السبت، 6 سبتمبر 2008

العصر البطلمي- الحياة الاجتماعية 5

العصر البطلمي arrow الحياة الاجتماعية arrow حضارة المصريين

5.حضارة المصريين

طباعة أرسل لصديق
وإلى أي حد استمسك المصريين بحضارتهم أو تأثروا بالحضارة الإغريقية في عهد البطالمة ؟ تشير جميع القرائن إلى أن المصريين بوجه عام استمروا يعيشون كما كان يعيش أجدادهم من قبل .

محتفظين بعاداتهم وتقاليدهم ، يعبدون آلهتهم ، ويخضعون لقوانينهم القرعونية ، وأن ملايينهم كانوا يفلحون الأرض وألوفهم يشتغلون بالصناعة والتجارة ، وأن بعضهم انخراط في سلك الجيش والبعض الآخر في خدمة الحكومة ، لكنه قلما شغل أحد منهم مناصب خطيرة بعد عهد بطلميوس الأول وقبل عهد البطالمة الأواخر . وكان المصريون يلتقون في أندية جمعياتهم ، أو في بيوت الأعيان كما هي اليوم حال أهل الريف ، أو في المعابد ليستمعوا إلى قادتهم الروحيين ويعبروا لهم عن مظالمهم .

وقد كانت للمصريين قبل عصر البطالمة ثلاثة أنواع من الجمعيات، وهي الجمعيات الدينية الخاصة التي كانت تتصل فيما يبدو بحياة البلاد الدينية؛ والجمعيات التي كانت تؤلفها فئات رجال الدين وخاصة صغارهم كالمحنطين وغيرهم، وفقًا لما كانت تقوم به كل فئة منهم في شئون المعابد؛ وجمعيات أرباب الحرف والمهن المختلفة، وكانت تتصل اتصالاً وثيقًا بالدولة ولعلها هي التي كانت تنظمها، مثل الجمعيات أو النقابات المحلية لزراع الملك، والأشخاص المشتغلين في الصناعات المختلفة، أو في النقل أو في التعدين أو في البناء أو في الصيد الخ... ويحتمل أن بعض هذه الجمعيات كانت مفككة الأواصر ومؤقتة. لكن لا شك في أن بعضها الآخر كانت مؤسسات قوية ودائمة.

وقد استمر كل هذه الأنواع من الجمعيات المصرية طوال عصر البطالمة. ويبدو أن بعضها على الأقل اتخذت بالتدريج بعض مظاهر الجمعيات الإغريقية، ولذلك لا تبدوا بوضوح لأول وهلة إذا كانت في الأصل منشآت مصرية. ويتضح هذا في الجمعيات المصرية الدينية والاجتماعية التي لم تختلف اختلافًا بينًا في هدفها ونظمها عن الجمعيات الإغريقية المماثلة لها. ولعل سبب ذلك أنه عندما ازداد اختلاط المصريين والإغريق في الشطر الثاني من عهد البطالمة وازدادت عندئذ أهمية المذاهب المصرية في حياة إغريق مصر الدينية، يبدو أن الجمعيات المصرية والجمعيات الإغريقية أصبحت تتألف من أعضاء مصريين وأعضاء إغريق على السواء، وهكذا تأثرت جمعيات المصريين وجمعيات الإغريق ببعضها بعضًا. ويبدو أن الجمعيات المصرية التي كانت من النوعين الثاني والثالث قد اكتسبت أيضًا بعض مظاهر الحياة النقابية الإغريقية.

ولكي نقدر مدى انتشار الثقافة الإغريقية بين المصريين على عهد البطالمة، فإننا سنحاول التعرف على حالة التعليم عندهم. ولما كنا لا نعرف شيئًا عن التعليم المصري في عصر البطالمة، فإننا سنتناول في إيجاز نظام التعليم في عصر الفراعنة ونبدي رأينا فيما يحتمل أن يكون قد طرأ عليه من تطورات أيام البطالمة، وكذلك في طابع ثقافة المصريين عندئذ. ويتبين من المصادر المصرية القديمة أن مدى الإقبال على التعليم والاستمرار فيه كان لا يتأثر إلا بحالة الأسرة المادية واتجاهاتها ومطالب العصر. وقد كانت للتعليم في مصر الفرعونية ثلاثة دوافع: كان أولها اكتساب الرزق إما بالانتظام في سلك الوظائف الحكومية أو في سلك رجال الدين أو الاشتغال بكتابة النقوش الدينية سواء على جدران المعابد والمقابر أم على التوابيت. وكان الدافع الثاني الفوز برضاء الآلهة، فقد كان المصريون يعتقدون أن آلهتهم مصدر العلم والمعرفة وأن التعلم نوع من التعبد في الدنيا وقربان يتقربون به إلى الآلهة في الآخر. أما الدافع الثالث فكان طلب العلم حبًا للعلم في ذاته.

وقد كانت هذه الدوافع كفيلة يجعل نسبة المتعلمين بين المصريين عالية لكنه يبدو أنها لم تكن كذلك بل أن الأمية كانت فاشية بينهم وبطبيعة الحال لم يعن البطالمة بنشر التعليم بينهم، لأن نشر التعليم يساعد على تنبيه الوعي القومي ومطالبة الأفراد بحقوقهم ويؤدي حتمًا إلى رفع مستوى المعيشة، وهو ما كان يتعارض مع سياسة البطالمة على نحو ما رأينا. وإذا كانت الغالبية العظمى من المصريين لم تقبل على التعليم في أزهى عصور حكامها الوطنيين، عندما لم تكن مرهقة بمثل ما أرهقت به في عصر البطالمة من التكاليف، فإننا نستبعد أنها وجهت أية عناية تذكر إلى التعليم عندما كانت فريسة للبؤس والفاقة على عهد طغاتها الأجانب.

وتتكشف المصادر المصرية القديمة عن وجود ثلاث مراحل تعليمية: مرحلة أولية ومرحلة متقدمة ومرحلة عالية. ويبدو أنه منذ عهد الدولة الوسطى على الأقل كان التلاميذ يتابعون المرحلة التعليمية الأولية أما في مدارس ملحقة بالمعابد، أو في مدارس صغيرة لا يوجد ما ستتدل منه على أنها كانت تمت إلى المعابد بصلة. والمصادر التي تتناول مدارس هذه المرحلة في عهد الدولة الحديثة، ولاسيما المدارس الملحقة بالمعابد، وفيرة.

وكانت تعقب المرحلة الأولى مرحلة تعليمية متقدمة كان الصبية يتابعونها على الأقل منذ الأسرة الثامنة عشرة أما في مدارس تتصل بالمعابد أو في مدارس يبدو أنها كانت مستقلة عن المعابد. ويبدو أنه كان لكل معبد مدرسة ومكتبة، وإن التعليم في مدارس المعابد لم يقتصر على الدين بل كان متنوعًا ويكثر فيه تدريس الآداب. ولاشك في أن مدارس المعابد كانت أعرق المدارس المصرية وأرقاها جميعًا، لأن المنشآت الدينية أقدم عهدًا من سائر المنشآت، ولأن الكهنة كانوا أكثر الطبقات المصرية عامًا، ولأن الديانة كانت تلعب دورًا كبيرًا في حياة المصريين القدماء.

ولا يبعد أن أكثر الصبية كانوا يكتفون بالمرحلة التعليمية الأولى ليتكسبوا بعد ذلك قوتهم، أما بمزاولة إحدى المهن الحرة، أو بالانخراط في سلك صغار الكتبة الذين كانت دواوين الحكومة تزخر بهم. وتوجد منذ عصر الرعامسة قرائن واضحة على اشتراك إدارات الحكومة في مرحلة التعليم المتقدم. ويتبين من النصوص أن الموظف كان لا يعلم أكثر من شخص واحد في وقت واحد للنهوض بأعباء وظيفة بعينها، ومعنى ذلك أنه لم توجد في إدارات الحكومة مدارس على النحو المفهوم. ومما يجدر بالملاحظة أن التعليم فيد ور الحكومة كان يوجه جانبًا من عنايته إلى الدراسات الأدبية. ولاشك في أن الدافع إلى ذلك لم يكن مجرد الشغف بالآداب وإنما باعتبار هذا اللون من الدراسة جزءًا مكملاً للإعداد المطلوب ويبدو أن الإدارات التي كانت تباشر هذه المرحلة المتقدمة من التعليم في عصر الرعامسة كان إدارات بيت المال وإدارات الجيش. ويبين أن التعليم فيإدارات الجيش لم يكن يستهدف إعداد كتبة في هذه الإدارات وإنما إعداد ضابط للجيش، وأنه كان يتولى أمر ذلك شخصيات كبيرة تجمع بين الثقافة الأدبية والثقافة العسكرية. ويبدو أن الإدارات المتصلة بالمعابد أيضًا كانت تقوم بنوع من التعليم يشابه ما كانت تقوم به إدارات الحكومة.

وإذا كانت طبيعياً أن توجد مدارس المرحلتين الأولى والثانية في مختلف أنحاء البلاد، فإن المرحلة العالية لم توجد إلا في المراكز الثقافية الكبيرة التي نلاحظ أنها كانت في الوقت نفسه مراكز دينية مهمة وهي هليوبوليس ومنف وهرموبوليس وطيبة وسايس، إذ أن هذه المدن التي كانت تقوم فيها معابد عظيمة ضربت بسهم وافر في دراسة الدين والفلسفة والفلك والطب والعمارة. وقد كانت هليوبوليس أشهر مراكز الثقافة العالية في مصر القديمة. وخير شاهد على رقي الحياة الفكرية في مصر القديمة إشادة كتاب الإغريق بحكمة المصريين القدماء ووفود الكثيرين من أبرز الشخصيات الإغريقية على مصر لينهلوا من مواردها العذبة، على نحو ما ذكرنا من قبل. وتوحى كل القرائن باتصال مراكز كان أما في المعابد ذاتها أو في مدارس ملحقة بها. فقد كان كهنة مصر أوسع أهلها علمًا وكانت معابد مصر تضم مكتبات عامرة، ومثل ذلك مكتبة معبد الرمسيوم التي ترجع إلى عهد الدولة الحديثة ويذكرها ديودوروس في كتابه نقلاً عن هكتايوس الذي زار مصر في عصر بطلميوس الأول. ومعابد عصر البطالمة أيضًا لم تخل من المكتبات، وأحق مكتبات معابد العصور المتأخرة بالذكر مكتبة معبد أدفو.

ولا يبعد أن تكون "مدارس" الإدارات الحكومية قد بقيت في عهد البطالمة. وبما أن اللغة الإغريقية قد أصبحت عندئذ اللغة الرسمية في البلاد، فلا شك في أنه قد فرض تدريسها في هذه المدارس، وإن كنا نستبعد أنه قد أبطل تعليم اللغة المصرية فيها، وذلك لأن الهيروغليفية والديموتيقية بقيتا مستعملتين عندئذ لا على جدران المعابد ونصب الموتى فحسب، بل كذلك في اللوائج والقوانين والقزارات وبخاصة ما كان منها متعلقًا بشئون الضرائب. ولما كانت الفئة العليا من الموظفين المصريين قد اختلفت تدريجًا، فإن تلك الفئة من المصريين التي لم تر بأسًا في شغل المناصب الصغرى في الحكومة قد فرض عليها تعلم اللغة الإغريقية. وهل يخامرنا الشك في أن أغلب أولئك الموظفين الذين تعلموا الإغريقية لم يتذوقوا شيئًأ من آدابها، ولم يكن حظهم من الحضارة الإغريقية إلا تافهًا يكاد يكون في حكم العدم؟ ولابد من أن تكون إدارات الجيش قد تابعت نشاطها في إعداد الضابط اللازمين للفرق المصرية، وبطبيعة الحال لم يلتحق بهذه "المدارس" إلا أفراد من البقية القليلة الباقية من الأرستقراطية المصرية الدنيوية. ولابد من أن الإغريقية كانت تدرس في هذه المدارس كذلك، ولعل حظ أبنائها من الثقافة الإغريقية كان أوفى من حظ أبناء سائر "المدارس" الحكومية. ولا يبعد أن ديونيسيوس بتوسيرابيس كان أحد خريجي هذه المدارس، لكنه إذا كان يوصف بأنه مصري متأغرق، كما يدل اسمه على ذلك، فإن إغريقيتته لم تخمد جذوة الوطنية فيه. ولا يبعد أيضًا أن تكون الطبقة العليا من المصريين بوجه عام قد رأت في تعلم اللغة الإغريقية استكمالاً لمؤهلات أفرادها، كما كانت الحال إزاء اللغة البابلونية على عهد الأسرة الثامنة عشرة. ولعل أفراد هذه الطبقة قد تعلموا الإغريقية على أيدي مدرسين خصوصيين، (ويلاحظ أنه إذا كان دخول المدارس الابتدائية الإغريقية ميسورًا لهم فإن الجيمنازيا كانت توصد أبوابها دونهم)، ولعل ذلك كان أيضًا شأن تلك الفئة القليلة من المصريين الذين أخذوا على عهد البطالمة الأواخر يعملون على صبغ أنفسهم بصبغة إغريقية طمعًا في الفوز بمركز يعادل مركز الإغريق. ولا يبعد كذلك أن تكون المدارس المصرية الحرة أو الخاصة قد ظلت تمارس نشاطها.

وإذا كان البطالمة لم يكلأوا مدارس المعابد برعايتهم وكانت مدرسة هليوبوليس قد فقدت مكانتها القديمة، فلاشك في أن المعابد المصرية أو على الأقل أكثرها ثراء احتفظت بمدارسها لمختلف مراحل التعليم وإذا كانت الإغريقية قد اقتحمت طريقها إلى التعليم الحكومي، فإننا نكاد نجزم بأن مدارس المعابد أوصدت دونها أبوابها، وذلك لأن هذه المدارس كانت المعاقل الحصينة للثقافة المصرية واشتهرت باستمساكها بتقاليدها على مر العصور. ولعل مرد ذلك إلى أن أقطاب هذه الثقافة كانوا رجال الدين، وهم بطبيعتهم فئة محافظة كانت تعتبر أفرادها حراسًا أوفياء على تراث الماضي. ولذلك لم تتغير تقريبًا محتويات مكتبات المعابد في عصر البطالمة، بل في العصر الروماني عما كانت عليه من قبل، ولذلك أيضًا لاشك عندنا في أن الثقافة المصرية لم تتأثر بوجه عام بالثقافة الإغريقية في عصر البطالمة. وليس معنى ذلك أن رجال الدين المصريين لم يتعلموا الإغريقية على الإطلاق، فالقرائن توحي بأنه كانت لبعضهم على الأقل دراية تامة بالإغريقية.

ويبدو إذن مما مر بنا أنه لما كانت الغالبية العظمى من المصريين أميين، وكانت الطبقة العليا وكذلك فئة الوصوليين قليلتي العدد، وكان حظ صغار الموظفين من الثقافة الإغريقية تافهًا، فإننا نستطيع أن ندرك كيف كان تغلغل الثقافة الإغريقية بين المصريين محدودًا.

وقد عرفنا أنه لم يحدث تزاوج بين المصريين والإغريق في القرن الثالث، كما عرفنا أن تقرب الإغريق إلى المصريين في عهد البطالمة الأواخر ساعد على انتشار التعليم الإغريقي والآداب الإغريقية بين نفر من المصريين اكتسبوا تبعًا لذلك مركزًا يعادل مركز الإغريق، وجعل من الميسور حدوث تزاوج بين الإغريق والمصريين، وأفضى إلى انتشار الأسماء المختلطة بين المصريين المتأغرقين والإغريق المتمصرين. ولابد من أنه قد صحب ذلك أن استبدل أولئك المتأغرقون بثيابهم المصرية ثيابًا إغريقية، لكنه إذا كان من المسلم به أن أغلب المصريين لم يعرفوا شيئًا من اللغة الإغريقية وآدابها، وأنهم بطبيعة الحال لم يتزاوجوا مع الإغريق لكثرة عددهم وقلة عدد الإغريق، فلابد أيضًا من أنهم لم يتخذوا جميعًا أسماء إغريقية لا ثيابًا إغريقية. لكن البعض يرى، استنادًا إلى ما تصوره بعض مناظر مقبرة بتوسيريس وما ترويه بعض الأوراق البردية، أن المصريين لم يعودوا يرتدون ملابسهم القديمة إلا في الطقوس الدينية، أما في حياتهم اليومية فقد استعاضوا عن ملابسهم القديمة بملابس إغريقة ولم يحتفظوا إلا بغطاء الرأس القديم، على حين أن السيدات استمسكن بملابسهن التقليدية التي تكشف عن نحورهن وصدورهن، وإن كانت سيدات الطبقة الوسطى استبدلن بثيابهن ثيابًا إغريقية. ونحن نرى أن في هذا الرأي مبالغة غير قليلة، فإن مناظر مقبرة بتوسيرس نفسها تصور كذلك مصريين بملابسهم القديمة في أثناء مزاولتهم أعمالهم اليومية. وعلى كل حال فإن الثياب لم تكن في أي عصر دليلاً على حضارة مرتديها، وهل ارتداء الأتراك اليوم الملابس الغربية من أعلى الرأس إلى أخمص القدم يمكن أن يدل على أن ثقافتهم وعقليتهم قد أصبحنا غربيتين؟

وجملة القول أن المصريين بوجه عام، وقد كانت لهم عادات ثابتة تقوم على أسس حضارة وديانة ترجعان إلى أقدم العصور، بقوا مصريين خالصين في مجموعهم، عدا نفرا منهام اصبطغوا في تعليمهم وملبسهم وأسمائهم بصبغة إغريقية لم تكن أكثر من طلاء خارجي لم يمس جوهرهم؛ أما الغالبية العظمى فقد بقيت بعيدة حتى عن مظاهر الحضارة الإغريقية .

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

اسم المصدر ؟