها، ولذلك يجب ألا يتصور أحد أن هذا التقسيم جامع مانع، أو أننا نزعم أنه لا يقبل مناقشة أو تعديلاً.

الفترة الأولى ـ ونستخلص خصائص هذه الفترة من روحة في معبد الأقصر صور عليها الإسكندر الأكبر بالنقش البارز، وهي ترينا أن الفن المصري في بداية عهد البطالمة كان حلقة من حلقات فن العصر الصاوي. وأهم خصائص هذه الفترة وجوه مليئة دون أن تكون ضخمة وأجسام طويلة لكن أجزاءها متناسبة مع بعضها، وعضلات مبينة بدقة وإنما دون إسراف، وعيون متسعة لكنها غير محدقة، وشفاه بارزة إلا أنها ليست مبتسمة، وسرة ظاهرة دون أن تكون بارزة. وتتمثل كل هذه الخواص في تمثال رجل واقف على النحو المألوف في التماثيل المصرية، ولا يرتيد إلا الثوب التقليدي الذي يغطي الجذع.

ونرى في نصب رائع للإسكندر الرابع كل ما رأيناه تقريبًا من المميزات في لوحة الإسكندر الأكبر، إلا أنه تعلو الشفتين ابتسامة عريضة.وفي النقش البارزة الذي يصور فيليب أرهيدايوس بمعبد الكرنك نرى ظاهرة جديدة، لأن الجسم هنا أكثر ميلاً إلى نحافة. هكذا يبدو أنه عقب الفتح المقدوني بفترة قصيرة، أخذ الفنانون المصريون يكونون لأنفسهم طرازًا خاصًا تبدو مميزاته في تمثال ديدهور الذي يمثل رجلاً تعلوا الابتسامة وجهه، وقد جلس القرفصاء ويحيط بجسمه النحيل رداء طويل.

ويبدو أن عدم اهتمام البطالمة الأوائل بالفن المصري أدى إلى تدهوره سريعًا، فإن لوحات المعابد والإنصاب الرسمية التي تصور بالنقوش البارزة بطلميوس الثاني وبطلميوس الثالث ترينا أن الوجوه قد أصبحت أضخم والأجسام أرفع والعيون أضيق مما كانت عليه قبلاً، والابتسامة آلية وتصوير العضلات يشوبه العجز والقصور. وأبرز مثل لذلك رأي من البازلت لتابوت في شكل جسم الإنسان.

الفترة الثانية: ويبدو أن سياسة العطف نحو المصريين التي اتبعها البطالمة منذ فيلوباتور وانتعاش الروح القومي منذ موقعة رفع قد بعثا من جديد الفن المصري المتداعي. وتظهر بداية هذا البعث في لوحات المعابد التي تصور بطلميوس الرابع، وهي ترينا أن الوجوه لم تعد ضخمة والعيون ضيقة والابتسامة عريضة والأشجام نحيلة وتصوير العضلات مشوبًا على نحو ما شاهدنا في أواخر الفترة الأولى. وتبلغ هذه الفترة ذروتها في لوحات بطلميوس السادس. ولعل أبدع مثل لمنتجات مدة التفرة تمثال من الجرانيت الأسود يوجد في متحف القاهرة، ويوصر رجلاً جالسًا القرفصاء، وتعلو شفتيه ابتسامة رقيقة، ويغطي جسمه رداء طويل وتدل لوحات طلميوس الثامن على أن نجم الفن المصري قد أخذ في الأفول.

الفترة الثالثة: ويبدو أن الفن المصري قد رجع إصدار الصراع العنيف الذي خاضه المصريون مع البطالمة والإغريق وما تكشف عنه من إخماد الروح القومي، فإن الفن المصري أخذ يرجع القهقري منذ أواخر القرن الثاني. وترينا لوحات لابطالمة المتأخرين أن الفنانين المصريين قد عادوا ثانية إلى مميزات الفترة الأولى، لكنهم بالغوا في تصويرها، فالوجوه شديدة الضخامة والعيون ضيقة وبارزة والخدود منتفخة الأوداج والابتسامة تكاد تكون ضحكة ومناكب الرجال عريضة جدًا، بينما مناكب النساء على نقيضها، والأجسام بالغة النحالة والعضلات مصورة بإهمال شديد. وأصدق مثل لفن هذه الفترة رأس تمثال رجل رائعة في قبحها وفي إبراز خصائص هذه الفترة.

ويجدر بنا الآن أن نبين طابع أهم خصائص فن النحت المصري في خلال هذا العصر. ويبدو أن كثرة ما نراه في مبتكرات هذا الفن من الوجوه والأجسام المليئة ترجع قبل كل شيء إلى أثر مميزات البطالمة الشخصية على نحو ما تركه الفراعنة من الأثر في الفن الفرعوني، والإسكندر الأكبر في الفن الهلينيسي، وأغسطس في الفن الروماني، ولم يكن الاهتمام بدراسة ملامح الوجه أمرًا مستحدثًا على الفنانين المصريين، فقد اهتموا بذلك قبل الإغريق بقرون طويلة، كما يبدو من تماثيل منتمحت (Mentemhet) الذي كان يحكم طيبة حوالي آخر عهد الأسرة الخامسة والعشرين. وتشبه العيون في شكلها وإطالة خطوط جفونها وحواجبها ما كان معروفًا في الدولتين الوسطى والحديثة. وليست الشفاه البارزة وما يرتسم عليها من الابتسمامة إلا مبالغة لظاهرة عرفتها آثار الدولة الحديثة والأسرة الخامسة والعشرين. وكذلك لم يكن جديدًا بروز الأذنين في جانبي الرأس، وإذا كانت توجد أمثلة لأذنين ملتصقتين، فإنها قليلة في عصر البطالمة كما كانت قليلة قبل ذلك، على نحو ما نرى في تمثال لرمسيس الثاني وفي تماثيل منتمحت. ولا يمكن أن تكون من آثار الفن الإغريقي بروز البطن وإظهار السرة بإسراف. أما الاقتصاد في تصوير عضلات الجسم وإظهار مقدمة الساق كما لو كانت لها حافة مدببة وترك مسافات واسعة بين أصابع القدمين، فإنها جميعًا من خصائص الفن المصري في كل العصور.

ويبين إذن أن فن النحت المصري قد احتفظ بتقاليد الفراعنة من خلال عصر البطالمة، لكن تدهور هذا الفن قد تمخض عنه اختفاء أجمل مظاهر الفن القديم الذي لم يبق منهإلا خصائص شوهتها كثرة التكرار والمبالغة.

وأهم لوحات النقش البارزة هي بطبيعة الحال اللوحات التي تزين جدران المعابد، غير أنه لما كان يندر أن يوجد منها ما لا يمثل أحد أفراد أسرة البطالمة، فإننا مضطرون إلى ألا نتكلم عنها إلا في معرض الكلام عن قطع النحت التي تختلط فيها العناصر المصرية والإغريقية.

وتصور لنا الأنصاب الجنازية الميزنة بالنقوش البارزة التطورات المختلفة التي مرت بفن النحت المصري في عصر البطالمة، كما تبين لنا أن هذه النقوش كانت كذلك مصرية خالصة في طرازها، وتشبه هذه الأنصاب في شكلها أنصاب العصور السابقة، فهي لوحات رقيقة من الصخر قمتها مستديرة في أغلب الأحيان، ولذلك فهي تتصل اتصالاً وثيقًا بالنوع الشائع في عهد الرعامسة وفي العصر الصاوي. وفي أحوال نادرة نجدها مستطيلة الشكل، أي شبيهة النوع المنفيسي.

وتزين هذه الأنصاب مناظر بالنقوش البارزة تصور الموتى في حضرة بعض الآلهة. وتصحب هذه المناظر عبارات هيروغليفية تتضمن في كثير من الأحيان معلمات عن سن المتوفي وتفاصيل تحنيطه وكذلك بعض الأدعية الدينية. ويمثل الفترة الأولى نصب يزين قمته قرص شمس له جناحان مفتوحان وتيدلى إلى جانبيه صلان مقدسان (uraei)، وتمتد تحت ذلك العلامة التي ترمز إلى السماء. وتحت هذه العلامة منظر يمثل الميت وهو يتعبد إلى هارماخيس وأتوم وإيزييس ونفشيس، ثم يأت تحت هذا المنظر نص هيروغليفي. ويمثل الفترة الثانية نصب آخر يزين قمته قرص الشمس وصلان ورمز سماء تتناثر النجوم في أرجائها. وتحت ذلك منظران أهدهما إلى اليمين ونرى فيه الميت وهو يتعبد إلى أوزيريس وهارسيسي (Harsiese) وإيزيس، والآخر إلى اليسار ونرى فيه زوجة الميت في حضرة نفثيس وأنوبيس وحورس، ثم يأتي بعد ذلك نص هيروغليفي. ويمثل الفترة الثالثة نصب يزين قمته كذلك قرص الشمس وصلان، لكنننا نرى هنا تحت قرص الشمس مركبين مقدستين يفصل بينهما عرش يجلس عليه هاربوكرانس. وتحت ذلك رمز سماء كالسابقة، فوق منظر يمثل الميت إلى اليمين في حضرة مين (Min) وحورس وحتحور، وإلى الييسار في حضرة رع وأوزيريس وإيزيس، ووتحت ذلك نص هيروغليفي.

ونعرف مما مر بنا أن المقابر المصرية في عصر البطالمة كانت لا تزين في أغلب الأحيان بالنقوش البارزة وإنما بالألوان، ولذلك فإن ما لدينا من أمثلة هذه النقوش قليل. وحسبنا أن نذكر منها مثلين، وأحدهما هو زخرفة واجهة مقبرة بتوسيريس، وهو يقدم القرابين لآلهة مختلفة، وتعطينا مثلاً نموذجًا لفن النحت المصري البحث في بداية عهد البطالمة. أما المثل الآخر فلا نعرف شيئًا عن المقبرة التي كان يزينها، لكنه من الجلي أنه ينتمي إلى الفترة الثانية، وهو يرينا فتاتين تجمعان البردي في مستنقع وتحزمان سويًا أوزتين وقعتا في قبضتهما، بينما تجلس أوزة ثالثة على رأس إحدى الفتاتين.

وقد اقتفت النقوش البارزة المصرية في عصر البطالمة تقاليد النقوش البارزة في العصور القديمة، فهي تصور لنا منظرًا جانبيًا للرأس، ومع ذلك تبدو العين كاملة، على حين أنها تصور المنكبين كاملين ومنظر ثلاثة أرباع الجذع ومنظر جانبيًا للساقين والقدمين. وهي تصور أيضًا الظهور طويلة جدًا والعجز صغيرة جدًا ولا ت صور إلا ثديًا واحدًا للسيدة. وتبدو في تصوير كل ذلك مميزات التطورات المختلفة التي مرت بالطراز المصري في عصر البطالمة.

ويبين من دراسة التماثيل المصرية والنقوش والبارزة المصرية في عصر البطالمة أن الطراز المصري لم يتأثر بالطراز الإغريقي. وفي الواقع على الرغم من خضوع مصر لحكم الليبيين والأشوريين والفرس والإغريق، فإنه يتعذر أن نجد في الفن المصري أية تغييرات جوهرية نتيجة لهذه الغزوات الأجنبية. وإن دل هذا على شيء فهو يدل على أن الروح المصرية قد تضعف وتتخاذل أحيانًا، لكنها لا تغني ولا تتلاشى أمام الخطوب وصروف الدهر.

ليست هناك تعليقات: