السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- القانون والقضاء 1



1.القضاء المختلط

طباعة أرسل لصديق
كان الملك يعتبر كبير القضاة في البلاد ، فهو لم يكن مصدر كافة السلطات فحسب بل كان أيضًا يعني بتصريف العدالة ، حتى أن رعاياه كانوا يعتبرونه ملاذهم الأعلى الذي يفزعون إليه إذا حاق به ظلم . ولذلك كان يوجد في القصر الملكي بالإسكندرية باب يدعى "باب الأحكام" (Chrematistikon pylona) ، وكان يوجد في المعسكرات خوان خاص يستخدمه الملك قاعة للأكل ولعقد محكمته .

ويحدثنا قرار حجر رشيد بأن بطلميوس الخامس كان يصرف العدالة للجميع في كل وقت، على نحو ما كان يفعل الإله تحوت عند المصريين والإله هرميس عند الإغريق. ومع ذلك ومع أنه كان في بعض الأحيان يفصل شخصيًا في قضايا رعاياه، فإنه كان عادة ينيب عنه القضاة المختصين للاضطلاع بهذه المهمة .

لقد عرفنا أن البطالمة عنوا باحترام عادات المصريين وقوانينهم، وأنهم مع ذلك لم يفرضوها على نزلاء البلاد من الأجانب بل أنشأوا لهم من القوانين ما يلائمهم، فكان للمصريين قوانينهم وللإغريق وغيرهم من الأجانب قوانينهم. ولما كان أغلب هؤلاء الأجانب من الإغريق، فقد كان طبيعيًا ألا يرشد البطالمة بوجه عام في تشريعهم الجديد إلا بالقوانين والعادات الإغريقية، كان لابد من أن يعهد بتصريف العدالة بين المتخاصمين إلى قضاة مصريين أو إغريق بحسب جنسية المتخاصمين ليكونوا بذلك أقدر على فهم لغتهم وقوانينهم وعاداتهم. ولذلك كان يوجد قضاة مصريون (Laokritai) للفصل في قضايا المصريين وفقًا لأحكام القوانين المصرية، كما كان يوجد قضاة إغريق (chrematistai) للفصل في قضايا الأجانب على اختلاف نحلهم وفقًا للتشريع الإغريقي الجديد. لكنه لم يكن ميسوراً على الدوام تنظيم اختصاص المحاكم وفقًا لجنسية المتخاصمين فقط، لأنه لم يحظر على الإغريق أن يتعاقدوا وفقًا لأحكام القانون الإغريقي إذا كان في ذلك مصلحة لهم، فنسمع مثلاً أن شخصين إغريقين حررا عقدًا مصريًا، ومصريين حررا عقدًا إغريقيًا. هذا إلى أنه لم يكن هناك مفر من أن يؤدي التعامل بين المصريين والإغريق إلى قضايا يكون فيها طرفًا الخصومة من جنسيتين مختلفتين، ولذلك فإن وثائق من القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد تحدثنا عن محكمة مختلطة (Koinodikion).

وفي ضوء ما أسلفناه يبدو أن القاعدة العامة هي أن الملك كان ينيب عنه محكمة مختلطة للفصل في قضايا بين طرفين ينتميان إلى جنسيتين مختلفتين، وقضاة مصريين للفصل في قضايا المصريين وقضاة إغريقيًا للفصل في قضايا الإغريق وغيرهم من الأجانب، لكنه كان يستثنى من ذلك: (أولاً) الشكاكوي الموجهة ضد موظفي الإدارة وعمال المالية و(ثانيًا) القضايا التي يمس موضوعها موارد الملك. و(ثالثًا) القضايا التي تخص الأشخاص الذين يمدون الخزانة بمواردها، حتى إذا كان موضوعها لا يمس موارد الملك. إن كافة هذه الأنواع من المشاكل كانت لا تنظر أمام المحاكم العادية، فقد كان الموظفون هم الذين يفصلون فيها، غير أن القضاة الإغريق كانوا يساعدونهم في بعض الأحيان على نحو ما سنتبينه فيما بعد بالتفصيل، وسنرى أيضًا أنه كان لرجال الجيش فيما يبدو محكمة خاصة بهم، ولذلك يمكننا أن نقسم القضاء في عهد البطالمة إلى أربعة أقسام: القضاء المختلط والقضاء المصري والقضاء الإغريقي والقضاء الخاص، غير أنه يجب أن نعترف منذ البداية بأننا لا نعرف على وجه التحديد اختصاص كل قسم من هذه الأقسام. ويزيد المشكلة تعقيدًا وغموضًا ـ ولعلها أكثر مشاكل تاريخ البطالمة تعقيدًا وغموضًا ـ ما نلمسه من ازدياد اختصاص رجال الإدارة القضائي على مضي الزمن، وما نلاحظه من نظر بعض القضايا أمام القضاء الإغريقي ثم الإداريين، أو عرضها أولاً على الإداريين ثم الالتجاء بعد ذلك إلى القضاة الإغريق.

القضاء المختلط

ذكرنا أن بعض وثائق القرنين الثالث والثاني تتحدث عن محكمة مختلطة، لكننا لا نعرف كيفية تكوين هذه المحكمة وإن كان يبدو معقولاً أنها كانت تتألف من قضاة مصريين وإغريق. ولا نعرف كذلك مدى اختصاص هذه المحكمة. وإذا كان البعض يرجح أنها كانت للفصل في القضايا المدنية بين المصريين والإغريق، فإن وثيقة من بداية عهد بطلميوس الرابع ترينا أن اختصاص هذه المحكمة لم يقتصر على القضايا المدنية فحسب بل كان يشمل أيضًا القضايا التي لها طابع جنائي، فقد نشب خلاف بين شخص يدعى ماريس بن بتوسيريس وشخصين آخرين يدعيان هيراكون وهيبون على تقسيم كرم. وبينما كان عمال ماريس يشتغلون في الكرم، جاء شخص يدعى بابثولاوس وطردهم ثم نشر هيبون وهيراكون أغنامهما في الكرم وبذلك أتلفت المروعات عمدًا، فأبلغ الحادث للشرطة لإثبات الحالة. وقدم ماريس هذه الشكوى لكي يقسم الكرم بينه وبين هيبون وهيراكون، ولكي يدفع هذان الشخصان تعويضًا له عن الخسائر التي تسببا فيها عمدًا ولمعاقبة بايثولاوس على ما أقدم عليه، فوقع القائد على الشكوى بأن ترسل إلى الإبيسناتس لمحاولة التوفيق بين الخصوم، أما إذا عجز عن ذلك فإنه يجب عرض الموضوع على المحكمة المختلطة.


وقد تصور البعض أن هذه المحكمة ألغيت في القرن الثاني قبل الميلاد لعدم ورود ذكر لها في قرار العفو الذي أصدره بطلميوس الثامن في عام اختصاص هذه المحكمة بالنص على أنه إذا نشب خلاف بين مصري وإغريقي نتيجة لعقد محرر بينهما، فإن لغة العقد المحرر بين الطرفين هي التي كان تقرر نوع القانون الذي يطبق وتبعًا لذلك نوع المحكمة التي يعرض عليها الخلاف، فإذا كان العقد مصريًا فإن القانون المصري هو الذي كان يطبق ومحكمة القضاة المصريين هي التي كانت مختصة بالفصل في الموضوع. وأما إذا كان العقد إغريقيًا، فإن القانون الإغريقي هو الذي كان يطبق ومحكمة القضاة الإغريق هي التي كانت صاحبة الاختصاص في نظر القضية، وأما إذا نشب خلاف بين طرفين مصريين فإنه كان يتعين عرض الأمر على محكمة القضاة المصريين.


وجلى من نص هذا القرار أنه خاصًا بالقضايا المدنية، مما يدل على أن القضايا الجنائية بين طرفين ينتميان إلى جنسيتين مختلفتين قد بقيت من اختصاص المحكمة المختلطة.


ويستوقف النظر أن هذا القرار نص على المحكمة التي يتعين أن تنظر أمامها الخصومة بين طرفين مصريين لكنه لم يشر إلى القضايا التي تنشأ بين طرفين إغريقين، مم يدل على أنه لم تكن هناك حاجة إلى ذلك لأنه لم يكن هناك أي لبس في أن ذلك كان من اختصاص محاكم القضاة الإغريق. وهذا يدل أيضاً على أن القضاة الإغريق درجوا على الاعتداء على اختصاص القضاة المصريين، مما حدا ببطلميوس الثامن إلى وضع حد لهذا العبث. ومع ذلك فإن وثيقة من عام 67 ق.م. ـ أي بعد قرار بطلميوس الثامن ـ تحدثنا بأن قضية بين طرفين مصريين أو على الأقل بين طرفين يحملان أسماء مصرية نظرت أمام محكمة القضاة الإغريق بالرغم من أن موضوع النزاع كان عقدًا مصريًا. ولقد عرفنا أن الأسماء لم تعد في هذا الوقت المتأخر دليلاً على الجنسية، فهل لم يكن طرفًا الخصومة مصريين وإن كانا يحملان أسماء مصرية، ولهذا السبب عرضت القضية على المحكمة الإغريقية؟ أننا لا نستطيع الجزم بشيء في تفسير هذه المسألة، بيد أننا لا نستطيع القول بأنه إذا كان هذا لا ينهض قرينة على اختفاء المحاكم المصرية عندئذ، فإنه يوحي باستمرار القضاة الإغريقية في الاعتداء على اختصاص القضاة المصريين.

ليست هناك تعليقات: